ads

Bookmark and Share

الاثنين، 23 مارس 2020

059 روايات الأهرام

روايات الأهرام
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 8 سبتمبر 1994م - 2 ربيع الآخر 1415هـ

الروايات التي تنشر على حلقات تقليد أرساه الأهرام منذ السنوات الأولى من عمره، وكان الزمن غير الزمن والروايات غير الروايات!
ففن الرواية العربية فيما استمرت تشير إليه الصحيفة بامتداد فترة وجودها في الإسكندرية (1876 - 1899) كان في مرحلة تشكيل القسمات، ولم يكن قد خرج بعد من أرحامه، ويبدو أن الرحم الأهرامى كان من أهمها فيما تقرره مجموعة من الملاحظات حول مكان الرواية في الجريدة...
الملاحظة الأولى أن الصحيفة حاولت منذ وقت مبكر، وفى مرحلة صدورها الأسبوعى إرساء التقليد عندما بدأت من عددها السادس الصادر في 9 سبتمبر عام 1876 نشر أولى الروايات المسلسلة التي جاءت تحت عنوان "الشاب الخادع"، أما مؤلفها الذى لا نظن أنه قد ورد له أي ذكر في عالم التأليف بعد ذلك... فقد كان "الفطن الحاذق الخاوجا نقولا حمو يس ترجمان قونسلاتو دولة اليونان بالإسكندرية"، وانتهت بعد 16 حلقة في العدد رقم 21 الصادر يوم 23 ديسمبر من نفس العام.
وقد صدرت هذه المحاولة المبكرة لإرساء التقليد عن قناعة لأصحاب الجريدة بأن "سرد الروايات في الجرائد من متمات احكامها استدعاء لخاطر المشتركين ومسرتهم فضلاً عما طيها من الأمثال الجليلة المفيدة"، على حد تعبير سليم تقلا..
غير أن هذه المحاولة الأولى كانت الأخيرة في الأهرام خلال فترة صدوره الأسبوعى، ويبدو أن صاحبى الجريدة وجدا أن ما يتجمع من صحيفة بطول الأسبوع لا يفسح مكاناً لنشر الروايات على عكس الحال بالنسبة للصحيفة اليومية.
* ابتداء من صدور الأهرام اليومى في 3 يناير عام 1881 ولوقت يمتد إلى يومنا هذا أخذ الاهرام في نشر الروايات الطويلة على حلقات، صحيح أنه توقف في بعض الفترات عن هذا النشر، وهى فترات كانت تتراوح بين شهور وأعوام، إلا أنه غالباً ما كان لهذا التوقف أسبابه التي لا تخطئها عين متابع.
مثال على ذلك الفترة الممتدة بين 28 أبريل عام 1882 وأول ديسمبر عام 1884 حين توقف الأهرام عن نشر رواياته، أي لفترة تزيد عن عامين...
قبل أبريل 1882 وبدءاً من العدد اليومى الأول للصحيفة الصادر في يناير 1881 تم نشر رواية "الكونت دى مونغوميرى - قصة فرنسية معربة لإسكندر دوماس الشهير بقلم حضرة قيصر افندى زينيه" والتي جاءت في 89 فصلاً واستمر نشرها لأكثر من عام ونصف، حتى العدد الصادر يوم 22 يوليو 1881.
وفى اليوم التالى مباشرة بدأ نشر رواية "عزة النفس - قصة فرنسوية لمؤلفها الشهير أوجن سو معربة ببعض تصرف بقلم حضرة ديمترى افندى خياط"، وقد جاءت في 55 فصلاً وتم نشرها بامتداد سبعة شهور، وحتى 28 أبريل من العام التالى.
التوقف الذى تلا ذلك والذى استمر لأكثر من عامين يمكن بسهولة ملاحظة أنه قد واكب فترة الثورة العرابية وأعقابها، وهى الفترة التي لم تعرف فحسب توقف صدور الصحيفة لبضع شهور أو حرق مبناها، أو انتشار الكوليرا الأمر الذى دعاها لفترات غير قصيرة إلى الصدور في صفحتين مما لم يدع فيها فسحة للروايات، وانما هي أيضاً فترة "الحوادث الجسيمة التي كدرت خاطر كل مصري"، ولم يكن قراء الأهرام خلال تلك الفترة في حالة نفسية تسمح لهم بقراءة الروايات.. فهذه القراءة تتطلب حد أدنى من روقان البال.
* الملاحظة الثالثة أن الروائيين الأهراميين قد انحصروا وقتئذ في الشوام المقيمين في مصر، وعلى وجه الأخص في الإسكندرية، ولنا هنا أن نستعرض بعض أسماء هؤلاء..
نقولا حمو يس، قيصر زينية، ديمترى خلاط الذين سبق وأشرنا إليهم، بعدهم سعيد البستانى، ميخائيل جورج عورا، دواد مرعب، نجيب الحداد وآخرون، ويلاحظ أنه بينما لقب الأهرام أولهم بالخواجة، فقد منح كل الآخرين لقب الأفندى، ولعل القائمين على تحرير الجريدة ارتأوا أن اللقب الأول لا يليق بكاتب رواية عربية، وإلى جوار لقب الافندى فقد أصرت الجريدة على أن تجعل كل في نفس الوقت "جناب الأديب"!
وقد استبع هذه الحقيقة أمر آخر وهو أن الرواية الأهرامية قد جاءت من الباب الفرنسي بحكم أن جل هؤلاء إن لم يكن كلهم قد تأدبوا في جبل لبنان بالآداب الفرنسية.
ونظن أن ذلك قد نزل منزلة حسنة عند قراء الأهرام من المصريين وقتئذ، فأغلب المثقفين من هؤلاء الذين كانوا يقبلون على هذا النوع من القراءة قد تأثروا بالأدب الفرنسي، ولم تكن أسماء دوماس ويلزاك وهيجو، كذا رواياتهم، غريبة عن آذانهم.
فضلاً عن ذلك فإن الطابع اللاتينى بكل ما يحوطه من أسباب الرومانسية كان يناسب المزاج المصرى، وهى رومانسية نرى أن المترجمين لم يحجموا عن إضافة المزيد من التوابل إليها، ولعل ذلك ما دعاهم إل توصيف الروايات التي قدموها بأنها من "تعريبهم" وليس من "ترجمتهم" والفرق كبير.
يعترف ديمترى أفندى خياط معرب رواية "عزة النفس" أو بما أسماه "بالتعريب ببعض التصرف" بهذه الحقيقة حين قدم اعتذاره في المقدمة التي وضعها للرواية "لما تصرفت به في التعريب واستبدلته من المواضيع التي لاعيب فيها سوى أنها نافعة أهلها من الفرنسيس"، أي أن الأمر قد وصل إلى استبدال المواضيع!
* الملاحظة الأخيرة متصلة بطبيعة النشر، فمن ناحية كانت روايات الأهرام تنشر في الثلث الأخير من الصفحة الثانية بعرض الصفحة التي كانت في العادة على خمسة أنهر، وأحياناً تستكمل الحلقة في نفس المكان بالصفحة التي تليها إذا كان لها تتمة، ومن ناحية أخرى لم تكن هناك قاعدة لتاريخ النشر، فأحياناً كان يتم بشكل يومى وأحياناً أخرى تتغيب يوماً أو يومين، وأحياناً تختفى لأسبوع، وإن كان قليلاً أن تختفى لأكثر من ذلك.
ومفهوم طبعاً أن عملية النشر تلك كانت مرهونة في العادة بمقتضيات التحرير التي تفرض أسباب غياي هذا التوع من الكتابة التي يمكن ارجاؤه لحساب كتابات أخرى تفقد قيمتها لو تأخرت.
ولم يكن الأهرام ذلك الوقت من حيث الحجم مثل أهرام أواخر القرن العشرين الذى يخضع حجمه، نقصاً أو زيادة للمادة التحريرية والاعلانية، العكس هو الصحيح، فقد كانت تلك المادة هي التي تخضع لحجم الصحيفة الذى لم يزد عن أربع صفحات إلا في حالات الضرورة القصوى، عندما كانت تتم تلك الزيادة فإنها كانت تحدث في حدود صفحتين فحسب، كان القائمون على تحريرها يصفونها بالملحق!
***
أمر لافت للنظر في روايات الأهرام الأولى وهو أن أغلب من قاموا بتعريب تل الروايات كانوا يبدأون النشر "بمقدمة" من عندياتهم، وينهونه، هم أو القائمين على تحرير الصحيفة، "بتذييل"!
يقدم سبب ذلك قيصر افندى زينية صاحب أول رواية معربة تنشر في الأهرام اليومى بقوله: "لما كانت القصص رياض آداب زاهرة وجنات تجرى من تحتها أنهار السلوى لكل ذي غمة وذى بلوى وكانت لغتنا العربية أفقر اللغات إلى الحكايات التاريخية والسير الأدبية عنيت بتعريب قصة من مؤلفات..."
يمعنى آخر أن "جناب الأديب" قد رأى منذ البداية أنه يسير في طريق جديد وأنه مطالب بتعريف القارئ بمعالمه من خلال القصة التي عكف على تعريبها.
ويخطو قيصر افندى خطوة أخرى في طريق التعريف فيذكر أن القصة "تضمنت من الحوادث التاريخية أصدقها والوقائع الغرامية ألطفها وأغربها وحوت من الفوائد الأدبية والتاريخية ما يلذ به يصبو إلى معرفته كل انسان فجاءت بحمد الله رواية أدبية فكاهية جمة الفائدة وافية المقصد مع تسلية الخواطر مع الإفادة الأدبية لما تضمنه من الحوادث الغرامية والحربية وغرائب القصص من النوادر والحيل اللطيفة والحكم المفيدة وما شاكل ذلك من كل ما ينفى عن القلب الشجن"!
نفس النهج اتبعه ديمترى خلاط معرب رواية "عزة النفس" عندا وضع مقدمة حرص من خلالها على التمييز بين حزبين للكبرياء.. حزب الخيلا وحزب عزة النفس(!)، والأخيرة "ترفع المرء من حطة الذل وتنزهه من شائبة الخسف وترية الحقائق بمراتها فلا هو راض الهوان لنفسه ولا هو باخس قدر غيره وتقيه من الاتكال على أبناء جلدته محرضة إياه على القيام بشأنه فيعيش معززاً مكرماً نشيطاً حازماً"!
ونظن أن قارئ أهرام يوم الاثنين 3 يناير عام 1881 قد ابتسم وهو يرى قيصر افندى - يحثه "إذا ما مل من المسائل السياسية وفرغ من تحديد تخوم اليونانية وسئم من خطب اللوردية أن يتفكه بلطائف حوادثهم وغرائب نوادرها أ القصة ويبسط لصغاره صفات رجالها الكريمة فضائلهم وأفعالهم العظيمة فيشبون على حب الفضيلة وكرم الأخلاق"، غير أننا نرى أن قيصر زينيه قد فعل ذلك لما يعتقده من أن المسألة تستحق بحكم جدة هذا النوع من الحكايات.
ولعل هذا الاعتقاد هو الذى دفع معرب رواية الكونت دى مونغو ميرى إلى الإعراب عن أمله في أن يرى أدباء العرب "مشتغلين بتأليف القصص المفيدة عن المؤلفات النحوية التي ملأوا بها خزائن الكتب حتى قالت كفانا فإنهم لو أفرغوا لنا جعبة آدابهن في قالب الروايات لكان الأدب أقرب مناولة للعقول وأعلق في الذهن منه في الأراجيز والمؤلفات الضافية الذيول الكثيرة المذاهب"!
يبقى من هذه المقدمة الطويلة التي كتبها جناب الأديب قيصر ملاحظة في غاية الأهمية في تقديرنا فيما جاء في قوله "وقد جعلتها - أي الرواية - هدية لجريدة الأهرام الغراء" مما ينم عن أن الروائيين الذين قاموا بوضع روايات الأهرام الأولى لم تكن تربطهم بالصحيفة علاقة وظيفية بل أنهم قاموا بما قاموا به بمبادرات شخصية، وهى مبادرات كررها بعضهم، ودفعت البعض الآخر إلى الاقتداء بها.
ويؤكد ذلك تعقيب الأهرام على رواية الرجل بعد انتهائها يوم 22 يوليو، فمن ناحية اكتفى صاحب الجريدة بالثناء على "حضرة الشاب الأديب قيصر افندى زينيه فإنه قد أحسن في التعريب كل الاحسان بانتقاء العبارة السلسة المحكمة مع رعاية المحافظة على الأصل فجاءت رواية مزدانة بأساليب اللغة العربية الشريفة وزادت رونقاً وبهجة".
ومن ناحية ثانية دعا القائمون على تحرير الصحيفة حضرة الشاب الأديب لأن يستعد "لإتحافنا برواية أخرى فنكون له من الشاكرين"!
ومن ناحية أخيرة زفت للقراء بشرى أنها سوف تبدأ من اليوم التالى في نشر رواية بديعة "تامة الأحكام جليلة الموضوع معربة بقلم حضرة الشاب الأديب ديمترى افندى خلاط الذى له علينا حق المنة والشكر"!
***
ويبدو أن صاحبى الأهرام رأياً أن المقدمات القصيرة التي يضعها المعربون والتعليقات المحدودة التي كانا يدليان هماً بها لم تكن كافية لمد جذور التقليد الجديد الذى أرسته الصحيفة في نفوس قرائها.
ونرى أن هذا هو ما دعاهما إلى أن يسمحا "لحضرة الأديب الفاضل ميخائيل افندى جورج عورا" معرب رواية "الجنون في حب مانون" إلى يخصص الحلقات الاحدى عشرة الأولى من الرواية، التي بدأ نشرها بالعدد 2594 الصادر في 13 أغسطس عام 1886 إلى العدد 2604 الصادر في 25 من نفس الشهر.. أن يخصصها لدراسة وضعها تحت عنوان "مقدمة في حقيقة تدوين القصص"، كانت بمثابة أول الدروس حول فن القصة قدمها الأهرام لقراء العربية ويمكن أن نجملها في ثلاثة..
الدرس الأول حول "أصل تدوين فن القصص"، كما أسماه الأديب عورا جاء في مستهله "انتهى الينا بعد المراجعة والبحث أن اليونانيين قد شارفوا هذا الفن المستلطف المستظرف"، وخص بالذكر من آثارهم القصص التاريخية التي ساقها هيرودوت وكنوزيوس والتي وصفها بأنها "مشحونة بالأعاجيب وما اقتصروا في ذلك على حديث أمة واحدة بل تجاوزوه إلى خرافة قدماء المصريين وقبائل الشرق المتوغلة في القدم".
إلى جانب القصص التاريخية كانت هناك القصص الجغرافية التي نشأت على أيدى الفينيقيين، انتقل بعدها إلى العصر الرومانى الذى شهد تطوراً في هذا الفن وعزاه الأديب الفاضل إلى "تكاثر الشيع والمذاهب الفلسفية" وما استتبع ذلك من ترتيب القصص والرسائل والأمثال لكل شيعة، ويسجل أن هذا العصر قد شهد ثلاثة أنواع من القصص الغرامية، والأسفار أو ما نسميه الآن أدب الرحلات، وأخيراً رسائل "الهجو والمطاعنات فهى أولى أن تسمى أهاجى منها أن تسمى قصصًا".
وفى سياق نفس الدرس تعرض لتطور فن القصص في العصور الوسطى والذى تأثر خلالها "بالخشونة والظلمة فتحول إلى مجموعات تاريخية وخرافية وتقليدية وأهاجى منظومة ومنثورة أضافوا إليها ما نقل من أمثال الشرق وأخبار سحرته وجنه وعفاريته.. وامتلأت الكتب بالأعاجيب والغرائب والمدهشات".
ولا ينسى في هذه المناسبة تسجيل أثر الحروب الصليبية على الفن القصصى، وقد ارتأى أن هذا التأثير امتد لجانبين، أولهما: ما نظمه الشعراء من الطرفين قصوا من خلاله انتصاراتهم الحقيقية أو المدعاة وأن الافرنج "لطول مكثم في البلاد العربية وملابستهم أهلها قد اقتبسوا أداباً كثيرة استعملوها في لغاتهم".
وينتهى في هذا الدرس إلى عصر النهضة ويتوقف عند الديكاميرون Decamerone لبوكاتشيو ويرى انها قد وضعت "على منوال وترتيب ألف ليلة وليلة.. مع تأديب وتهذيب في الحكايات بحسب ترقى الآداب وتلطف الذوق وتزايد الحشمة"، ويخبرنا في هذه المناسبة أنه قد قام على ترجمة هذا العمل تحت اسم "بدور الايناس في نوادر بوكاس"(!)، يتوقف أيضاً عند الأديب الأسبانى سرفانتيس وروايته المعروفة "دون كيشوت" ويتوقف أخيراً عند الأديب الفرنسي الشهير "رابليه".
الدرس الثانى تعرض فيه لما أصاب هذا الفن من تحولات كبيرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو على الأقل ما انصرم منه، فلم يكن هذا القرن قد انتهى بعد عندما كان الأديب عورا يلقى دروسه من خلال الأهرام، وقد جاء تحت عنوان "تدوين القصص في عهدنا".
بدأ هذا الدرس بالقول أنه قد "عرا هذا الفن ما عرا غيره من التغيير بسبب غلبة الآراء الفلسفية وانصرف وجهاء القوم إلى مباحثها"، كما عزاه إلى "تقلبات أطوار الأحوال الإنسانية وتنزيه الأفكار عن الخشونة والذوق عن السماجة نحا الكاتبون فيه منحى الطبيعة.. ثم دخل فيه وصف أهل الهوى وتأنقهم في المعايش وتظرفهم وذكر أحوالهم الخاصة وما جرى لهم من العادات والامتزاج بالنساء وصحبتهن"!
وعرض في هذا الصدد لقصص الفيلسوف الفرنسي ديدرو "التي نحا بها منحى جديد في تأييد فلسفته وآرائه" وروسو الذى وضع "كتباً غرامياً وعقلية وسفسطية" والأديبة روستاه التي جاءت "روايتها بخصوص النساء صادعة بالحق معربة عن النفس بفصاحة".
وخلص من ذلك إلى الأدباء المعاصرين لكتابته، دوماس، هيجو، سوليه، وبلزاك عارضاً لأهم مؤلفاتهم ولم ينس في نهاية هذا الدرس أن يسجل أنه اقتصر على الأدباء الفرنسيين لأنهم فيما كتبوه "غنى عن غيرهم إذ اغترفوا من لجج بحر هذا الفن وتوسعوا فيه غاية ما يكون فاقتبس الغير منهم ونحوا مناحهم فيه ووردوا موارده في كل موضوع"، ولم يكن صادقاً تماماً في هذا الحكم إلا إذا كان يقصد بهذا الغير نفسه وزملاءه من روائيى الأهرام!
الدرس الأخير جاء تحت عنوان "فن تدوين القصص عند العرب"، وكان "أكثر ما ألفوا ودونوا من الكتب في هذا الفن بين القرنين الثالث والتاسع الهجريين (9 و15 الميلاديين) في عصور الأمويين والعباسيين في بغداد والشام والأندلس".
وقد اتخذ من قصة "عنترة بن شداد" مثالاً لما عمدوا إليه من رواية القصص التي "تحث الهمم إلى الأمور العالية والصفات الحميدة وفضائل الكرم وارتفاع الهمة والنجدة".
بيد أن الأديب عورا قد انتقد هذا النوع من القصص لما تلجأ إليه من "الغلو والمبالغة التي لا يقبلها العقل كذكر عنترة حين يهجم على الألوف والكتائب فيهزمهم بنفسه ويقتل منهم في اليوم الواحد عشرين ألفاً"!
دلف من ذلك إلى الإشارة إلى القصص المنثورة عند العرب فذكر لقمان الحكيم وكتاب كليلة ودمنة "المستخرج من اللسان الهندى موضوعاً على ألسن الطير والوحوش" ثم توقف عند قصة "ألف ليلة وليلة".
قال عن هذه القصة: "أعجب العالمون بوضعها وغرابتها فنقلت إلى سائر اللغات وتعشقها الأورباويون وعدوها من أحسن ما ألف العرب وصنفوا من الكتب فالشرق كله وآدابه وأخلاقه برأيهم مجموعة في هذه القصة المشتملة على لطائف ومطارف وذكر أشواق وعشاق وصبابات ونوادر وروايات أكثرها مشوب بالخرافة وأوهام وتقليدات".
وختم هذا الدرس الأخير بعقد مقارنة بين "العرب والافرنج في تدوين القصص" انحاز فيها بشكل واضح للأخيرين، فقد رأى أنهم يسلكون فيما يكتبون سبيل الصدق في الرواية "فيختلفون من الأحوال ما يحتمل الوقوع ويقبله العقل" ومثال ذلك أفهم لو كتبوا بخبر واحد من الناس وبيان مصيبته وأحوال سجنه لبالغوا في البيان وانتهوا إلى الغاية وشرحوا من هول ما يلقاه من النكد حتى تعطف القلوب عليه وتطير شعاعاً من خوف أن يصيبه مكروه فتراهم يترقبون ما يكون من أمره بقلق واضطراب فيجتهد المؤلف في استنباط الحيل التي تنقذه من محبسه بتدابير مصيبة ودهاء فائق وليس الحال كذلك في قصة ألف ليلة وليلة فلو وقع رجل في مثل هذه الورطة لكفى في إنقاذه تسخير عفريت أو جن أو ساحر أو ساحرة أو قبعة الخفى (طاقية الإخفاء) تطير به إلى طبقات الجو الأعالى ونحو ذلك من التلفيقات الصبيانية والخيالات فلا يكون للحكاية لذة فإن اللذة هي بمقدار ما تقرب الرواية من الصدق".
وكان هذا الانحياز من "الأديب الفاضل ميخائيل جورج عورا" تمهيداً طبيعياً لأن يقدم قصته المعربة، لا العربية، تحت عنوان "الجنون في حب مانون" ويبدو أن المسئول عن صفحة الرواية في أهرام ذلك العصر قد اكتفى بهذه الدروس المطولة فلم تتكرر على هذا النحو في الروايات التي نشرت بعد ذلك.

صورة من المقال: