ads

Bookmark and Share

الخميس، 4 يوليو 2019

048 معاهدة الجلاء الأولى

معاهدة الجلاء الأولى
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 23 يونيو 1994م - 14 محرم 1415هـ

جلاء آخر بريطانى عن أرض الكنانة فى 18 يونية عام 1956 جاء تنفيذاَ لاتفاقية عقدت قبل عشرين شهراً وعرفت بمعاهدة الجلاء، وكانت المعاهدة الأخيرة لكنها لم تكن المعاهدة الأولى!
قبلها بنحو عشرين سنة كانت معاهدة 1936 التى كان من أهم بنودها النص على جلاء القوات البريطانية ولكن إلى داخل مصر وليس إلى خارجها(!) فيما حدث بعد اثنى عشر عاماً إلى منطقة القناة.
قبلهما بما يقرب من نصف قرن (1887) عقدت المعاهدة الاولى والتي لا يعلم الكثيرون قصتها، وهى قصة تستحق أن تروى، خاصة أنها كانت محل اهتمام بالغ من المصريين المعاصرين، فيما عبرت عنه صحف العصر وفى طليعتها الأهرام.
القصة بدأت بالتحول الذى أصاب السياسات البريطانية في عهد وزارة سولسبرى التي تشكلت في يونية عام 1885، والذى ارتأى على حد توصيف الأهرام أنه أمام واحد من أمرين "إما الاستيلاء على مصر والتصرف فيها كيفما شاء أو الانجلاء عنها وإذ رأى الأول من قبيل المستحيل نزع إلى تحقيق الثانى عل نمط لا يخل بمبادئ دولته".
من هنا صدر القرار بإرسال مبعوث خاص إلى الآستانة، هو السيد هنرى درمندوولف Wolf، وقد قضى الترخيص الذى خولته إياه حكومته بفحص الشئون المصرية، والتفاوض مع السلطان للتوصل إلى تسوية للمسألة المصرية، فضلاً عن السعي لإقامة حكومة مستقرة في السودان.
وقد جاء قرار الحكومة البريطانية متأثراً بعديد من الاعتبارات، فقد بقيت الدولة العثمانية وحتى عام 1914، من وجهة نظر بريطانية، صاحبة السيادة الشرعية على مصر، من جانب آخر فقد بقيت القوى الكبرى المناوئة للاحتلال البريطاني للبلاد تتوكأ على العصا العثمانية لإنهاء هذا الاحتلال وكان مطلوباً ابطال مفعول هذه العصا، أخيراً فإن توتر العلاقات الروسية – البريطانية بسبب المسألة الأفغانية قد دفع لندن إلى البحث عن حلفاء في المنطقة، وعلق الأهرام على تلك الحقيقة بقوله: "إن عقدة سياسة المحافظين الخارجية مسألتان هما الأفغانية والمصرية وكلتاهما مرتبطة إحداهما بالأخرى".
وفى يوم السبت 22 أغسطس من نفس العام وصل "المرخص السامى الانكليزى" كما كان يصفه الأهرام إلى عاصمة الدولة العلية حيث قضى شهرين نجح خلالهما في وضع اللمسات الأولى لتنفيذ سياسة حكومته.
بدت هذه اللمسات في التوصل إلى اتفاقية في 24 أكتوبر عام 1885 وجدناها في مصادر قليلة للغاية كان منها الأهرام، وقد حددت المبادئ العامة لمسيرة المفاوضات بين الجانبين.
تضمنت هذه الاتفاقية سبعة بنود أقرت تعيين مندوبين عن الدولتين للذهاب إلى مصر بأهداف محددة، التخابر مع السودانيين لدفعهم إلى المسالمة، تنظيم الجيش المصرى، تفحص أعمال الإدارات المصرية.
غير أن البند السادس كان أهم ما جاء فيها بحكم أنه أول مادة في معاهدة يوقع عليها ممثل بريطاني يقر فيها بمبدأ الجلاء. جاء فيها:
متى رأى المعتمدان الساميان أنه قد استتب النظام التام وعادت سلطة مصر إلى حالها السابق وتعينت حدود أراضيها تعييناً لا يشوبه تغيير ما يرفعان إلى حكومتيهما تقريراً بهذا الشأن هما حينئذ تتخابران وتريان فيما إذا كان من المناسب ابرام وفاق نهائي تبنى عليه مسألة الانجلاء عن مصر حالما تسمح به الظروف ويمكن إنجازه بدون تعب أو نصب بل بدون وجس من أن يعقب بحوادث وخيمة".
تبع ذلك وصول السير وولف إلى الإسكندرية في 29 من نفس الشهر، لحق به المبعوث العثمانى الغازى أحمد مختار باشا، وإن كان قد تأخر لنحو شهرين، فلم يصل قبل يوم 26 ديسمبر، ولم تمض سوى أيام قليلة بدأت بعدها المفاوضات حول معاهدة الجلاء،
وقد عرفت الشهور الستة الأولى من عام 1886 اتصالات متوالية بين المرخصين الساميين، هذا من جانب، وبين كل منهما والخديوى من جانب آخر، وكان يغلب على هذه الاتصالات طابع الزيارات الشخصية بأن يقوم أي منهما بزيارة الآخر في مقره الذى خصصته له الحكومة المصرية.
جانب من هذه الزيارات كان يقتصر على المرخصين، وجانب آخر كان يحضره بعض المعاونين، وإن كان يصعب تحديد الأسباب التي كانت وراء طبيعة الاجتماعات، فلم يترك لنا أي من الطرفين محاضر للمفاوضات.
وبينما يسوق الأهرام أخبار هذه الاتصالات الثنائية بين المرخصين الساميين يسوق لنا أخبار اتصالات ثنائية أيضاً ولكنها هذه المرة بين كل من المرخصين وسمو الخديو الأعظم، وهو لون من الاتصالات استمرت أخباره تنشر بشكل متكرر حتى أوائل شهر مارس حين بدأ بعدئذ يطفو على السطح لون جديد من الأخبار.. أخبار الاجتماعات التي تعقد في عابدين، وهى اجتماعات كان يرأسها "الجناب العالى الخديوى".
بعض هذه الاجتماعات كانت تقتصر على الشخصيات الثلاث والبعض الآخر كان يحضرها "الجناب الخديوى وحضرات النظار من جهة ودولة المختار والسير وولف من جهة أخرى".
فضلاً عن ذلك فقد كان الأهرام يشير بانتظام إلى الاتصالات التي كان يجربها كل مرخص مع دولته، السير هنرى درمندوولف من خلال المعتمد البريطاني في القاهرة، السير ايفيلين بيرنج، والغازى مختار الذى كان يراسل الباب العالى في الآستانة مباشرة.
***
منذ البداية ربطت بريطانيا قضية الجلاء بقضية الأمن المصرى التي كانت قد تعقدت كثيراً بعد احتلالها للبلاد.
تعقدت بسبب الإجراءات التي اتخذتها بحل الجيش المصرى تحت دعوى أنه جيش عاص وما استتبع ذلك من بناء قوة عسكرية جديدة تحت القيادة البريطانية من ناحية ومحدودة من ناحية أخرى متعللة في ذلك بأن المالية المصرية التي تذهب أغلب عوائدها للدائنين عاجزة عن أن تفى باحتياجات قوة عسكرية كبيرة.
وتعقدت بسبب السياسات التي اتبعت في مواجهة الثورة المهدية والتي انتهت بإخراج المصريين من السودان، ثم ما استتبع ذلك من مخاطر أصبحت تشكلها الدولة المهدية على حدود مصر الجنوبية.
لعل ذلك ما دفع "المرخص العثمانى" حال وصوله إلى القاهرة إلى التريث في عقد الاجتماعات مع "المرخص الانكليزى" حتى ينتهى من "وضع الأساس التام لتنظيم الجيش" باعتباره موضع الداء، وأن تردد حكومة لندن بعد ذلك لن يكون معناه سوى "التمحك الذى تقصد منه عدم نجاح الوفاق العثمانى – الانكليزى".
في أوائل فبراير كان الغازى مختار قد توصل إلى تصور عام لحل المعضلة الأولى.. معضلة تنظيم الجيش المصرى.
الجانب الأول من هذا الحل خاص بحجم هذا الجيش، فبينما كانت الفرمانات تسمح بأن يصل عدد الجنود المصريين إلى 18 ألفاً فإن سياسات الاحتلال قامت على أن يتراوح هذا العدد بين خمسة وسبعة آلاف وإن كان قد استقر عند رقم الستة آلاف، ومن ثم جاء اقتراح المرخص التركى أن يصل هذا العدد إلى 16600 "يستلزم منه ألفان لسواكن وأربعة لمصر والباقى لاحتلال دنقلة".
الجانب الثانى متعلق بالنفقات اللازمة لهذه القوات والتي كانت العقدة التي استمر يضعها الانجليز في المنشار(!)، وكان الحل العثمانى في هذا الشأن متعدد الاتجاهات.
اتجاه خاص بتخفيض نفقات العسكرى المصرى الذى كان يكلف الخزينة سنوياً قبل الاحتلال من 15 – 17 جنيهاً فأصبح يكلف 32 جنيهاً رأى المختار أنها يمكن أن تقل إلى 30 جنيهاً دونما تأثير على كفاءة الجيش، ومن ثم يتطلب الجيش الجديد ما لا يزيد على 340 ألف جنيه.
اتجاه آخر.. لنيل المرام.. على حد تعبير الصحيفة بتنازل الجانب البريطاني عن المائتى ألف جنيه التي يتقاضاها مقابل نفقات جيش الاحتلال، ومن ثم لا يتبقى سوى 140 ألفاً من الجنيهات مطلوب تدبيرها وهو أمر ممكن بالتفاهم مع الدول المسئولة عن صندوق الدين. خاصة وأن أغلب تلك الدول على رأسها فرنسا تفعل ما في وسعها لتحقيق هدف "انجلاء الإنكليز" عن البلاد.
الجانب الثالث متصل بالوجود البريطاني في الجيش المصرى، وقد انصبت المقترحات العثمانية على إلغاء منصب السردار ثم التخلص تدريجياً من الضباط الانجليز في قيادات هذا الجيش على أن يحل محل هؤلاء ضباط من المصريين أو العثمانيين.
وقد تذرع المختار في تقديم هذا الاقتراح بأنه لما كانت المهمة الأساسية التي يتعين على الجيش القيام بها هي مواجهة رجال المهدية، والتي كانت حركة دينية بالأساس، فأن تتم تلك المواجهة بقوات ذات قيادات أوروبية يخلق مضاعفات تؤدى إلى استمرار نجاح هذه الحركة، بينما يؤدى وجود قيادات إسلامية لجيش إسلامى إلى الفت من عضدها.
تبع المرخص العثمانى الحل الذى قدمه لمعضلة الجيش بحل قدمه لمعضلة السودان، وعلى مرحلتين..
المرحلة الأولى بإرسال مبعوث إلى وادى حلفا للتفاوض مع المهديين بهدف دفعهم إلى "المسالمة"، وقد تصور الغازى بأن نجاح هذا الحل مضمون على ضوء أنه ليس هناك من مسلك لا يقر بسلطة "خليفة المسلمين" السلطان العثمانى.
في حالة فشل هذا الحل تأتى المرحلة الثانية متواكبة مع السابقة بحلول القوات المصرية محل القوات الإنجليزية في سواكن وانسحاب هذه الأخيرة من وادى حلفا إلى أسوان لتحل محلها قوات مصرية أخرى، بمعنى كان رأى المراسل العثمانى أن تكون على خط المواجهة قوات مسلمة فقط.
المرحلة الثالثة تتم بعد زيادة الجيش المصرى إلى العدد الذى اقترحه (16600)، بإرسال جانب من هذا الجيش لاحتلال دنقلة مما يبعد الخطر المهدى عن الحدود المصرية.
وقد اعتمد في المطالبة بهذه المرحلة على تقرير قدمه أحد رجاله ونشره الأهرام كان مما جاء فيه: "ان حال السودان سيئة جداً بالنظر إلى استيلاء الخلل على الإدارة العامة والخاصة واستحكما النفر والضغائن بين القبائل وميل غالبيتها إلى التخلص من القلاقل.. فلو تأكدوا من أن الحكومة المصرية تأخذ بيدهم لما اكتفوا بالمسالمة فقط بل عاقدوا معها الأيدى للمقاومة وأنهم لما سمعوا بأن رسول جلالة الخليفة مستعد للقدوم نحو دنقلة مع عبد القادر باشا انشرحت صدورهم وطابت أنفسهم وتوقعوا وشك انقضاء الأزمة".
ضَّمن المرخص العثمانى كل هذه الاقتراحات في لائحة (مذكرة) طويلة حصلت على موافقة الباب العالى، ثم قدم نسخة منها للمرخص الانجليزى، السير هنرى وولف، ونسخة أخرى إلى "الحضرة الخديوية" وانتظر الجميع رد حكومة لندن..
فى البداية جاءت الأخبار متفائلة وكتب الأهرام أن "وزارة لندرة" (لندن) أعارات التقرير آذاناً صاغية فيما نشره الأهرام يوم 24 مارس عام 1886، ومع تأخر الرد يبدأ القلق، فبعد ثلاثة أيام تقول الصحيفة "لم تجاوب وزارة لندرة حتى الساعة على ما أشار به دولة مختار باشا الغازى"، وتعلم القاهرة صباح يوم 2 أبريل أن الرد قد وصل "وأن المندوب الانكليزى سيشرع عما قليل في المخابرة مع دولة الغازى".
في يوم 29 أبريل يحصل الأهرام على الرد أو ما أسماه "بزبدة جواب إنكلترا" والذى نشره على عددين، وكان بالرفض الكامل للمقترحات العثمانية، فبالنسبة للجيش فإن "نفاذ المشروع ينشأ عنه زيادة مهمة في قوة الجيش المصرى ينشأ عنها زيادة في النفقات" وبالنسبة للسودان فإن "إنكلترا ترفض افتتاح دنقلة وقد قررت أن يكون وادى حلفا حداً لمصر لا تتعداه"، وعلقت الصحيفة على ذلك بالقول أنه "بهذا الرفض يسقط تقرر دولة المختار من أساسه".
ويسوق الاهرام يوم 3 مايو أخبار جلسة عاصفة تمت بين المرخصين في الحضرة الخديوية انتهت بقوله الغازى "انى وضعت تقريراً منطبقاً مع مبادئ الوفاق الموقع عليه من الحكومتين وحكومتكم رفضته فأرنى إذ ذاك تقريرك"، وبدلاً من أن يقدم له وولف تقريره شد رحاله إلى لندن بعد أيام قليلة ليقضى بها بضعة أسابيع يذهب بعدها إلى الآستانة لعقد المرحلة الأخيرة من مفاوضات أول معاهدة جلاء عن مصر مع وزيرين مفوضين عينهما الباب العالى لتلك المهمة.
***
لم يمدنا الأهرام بمعلومات كثيرة عن تلك المرحلة سواء بسبب أن المفاوضين آثروا الالتزام بالسرية أو لأنها كانت تجرى بعيداً عن عيونه خصوصاً مدير تحريره النشط بشارة تقلا الذى كان في نفس الوقت مكاتبه في المحروسة.
غير أن ذلك لم يمنع الجريدة من أن تسوق أخبار أول معاهدة جلاء عن مصر بعد يومين فقط من التوصل إليها في العاصمة التركية فيما نصت عليه مادتها الرابعة التي جاء فيها:
"تنجلى العساكر الإنكليزية عن مصر في ثلاث سنوات وينفصل الضباط الإنكليز الذين في خدمة الجيش المصرى من وظائفهم بعد تمام الانجلاء بسنتين"!
ومع الملاحظات التي دارت حول هذه المادة من طول مدة "الانجلاء" (من 3 – 5 سنوات)، مع أن عملية الاحتلال لم تستغرق أكثر من شهرين، فإن تلك المادة كانت أفضل ما في المعاهدة، أما أسوأ ما فيها فقد جاء في المادة الخامسة التي نصت حسبما جاء في الأهرام على:
"تستدعى جميع الدول للتصديق على المبادئ الدولية المقررة بهذا الوفاق وللتوقيع على صك خاص ناطق بالتعهد بعد اغتيال الأقاليم المصرية إلا إذا حدث اضطراب أو خيف من احتلال دولة أخرى فيما بعد انجلاء الجيوش الإنكليزية عنها فإنه يسوع للجيوش الإنكليزية والعثمانية استئناف احتلالها سوية أو فريقاً ففريقاً".
ومع أن هذه المعاهدة تضمنت لأول مرة في اتفاق رسمي إقرار حياد قناة السويس فيما جاء في مادته الثالثة التي نصت على أن "تجرى أحكام العزلة على بوغاز السويس ويباح المرور فيه في زمن السلام وفى زمن الحرب" فإن الاهتمام كله قد انصب على المادة الخامسة والذى أدى التباحث حولها إلى فشل مشروع أول معاهدة للجلاء في تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر.
فالسير ايفلين بيرنج المعتمد البريطاني في القاهرة، والذى كان من أشد أنصار استمرار الاحتلال، حين حاول تفسير ما جاء في المادة الخامسة بأن القوات البريطانية لن تنسحب في حالة "any appearance of danger in the interior or from without" والتي ترجمها الأهرام بقوله "إذا حدث اضطراب أو خيف من احتلال دولة أخرى" قد رأى أنه في غياب تحديد دقيق للخطر الداخلى أو الخارجي فإن الحكومة البريطانية أصبحت المسئولة الوحيدة عن تحديد ماهية هذا الخطر.
نفس المادة ألحق بها السيد وولف رسالة وجهها إلى الجانب العثمانى لم يشير إليها الأهرام وإن كانت قد سلجتها بالوثائق جاء فيها أنه "في حالة انقضاء السنوات الثلاث المنصوص عليها في المعاهدة لجلاء القوات البريطانية دون أن تقبلها أي من القوى الكبرى المطلة على البحر المتوسط فإن الحكومة البريطانية سوف تعتبر هذا الرفض مظهراً للخطر الخارجي المذكور في المادة الخامسة من الاتفاقية مما سوف يتطلب إعادة النظر في الوسائل الكفيلة لتنفيذها بين كل من الحكومة الإمبراطورية العثمانية وحكومة جلالة ملكة بريطانيا".
بمعنى آخر أن حكومة لند وإن كانت قد وافقت على مبدأ الجلاء إلا أنها قد وضعت كل العراقيل لتحويل هذا المبدأ إلى حقيقة واقعة، وهو أسلوب استمرت تتبعه بامتداد ثلاثة أرباع القرن رغم تعاقب العهود واختلاف الأحزاب التي توالت على 10 داوننج ستريت!
وحدث ما توقعه دهاقنة الدبلوماسية الانجليز، ففي خلال الأيام القليلة التي أعقبت التوصل إلى المعاهدة انهالت الاحتجاجات من جانب كل من روسيا وفرنسا على الباب العالى والتي روتها بالتفصيل وثائق لندن وباريس وسان بطرسبرج فيما عبر عنه الأهرام بقوله: "ان الروسية وفرنسا تدفعان السلطان لرفض الوفاق لإجحافه بمصلحة العثمانية ومصلحتها وكلتا القوتين عاملة على التغلب والفوز".!
وخلال ما يقرب من شهرين من تاريخ التوصل إلى المعاهدة كانت تتتابع في عاصمة الدولة العلية مشاهد بالغة الطرافة وبالغة الأثر على المستقبل المصرى في نفس الوقت.
فقد كان مفروضاً أن يتم التصديق على المعاهدة في خلال شهر من تاريخ التوقيع عليها، أي في 22 يونية، وفى تلك الأثناء كانت الحكومة العليمة تبذل غاية ما في طاقتها لتجاوز الاعتراضات الروسية الفرنسية، وتسعى في نفس الوقت لاستبقاء السير وولف في المدينة إلى حين التغلب على هذه الاعتراضات.
في هذ السياق وبعد أن انتهى الشهر المخصص للتصديق أخذ الباب العالى ينتحل المبررات لهذا الاستبقاء، كأن يرجئ التصديق بسبب الاحتفال بعيد الفطر وما إلى ذلك من أسباب، الأمر الذى دعا السير وولف إلى اطلاق التصريحات الحادة كان منها ما نشره الأهرام في 30 يونية من أن عدم التصديق على الوفاق يحط منزلة العثمانية من مصاف الدول ذات المرتبة الأولى(!) وكان منها تحديده لمنتصف ليلة الجمعة 15 يوليو لمغادرة الآستانة، ورغم محاولة استبقاء الرجل لمزيد من الوقت فإنه أصر على الإقلاع في الميعاد الذى حدده.
ويلخص اللورد كرومر نتيجة المحاولة فيقول بالحرف الواحد: "بالرغم من أن المفاوضات التي أدارها السير وولف قد أخفقت في بلوغ هدفها فإن الحكومة البريطانية خرجت منها في وضع ديبلوماسى أفضل كثيراً من الوضع الذى كانت فيه عندما دخلتها، فقد كانت تستطيع على الأقل أن تدعى أنها حاولت التوصل مع السلطان إلى تسوية بشأن المسألة المصرية، وأكثر من ذلك أنها قد نجحت في المحاولة وأنه ليس خطأها وأن السلطان قد رفض التصديق على الاتفاقية تحت ضغط من فرنسا وروسيا" وكان على المصريين أن ينتظروا لنحو نصف قرن للتوصل إلى اتفاق آخر لجلاء البريطانيين عن بلادهم.

صورة من المقال: