ads

Bookmark and Share

الاثنين، 16 سبتمبر 2019

052 دنشواى الصغيرة

دنشواى الصغيرة
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 21 يوليو 1994م - 12 صفر 1415هـ

المشهد المأسوى الذى جرى في ساحة تلك القرية الصغيرة من قرى مديرية المنوفية، قرية، بدءاً من الساعة الثانية بعد ظهر يوم الخميس 28 يونية عام 1906 حين أعدم أربعة وجلد ثمانية من أبناء هذه القرية على مرأى من ذويهم وجيرانهم، والذى استقر في الضمير الوطنى المصرى باعتباره سبة عار في جبين الاحتلال البريطاني في البلاد.. هذا المشهد لم يكن المشهد الأول في تاريخ الهيمنة الإنجليزية على مصر، كما أنه لم يكن في نفس الوقت السبه الوحيدة!
قبل ذلك بما يقرب من عشرين عاماً وعلى وجه التحديد يوم 31 مارس عام 1887، وكان يوم خميس أيضاً، جرى مشهد قريب من هذا حين جلد ثمانية من أبناء قرية الكُنيَّسة القريبة من أهرام الجيزة وقرية مجاورة لها، وبشكل شديد القسوة ليكونوا عبرة لمن يعتبر!، ولنفس السبب.. الاعتداء على بعض ضباط الاحتلال.
لعل هذا ما دعا كولز Coles باشا، وكان أحد القيادات البريطانية في البوليس المصرى، والذى تكفل بمهمة ضبط المتهمين في حادثة الجيزة إلى أن يصفها بـ "دنشواى الصغيرة" في كتاب صدر في لبنان عام 1919 تحت عنوان Recollections Reflections by Cole Pasha عن ذكرياته إبان فترة عمله بمصر، ونرى أن الرجل كان محقاً في هذه التسمية.
وذلك أن كثيراً مما جرى في صيف عام 1906 في دنشواى بالمنوفية سبق وأن جرى في ربيع عام 1887 في الكُنيَّسة في الجيزة، دون اختلاف يذكر في التفاصيل.. الاختلاف كان في الحجم.
من جانب آخر فإن حادثة الجيزة كانت بمثابة "البروفة" لحادثة المنوفية.. فإن فكرة إقامة "محكمة مخصوصة" لمثل هذا النوع من الحوادث الذى تتعرض فيه حياة العسكريين البريطانيين في مصر للخطر، وفكرة العقاب الفوري أمام الاهلين.. هذه الأفكار عرفت طريقها إل حيز التنفيذ في الكنيسة قبل أن تعرفها في دنشواى، وإن كان حيزها أضيق.
غير أننا نرى أن هذا الاختلاف لم يكن وحده السبب وراء الشهرة الواسعة التي اكتسبتها حادثة دنشواى في مقابل احتلال الكنيسة مكاناً صغيراً في التارخي المصرى المعاصر، هذا إذا ما ذكرها أحد من الأصل.
السبب في تقديرنا أن حادثة دنشواى جرت في ظروف تاريخية جد مختلفة عن شقيقتها الأصغر من حيث الحجم والأكبر من حيث تاريخ شهادة الميلاد!
ففضلاً عن الحركة الوطنية التي كانت قد بلغت أشدها خلال صيف عام 1906 فإن حادثة دنشواى كانت قد جرت في أعقاب أزمة شهيرة كانت قد تفجرت بين بريطانيا والدولة العثمانية حول مصر، وهى المعروفة بأزمة طابا، والتي شهدت لوناً مما ارتآه البريطانيون قلاقل داخلية، الأمر الذى دعاهم إلى تقوية وجودهم العسكرى في البلاد مما خلق جواً عاماً من التوتر والتربص، وهو جو تفجرت فيه الحادثة وصنع لها كل هذا الحجم.
باستثناء ذلك فإن عناصر صناعة الدراما المنوفية كانت هي نفسها عناصر صناعة الدراما الجيزاوية.. هيبة الأسد البريطاني، نظام محاكمة خارج عن القوانين العادية، نوع من العقوبة استمرت سلطات الاحتلال تدعى أنها قد أبطلته. وأخيراً تنفيذ العقوبة في مشهد علنى لإبلاغ رسالة "إلى من يهمهم الأمر"!
***
المقولة الشهيرة التي جاء فيها أنه لو تحول الهنود إلى ضفادع لتمكنوا من جر الجزيرة البريطانية إلى أعماق البحار والتي جاءت على لسان الشيخ جمال الدين الأفغانى لم يكن يعلمها وحده، فقد كان يعلمها قبله المسئولون عن إدارة الإمبراطورية في لندن.
فمن الناحية العددية لم يكن الانجليز كافيين أبداً لحكم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولم يكونوا مستعدين في نفس الوقت للتنازل عن أي قسم منها، خاصة إذا كان بأهمية مصر.
ويمكن بسهولة لأى دارس لتاريخ الاستعمار البريطاني في تلك الحقبة التي سادت فيها هيمنة القوة الواحدة أن يرصد مجمل السياسات التي اختطتها حكومة لندن لمواجهة هذه المعادلة الصعبة.. إدارة امبراطورية كبر بأعداد قليلة من البشر، وهى سياسات بدأتها في الهند ثم ما لبثت أن طبقتها في سائر مناطق السيطرة، مع تعديلات محدودة على ما عرف "بالنموذج الهندى" وفقاً للظروف الخاصة لأية منطقة.
من بين تلك الأدوات بناء جيوش محلية بقيادات انجليزية، وهو ما أوصى به اللورد دفرين في تقرير شهير وضعه بعيد احتلال البلاد، ونرى أنه كان السبب الأساسى لإلغاء الجيش المصرى القديم في أعقاب هزيمة قوات الثورة العرابية، والشروع بعد ذلك في تشكيل فرق جديدة تحت قيادة انجليزية.
من بينها أيضاً قوة بحرية قادرة ورادعة وموجودة حيث تقتضى الظروف وجودها، فإمبراطورية تمتد بعرض الكرة الأرضية، وفى عالم كان مازال يحكم اتصالاته البحار والمحيطات قبل أن يعرف الانطلاق إلى الفضاء، كان الأسطول هو العنصر الأكثر فاعلية، ومن ثم جاء الحرص البالغ لرجال الاميرالية البريطانية على أن تبقى بلادهم "سيدة البحار"!
من بينها أخيراً وجود حاميات بريطانية صغيرة هنا وهناك بطول ورض الإمبراطورية وبينما كان هذا الوجود مرنا، بمعنى أنه يتسع ويتقلص تبعاً للحاجة إليه، فإنه كان رمزياً بالأساس بكل ما يمكن أن يترتب عل المساس بالرمز من مضاعفات، وهو ما أدركه صانعو السياسات البريطانية، وهو أيضاً ما يفسر تصرفات هؤلاء البالغة القسوة تجاه أعمال المساس، تلك فقد كانوا يعلمون قبل غيرهم أن التهاون حيالها كفيل بإسقاط البنيان الإمبراطورى بأكمله.
وتؤكد متابعة أوراق وزارة الحربية البريطانية خلال العقد الأول من الاحتلال.. عقد الثمانينات، أن عدد قوات الاحتلال كان يترواح بين ثلاثة آلاف وستة آلاف تبعاً لدرجة التهديد الذى كان يحدق بمصر من احتمالات الغزو المهدى، مما استتبعه أن بقى الجانب الأهم من تلك القوات في الجنوب إلى أن أمكن بناء القوة العسكرية المصرية الجديدة لتتولى هذه المهمة، وتدور ملاحظتان حول "عساكر الإنكليز في مصر" على حد تعبير الأهرام..
* أن هؤلاء قد تركزوا أساساً في الإسكندرية وبعدها القاهرة، ولم يكن لهم قواعد أو ثكنات تذكر في خارجها غير أن ذلك لم يعن أنهم كانوا في حالة ثبات في تلك المواقع، فقد كانت حركتهم تتسم بقدر كبير من المرونة، ليس فقط تبعاً لمقتضيات الأمن لمصر، بل أيضاً تبعاً لمتطلبات الأمان لهؤلاء "العساكر" ولعل ما حدث خلال انتشار الكوليرا في البلاد عام 1883 من ترحيل أعداد غير قليلة منهم إلى المناطق غير الموبوءة تقدم نموذجاً لذلك.
* أن الخزينة المصرية كانت تتحمل أعباء نفقات هؤلاء العساكر، مما شكل أحد عناصر الابتزاز من جانب الاحتلال للحركة الوطنية المصرية، حيث استمر حجم قوة الحامية البريطانية مرهوناً بانحسار أو تعاظم هذه الحركة، وكان تعاظمها يعنى ببساطة زيادة قوة الحامية التي كانت تتكلف في الظروف العادية 200 ألف جنيه سنوياً، بكل ما يترتب على ذلك من زيادة العبء على خزينة منهكة أصلاً.
ولم يكن ثمة شك مع هذه الصورة أن تتزايد أسباب الرفض المصرى لوجود رجال الحامية البريطانية ليس فقط لأنهم يمثلون قوة محتلة، وانما أيضاً لأنهم يشكلون نزفاً مستمراً للجسد المالى المصرى الهزيل.
وبين الرغبة الاحتلالية في الحفاظ على هيبة الأسد البريطاني وبين الرفض المصرى المكبوت لوجود أصحاب الزى العسكرى الامبراطورى، حدثت دنشواى الصغيرة والكبيرة ونترك الأهرام ليروى لنا قصة أولاهما.
***
جاء في العدد 2781 من الأهرام الصادر يوم الثلاثاء 29 مارس عام 1887 ما نصه:
"ذهب اثنان من ضباط الإنكليز نهار أمس ومعهما أحد العربان بصفة دليل إلى الجيزة جهة الأهرام وبينما هما يصطادان في وسط الزروع تعرض لهما البعض من أهالى تلك الجهة وأردوا أن يأخذوا منهما السلاح فأطلق أحد الضابطين عليهم عياراً نارياً فقتل واحداً منهم ثم ازداد عدد الأهالى فكتفوا الضابطين بعد أن جرحا منهم خمسة أنفار ثم قادوهما إلى البلدة ولما بلغ البوليس أمرهما أخذهما وقيل أنه لم يجرح غير واحد من الأهالى سوى من قتل أولاً وأن الأهالى بعد أن كتفوا الضابطين أتوا بهما إلى الكوبرى ليسلموهما إلى الحكومة فقابلهم البوليس وأخذ الضابطين منهم وقد ذهب اليوم حضرة كولز باشا مع عدد كبير البوليس إلى الجهة المذكورة لتحقيق الواقعة".
اليوم التالى، الأربعاء، بدا انحياز الأهرام إلى الأهالى(!) ففي تعليق طويل لمدير تحرير الجريدة من القاهرة عن الحادثة نبه إلى أنه "لا يكاد يمر بنا يوم لا نسمع فيه بجراحات وقتل بسبب الصيد في ضواحي العاصمة"، وبعد أن ذكّر بحادثة الأمس طالب بوضع قانون لمن أسماهم بأرباب الصيد "يسيرون بموجه ويقف بهم عند حدهم فإننا نرى الرجل منهم يجوس خلال حقل الوطنى في طلب طريدته لا يرده عنها شيء وفى ذلك ما لا يخفى من عدم العدالة".
بيد أنه يوم الخميس يسوق مراسل الصحيفة في القاهرة خبراً مؤداه أن "مسألة الجيزة أخذت في هذين اليومين أهمية عظيمة" فقد قامت الدنيا ولم تقعد!
يذكر الخبر أيضاً أنه قد تم القبض على عشرة من الأهالى أخذت النيابة في التحقيق معهم، وأنه قد عقد اجتماع في مقر مجلس الوزراء حضره مع نوبار وزراء الداخلية والحقانية ومدير الجيزة "وتداولوا في أهمية المسألة وكيفية الإجراء فيها كما تقتضيه العدالة".
وتؤكد القراء المتأنية لهذا الخبر في أهرام يوم 31 مارس عام 1887 أن القائمين على تحرير الجريدة كانوا مندهشين لأن تتخذ الحادثة هذا الحجم غير المتوقع، بيد أنه كان لهذا التطور أسبابه.
فمن ناحية كانت هناك السياسات المرسومة من جانب سلطات الاحتلال بعدم المساس بأية شخصية أوروبية، فضلاً عن أن تكون انجليزية، ناهيك عن أن تكون عسكرية!
ومن ناحية أخرى فقد سببت الحادثة قلقاً شديداً في دوائر الجالية الإنجليزية في مصر عبرت عنه الصحيفة الناطقة بلسانهم.. الاجبشيان جازيت، والتي روت الحادثة من وجهة نظر خاصة.
قالت الجازيت أن المصريين ممن وصفتهم بالرعاع أوثقوا أيدى الضابطين بالحبال وحاولوا اطلاق النار عليهما وهما واقعان على الأرض من بندقيتهما فلم تنطلقا لأنهما كانتا على ترباس الأمان.
وتسترسل الجريدة الإنجليزية في وصف الحادثة بشكل استفزازى فتقول "حاول الوحوش بعد ذلك أن يقتلوا مواطنينا بكعوب البنادق، لكن الضابطين نجحا في اتقاء الضربات بأرجلهما، خلال ذلك كانت النساء تسكبن الماء القذر عليهما، وأخيراً وضع الرجال الحبال حول عنقيهما وأخذوا يعدون العدة لشنقهما، ولكن رجال البوليس وصلوا في الوقت المناسب وأنقذوهما"!
ومع تلك التطورات السريعة عدل الأهرام نوعاً من موقفه، صحيح أنه استمر يطالب بسن قانون "هو لازم لهذا الشأن ليعرف الصياد حده فلا يتعداه" غير أنه أضاف إلى ذلك القول "ويعرف الزارع ما عليه وما له" ولأول مرة تعترف الصحيفة أن للزارع ما عليه وما له.
يوم الجمعة أول أبريل يسلم مكاتب الأهرام في العاصمة بأنه قد "اختلفت الأقاويل والظنون في المسألة" وأن الحكومة قد أعدت تقريراً نهائياً لحسم هذا الاختلاف، ثم قدم ملخصاً لهذا التقرير.. ولا نرى أفضل من تقديم هذا الملخص بكلماته، قال الأهرام:
"ذهب الضابطان المذكوران يوم الأحد الماضى بقصد الصيد وبرفقتهما أحد العربان العارفين باللغة الإنجليزية بصفة دليل ولما وصلوا إلى تلك الجهة أطلق أحد الضابطين بندقيته على طير (السمان وليس الحمام فيما حدث في دنشواى) فأصابه واتفق حينئذ مرور أربعة جمالة فأصاب أحدهم خردق البندقية إصابة قليلة فهجم على الضابط بسرعة كلية ولما قرب منه قال لقد اصبتنى فأجابه الضابط لم يكن ذلك بقصد فانظر ماذا تريد.. وأخرج جنيهاً ليعطيه له وإذا برفقائه قد تبعوه وهجموا على الضابط مريدين أن يمسكوه ويأخذوا بندقيته فتمنع فأمسكوه ليأخذوها منه اغتصاباً وكان الزناد مرفوعاً فأطلقت البندقية وأصابت أحدهم في رأسه فخر صريعاً.. عظم الخبر في أفئد أقرباء المقتول فتقاطروا إلى محل الواقعة وتبعهم عدد كبير من البلدة وانقضوا جميعاً على الضابطين فأطلق الضابط الآخر بندقيته عليهم فأصاب منهم خمسة أشخاص ولما لم يعد يمكنهما الدفاع أمسكوهما وقيدوهما وقادوهما مكتوفين إلى البلدة فضربوهما ضرباً مؤلماً ووصل الخبر وقتئذ إلى بوليس الجيزة فأتى وخلصهما".
باختصار يستفاد من هذا التقرير أنه بينما قتل الضابطان واحداً من الأهالى وأصابوا خمسة فإن كل ما فعله هؤلاء أن "أمسكوهما وقيدوهما وضربوهما ضرباً مؤلماً" وكان يمكن أن ينظر لكل ذلك في إطار حق الدفاع عن النفس، ولكن المسألة كانت أكبر من ذلك.. المسألة كانت إهانة "اليونيفورم" العسكرى البريطاني مما لا يمكن أن يسمح به مما قاد إلى الفصل الأخير من دراما "دنشواى الصغيرة".
***
يختص هذا الفصل باجراءات الرد التي قامت بها سلطات الاحتلال، ونقرأها من الأهرام أيضاً..
أو ما حدث أن أعيد الضابطان معززان مكرمان إل ثكناتهما في قصر النيل بعد أن تم تخليصهما من أيدى أهال البلدة.
أما القتيل الذى وجد في جسده سبع عشرة خردقة فقد "أرسل إلى اسبتالية القصر العينى وقد أخذه أقرباؤه ودفنوه".
تم خلال ذلك القبض على مشايخ البلدتين اللتين خرج أهلوهما في عملية القبض على الضابطين فضلاً عن خمسة وأربعين نفراً" من هؤلاء الأهالى "ممن وقعت عليهم الشبهة".
في نفس الوقت شكلت "لجنة خصوصية" للنظر في القضية تتألف من "حضرات مدير الجيزة وشفيق بك منصور (نائب المدع العام لدى المحاكم الأهلية والماجور مكدونالد الضابط في القنصلية الإنكليزية" وقد أصدرت هذه المحكمة أحكاماً سريعة "على الأنفار المذكورين بأن يجلد كل منهم من 25 إلى 75 جلدة بحسب درجة ذنبه في نفس بلدتهم وأما المشايخ فقد حكم عليهم جميعاً بالحبس".
بعد نحو أسوبعين وفى يوم 13 أبريل على وجه التحديد ينشر الأهرام "بيان أنواع العقوبات التي حكم بها على الذين اعتدوا على الضابطين الانكليزيين جهة الجيزة وقد نفذت فيه يوم 31 مارس الماضى".
ويتضح من هذا البيان أن شيخى البلدتين اللتين شارك أهلوهما في الواقعة "قد رفتا من المشيخة" وحكم عل الأول بالحبس ستة أشهر بينما حكم على الثانى بخمس وعشرين جلدة تلقاها أمام أهالى بلدته!
حكم على أربعة آخرين من المشايخ بالحبس لمدة ثمانية أيام وبغرامة تراوحت بين ثمانية وعشرة جنيهات، أما سائر الأنفار من المزارعين فقد كانت عقوباتهم أقسى، فقد حكم عل "ماهروب رسلان بثلاثين جلدة وحبس 15 يوماً وعلى حسن حدوس بعشرين جلدة فقط وعل سالم منتازى بخمسين جلدة وحبس 3 أشهر وعلى كل من عبد الهادى محمد وإبراهيم محمد بخمس وعشرين جلدة وحبس 3 أيام".
ويلفت النظر في هذه الإجراءات أنها فضلاً عن السرعة في اتخاذها فقد تمت بغير الطريق القانوني بمحاكمة المصريين أمام المحاكم الأهلية وأنه قد تم تمثيل أحد ضباط جيش الاحتلال فيها تحت مسمى "الضابط بالقنصلية الانلكيزية" مما كان تمهيداً لقانون المحكمة المخصوصة الذى صدر بعد أقل من ثمان سنوات من تلك الحادثة والذى تم بمقتضاه تقنين مثل هذه المحاكم الاستثنائية.
من جانب آخر يثير الانتباه اللجوء إلى عقوبة الجلد رغم كل الادانات البريطانية لهذه العقوبة خلال السنوات الخمس التي كانت قد انصرمت منذ أن حل الانجليز بمصر.
أشهر تلك الادعاءات النشرة الدورية التي أصدرها ناظر الداخلية المصرى في 6 نوفمبر عام 188 بناء على طلب بريطاني وجاء فيها أنه سمع للأسف الشديد أن بعض المسئولين مازالوا يلجأون إلى استخدام الكرباج الأمر الذى يتطلب اللوم والتوبيخ الشديدين، وقد طلب من هؤلاء الامتناع عن "وسيلة الجلد البربرية المقيتة"!
ويبدو الكيل بمكيالين من أنه في هذه الحادثة لم تكتف السلطات الاحتلالية بعقوبة الجلد وانما قررت أن تكون على الطريقة الإنجليزية وليس على الطريقة المصرية.
يقرر ذلك مراسل احدى الصحف الإنجليزية في مصر والذى حضر عملية التنفيذ فيقول أن من قام بها مجموعة من السجانين الانجليز الأشداء وكان التنفيذ بالقطة الإنجليزية وهى كرباج له تسعة أفرع في كل منها عقدة والضرب بهما على الظهر، أما الكرباج المصرى فهو مصنوع من شريط عريض من جلد فرس النهر مقسم إلى شرائط رفيعة والجلد به أخف ألماً من الضرب بالقطة الإنجليزية.
ولم يكن الكرباج وحده انجليزياً فقد تم التنفيذ فيما يشبه المظاهرة العسكرية فيما شهد به نفس المراسل، فقد تم التنفيذ على مشهد من الفلاحين وبحضور قوة من الفرسان من رجال جيش الاحتلال تم اختيارهم بعناية من أصحاب المظهر المهيب والطول الفارع!
واستكمالاً لأسباب المظاهرة لم ينس قائد لواء ويلز الذى كان حاضر عملية التنفيذ أن يلقى خطبة قصيرة يهدد فيها بالويل والثبور لكل من تخول له نفسه أن يكرر مثل هذه الفعلة وأنه سوف "يلقى عقاباً أشد مما لقيه المحكوم عليهم" وكان مطلوباً من المصريين أن يصبروا على جنود الاحتلال وهم يتجولون في أراضيهم لممارسة هواياتهم، غير أنه كان للصبر حدود!

صورة من المقال: