ads

Bookmark and Share

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

037 مصير الباشا الانجليزى

مصير الباشا الانجليزى
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر الأهرام الخميس 31 مارس 1994م - 19 شوال 1414هـ

يثير الاستغراب الذى قد يصل أحياناً إلى حد الاندهاش ما حفل به التاريخ المصرى خلال القرن التاسع عشر ولسنوات غير قليلة من التاريخ الحالي من أسماء أصحاب السعادة والمعالى من الباشوات الأوروبيين!
من أشهر هذه الأسماء "الكولونيل سيف" الذى أسلم وتسمى بسلمان باشا الفرنساوى، وقد عرف بدوره البارز في بناء الجيش الحديث في عصر محمد على، منهم أيضاً الجنرال "ستون باشا" الأمريكي، الذى يعزى إليه الفضل مع عدد من زملائه في تأسيس "هيئة الأركان في الجيش المصرى" في عصر إسماعيل، ومنهم أخيراً عدد من الباشوات الإنجليز الذين استخدمهم نفس الحاكم، الخديو إسماعيل، في الخدمة في الأملاك المصرية التي كان قد نجح في تكوينها في إفريقيا، وكان على رأس هؤلاء صمويل بيكر باشا المكتشف الجغرافى الشهير، وغوردن باشا، الذى احتل مساحة عريضة في التاريخ المصرى بين الباشوات الأوروبيين، وهى المساحة التي فرضت على الأهرام، كما فرضت على غيره أن يكون هذا الباشا محوراً لجملة من الأخبار شكلت في النهاية قصة ذات طابع أسطورى تستحق الرواية..
وهناك ملاحظتان مبدئيتان حول هؤلاء الباشوات..
الأول: أن الغالية العظمى منهم قد حصلت على هذا اللقب الرفيع من خلال استغالهم في صفوف الجيش المصرى أو بالأحرى في قيادته، ذلك أنه لما كانت الرتب العسكرية مقرونة بتلك الألقاب، فإن منح هؤلاء العسكريين الرتب الكبيرة كان يقتضى بالضرورة حصولهم على الألقاب الرفيعة.
الثانية: أن ما حدث في أعقاب الاحتلال من حل الجيش المصرى القديم وبناء جيش جديد تحت القيادة البريطانية، قد استتبعه أن احتكر الانجليز تقريباً الرتب الكبيرة والألقاب الرفيعة، ويمكن حصر أسماء عشرات منهم من الباشوات والبكوات.
ويتضح على ضوء هاتين الملاحظتين أن القول بالباشا الانجليزى ليس فيه أية غرابة، وإنما الغرابة، كل الغرابة في الباشا الأسطورة في التاريخ المصرى، الفريق جورج تشارلز غوردن باشا، الذى فرض اسمه على الرأي العام في مصر وبريطانيا، بل وفى أوروبا كلها بامتداد خمسة شهور كان أنصار المهدى إبانها يحدقون به في الخرطوم.
ففي خلال الفترة من أواخر أغسطس عام 1884 إلى أواخر يناير من العام التالى استمرت عيون الجميع شاخصة نحو "الباشا الإنكليزي" المحاصر تتلصص على أخباره وتسعى إلى التعرف على مصيره مما يشكل قصة تتبعها الاهرام ورواها تلك الشهور الخمسة وبعدها.
***
صناعة الأسطورة تتطلب توفير عدد من المقومات نظن أنها لم تتوافر لأحد من الباشوات الأوروبيين الذين خدموا في "الحكومة السنية" بقدر ما توافرت لضابط سلاح المهندسين البريطاني الميجور جنرال تشارلز جورج غوردن.
فالرجل قد خاض منذ مطلع شبابه أكثر من حرب دفاعاً عن الإمبراطورية البريطانية، فقد حارب في القرم في الخمسينات، وحارب في الصين خلال العقد التالى، حيث قضى عدة سنوات حكمت "الأهرام" على أعماله خلالها بقولها: "وهكذا استتب النظام في داخلية الصين بواسطة غوردن". وكان ذلك وراء تلقيبه في الصحافة الإنجليزية "بغوردن الصينى".
والرجل قد جاء إلى مصر عام 1873، حيث تولى منصب حاكم المديرية الاستوائية خلفاً لصمويل بيكر استتبعه أن "رقى إلى وظيفة حكمدار عام على جميع السودان فحكم البقاع السودانية من أوائل سنة 1874 إلى سنة 1879"، وقد أدى ذلك إلى احتلاله مكانة خاصة في دوائر الحكومة المصرية.
والرجل قد اشتهر بالتعفف على نحو أضفى عليه مسحة قداسة(!)، فهو من جانب كان عازفاً عن قبول أي لون من التكريم من حكومته مقابل خدماته، وهو من ناحية أخرى رفض الراتب الكبير الذى خصصه له إسماعيل مقابل عمله حمداراً عاماً للسودان واكتفى براتب محدود(!)، وهو أخيراً استقال من منصبه في أعقاب عزل إسماعيل، الأمر الذى جعله محل إعجاب كثيرين ممن فسروه باعتباره شكلاً نادراً من الوفاء!
والرجل أخيراً كان وراء عقد معاهدة منع تجارة الرق التي أبرمتها بريطانيا مع مصر عام 1877، ولعب بعدئذ من خلال منصبه الرفيع في السودان دوراً فعالاً في تعقب تجار الرقيق والضرب على أيديهم مما أفرد له مكانة خاصة عند جماعات مكافحة الرق Anti-Slavery في بلاده.
لكل هذه الأسباب. فإن تكليف "الفريق غوردن باشا" حكمدار عموم السودان السابق لتنفيذ سياسة إخلاء السودان لم يكن ليندرج تحت الشروط العادية في العلاقة بين حكومة القاهرة ومستخدميها من العسكريين الأجانب، خاصة وإن هذا التكليف قد جاء بتوجيهات مباشرة من حكومة لندن وسعياً لتنفيذ سياسة اختطتها.
ومن ثم لم تكن متابعة خطى الرجل من أن وصل إلى الخرطوم تتم في إطار عادى، ثم ما انتهت إليه مهمته من حصاره في العاصمة السودانية، قد ترتب عليه أن تحول مصيره إلى قضية من أهم قضايا الرأي العام آنذاك يتابعها بشغف شديد في بريطانيا ومصر، بل وفى غيرهما، وكانت "الأهرام" أحد المتابعين المدققين.
وقد أخذ هذا الاهتمام شكل الأخبار المتناثرة بدءاً من أواخر أغسطس بعد إحكام الحصار حول الخرطوم، وبعد قطع الخط التلغرافى الذى يربطها بالشكال، بعد التربص من جانب الأنصار بأية سفينة تخرج مبحرة في النيل بقصد توصيل الأنباء وتلقيها.
شهدت تلك الأثناء أيضاً حدثاً زاد من صعوبة الأمر وهو أن الكولونيل ستيوارت أحد رجال غوردن، الذى كان قد خرج على سفينة حربية متجهة شمالاً قد لقى حتفه على أيدى قبيلة المناصير بعد أن جنحت به السفينة، وكان وحده يعلم سر الشفرة، التي يتراسل بها "الباشا الإنكليزى"، الأمر الذى لم يكن أمام هذا الأخير مناص معه من إرسال خطاباته دونما شفرة، مما كان يتطلب قدراً كبيراً من الحرص في اختيار المبعوثين الذين يحملونها وفى سبل اخفائها.
***
وتروى "الأهرام" في هذا الصدد قصة طريفة عن رسالة بعث بها غوردن كانت في حجم "ورقة البوستة"، وهى الرسالة التي كتبها يوم 31 ديسمبر عام 1884، وقد جاء فيها كلمتان "الخرطوم بخير" بعدها توقيع تأكد المسئولون في القاهرة أنه توقيعه.
أيضاً من بين ما لجأ إليه "الباشا الإنكليزى" تحميل مبعوثيه برسائل شفوية، وكان هؤلاء يحملون في العادة قصاصة صغيرة من لدنه تدليلاً على أنه هو الذى أرسلهم وليس المهدى!
يقدم النموذج على ذلك الرسالة التي نشرته "الأهرام" في 7 أغسطس عام 1884 وقد جاء فيها: "لا تزال الخرطوم وسنار في منعة تدافعان عن مركزيهما. ومحمد أحمد الحامل كتابى هذا سينبئكم بأخبارى في حال وصوله إليكم. فانبئوه بما لديكم من التعليمات.. ادفعوا من خزينة الحكومة مائة ريال لحامل هذا الكتاب"!
وفى البداية كان يحمل هؤلاء رسائلهم إل دنقلة إلى أن بدأت حملة الإنقاذ البريطانية التي أخذت في التقدم من الشمال في اتجاه الخرطوم بقيادة الجنرال ولسلى والتي أضحت الوسيلة الرئيسية لمعرفة "مصير الباشا الانكليزى"، وقبل ذلك تقرير هذا المصير.
***
أدى حصار أنصار المهدى للخرطوم إلى فتح ملف غوردن في العاصمة البريطانية على نحو سبب معه مصير الرجل صداعاً شديداً لحكومة جلادستون، فالملكة فيكتوريا أبدت اهتماماً مضاعفاً بهذا المصير، ثم إن المأزق الذى كان يوجهه في العاصمة السودانية كان موضع أسئلة واستجوابات في مجلسى العموم واللوردات، فضلاً عن الصحافة البريطانية التي شنت حملات متوالية على الحكومة شدت اهتمام الرأي العام لأخبار "غوردن الصينى".
في تلك الظروف.. وافقت حكومة لندن أولاً على تخويل غوردن حق الخروج من الخرطوم والفرار بجلده في اتجاه الجنوب، نحو المديرية الاستوائية، حيث لم تكن قد تأثرت بمضاعفات الثورة، وهو ما صرح به ممثل الخارجية في مجلس العموم.
لم يعجب الحل غوردن وهو ما عبر عنه فيما نشره "الأهرام" في ست حلقات متتالية خلال يوليو عام 1885 تحت عنوان "سجل غوردن اليومى".
فقد ارتأى "أنه كان من الواجب على الحكومة أن تنتحل جادة العزم والثبات وتأمرنى بالفرار في شهر مارس حين كنت قادراً على ذلك بخلاف الوقت الحاضر، فإنى مرتبط بشرفى مع الشعب الذى حاربت الثائرة (الثوار) به مدة ستة أشهر". كان هذا ما جاء في يومية 5 أكتوبر عام 1884.
بعد ذلك بأيام قليلة جاء في نفس اليوميات مفنداً الفكرة "انى لو حاولت ترك الخرطوم والنجاة بنفسى لنهض الأهالى وحاجونى وقائلين [انك جئت إلى الخرطوم ولو لم تجئ لبارحها بعضنا وقصد مصر.. وإذا كانت الحكومة الإنكليزية غير مكترثة بنا وراغبة في إهمالنا والتخلى عنا، فذلك لا يبع بك على أن تتخلى عنا وقد قاسمناك الشدائد والعناء وشددنا أزرك منذ أن دخلت مدينتنا وأقمت بيننا على الرحب والسعة] فأقول إذن قولاً باتاً ونهائياً أنى لا أترك السودان إلا بعد أن يتمكن من تركها كل من له رغبة"!.
لم يكن أمام حكومة لندن ونظراً للضغوط التي استمرت تواجهها سوى الموافقة على ارسال ما أسمى بحملة الإنقاذ The Relief Expedition أي إنقاذ غوردن!
رفض "الباشا الانكليزى" هذه التسمية وكتب في يومياته في 9 سبتمبر التي نشرها الأهرام: "لا أطيق مطلقاً أن يقال إن هذه الحملة الإنكليزية مرسلة لإنقاذى، بل هي لإنقاذ شرف أمتنا، وذلك بتخلص الحاميات من المركز الذى فيه على أثر اجراءاتنا في مصر.. إنى لست الحمل المبتغى إنقاذه ولا أريد أن أكونه"!
وبغض النظر عن رأى غوردن، فإن "حملة الإنقاذ" استمرت المصدر الأساسى للتعرف على مصير "الباشا الانكليزى"، وكان يحوطه الكثير من أسباب الغموض، فقد كانت تنقضى أوقات طويلة حتى يصل الباشا المحاصر خبر عما يوجهه.
يكتب الأهرام في 4 سبتمبر "لم يرد من الجنرال بعد كتابه الأخير خبر عنه ويعجب الناس من تأخره عن مواصلة الرسائل ولا غرر فقد تبين لنا أن الأخبار السودانية ليست إلا معميات وأحاجى"!
ويعود ليكتب بعد عشرين يوماً "شغلت الأفكار من تأخر غوردن عن المراسلات إذ لم يرد منه بعد 4 نوفمبر كتاب، وقد مر على ذلك الآن نحو خمسين يوماً، وفى هذا دليل على عدم صدق ما نقله الرواة عن سقوط نفوذ المهدى، بل هذا يدل على أن حصار الخرطوم محكم"!
ولم يكن أمام ولسلى وأركان حربه في تلك الظروف إلا الاعتماد على أخبار غير موثوق بها نقلاً عن بعض السودانيين النازحين من الخرطوم وكانت في مجملها أخباراً متضاربة..
أحد هذه الأخبار يقول "غوردن مازال حياً يرأس قوته العسكرية، ولكنه محصور من جميع الجهات، فلا يمكنه الخروج أبداً، وأن كثيراً من أهالى الخرطوم يكاتبون المهدى يومياً".
النقيض في خبر آخر في نفس التوقيت مفاده "ان سفن غوردن في شندى تنتظر قدوم الحملة، وإن ثلاثية طوابير من عساكر المهدى انضمت إلى غوردن وإن المؤونات وردت إلى الخرطوم من سنار فأمست وافرة"!
لعل ذلك ما دفع الأهرام إلى التعليق بأن "الأخبار الحقيقية عن المسألة السودانية لازالت محجوبة عنا.. وهذه المراسلات لا تشير إلى الثقة بأخبار الجواسيس"!
ولم يكن أمام الحملة إلا أن تصل إلى الحقيقة بالمعاينة وهو ما حدث يوم 28 يناير حين وصلت ثلاثة من وابوراتها قبالة الخرطوم فشاهد رجالها "جميع مبانى الحكومة فيها متهدمة ولا تعلوها راية".
بيد أن ذلك لم يكن النهاية في التعرف على مصير "الباشا الانكليزى"، فقد علق الأهرام بعد أن ساق الخبر بأن "حالة غوردن" مجهولة فلا يعلم هل قتله المهدويون أو أسروه؟..".. وحول الإجابة عن هذا السؤال دارت المرحلة الأخيرة من البحث عن مصير الباشا.
***
الفكرة التي شاعت في أعقاب سقوط الخرطوم أن غوردن لازال على قيد الحياة، وأنه وقع أسيراً في أيد المهدى، وقد علقت الأهرام على الخبر بأنه "لا عجب إذا بقى سالماً في أسر المهدى، فإن المهدى لا يفوته العلم بما لذلك من الأهمية السياسية، إذا دارت عليه الدائرة ولا يجهل شخص غوردن سيكون ضمانة لإنقاذه وإنقاذ رجاله".
وتشير بعض المصادر التاريخية أن فكرة افتداء غودرن بآخر قد داعبت بالفعل عقل الزعيم السودانى، ولكن لم يكن هذا الآخر هو نفسه، كما توهم الأهرام، وإنما كان الزعيم المصرى أحمد عرابى الذى كان يقضى وقتذاك سنوات نفيه في جزية سيلان.
بعد ذلك بثلاثة أيام يسوق الأهرام خبراً آخر جاء فيه أن بعضاً ممن هربوا من الخرطوم ووصلوا إلى مقدمة الحملة أفادوا "أن غوردن قتل وأنهم رأوه راقداً وسلاحه في يده يدافع عن نفسه، فرأى السواد الأعظم لدى هذا الإقرار أن غوردن قتل لا محالة، لكن بعد أن شغل العالم كله"!
ثلاثة أيام أخرى وينشر الأهرام خبراً قصيراً جاء فيه "لم يعلم شيء رسمي عن حالة الجنرال غوردن"، وإن دل هذا الخبر على استمرار حالة الغموض التي ظلت تكتنف مصير "الباشا الانكليزى".
وفى تلك الظروف كتب بشارة تقلا في الأهرام ما يمكن توصيفه بلغة العصر تحليلاً إخبارياً عن مصير الجنرال المشهور في عدد الجريدة الصادر يوم 9 فبراير عام 1885.
في جانب من هذا التحليل تحدث عن الاحتمالات المستقبلية لحملة الإنقاذ وان الجنرال ولسلى "لن يحارب قبل أن يقف على حقيقة غوردن ومنهج القبائل المتذبذبة".
وفى الجانب الآخر تناول احتمال أن غوردن لم يمت بعد، كان رأيه أن لا فرق، وعلى حد قوله "هب ان النجدات موجودة لدى ولسلى في الحال، وتمكن من السير إلى الخرطوم وتغلب على الصعاب ووصل إلى الخرطوم.. وكان غوردن حياً فهل يتوهم انكليزى أن المهدى يلزم الخرطوم حتى يحتاط به الجنرال ولسلى ويطبق عليه. لا لعمرى، بل أنه متى رأى استحالة المقاومة فيبارح البلدة ويرحل بجيشه وأسيره (غوردن) إلى كوردوفان فيدخل الجنرال ولسلى الخرطوم وهى قاع صفصف ينعق فيها البوم والغراب"!
***
وفى تلك الأثناء، كان يصل مزيد من الأخبار المتضاربة عن مصير الباشا فجاء في أحدها أن "غوردن جريح وهو في أسر المهدى"، وجاء في خبر تال أن "غوردن حى وقد اعتنق دعوة المهدى ولبس حلة الدراويش"، وكان على قارئ الأهرام أن ينتظر حتى يوم 20 فبراير قبل أن يصله الخبر اليقين.
ففي عدد الجريدة الصادر في ذلك اليوم، وكان يوم جمعة، قالت الأهرام بالحرف الواحد: "ورد إلينا تلغراف يؤكد موت غوردن وهو يدافع عن نفسه، وإننا إذا أخذنا الأخبار الأخيرة المتواترة ومحصناها تمحيص من يرغب الوقوف على الحقيقة وجدنا بدون اشكال أن غوردن ميت، وأن يوم وفاته كان في 26 الماضى (يناير) أي يوم دخول المهدويين الخرطوم. ذلك ما اتفقت عليه الأخبار الأخيرة، فتكون وفاة غوردن قد حصلت وعمره خمسون سنة إلا يومين"!
وقد قدا التيقن من مصير الباشا الانكليزى إلى إثارة أكثر من قضية.. القضية الأولى اتصلت بمصير "حملة الإنقاذ" وكان الخياران المطروحان إما باعتناق إما باعتناق رأى الباشا الراحل بأن هدف الحملة كان انقاذ "الشرف الإنكليزى" وليس انقاذ غوردن شخصياً، ومن ثم فقد كان مطلوباً إرسال الدعم إلى ولسلى ليدخل الخرطوم ويثأر من المهديين، وإما أن الهدف كان مقصوراً على إنقاذ غوردن شخصياً، وطالما أنه لم يتحقق، فليس من مناص من عودة الحملة.
وبدا كأن السلطات في لندن مترددة في الاستقرار على أي من الخيارين، خاصة تحت ضغوط الرأي العام واشمئناط الملكة، وقد خرجت من ترددها بالتعلل أن فصل الشتاء، الذى يمكن القيام خلاله بعمليات في السودان قد انتهى، ومطلوب إمهال الحكومة حتى تنقضى شهور الحرارة الشديدة، وكانت المهلة كافية للاستقرار على الخيار الآخر.
القضية الثانية متصلة بالرجل الأسطورة، فإن الوفاة الدرامية لغوردن على درج سراى الحكومة في الخرطوم، فضلاً عن تاريخه الطويل السابق، قد ألهب مخيلة العديدين الذين شاركوا في صناعة بقية ملامح الأسطورة.
كان من أهم هؤلاء ايجمونت هيك Hake الذى أصدر في نفس عام وفاة الرجل يومياته تحت عنوان The Journals of Gordon at Khartoum، والتي قامت الصحف اللندنية بنشرها على نطاق واسع ونقل عنها الأهرام سلسلته التي نشرها في نوفمبر تحت عنوان "سجل غوردن اليومى".
ولقد عاشت تلك الأسطورة لتترجم عن نفسها بأشكال عديدة كان أبرزها ما حدث يوم 4 سبتمبر عام 1898، وبعد أن نجح كتشنر باشا قائد حملة الاستعادة في هزيمة الخليفة عبد الله التعايشى، خليفة المهدى، في موقعة أم درمان مما كان بمثابة إعلان بسقوط الدولة المهدية، فقد اختار الباشا الجديد البقعة التي قتل فيها غوردن لرفع العلمين المصرى والبريطانى، ثم ما حدث في أعقاب ذلك حين تم جمع تبرعات من الشعب الانجليزى بلغت مائة ألف جنيه لتخليد ذكرى "الباشا الانكليزى"، أقيم بها أشهر مؤسسة تعليمية في تاريخ السودان الحديث، هي المؤسسة التي عرفت باسم "كلية غوردن" والتي كانت تجسيداً للأسطورة، وإن لم تكن الأسطورة الوحيدة في تاريخ الاستعمار الانجليزى.