ads

Bookmark and Share

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

040 العونة!

العونة!
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 21 أبريل 1994م - 10 ذو القعدة 1414هـ

بينما عرف العصر الاقطاعى الأوربي نظام السخرة Corvee، فإن الفلاح المصرى عرف نظام العونة، والذى ارتآه الأوربيون ممن وصفوه نوعاً من السخرة، وان كان أحدهم قد وصفه بشكل دقيق حين أعتبره "المعونة التي تقدم بشكل غير تطوعى"!
ولقد كان عقد الثمانينات من القرن الماضى هو عقد إلغاء العونة، ولأسباب عديدة..
فمن ناحية حين تباهى كرومر، المعتمد البريطاني في القاهرة، بأهم إنجازاته لما يمتد من ربع قرن شغل فيه هذا المنصب، تحدث عن نجاحه في التخلص مما أسماه الثلاثة (C).
كان أحدها الفساد (C) Orruption والآخر الكرباج (C) ourbach والثالث السخرة (C) orvee وكان الأخير هو الأهم في رأيه حتى أنه أفرد له فصلاً بأكمله في كتابه "مصر الحديثة".
من ناحية أخرى فإن القضية اتخذت بعداً انسانياً في ظاهرها وإن كانت في باطنها ذات طابع اقتصادى، الأمر الذى يتطلب تفسيراً. حتى بعد هذا الزمن الطويل!
أخيراً فإن إلغاء العونة رغم ما يبدوا عليه من أنه شأن محلى صرف، فإنه اتخذ طابعاً دولياً مما يشكل فصلاً غريباً في التاريخ المصرى، الأمر الذى لم يألو الأهرام جهداً في تقديمه.
ونبدأ من أصل الحكاية.
***
السخرة في أوروبا أو العونة في مصر أملتها ظروف تاريخية ارتبطت بطبيعة العلاقات الإنتاجية للنظام الاقطاعى.. العلاقات القائمة على التبادل في المنافع والخدمات والمنتجات.
وفى ظل هذا النظام غابت الدولة التي تقدم الخدمات، وكان مطلوب من العاملين في مل قطاع، على رأسها الزراعة بالطبع باعتبارها وجه الإنتاج الرئيسى في ذلك العصر، أن يقوموا هم بالوفاء باحتياجاتهم الخدمية من تقوية الجسور أو حفر الترع وتطهيرها.
في مصر، وفى ظل الالتزام الاقطاعى، فقد اتخذ هذا الوفاء شكلاً خاصاً، فالغرين الذين كان يحمله النيل كل عام مع فيضانه كان يترسب في قاع الترع مما كان يقلل من سعتها، الأمر الذى تطلب العمل على تطهيرها أولاً بأول وإلا فلن تفى باحتياجات الرى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الفيضان مع كل كما كان يجلبه من خير فقد كان في نفس الوقت يحمل كثيراً من عناصر التهديد، خاصة تلك المتعلقة بتدمير الجسور بكل ما يمكن أن يستتبعه من إغراق الأراضى، وكان مطلوباً العمل الدائب لتقوية تلك الجسور ومراقبتها.
أفرزت هذه الاحتجاجات، وفى ظل غيار الدور الخدمى للحكومة، ظاهرة العونة، والتي كانت تقوم على جمع الأنفار لتطهير الترع ومراقبة الجسور لفترات كانت تصل في مجموعها إلى 180 يوماً سنوياً، بيد أن ما حدث من متغيرات خلال العقود السبعة الأولى من القرن التاسع عشر أدى إلى تآكل الظروف التي صنعت الظاهرة الأمر الذى كان يستوجب اختفاءها.
فمن ناحية استتبع انتاج الحاصلات النقدية تحول الأرض بدورها إلى سلعة رأسمالية واختفى الملتزمون، أو الاقطاعيون على الطريقة المصرية، ليحتل مكانهم ملاك الأراضى، كباراً كانوا أو متوسطين أو صغاراً، ومن ناحية أخرى أدت الدولة المركزية على أيدى محمد على إلى أن بدأت تنهض بدورها الخدمى مما بدا في مجال الزراعة في إقامة شبكة الرى الجديدة، ومع تلك المتغيرات كان استمرار العونة يشكل شذوذاً، مع تناقضها مع المبدأ الرئيسى في العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الذى يقوم على الأجر مقابل العمل، وأخذت في التحول من نظام طبيعى إلى نظام ينتمى إلى عصر تغرب شمسه!
ومنذئذ بدأ هذا النظام يكتسب سوء السمعة، فباسم العونة سيق ما يقرب من مائة ألف فلاح لحفر ترعة المحمودية خلال عشرينات القرن لقى أغلبهم حتفه "تحت الردم" على حد تعبير المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتى، وباسم العونة تم سوق الألوف في عهد سعيد لحفر قناة السويس أو ترعة المياه الحلوة التي عرفت باسم ترعة الإسماعيلية.
وأدى استقرار الملكية الزراعية خلال سبعينات نفس القرن إلى إضفاء المزيد من أسباب سوء السمعة على العونة، ذلك أن عائد "الحمل الجبرى" لم يضخ في النهاية في صالح القائمين به وإنما أصبح يضخ في جيوب الملاك على حساب غيرهم من "الأجرية" مما أكسبه شكل السخرة السافر، مع الوصول إلى هذه المرحلة كان مطلوباً إلغاء العونة ونتيجة لتطورات اقتصادية وسياسية أكثر منها نتيجة لدوافع إنسانية انجليزية كما يحاول اللورد كرومر الايهام في كتابه "مصر الحديثة".
بدأ سوء السمعة في آراء المعاصرين وفى كتابات الصحف من بينها الأهرام، ففي مقال طويل لمدير التحرير وصف الرجل السخرة بأنه "نكبة على الإنسانية فإلغاؤها واجب ولا عبرة بما يقوله بعضهم من أن مصر لا تقوى على الغائها لو تذكروا بأن السخرة كانت جارية في أوروبا بكثرة ثم ألغيت تماماً".
دعم الأهرام ما ذهب إليه بالتنبيه إلى الآثار الاجتماعية لإلغاء العونة باعتباره "تخفيفاً مهماً عن الفقراء تلقاء ما يتحملونه من التعب وإنفاق الدرهم لمرضاة هذا الكاتب وذاك المهندس وذلك الشيخ فضلاً عن استخدام المشايخ إياهم بالسخرة في أراضيهم".
وينبه بشارة تقلا في هذا المقال الطويل الذى خصصه للعونة إلى ما يترتب على ابقائها من تشويه صورة مصر أمام العالم الخارجي فيقول "أن التمسك بعدم الغاء العونة يدفع الأوروبيين إلى سوء الظن بنا فيقولون أن ذوات مصر ونواب البلاد لم يأنفوا من إلغائها إلا رعاية لمصلحتهم الخاصة لأنهم أصحاب أطيان واسعة".
وقد فرضت القضية نفسها خلال عام 1884 لأسباب أشار الأهرام إلى بعضها وأشار آخرون إلى البعض الآخر..
* كان من بين هذه الأسباب ما ترتب على حاجة "أصحاب الأطيان" إلى الأيدى العاملة الزراعية التي كانت تحرمهم العونة من جانب منه، ومن ثم فقد تحايلوا بشتى الوسائل واستخدموا ما يملكون من نفوذ لمنع يد العونة من أن تمتد للفلاحين في أراضيهم.
وقد استتبع هذا أن ازدادت سمعة العونة سوءاً بحكم أن عبئها قد وقع على أفقر فئات الريف المصرى" وأن هذا العبء قد تضاعف من جراء ما ترتب على الإعفاءات للفئات الأخرى.
* كان من بينها أيضاً وباء الكوليرا (الهيضة) الذى عصف بالبلاد عام 1883، ولما كان معلوماً أن أغلب ضحايا الوباء قد جاءوا من الشرائح الأشد فقراً فلابد أن عدد الأيدى العاملة المطلوبة للعونة قد تأثر كثيراً.
يعبر الأهرام عن ذلك في تعليق طويل في عدده الصادر في 5 يناير عام 1884 جاء فيه:
"إذا لم تتعجل الحكومة إيجاد وسيلة لتخفيف السخرة التي تستغرق أكثر من 50 ألف عامل فلابد أن يأتي يوم يستلفتها إلى هذه المهمة الجليلة وها قد أصيبت البلاد مؤخراً بالهيضة الوبائية فألحقت بالبلاد خسائر فادحة ويصعب والحالة هذه أن تعلم الطريقة التي يمكن بها حفظ الترع في النظام المعتاد".
* كان من بينها أخيراً، وعلى ضوء السببين السابقين، أن واجه شيوخ البلاد عنتاً في جمع الأنفار المطلوبين للعونة، الأمر الذى دعا نظارة الداخلية إلى إصدار منشور تهدد فيه بالعزل "كل شيخ بلد يتأخر عن إخراج العدد المكلف به من الأنفار للعمليات في الميعاد المحدد".
ولم يكن غريباً مع كل ذلك أن يكون عام 1885 هو عام البحث عن بديل للعونة.
***
أول إشارة عن هذا البديل جاءت في تقرير المستشار المالى للحكومة المصرية، المستر ادجار فنسنت، الذى نشره الأهرام يوم 18 أبريل، فقد أشار الرجل إلى المهندسين المسئولين عن أعمال العونة يرتأون أنه بالإمكان دفع أجور للفلاحين القائمين بهذه الأعمال ومن ثم تنتفى صفة السخرة عنها، وأن المطلوب لذلك يبلغ 240 ألفاً من الجنيهات، وأنه ليس ثمة صعوبة في تحصيل مثل هذه القيمة.
ويبدو أن السلطات في بعض المديريات قد شرعت بالفعل في جمع ما أسمى "بدلية أنفار العونة" فقد أرسل مكاتب الاهرام في خبر له من طنطا أن تحصيل هذه البداية "جار في المديرية وقد تم تحصيل أكثر من المطلوب من القرى والأباعد"!، ويبدو الخبر غريباً على ضوء أن استبدال العونة بالضريبة لم يكن قد تقرر بعد.
الخبر الأغرب منه جاء بعد ذلك بأكثر من شهرين، وعلى وجه التحديد ف 28 يوليو، وفيه أن المسؤول البريطاني في وزارة الأشغال عن الرى ينوى "استحضار فعلة من الهند لمباشرة أعمال تطهير الترع" مما يكشف عن أن العملية قد تقرر اسنادها إلى عمال مأجورين بدلاً منا كان قائماً من تكليف أنفار العونة بها.
وقد أعرب محرر الأهرام في هذه المناسبة عن أمله ألا يكون شيء من ذلك فإن المصريين أعرف من الهنديين بعمليات نيلهم وصاحب البيت أدرى بما فيه"!
بيد أن تلك الأخبار، بغض النظر عن صحتها، كانت مقدمة لأن يفرض موضوع "العونة" نفسه خلال الشهور المتبقية من السنة، إلى حد أن وصف الأهرام إلغاءها بـ "أهم مسائلنا الداخلية".
الصعوبة في الإلغاء فيما ارتأته الصحيفة محصور في الوصول إلى "الطريقة الكافلة للقيام بالأعمال عوضاً عن العونة".
هذه الطريقة فيما اقترحه "حضرات النواب" في جلسة للجمعية العمومية نوقشت فيها القضية "جعل المقاولات بالمناقضة والنشر عنها في الجرائد"، ولا يبقى بعد ذلك إلا "الحصول على الدرهم اللازم للقيام بوفاء المقاولات وهو ما نسميه بالبدلية التي رأت الحكومة أن تجريها".
ويتساءل الأهرام عن المصدر الذى يمكن أن تأنه منه هذه البدلية، ومع أنه اعترف أن فرض ضريبة على الأرض هي "من أعدل الوسائط" إلا أنه نبه إلى أن "الضرائب ثقيلة والفلاح يئن من وقرها إذ ليس له بعد دفع المال ما يسد به الرمق" ونصح بالبحث عن بديل.
ولم يمض وقت طويل حتى جاءت الأخبار بهذا البديل، فقد ترتب على اتفاقية لندن المعقودة بين الدول الدائنة لمصر في 18 مارس 1885 توفير مبلغ 450 ألف جنيه ارتأت الحكومة المصرية في اجتماع لها في أواخر أغسطس تخصيص قسم منها لتخفيف الضرائب خصوصاً في الوجه القبلى الذى خفضت ضريبة كل فدان فيه عشرة قروش، وكان مبلغاً معتبراً بمقاييس العصر(!)، وتقرر استخدام قسم من المبلغ المتبقى في دفع أجر الفعلة بدل العونة والسخرة في الوجه القبلى أيضاً، والمبلغ الباقى بدلاً للعونة  في الوجه البحرى.
بيد أن الأخبار التي جاءت بعد ذلك بأسبوع لم تكن مطمئنة تماماً ذلك أن الحكومة قد عجزت عن تحقيق نيتها في تدبير مبلغ اضافى لإلغاء العونة في الوجه البحرى، مما تقرر معه الاكتفاء بإلغاء ثلاثة أرباعها فقط في هذا الوجه!
رغم ذلك فقد تلقى الأهرام في هذه المناسبة رسائل عديدة من الوجه القبلى "تتضمن إعلان الامتنان من الحكومة بسبب إلغاء العونة"، الأمر الذى دفع بالمسئولين في الصحيفة إلى إرسال "رشيد افندى وكيل الجريدة المتجول إلى ذلك الوجه" والذى عاد ليؤكد أن الرأي العام هناك قد "انشرح صدره من ذلك"، ولكن يا فرحة ما تمت!
***
احتدم الخلاف خلال الشهور الأربعة الأخيرة من عام 1885 حول الطريقة التي يتوجب على حكومة نوبار أن تتصرف بها في مبلغ الـ 450 ألف جنيه، وقد تعددت الآراء حول ذلك..
الرأي الأول هو رأى الحكومة التي تعمل على إلغاء العونة معتمدة في ذلك على أسباب عديدة: خدمة الإنسانية وإزالة علل الخمول، خدمة الفئة الفقيرة الكبرى التي تتحمل من أثقال السخرة مالا تتحمله الفئة الغنية القليلة، الاعتياض عن السخرة بالعمل المقابل بأجرة تستفيد منها العامة، أخيراً تمهيد الوصول إلى تخفيف الضرائب.
في عدده الصادر يوم 8 سبتمبر عام 1885 يشكر الأهرام الحكومة "لكونها فضلت إلغاء العونة عل تخفيف الضرائب لأن الأول يشترك الجميع فى فائدته بخلاف الثانى، فضلاً عن كون الأول يشمل الفقير أكثر من الغنى ويأتي بفائدة ثانية للفقير وهى العمل بأجرة".
الرأي الثانى هو الرأي المناقض الذى يريد أصحابه استخدام المبلغ في تخفيف الضرائب، وبراهيم أصحابه: "ان مصر لا يمكنها أن تقوم بأعمال الرى بدون السخرة وأن تلك المقاولات لا تأتى بالفائدة التي تتولد عن السخرة"، ولم يحجم الأهرام عن أن يلمح إلى أن أصحاب هذا الرأي من "ذوات مصر لأنهم المستفيدين الوحيدين من ورائه".
وقد اتهمت الصحيفة هؤلاء بقصر النظر لأن الرى لخدمتهم لذا لا يحسن عدلاً أن نقضى على آخرين بعمل تصيب فائدته سواهم.
أصحاب الرأي الثالث يمكن أن نراهم في الطبقة الوسطى من أبناء المدن ممن ليست لهم مصلحة مادية محددة وتتأسس دوافعهم على اعتبارات سياسية قبل أي شيء آخر..
أعلن هؤلاء عن تخوفهم من أن تتدخل أوروبا في إرغام الحكومة على إلغاء العونة بكل ما يعنيه ذلك من مزيد من فقدان أسباب الاستقلال، عبر الأهرام عن رأى هؤلاء بقوله: "السخرة طريقة غير عادلة فالأولى أن نلغيها نحن ونكسب شرف العمل دون أن يأمرنا غيرنا على إلغائها فلا نعارض ويكون الشرف له. وأن تخفيف الضرائب لا ينفع غير الغنى فلا يكون لأوروبا من معارضتنا لإلغاء العونة إلا الاعتقاد بأن فئتنا الموسرة لا تروم إلا احتكار المنفعة لها فلا يحسن لديها ذلك"!
إذن فقد كان هناك رأيان ضد رأى واحد..
الحكومة وأبناء الطبقة الوسطى في المدن مع تخصيص المبلغ لإلغاء العونة، وكبار ومتوسطى الملاك مع تخصيصه لتخفيف الضرائب.
ومع أن الأهرام قد انحاز لأصحاب الرأي الأول إلا أنه تحفظ في حالة حدوث الاحتمال بأن المذكرة التي قدمتها الحكومة للدول الدائنة للحصول على المبلغ الذى أمكنها توفيرها لم تنل تصديقها أو استغرقت المخابرات في ذلك الوقت الطويل "فيجدر بالحكومة حينذاك أن تستخدم المبلغ كله لتخفيف الضرائب ولكن عن الأطيان القليلة النتج وأصحابها الفقراء".
انتقلت القضية بعد ذلك إلى الجمعية العمومية التي تقدمت إليها الحكومة بمشروع بتخصيص معظم مبلغ الـ 450 ألف جنيه لإلغاء العونة وأن تخصص قسماً منه لتخفيف ضرائب خمس مديريات هي اسنا وقنا وجرجا وبنى سويف والجيزة.
وانعقدت الجمعية صباح يوم السبت 12 سبتمبر في جلسة اهتمت بها الصحافة "حضرها حضرات النواب ثم حضرات النظار بأجمعهم"، وكان ما حدث فيها مفاجأة للجميع.
فبينما توقع المراقبون، بمن فيهم الأهرام أن يدور نقاش حامى حول القضية، خاصة وأن موقف الحكومة لابد وأن يختلف مع موقف الأعضاء الذين ينتمون في أغلبهم لطبقة كبار الملاك أنصار فكرة تخصيص المبلغ لتخفيض الضريبة فإن مجريات الجلسة لم تسمح بظهور أي اختلاف.
الذى حدث أن نوبار عرض لموقف الحكومة وخلص إل القول أنه قد تراءى لها "أن تستخدم مبلغاً من الأربعمائة والخمسين ألف جنيه لإلغاء العونة"، ثم أردف ذلك بتقديم تشكراته "لحضرات النواب" ثم إعلان "فض المجلس باسم الجناب الخديوى"!
ومع أن الأهرام أبدى استغرابه مما "حمل الحكومة على فض الجمعية" إلا أنه أبدى تسليمه بأنه طالما "كانت شئون البلاد منوطة بالجناب العالى أيده الله ومان وكان ارفضاض الجمعية بأمره الكريم فلا غرو أنه وحده لا سواه أعرف الجميع بمصلحة الوطن المسلمة لعهدته الشريفة"!
وبعد اتصالات دولية معقدة استغرقت نحو ثلاثة شهور، وفى يوم 9 ديسمبر 1885 صدر القرار من مجلس النظار بتخصيص مائتى ألف جنيه لتخفيض الضريبة.. نصفها من ضرائب الوجه القبلى ونصفها الآخر من ضرائب بلاد الأرز في الوجه البحرى وتعيين المئتين والخمسين ألف جنيه المتبقين لإلغاء العونة.
بعد ذلك بأيام قليلة أبلغت الحكومة قناصل الدول بما تقرر بشأن إلغاء العونة، ويعلق الأهرام بقوله: "مأمولنا أنهم لا يتأخرون عن التصديق عليه"، وهو المأمول الذى لم يتحقق!
وبدئ في التنفيذ في أعقاب ذلك، وهو تنفيذ تبين منه أن الخطوة التي اتخذت كانت في اتجاه الإلغاء الجزئى وليس الإلغاء الكامل.
كشف عن ذلك خبر في الأهرام في أواخر العام جاءه من مكاتبه في الزقازيق عن انعقاد "جمعية العمليات النيلية" التي قررت أن تكون "أيام السخرة ثلاثة أشهر بدلاص من ستة وعلمت أن أهل الزقازيق تلقوا خبر إلغاء العونة بغاية المسرة والشكر والدعاء للجناب العالى والمنة من الحكومة السنية"!
وكان على المصريين أن ينتظروا نتيجة التدخل الدولى، فقد ساءلت لجنة صندوق الدين الحكومة النوبارية عن صرف المبلغ المذكور قبل موافقتها. ومع أن الحكومة المصرية ردت بأنها مقتنعة بكونها "تعمل عملاً مشروعاً يقتضيه العدل والقانون" فإن الموافقة الدولية تطلبت ثلاث سنوات لإتمام الإلغاء.
وكان هذا الإلغاء بمثابة التخلص من أحد القيود الأخيرة للعصر الإقطاعى، والانتقال لعصر جديد بكل ما له وما عليه، ولم يكن لكرومر أو لغيره أن يعزو لنفسه فضل أنه صانع هذا الانتقال!

صورة من المقال: