ads

Bookmark and Share

الاثنين، 11 نوفمبر 2019

053 وفاة المشير الخطير

وفاة المشير الخطير
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 28 يوليو 1994م - 19 صفر 1415هـ

بين الساعة التاسعة وست دقائق والثانية عشرة وست دقائق من صباح يوم الأربعاء 20 أبريل عام 1887 طير مدير تحرير الأهرام المقيم في القاهرة ثلاث برقيات (تلغرافات) إلى مقر الصحيفة بالإسكندرية وكان تصرفاً غير مسبوق دفعه إليه أمر جلل نتبينه من قراءة هذه التلغرافات.
التلغراف الأول الساعة 9 والدقيقة 6 قبل الظهر جاء فيه:
"بملء الأسف نعت لنا أخبار غراتز (مدينة جراتز في النمسا) الواردة في الليل الماضى وفاة المغفور لها المشير الخطير شريف باشا فكان لهذا الخطب الجسم تأثير شديد في قلوب جميع المصريين رحمه الله"!
التلغراف الثانى الساعة 10 والدقيقة 41 قبل الظهر وجاء فيه:
"انفذ دولتلو نوبار لائحة (مذكرة) إلى حضرات النظار زملائه يقول فيها أن شريف باشا فقيدنا المأسوف عليه قد توفى عقب أن خدم الحكومة السنية زمناً طويلاً بغاية الشرف والاستقامة والإخلاص ولما كانت وفاته فاجعة عظيمة وخسارة جسيمة على أرض مصر سمو الخديو العظم بأن تقفل جميع دوائر الحكومة إشارة للحداد".
التلغراف الأخير بعث به بشارة تقلا من المحروسة الساعة 12 والدقيقة 6 وقد جاء فيه:
"أمر سمو الخديو المعظم بأن يتوجه مساء غد أحد الوابورات المصرية إلى تريسته لينقل جثة المغفور له شريف باشا إلى القطر المصرى وسيصحبه سعادتلو طونينو باشا ومراد باش".
وتشى تلك التلغرافات "الخصوصية" بجسامة الحدث، فبامتداد عمر الأهرام والذى كان قد قارب الأحد عشر عاماً وقتئذ لم يحدث أن تم إعلان الحداد على المستوى الوطنى وتعطيل مصالح الحكومة فيما حدث بمناسبة وفاة "المشير الخطير"، خاصة وأن توفيقاً قد تولى العرش في أعقاب خلع الخديو إسماعيل، وليس وفاته، كما لم يحدث لأحد من هؤلاء أن توفى خارج البلاد الأمر الذى اقتضى ارسال "وابور خاص" به كبار رجال السراى ليأتوا بالجثة في موكبها المهيب.
وجسامة الحدث تصدر بالطبع عن أهمية الشخصية، فشريف باشا يمكن اعتباره دونما مبالغة أهم شخصية سياسية مصرية في القرن التاسع عشر هذا إذا ما استثنينا أحمد عرابى ذا التاريخ الثورى أكثر من التاريخ السياسى.
ونسوق هنا حقيقة ذات دلالة، فباستثناء الحكم المصريين، فمن بين ساسة هذا القرن لم يخضع للدراسة الأكاديمية سوى شخصيتان أعدت عن كل منهما أطروحة علمية.. أحمد عرابى وشريف باشا، وعلى عكس الحال خلال القرن التالى الذى حفل بالشخصيات السياسية التي خضعت لهذا اللون من الدراسة.
يقودنا هذا إلى البحث في مصادر أهمية هذه الشخصية وفى تتبع الاحتفاء بوفاة "المشير الخطير" فيما نقرأه في صفحات الأهرام وهو الأمر الذى لم يتكرر كثيراً خلال القرن التاسع عشر.
القول بأن شريف باشا كان شخصية استثنائية جداً له ما يبرره، على الأقل بحكم ما اجتمع فيه متناقضات، وكانت في مجملها متناقضات إيجابية! فأن يخرج رجل من رحم الطبقة التركية الحاكمة ويكون من أكثر العناصر تجسيداً لها وأن يدخل في نفس الوقت في معارك ضد الحكام جعلت له كل هذا الحجم في الوجدان الوطنى المصرى، تناقض ولكنه تناقض ايجابى!
وأن يجمع شخص بين أن يكون موظفاً كبيراً وبين أن ينحاز في نفس الوقت للمطالب الشعبية ويكون من أكثر المعبرين عنها تناقض آخر ولكنه تناقض ايجابى أيضاً!
تؤكد السيرة الذاتية التي نشرها الأهرام بمناسبة وفاة "المشير الخطير" على ذلك الانتماء الحميم بينه وبين الطبقة التركية الحاكم، ونترك الكلام للصحيفة في عددها الصادر يوم 27 أبريل عام 1887...
"ولد محمد شريف في دار الخلافة العظمى سنة 1826 من عائلة أثبلة المجد عريقة النسب مقربة من ولاة الأمور وقد تولى جده مناصب جمة في جهات مختلفة من المملكة العثمانية وكان أبوه من طبقة العلماء تولى القضاء في عدة أماكن ثم صار قاضياً في مصر كما كانت العادة السابقة في ارسال قضاة من دار الخلافة.
"ولما ذهب والده إلى الحج عرج عل مصر فزار المغفور له محمد على باشا وكان عمر محمد شريف باشا يومئذ سبع سنوات فطلبه محمد على باشا من أبيه ليربيه مع أولاده فرضى ابوه بذلك وأقام الشريف في مصر في ظل الوالى كأحد أولاده لأنه كان في السراى معهم دائماً".
ومع أن الدراسات العلمية الحديثة تشكك في هذا الجانب من القصة التي ساقها الأهرام الخاص بأن والد صاحب السيرة، وكان يدعى سعيد سيرت قد ترك ابنه طواعية لباشا مصر، وأن هذا الأخير احتضن الطفل بعد وفاة والده وهو الأمر الأكثر معقولية، فإن النتيجة واحد وهى أن محمد شريف قد تربى في بؤرة رحم الطبقة التركية الحاكمة في مصر.. أسرة محمد على.
يؤكد ذلك ما تبقى من السيرة التي سجلها الأهرام عن فترة نشأته فقد لازم أقرب أبناء الوالى إلى عمره، حسين بك الذى التحق معه بمدرسة الخانقة (الخانكة) "وهى مدرسة كان أقامها محمد على باشا لتهذيب أنجاله وأولاد الأعيان" على حد قول الأهرام، وانتقل الصبيان بعد ذلك إلى مدرسة السوارى بالجيزة، على عتبات الشباب وفى عام 1844 على وجه التحديد ذهباً ضمن بعثة دراسية إلى فرنسا، وهى التي أطلق عليها "بعثة الأنجال" بحكم أن أغلب أعضائها كانوا من أبناء الباشا أو اللصيقين بالأسرة العلوية ومع أن قرينة حسين بك قد توفى أرض الغربة وعادوا بجثته فإن شريف قد استكمل دراسته وكانت عسكرية في "سان سير" الأمر يبدو غريباً لأول وهلة ضوء مسيرة حياة الرجل فيما بعد والتي لم يقم خلالها، رغم اسمه الكبير بإنجاز عسكرى يذكر!
بيد أن أسباب الغرابة لا تلبث أن تتبدد مع ملاحظة أن التعليم الحديث استمر حتى ذلك الوقت ذا طبيعة عسكرية وأنه لم يتخذ طابعة المدنى إلا في عصر إسماعيل، وعلى يد على باشا مبارك غير أنه ومن هذا الباب حصل الرجل على لقب "المشير الخطير" وإن كان لهذا الحصول قصة!
***
رغم هذا الانتماء فقد محمد شريف أن يطبع لنفسه صورة إيجابية في الوجدان الوطنى المصرى، وهى صورة لم تأت من فراغ..
بدأت صناعة هذه الصورة عندما رفض شريف باشا في صيف عام 1878، وكان يشعل منصبى ناظر الخارجية وناظر الحقانية.. رفض المثول أمام لجنة التحقيق الأوروبية وآثر الاستقالة، وهى الاستقالة التي علق عليها أحد الكتاب بقوله أنها "هزت البلاد بما تنطوى عليها أحد الكتاب بقوله أنها "هزت البلاد بما تنطوى عليه من المعانى.. وكانت بمثابة ثورة ما لبثت أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها وبذلك تهيأت البلاد أن تثبت وجودها أمام الأجانب" وانتهت صناعة الصورة باستقالة أخرى هي الاستقالة التي أعقبت تلغراف جرانفيل المشهور في يناير عام 1884 والتي كانت عنواناً ليس فقط على رفض تدخل سلطات الاحتلال في الشئون المصرية وانما على رفض سياستها القائمة على فصل السودان عن مصر.
التناقض الايجابى الآخر بدا فيما نحا نحوه الآخر الموظف الكبير بل أكبر موظف في الإدارة المصرية بعد الخديوى من تشجيع للحياة الدستورية حتى أن مؤرخين عديدين وصفوه بأبى الدستور المصرى.
مكانة شريف في الإدارة المصرية عبر عنها الأهرام في سيرته التي ساقها بمناسبة وفاتها والتي نعود للقراءة فيها مرة أخرى..
تتحدث الصحيفة عن فترة قلقة في تاريخ الرجل هي فترة عباس الأول (1848 - 1854) كاد خلالها أن يعود إلى تركيا بشكل نهائي، غير أنه بانقضاء هذه الفترة وبداية عهد سعيد بدأ نجم شريف في الصعود وحصل في فترة قصيرة على رتبة الأميرالاى تبع ذلك أن تولى نظارة الخارجية "وكان له بذلك في أيام المرحوم سعيد باشا المقام الأول بين الملكية (الإدارة المدنية) والعسكرية" وهو مقام استمر في عبد إسماعيل.
ويشير الأهرام إلى حقيقة تؤكد مكانة شريف، ففي مرتين على الأقل احداهما جرت على عهد سعيد والأخرى على عهد إسماعيل، عندما كان يغادر الوالى مصر كان يستنيب عنه في حكم البلاد "المشير الخطير"! بكل ما كان يعنيه ذلك من أن الرجل كان بمثابة الشخصية الثانية في الإدارة المصرية بعد حاكم البلاد.
ويشير أيضاً إلى أنه تقلد رئاسة النظارة عدة مرات، كانت أربعاً على وجه التحديد خلال الفترة بين عامي 1879 ، 1884، ويلاحظ أنه كان يتولى المنصب في كل مرة بعد أزمة كبيرة ابان تلك الفترة المضطربة من التاريخ المصرى التي شهدت التدخل الأجنبي والثورة العرابية والاحتلال البريطاني، مما يمكن القول معه أنه كان رجل "المهام الصعبة"!
نال في أثناء ذلك وتبعاً لسطوع نجمه "الرتب العالية فسمته الدولة العلية مشيراً ووزيراً خطيراً وحاز نياشين الدول جميعاً تقريباً وكلها من الرتبة الأولى تزين صدره وقد أهداه جلالة السلطان الحالي (عبد الحميد الثانى) النيشان العثمانى الأول مرصعاً".
وكان متوقعاً من رجل بهذه المكانة في منظومة السلطة في مصر أن ينأ بنفسه عما يمكن أن يجر عليه المتاعب، وخاصة ما اتصل منها بالتجاوب مع بعض المطالب الشعبية، وهو تجاوب لم يكن ليرضى عليه بالطبع بقية أطراف المنظومة، وهو ما لم يفعله شريف، إذ يجمع المؤرخون على أن الرجل كان وراء كل التطورات الدستورية التي عرفتها مصر خلال الفترة بين ظهور مجلس شورى النواب عام 1866 وحتى صدور لائحة أهم المجالس النيابية خلال تك الفترة في ديسمبر عام 1881، أي لمدة خمسة عشر عاماً متتالية.
***
لعل ما جاء في صدر هذه اللائحة الأخيرة التي رفعها إلى الخديوى توضح فلسفة الرجل والتي جاء فيها: "ان الاشتغال بمسائل مهمة واخراجها من حيز التصور للعمل لا يتأتى حصوله بانفراد هيئة النظار فقط بل المترائى لهم أن تبادل الأفكار فيها باشتراك الرجال الذين يؤهلهم استعدادهم وخبرتهم بالاشتغال واستقامتهم ومرتبتهم لحيازة ثقة ورضاء إخوانهم بهم ولانتخابهم للنيابة عنهم هو الواسطة الوحيدة للحصول على الفائدة المقصودة من تلك الإصلاحات".
باختصار شديد فقد قبل شريف باشا وهو رئيس وزراء أن يشاركه آخرون في تحمل المسئولية، وهو أمر لم يتكرر كثيراً في التاريخ المصرى!
ولم يكن متوقعاً لرجل بكل هذا الحجم وبكل ما جمعه من متناقضات إيجابية أن يرجل عن عالمنا في صمت!
تعددت المناسبات التي بدا فيها انحياز الأهرام لشريف باشا خلال الفترة التي انقضت بين صدوره ورحيل الرجل..
موقف "المشير الخطير من تداخل الأجنبيين في مصر" ، كان أحد هذه المناسبات، سياساته ابان فترة الثورة العرابية كانت مناسبة أخرى، استقالته الشهيرة في يناير عام 1884 احتجاجاً على التدخل الانجليزى كان مناسبة ثالثة، وهى المناسبة التي قالت فيها الأهرام أن رياض باشا أعرب خلالها عن أمله لو كان أحد وزراء شريف ليشاركه شرف الاستقالة(!)
يلاحظ أيضاً أن الأهرام قد أولى عناية ظاهرة لشريف حتى في فترات وجوده خارج السلطة مما بدا في مناسبات متعددة، من أمثلة ذلك ما كانت تتابعه الصحيفة من وجود نشاط الغازى مختار باشا القوميسيير العثمانى في القاهرة انها كانت تبرز أخبار لقاءاته مع شريف، منها أيضاً بعد أن اعتلت صحة المشير الخطير فقد استمرت الجريدة تتابع حالته إلى أن غادر المحروسة للاستشفاء في النمسا، وكانت رحلته الأخيرة.
وفيما نظن فإن مكانة الرجل المتميزة التي احتلها الرجل لم تكن السبب الوحيد وراء هذا الاهتمام..
وراءه أيضاً أن شريف باشا كان محسوباً على الثقافة الفرنسية التي انحاز لها الأهرام، فالمعلوم أن الرجل لم يكتف فقط بالتعلم في باريس، وأنه كان يجيد اللغة الفرنسية مثل أبنائها، وانما فوق ذلك قد صاهر أشهر الشخصيات الفرنسية في مصر في القرن التاسع عشر، سليمان باشا الفرنساوى الذى تزوج ابنته، بل يذهب بعض المؤرخين إلى أبعد من ذلك حين يشيرون أن أم "المشير الخطير" كانت فرنسية!
كان وراءه أخيراً المواقف المتعددة لشريف والتي وافقت هي الأهرام.. محاولة تحجيم دور العسكريين خلال الثورة العرابية واستقالته بعد أن فشل في ذلك الوقوف أمام استفحال تدخل السلطات الاحتلالية في الشئون المصرية والتي انتهت باستقالته الشهيرة، فيما سبقت الإشارة إليه، احتجاجاً على إجبار مصر على الانسحاب من السودان، فقد تبنى الأهرام موقف شريف بالكامل خلال تلك الأزمة.
من ثم لم يأت غريباً كل هذا الاهتمام من الأهرام بوفاة "المشير والوزير الخطير"، وهو اهتمام تعددت مظاهرة.
بدا أول هذه المظاهر في رد الفعل الأول للخبر حين خصص الأهرام ما يقرب من عمود من أعمدته يعدد فيه مناقب الرجل فقد "كان رحمه الله حسن الشمائل طيب الصفات صافى السريرة محمود السيرة طاهر القلب نقى الضمير موصوفاً بالحزم والحكمة والرشاد وسعة الإدراك يرجع في الأمور إليه ويعول في المهمات عليه"!
المظهر الثانى بدا في متابعة الأهرام المدققة لاستعدادات تشييع جثمان الرجل أو ما أسمته الصحيفة "بمشهد الشريف"، فتذكر يوم الاثنين 25 أبريل أن الخديو قد أصدر أوامر إلى ناظر الداخلية "بأخذ الاحتياطات اللازمة للاحتفال بمشهد الشريف كما يليق، وأن الناظر بدوره قد أصدر أوامره إلى محافظ الثغر بأن يحضر جميع الموظفين، حتى المتقاعدين منهم مشهد تسفير الجثة من محطة القبارى، وأن الأخير طلب من السردار "قيام جميع عساكر الإسكندرية بمظاهر الاحتفال عند الوصول والسفر"!
يشير الأهرام في اليوم التالى أنه قد حدث تعديل في الترتيبات، فقد تقرر نزول الجثمان في "الترسخانة" بدلاً من محطة القبارى "بما يليق لصاحبها من الاحتفاء والتكريم، وأنه سينقلها إل العاصمة قطار خاص".
وصل هذا الاهتمام إلى قمته يوم الأربعاء 27 أبريل حتى أنه يمكن وصف العدد رقم 2803 من الأهرام الصادر في ذلك اليوم بأنه عدد "المشهير الخطير شريف باشا". فقد كان يوم "المشهد العظيم" على حد تعبير الصحيفة.
أول ما جاء في وصف هذا المشهد دخول الباخرة النسموية التي تقل الرجل وعائلته إلى الترسخانة في تمام الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم حيث كان في انتظارها مندوب الخديوى ومحافظ الثغر وجميع "موظفي البحرية وكبار الإدارات وجميع الأعيان ومازالت الناس تتوافد إلى السفينة في الصنادل الفاخرة بالرايات المصرية حتى كانت الساعة الثامنة كل ذلك والسفن في الميناء ممسكة عن العمل ومنكسة الرايات وحركة الأعمال على الشاطئ واقفة على الإطلاق".
مما يستلفت النظر في هذا الوصف المبدئى أن جثمان المشير وصل على الباخرة النمسوية وليس الوابور الخصوصى الذى كان قد أمر الخديوى بإرساله إلى تريسته بعد أن علم بالنبأ، ويبدو أنه لم يكن هناك متسع من الوقت لانتظار الوابور!
يستطرد الأهرام في متابعة عملية الإنزال فيسجل "اللحظة الرهيبة لإنزال النعش المجلل بالشالات النفسية إلى الصندل الذى تخفق فوق الراية المصرية.. وكان وراء الصندل وابور آخر يقل حضرة حرم الفقيد ويتبعه صنادل جمة فيها ضباط البحرية وجميع الأعيان وكلها منكسة راياتها حزناً إلى أن دخلت الترسخانة".
تبع ذلك "المشهد العظيم" الذى بدأ في تمام التاسعة والنصف، وقد "جرى على النسف الآتى. تقدم الجميع فرسان البوليس تتلوهم فرقتان من العساكر البرية تعزف معهما الموسيقى العسكرية بنغم الحزن الشجى ثم تتلوهما فرقة البحرية تتقدمها موسيقاها ثم فرقة البوليس وكلها منكسة سلاحها وبعدها الضباط المصريون والانكليز".
سار في المشهد أيضاً قناصل الدول وأعيان الإسكندرية بعدهم تلامذة "المدارس الأميرية والأهلية يحملون البيارق.. يتبعهم فريق من مشايخ الطرق يتلون الأذكار والأوراد وبينهم الفتيان يحملون المباخر".
وانتهى المشهد بالنعش يحمله بضع من ضباط البحرية وهو "مجلل بالشالات الكشميرية والراية المصرية ترفرف وعليه سيف الفقيد والنشانات العثمانى والمجيدى من الرتبة الأولى".
وبينما كان الموكب يتقدم من الترسخانة باتجاه محطة السكة الحديد كان حصن كوم الدكة يطلق المدافع المناوبة مما أضفى عليه مزيداً من أسباب الهيبة، بل والرهبة.
وفى تمام الساعة الحادية عشرة والثلث قام القطار المخصص بنقل "المشير والوزير الخطير" في رحلته الأخيرة إلى العاصمة حيث جرى له "مشهد عظيم" آخر، كان على رأسه الخديو هذه المرة واتفق في كثير من تفاصيله مع المشهد السكندرى.
ولا نظن أن النصف الثانى من القرن التاسع عشر قد شهد احتفالاً بمثل هذه المهابة إلا الاحتفال الذى جرى بعد نحو خمس سنوات بمناسبة وفاة الخديو توفيق نفسه(!) وإن كان قد جرى بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، في عام 1908 على وجه التحديد، احتفال أكبر بمناسبة رحيل سياسى آخر وإن كان من طراز مختلف. طراز أفرزته حركة المقاومة الوطنية ضد الوجود الاحتلالى.. مصطفى كامل الذى توفى في شرخ الشباب ولموكبه قصة سوف يأتي الوقت لتقديمها!