ads

Bookmark and Share

الأحد، 30 يونيو 2019

041 الْـقُرْعَة!

الْـقُرْعَة!
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 28 أبريل 1994م - 17 ذو القعدة 1414هـ

26 مارس عان 1885 صدر "قانون القرعة العسكرية المصرية"، وكان أول قوانين التجنيد التي صدرت في ظل الاحتلال البريطاني، ولم يكن قانوناً عادياً فقد اخترق عظام فقراء المصريين، خاصة من الفلاحين، وحتى النخاع، مما يشكل أحد الفصول المأساوية في التاريخ المصرى الحديث سجل الأهرام الكثير من مشاهده.
وقبل متابعة تلك المشاهد فهناك جوانب المسرح الذى جرت على خشبته، وهى جوانب تستحق الرصد..
أول هذه الجوانب متصل بنشوء قضية الامداد بالجنود مع تأسيس أول جيش وطنى في تاريخ مصر الحديث، فبعد أن لم تلق تجربة الاعتماد على السودانيين النجاح المقدر لها خلال عشرينات القرن التاسع عشر فقد اتجه المسئولين عن هذا الجيش إلى سواد المصريين، خاصة من الفلاحين، وكان معيار اختيار هؤلاء يقوم على احتياجات الجيش أكثر مما يقوم على نظام محدد. يتبدى ذلك في أوامر الباشا التي تقضى "بالقبض على شبان من الأقوياء سليمى البنية"، فيما وجهه محمد على إلى "عموم مأمورى الأقاليم المصرية"، مما أكسب عملية الامداد بالجنود سمعة سيئة، بل بالغة السوء!
الجانب الآخر خاص بأول محاولة لتنظيم عملية التجنيد، وهى المحاولة التي جرت في أوائل عهد توفيق حين صدر في 31 يوليو عام 180 "الأمر العالى الشامل لقانون القرعة العسكرية"، وكان من أهم ما جاء فيه أن "كل مصري مكلف شخصياً بالخدمة العسكرية على مقتضى هذا القانون بدون تمييز لديانته ولا لحالته وصنعته وأن يكون عمره من 20 - 35 سنة".
وقد أرسلت هذه المادة لأول مرة في تاريخ المؤسسات العسكرية المصرية الحديثة "روح المواطنة" ولكن ولسوء الحظ "الحلو ما يكملش"!
الجانب الثالث متصل بطريقة اختيار "كل مصري" على حد تعبير الأمر العالى، ففي التطبيق اتضح أن العبارة ناقصة فالذى حدث أنه قد سيق للتجنيد "كل مصري" من غير القادرين، في مقابل إعفاء الآخرين.
ففضلاً عن نظام القرعة الذى كان يجرى على من يتم جمعهم من خلال المشايخ والعمد والذى كان يقوم على إعطاء كل منهم "نمرة" ثم يتم السحب عليها فيخرج من لم تصبه القرعة ويبقى من أصابته، فقد كانت هناك وسائل عديدة يملكها القادرون لتجنب الإصابة من القرعة أو سواها.
أخيراً فإن قانون عام 1880 لم يوضع بالفعل موضع التطبيق إذ لم يمض وقت طويل على صدوره حتى بدأت الثورة العرابية بأحداثها العاصفة التي انتهت باحتلال مصر والاستغناء عن الجيش المصرى القديم باعتباره جيشاً من العصاة والبدء في تكوين جيش جديد تحت القيادة البريطانية، وفى تلك الظروف صدر "قانون القعرة العسكرية المصرية".
***
مع أن هذا القانون بدا لأول وهلة وكأنه إعادة لقانون عام 1880 إلا أن جملة التعديلات التي أدخلت عليه انما تكشف عن فلسفة سياسية نرى أنها أثرت في المؤسسة العسكرية المصرية بامتداد تاريخ الهيمنة البريطانية على مقدرات تكل المؤسسة..
جاء أهم التعديلات قبل مضى شهرين من صدور القانون بإرساء مبدأ البدلية، ونترك للأهرام الصادر يوم 18 مايو عام 1885 وصف هذا المبدأ.. قال:
"يصرح لمن اصابته القرعة بالتخلص منها إما بتقديم شخص آخر برضائه في الميعاد الذى تحدده لذلك نظارة الحربية بشرط أن يكون تحت ضمانته ولائقاً للخدمة من كل الوجوه وسنه من 24 إلى 25 سنة وإما بدفع بدل نقدى قدره 100 جنيه مصري في ميعاد 15 يوماً من تاريخ إعلانه الطلب يوردها لحساب نظارة الحربية في جهة المديرية ويعطى التذكرة اللازمة الدالة على تخلصه غير أنه إذ فر الشخص البدل فيكون المستبدل مكلفاً بتأدية الخدمة العسكرية بنفسه بقية المدة المقررة له قانوناً إن لم يختر دفع البدل النقدى بتمامه"!
وكان هذا التعديل بداية للريح الخبيئة التي زعزعت مفهوم الخدمة الوطنية في المؤسسة العسكرية المصرية في ظل الاحتلال البريطاني..
فقد أدى من ناحية إلى ضغوط من العائلات الأقوى في الريف التي يصيب أبناءها القرعة على العائلات الأضعف لتقبل ارسال أبنائها كبدل لهؤلاء المصابين بالقرعة!
وفى حالة عدم توفر هؤلاء فإن تدبير الـ 100 جنيها، وكانت ثروة كبيرة بمقاييس العصر كان "فوق مقدرة الفلاح بالنسبة إلى ضيق الأموال الحاضرة" على حد تعبير الأهرام، بينما كان في مقدرة غيره!
يشهد بذلك اللورد كروم في تقريره عن أحوال مصر عام 1886 والذى جاء فيه أن القسم الأكبر من حصيلة البدلية: "دفعه أبناء العمد والمشايخ وملاك الأرض الموسرين".
وأدى من ناحية أخرى إلى فوارق اجتماعية حادة بين المنخرطين في سلك الضباط وبين جنودهم، بكل ما يترتب على ذلك من خلط شديد ساد ابان تلك الفترة، وربما بعدها، بين الضبط والربط اللازمين لكل جيش وبين التعالى الطبقى الذى يمارسه الضباط على جنودهم.
ولقد أكد عل هذه الفوارق ما استمر يتبع خلال تلك الفترة من انتقاء طلاب المدرسة الحربية من "أبناء العائلات"، والذين كانوا ينحدرون في الغالب من أصول تركية، بكل القيم التي توارثها هؤلاء من احتقار "الفلاحين"!
لعل ذلك ما أرسى في نفوس الفلاحين حلة النفور من "الجهادية"، وفهى حالة انتقلت عدواها إلى سائر المصريين ولازمتهم لوقت غير قصير، وتعددت طرق التعبير عنها..
كان وصول "قومسيونات فرز أنفار الجهادية" إلى المراكز في سائر المديريات المصرية في الوجهين البحرى والقبلى مناسبة غير سعيدة بالنسبة لأهاليها.
ينقل إلينا مكاتب الأهرام في المحلة الكبرى في عدده الصادر يوم 14 يناير عام 1886 مشهداً لهذه المناسبة، فقد كان موجوداً في دار الحكومة لدى حضور مجلس القرعة فوجدها "غاصاً داخلها وظاهرهاً بجماهير الناس على اختلاف أعمارهم وأكثرهم نساء يصحن ويعولن مكشوفات الرؤوس بحيث تُضيّع أصواتهن صوت الرئيس فلا يسمع إلا بالصياح وهو أمر يجب الالتفات إليه"!
مشهد آخر قدمه مكاتب الأهرام في كفر الشيخ ومن بلد من بلاد المركز هي "تيده"، وهى صورة يختلط فيها الجد بالهزل إلى حد يدفع للابتسام وربما البكاء في نفس الوقت!
يقول المكاتب أن لجنة الفرز لم تعثر في دفاتر هذه البلدة إلا على خمسة أنفار "منهم أربعة عمى والخامس على عينه عتامة مانعة للإبصار فعفت اللجنة عنهم جميعاً من القرعة"، ويستطرد بأنه لما تحرى رئيس القومسيون تبين أن نحواً وثلاثة وثلاثين نفراً لم يدرجوا ف كشوف الرغبة "فكتب إلى المركز يطلب الأنفار بأسمائهم وألقابهم، ويأتي مشايخ القرية بهؤلاء لتواجه اللجنة بالمفاجأة الثانية ونترك للمكاتب روايتها بأسلوبه.. قال:
"عاد المشايخ بالأنفار وقالو أنهم هم نفس الأنفار المطلوبين فكان في جملتهم رجال بلغوا الستين من العمر وأولاد لم يبلغوا العاشرة وبينهم أناس عمى وخرس. فابتدأت اللجنة تسأل كل نفر على حدته عن اسمه ولقبه فظهر من خلال السؤالات أن في الأمر سر عميق وأن المشايخ قد أبدلوا الأنفار بسواهم وأقر هؤلاء أمام هيئة اللجنة بأسمائهم الحقيقية"!
المشهد الثالث بعث به مراسل الأهرام في ديروط من إحدى نواحى المركز وهى "كوم انجاشه" حيث وجدت لجنة الفرز جميع أنفار القرعة "ذوى عاهات لا يصلحون لهذه الخدمة ثم تبين أن أولئك الأنفار المحضرين للفرز انما هم مستأجرون بدلاً من الأنفار الحقيقيين"!
غير أن "البدلية" التي أدت إلى افراز كل هذه المشاهد لم تكن الباب الوحيد من أبواب الإعفاء، وإن كانت أسوأها.
***
تعديل أخير دخل عل القانون الجديد بإعفاء "العربان" من القرعة مما كان مبدأ ثابت في سياسات حكومات القاهرة تجاه هؤلاء صنعه رغبة القائمين عليها في تشجيعهم على الاستقرار.
فالحياة البدوية للعربان التي كانت تشكل طول الوقت عبئاً على الإدارة في مصر، مهما كان كنهها، في توفير الأمن للبلاد، أدى بالمسئولين إل رفع أية قيود يمكن أن تنفر هؤلاء من الحياة المستقرة حتى لو كان الثمن اعفاءهم من القرعة.
عبر عن ذلك الأمر العالى الصادر في 13 مارس 1882 وجاء فيها "أنه مراعاة للامتيازات الممنوحة للعربان من القدم رغبة في توطنهم وتشويقاً لهم في رفاهية معيشتهم.. تبقى الامتيازات الممنوحة للعربان على حالتها بأن يعافوا من القرعة العسكرية".
غير أن الأهم من إعفاء العربان كان إعفاء "جميع الطلبة العلماء والمدرسين بالجامع الأزهر وبغيره.. ويعفى أيضاً جميع الفقهاء الحافظين للقرآن الشريف بشرط الخلو من الكارات (الصنائع) والحرف، وكذا جميع الأئمة والخطباء والمؤذنين بالمساجد والزوايا المنقطعين لذلك".
أضيف إلى هؤلاء "جميع الرؤساء الروحانيين، البطاركة ورؤساء الأساقفة والمطارنة والأساقفة والقمامصة والقسيسين وكذلك الشمامسة، ويعفى أيضاً جميع معلمى المكاتب وعرفائهم المخصوصين لتعليم الانجيل والديانة المسيحية وكذلك خدمة الكنائس والأديرة".
وتشير الأخبار التي ساقها الأهرام أن هؤلاء قد توسعوا كثيراً في طلب الإعفاءات الى حد وصل إلى وقف لجنة فرز العسكرية من عملها في أسيوط لأن "سعادة يوسف باشا شهدى رئيس قومسيون القرعة لم يقبل الشهادات التي قدمها البعض بدعوى أنهم مستخدمون بالكنائس وغيرها محتجاً بعدم صحتها وهذا ما أوجب كدر رؤساء الطوائف وعرضهم المسألة تلغرافياً إلى المراكز الدينية بمصر والإسكندرية وهذه بلغت الحكومة السنية التي أمت بتوقيف الفرز".
دعا ذلك رئيس النظار كما جاء في خبر في أهرام 9 سبتمبر 1885 إلى استقدام "حضرة الحسيب النسيب والمولى الفاضل شيخ الإسلام وحضرات الرؤساء الروحيين للمداولة معهم في مسألة القرعة العسكرية.. أما غاية هذا الاجتماع فهى وضع حد لأولئك الذين يتوكأون على بعض الشهادات تملصاً من العسكرية".
استتبع ذلك صدور عدد من الافادات من مفتش عموم القرعة العسكرية لوضع حد لتلك التوكآت!
احدى تلك الافادات اختصت "بحملة القرآن الشريف" ممن تقرر عدم إعفائهم "إلا إذا كانوا عالمين بكيفية تجويده عارفين لأحكامه حافظين له كما أنزل".
إفادة أخرى خاصة بالمؤذنين الذين اشترط "أن يكونوا من طلبة العلم أو من حملة القرآن الشريف حتى يكون لهم المام بمبادئ الشريعة المطهرة ومعرفة بشرائط الآذان وكيفية أداء كلماته".
افادة ثالثة بشأن "التلاميذ المشتغلين في الكنائس بالعلوم الدينية" والذين يتم اعفاؤهم من القرعة بمقتضى الشهادات التي تعطى لهم من رئيسهم الأكبر الروحانى "فلا جيب أن يتجاوز عددهم خمسة ومن زاد يقترع له ولو كان بيده شهادة".

افادة أخيرة خاصة بطلاب العلم الدينى، من المسلمين أو المسيحيين، الذين تقرر عدم اعطائهم شهادة المعافاة إلا بعد التحقق من مكوثه سنتين مشتغلاً بالتعليم الدينى "بلا حرفة ولا صناعة سواه ويكون امتحانه بمعرفة لجنة تشكل من ذوى الاستعداد والكفاية لامتحانه في العلوم الواجب عليه تحصيلها من العقائد الدينية المعروفة".
***
يبقى من المشاهد التي يتضمنها هذا الفصل من تاريخ مصر الحديد ما أسماه الأهرام "بالغش والمدالسة" التي قام بها البعض للهروب من التجنيد ومن البدلية في ذات الوقت.
ففي أكثر من خبر تشير الصحيفة إلى ما كان يقوم به بعض "حكيمباشية (أطباء) المراكز في تصنيع الشهادات" التي كانت تقدم للجان الفرز، والذين كانوا بحكم وظائفهم أعضاء في تلك اللجان.
فقد كانت تلك اللجان تتشكل من ضابط عظيم معين بمعرفة نظارة الحربية له الرئاسة ومن معاون معين من طرف المدير ومن حكيم عسكرى وحكيم المركز وأحد الرؤساء الروحانيين وأربعة من العمد والمشايخ.
ولعل كل من حكيمباشى صحة بنى سويق وحكيمباشى صحة سوهاج كانا الأسوأ حظاً من بين "الحكما" الذين صنعوا الشهادات خلال عامي 1885 - 1886 فقد اختصهما الأهرام بجملة من أخبار "الغشاشين والمدلسين".
خبر أول في 4 سبتمبر وجاء فيه: "لقد تشكى البعض من إجراءات حكيمباشى بنى سويف التي اضطرت سعادة يوسف باشا شهدى رئيس قومسيون القرعة أن يراجع فرز الأشخاص الذين أطلق سبيلهم حضرته"!
الخبر الثانى في 28 أكتوبر عن إعادة فرز الأنفار الذين وشى بهم وعرفوا "بتداخل أهلم من حضرة الكيمباشى في تصنيع الشهادات وقد كشف الغطاء عن فساد بعض الشهادات التي أعطيت تخلصاً من دفع البدلية وما أظهره حكيم القومسيون النشيط من ادخال من أخرجه حكيمباشى المديرية وإخراج من أدخله بعد الفحص الدقيق"!
الخبر الثالث من سوهاج في 6 أغسطس من العام التالى ويتناول تحقيق المجلس العسكرى في مسألة الطعن في حكيمباشى سوهاج "لما أظهره في ستة أنفار من العيوب التي تمنع دخولهم في العسكرية فأظهر أنهم أصحاء الجسم لا عيب فيهم يمنع دخولهم"!
المشهد الآخر خاص ببعض الأنفار المعينين للقرعة الذين "يعجزون أنفسهم بواسطة اتلاف أعينهم أو سبابة اليد اليمنى".
ويبدو أن الظاهرة تفشت بين سكان جهات بعينها حتى أن مكاتب الأهرام بطهطا يشير إلى أنه جملة من الانفار بلغوا السن المطلوب وعددهم 6236 "صارت معافاة 894 بالعاهات" أي بنسبة تزيد عن 14 في المائة!
وبالنسبة لهؤلاء فقد قررت نظارة الحربية إدخال "عشرين نفراً في كل أورطة من الجيش بصفة طباخين وسقايين" وأن يعين لهم نصف راتب.
أما بالنسبة للأولين فقد حمل شهر نوفمبر جملة من الأخبار عن محاكمات جرت أمام مجالس عسكرية للعديدين "لاستعمالهم الغش في مسائل القرعة العسكرية".
في 3 نوفمبر صدر حكم بالسجن والأشغال الشاقة على 9 رجال والجيزة وأسيوط، وبعد ذلك بتسعة أيام صدر الحكم على خمسة أشخاص بأحكام متفاوتة "لإقدامهم على الغش في أعمال القرعة"، وبلغ عدد هؤلاء 37 في الحكم الصادر يوم 18 نوفمبر، وجاء هؤلاء من مديريات متنوعة.. من أسيوط والمنيا والقليوبية والغربية.
وقد لفتت هذه التطورات أنظار مدير تحرير الأهرام الذى انتقد بحدة سلوك المتهربين في مقال طويل خصصه لتلك القضية..
جاء في مطلع هذا المقال في عدد الصحيفة الصادر في 27 أكتوبر عام 1885 "عجبى والله من أولئك الأقوام الذين تشمئز نفوسهم من دخول أولادهم في القرعة العسكرية فترى الشخص منهم يضجر من مجرد قياس ولده وسحب نمرة له معتقداً أنه بمجرد انتظم في سلك العسكرية ولا يدرى أن الطلب انما يكون على حساب النمر".
ينبه الأهرام بعد ذلك إلى أن "العسكرية شرف عظيم يترتب عليه حفظ الوطن وصيانته من تعدى الأجانب عليه" ويخرج من ذلك بأون أولئك اللذين يخاطبهم لا يفرقون بين ما يضرهم وما ينفعهم.
وينتهى المقال إلى تقريع المستنكفين من دخول أبنائهم في العسكرية ويسألهم لماذا يتضررون والحال هذا "من وجود عساكر الأجانب في بلادهم فلا هم يرغبون حفظ وطنهم ولا يحبون أن يحفظه غيرهم إن هذا لشئ عجاب"!
ونرى أن مدير تحرير الأهرام عندما كتب هذا المقال قد وضع في حسبانه اعتباراً واحداً، هو الاعتبار السياسى دونما أن يضع في الحسبان اعتبارات أخرى بعضها له طابعه السياسى والبعض الآخر له طابعه الاجتماعى..
فمن وجهة نظر سياسية لم يكن الجيش الجديد الذى تم تشكيله يعد الاحتلال بقيادات انجليزية يمكن أن يغرى أي مصري في الخدمة فيه بدواعى الدفاع عن الوطن.
ومن وجهة نظر اجتماعية فقد كان تجنيد فقراء الفلاحين يعنى حرمان أسرهم من قوة العمل الكافلة لمصادر الرزق خاصة مع طول مدة الخدمة العسكرية التي بلغت بمقتضى قانون عام 1885 اثنى عشر عاماً، "ثمان سنين تتبعها أربع سنين في الرديف" (الاحتياطي).
وقد تبين الأهرام خلال العام التالى هذه الحقيقة عندما طالب ألا تقبل البدلية أبداً، وأن يعرف الأهالى أن أشرف عمل لهم هو الخدمة العسكرية، وهو مالم يتحقق، فنظام البدلية فضلاً عن أنه وفر للخزينة المصرية "دخلاً معتبراً" قال عنه الأهرام أنه "لم يعد يمر يوم إلا ويدخل فيه على صندوق المالية مبلغ وافر من الدافعين للبدلية تخلصاً من العسكرية" فإنه على الجانب الآخر حقق هدفاً مقصوداً من جانب سلطات الاحتلال بصناعة جيش على المقاس، من ضباط من "أولاد الأسر" وعساكر من "أولاد الإيه"!

صورة من المقال: