ads

Bookmark and Share

الأحد، 18 نوفمبر 2018

035 النازلة السودانية!

النازلة السودانية!
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 17 مارس 1994م - 5 شوال 1414هـ

في سراى عابدين، وفى يوم 7 يناير 1884 جرى مشهد درامى نادر الحدوث في التاريخ المصرى الحديث، حين تقدم شريف باشا باستقالة وزارته احتجاجاً على سياسة إخلاء السودان التي فرضتها سلطات الاحتلال على مصر، وفى مشهد درامى آخر، وفى يوم 26 يناير من العام التالى، وعلى درج سراى حكمدار عموم السودان في الخرطوم، لقى الجنرال تشارلز غوردون "رجل بريطانيا لتنفيذ تلك السياسة" حتفه على أيدى الأنصار من الثوار السودانيين من أتباع المهدى.
وبين المشهدين، وعلى امتداد عام وعشرين يوماً، جاءت مع مياه النيل المندفع من الخرطوم إلى القاهرة أخبار الكوارث المتلاحقة الناتجة عما قررته حكومة لندن من سياسات والتي تابعتها الأهرام بتفصيل شديد، والتي آثر أن يوصفها "بالنازلة السودانية" وكان التوصيف معبراً!
وعلى امتداد الأسابيع الخمسة والخمسين الفاصلة بين المشهدين جرت وقائع واحتدمت مواقع واصطدمت سياسات إلى الحد الذى تداخلت فيه خيوط الأحداث على نحو مروع لم يمك الأهرام سوى أن يلهث خلفها بالخبر والتعليق والمواقف. ونبدأ بالأخير..
***
تشير كل كتابات الأهرام في أواخر عام 1889، وقبل اتخاذ حكومة لندن إقرارها بإخلاء السودان من المصريين، أنه قد انحاز للتيار الوطنى الذى جسده شريف والذى ارتأى العلاقة بين مصر والسودان باعتبارها علاقة عضوية غير قابلة للانفصام!
مقالات ثلاثة كتبها مدير التحرير "بشارة تقلا" خلال شهر ديسمبر عام 1883 يعلن الأهرام فيها هذا الانحياز، الأول في العدد الصادر يوم 12 ديسمبر تحت عنوان "السودان" الثانى بعد ذلك بأسبوع بالضبط تحت عنوان "السودان ومصر - مصر والسودان"، والأخير في العدد الصادر يوم 29 ديسمبر تحت عنوان "ما يجب عمله في السودان".
حملت هذه المقالات في جانب منها نغمة تحذير قوية من نجاح الثورة المهدية ذات الطبيعة الدينية لما يمكن أن يترتب على هذا النجاح من عواقب وخيمة على سائر القوى الدولية ذات العلاقة بالمسألة المصرية الدولة العثمانية: بأن تصل نيران الثورة إلى الأماكن المقدسة على الجانب الآخر من "البحر الأحمر" في "جزيرة العرب، إنجلترا: كيف لا تهتم بمسألة السودان "وأفكار مهديها سيترنم لها مسلمو الهند إذا نفذت أغراضها لا سمح الله"!؟. فرنسا: لها أن تجزع لأن "الثورة في ضواحي أملاكها في تونس والجزائر".
حملت في جانب آخر السلطات البريطانية مسئولية انتشار الثورة على هذا النحو نتيجة لتسليم "القيادة إلى ضباط انكليز مسيحيين مع أن الثورة دينية في بلاد همجية ما زال أهلها على الفطرة الطبيعية".
ودلفت من ذلك إلى تحبيذ التدخل العثمانى "لتدويخ الثائرين" لأنه في رأى الأهرام "أفضل لنا من أوجه شتى أخصها بقاء حقوقنا السياسية محفوظة فإن الباب العالى لا مطمع له في هذه الأصقاع سوى حفظ الأمن والسيادة عليها وذلك حاصل من غير عناء وتعب".
في حالة عدم مواتاة الظروف لهذا الحل الأخير رأى بشارة تقلا أن يكون الحل ليس بترك السودان، كما يقول المرجفون، بل بترك مناطق العصيان في غربيه، في دارفور وكردفان على وجه التحديد "والاكتفاء بما لدينا من القوات لحفظ ما تبقى من السودان فنعزز الحامية في النقط المتعددة ونقيم التحصينات في المدن ونبعث بالقوات الباقية من الجندرمة مع قسم من الجيش الجديد لنمنع بذلك التداخل الانكليزى".
ويلاحظ أن نفس تلك الأفكار التي عرضها مدير تحرير الأهرام في مقالاته قد ضمنها شريف في مذكرته المقدمة للمعتمد البريطاني في القاهرة في اعتراضه على الاقتراح بإخلاء السودان الذى قدمه هذا الأخير بكل ما استتبع ذلك من الاستقالة الشهيرة لرئيس الوزراء المصرى وببدء تنفيذ السياسات البريطانية ووقوع "النازلة"!
***
"اخلاء السودان" لم يكن مجرد قرار من دوائر الخارجية البريطانية وانما كان سياسة متعددة الجوانب.
جانب منها بإنهاء "الوجود المصرى" بكل مفرداته السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية والبشرية. وإذا كان بعض تلك المفردات اقترب عمرها من السبعين عاماً، بعد أن قامت مصر بتنظيم شئون الجنوب عام 1820، فإن بعضها الآخر ضارب في أعماق التاريخ!
الجانب الآخر بتنظيم شئون السودان قبل إتمام الاخلاء، وكانت الخط بإعادته إلى السلطة التي كانت قائمة فيه قبل عام 1820 من سلاطين ومكوك (صغار الملوك) ومشايخ ورؤساء قبائل.
الجانب الأخير خاص بالتعامل مع "المهدى" وقد نظر إليه إطار الجانب السابق، بأن يسند للرجل حكم المنطقة التي أصبح له فيها أكبر نفوذ، إقليم كردفان في غرب البلاد..
وقد رأت دوائر الهوايتهول صعوبة أن يناط تنفيذ هذه السياسة إلى شخصية مصرية. وستقر الرأي أن يكلف بذلك العمل أحد الإنكليز العليمين بشئون السودان، ووقع الاختيار على غوردون باشا، كما عرفه المصريون، أو غوردن الصينى كما أسمته الصحافة الإنجليزية بعد مساهمته في القضاء على ثورة التايبنج في الصين عام 1864، أو الميجور جنرال تشارلز جورج جوردون فيما حصل عليه من رتبة في جيش الإمبراطورية.
وكان المبرر الرئيسى وراء الاختيار الخبرة السابقة التي اكتسبها الرجل نتيجة لخدمته في الإدارة المصرية في السودان خلال السبعينات مديراً للمديرية الاستوائية، ثم حكمدار لعموم السودان (1877-1879)، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي يتولى فيها أوروبى مثل هذا المنصب الرفيع، والجدير بالملاحظة هنا أن ذلك وإن كان قد تم بسبب كفاءة في أداء الرجل فإنه قد تم في نفس الوقت في إطار تفاقم التدخل الأوروبى في الشئون المصرية، لأنه في نفس تلك السنوات كان هناك في القاهرة وزيران أوروبيان في الوزارة التي اشتهرت باسم "الوزارة المختلطة".
وقبل أن يأتي الميجور جنرال إلى مصر رفع مذكرة إلى الخارجية البريطانية أثبتها الأهرام كاملة على صدر عدده في يوم 27 فبراير حبذ فيها "إعادة المقاطعات السودانية إلى سلاطينها الصغار الذين كانوا ولاة عليها أيام اغتصبها محمد على باشا"(!)، وأعرب عن أمله بأن ذلك سيدفع هؤلاء إلى مقاومة المهدى في محاولته لفرض سيادته عليهم، وهون أخيراً من قيمة السودان بقوله أنه "مقاطعه عديمة الجدوى ومساحتها أوسع من مساحة جرمانيا (ألمانيا) وفرنسا وإسبانيا معاً وأكثرها قاحلة.. وما من أحد توطن السودان مدة إلا ويتراءى له عدم منفعة تلك المقاطعة ويندر وجود من يتحمل ابتعادها وحرارتها"!
ووصل غوردون باشا إلى مصر يوم 24 يناير عام 1885، وصدر المرسوم الخديو بتعيينه حكمدار لعموم السودان بعد ذلك بأربعة أيام. وبدا في أعقاب ذلك مسلسل المفاجآت التي تلقاها المصريون بذهول والتي عبر عنها الأهرام باندهاش..
أولى المفاجآت كانت بإعادة دارفور إلى سلاطينها القدامى وتعيين "الأمير عبد الشكور" سلطاناً لها، بيد أن المفاجآت الكبرى كانت بتعيين المهدى، سلطاناً لكردفان، والتي أوقعت دهشة بالغة في نفوس المصريين الذين وقرت في عقولهم طول الوقت صورة الرجل: مدعى المهدية، المهدى الكذاب، المتمهدى، تتناقض تماماً مع تلك الخطوة.
لم يملم الأهرام إلا أن يعلق على هذا الإجراء في عدده الصادر يوم 15 فبراير عام 1884 بقوله: "بودنا لو يقبل المهدى هذا الانعام فيأتى إلى الخرطوم ويشكر لغوردون باشا" ومع التشكيك في قيمة هذه الخطوة فإن الجريدة لم تقفل باب الأمل على اعتبار أن غوردون يعى ما يفعله بحكم "كونه ذي صلة مع قبائل السودان خبيراً بأحوالهم وأطوارهم".
المفاجأة الثانية بالخبر الذى وصل أواخر فبراير بأن غوردون قد أمر بتسفير العساكر المصرية البالغ عدادها 1300 جندي فبارحت الخرطوم قاصدة بربر ولم يبقى في المدينة سوى السودانيين".
ولم تتذرع الأهرام هذه المرة بحسن النية أو تكتم شكوكها حيال هذا العمل فقد رأت الخبر "وقد رأينا وحير أفكارنا فإذا كان صحيحاً عجبنا منه.. ومما زادنا حيرة ما هو شائع على الألسنة حملاً على أخبار وردت من الخرطوم أن غوردون باشا أحرق دفاتر الحكمدارية وأوراقها ولم يبق على كثير منها أو قليل"!
المفاجأة الثالثة حملتها منشورات ثلاثة وزعها غوردون فور وصوله على "عموم أهالى السودان" وقد حمل المنشورات الأول والثالث أهم ما في هذه المفاجأة..
كان مما جاء في المنشور الأول: "لأجل راحتكم وابلاغكم أمانيكم، وقطع أسباب تشكياتكم قد ألفت مجلساً منظماً من ملوك السودان لكى يحكموا عليكم وهذا المجلس يعقد مرتين في الأسبوع وأكثر من ذلك إن مست الحاجة إليه واترك لكم جميع البقايا المتأخرة عليكم من الأموال الميرية وغيرها.. وذلك كله دليل على ما أرغب وأتمنى من إعادة الرخاء والسعادة وبرهان على ما أود من إقامة العادلة بينكم"!
أما المنشور الثالث فقد قال فيه: "انى لعالم بما تقاسون من منع الاتجار بالرقيق وفرض العقاب الشديد على من يتجر به ولهذا فانى أسمح لكم الآن بأن تأخذوا حريتكم في هذه التجارة وقد أمر المنادين أن ينادوا به ويعلموه إلى العموم!
ومع أن الأهرام قد أدرج ضمن صفحات عدده الصادر يوم 27 فبراير تلك المنشورات إلا أنه لم يعلق عليها، فلم تحتاج إلى تعليق خاصة لما كان معلوماً أن الهدف الرئيسى من وراء تعيين غوردن حاكماً لعموم السودان في عهد إسماعيل كان منع تجارة الرقيق!
بعد كل ذلك انتظر غوردون على شوق والرأى العام المصرى على مضض مما سوف تسفر عنه تلك السياسات البريطانية مما يشكل طوراً آخر من أطوار النازلة.
***
تبدى في هذا الطور بشكل ظاهر فشل السياسات التي كانت قد وضعتها الخارجية البريطانية الأمر الذى كشف عنه الأهرام في جملة من الأخبار في أعداده الصدارة خلال النصف الأول من مارس عام 1884.
جاء في أحد هذه الأعداد أن غوردون قد أرسل وكيل الحكمدارية، وكان انجليزياً أيضاً واسمه ستيوارت باشا، على باخرة خصوصية "إلى النيل الأزرق قاصداً الاجتماع بزعماء القبائل ليعرض عليهم قبول توجيهات الجنرال غوردون باشا وترتيباته ولم يعلن بعد إذا ان ستيوارت توفق في مطلوبه هذا، وفى العدد التالى يقول الأهرام أنه لم يتوفق!
عدد آخر يذكر أن أخبار الخرطوم تشير إلى امتداد العصيان واشتداده وأن العربان القاطنة بين بربر والخرطوم ثارت دفعة واحدة وجهرت بانتمائها إلى مدعى الهداية!
عدد ثالث يشير إلى عودة فكرة الاستعانة بالزبير باشا في الموقف العصيب الذى بدأ يواجه غوردون، ولهذه الفكرة قصة.
الزبير باشا رحمة منصور أحد الشخصيات السودانية البارزة في القرن التاسع عشر جعلى الأصل، تمكن من خلال تجارة الرقيق أن يشكل قوة كبيرة في جنوب السودان وغربيه الأمر الذى دعا حكومة القاهرة إلى تعيينه مديراً على مديرية بحر الغزال، خاصة وأنه قد أسهم مساهمة فعالة في ضم دارفور إلى بقية السودان في منتصف السبعينات، غير أنه نتيجة لخلافاته مع حكمدار عموم السودان، إسماعيل باشا أيوب، جاء إلى القاهرة ليقدم شكواه إلى الخديو إسماعيل الذى استبقاه فيها بعد أن منحه لقب الباشوية ورتبة الفريق في الجيش المصرى.
وقد عاد اسم الزبير باشا ليفرض نفسه ابان تنفيذ سياسة الاخلاء على اعتبار أنه يمكن أن يكون أفضل معاون لغوردون في هذا الصدد غير أن الحكومة البريطانية لم تتحمس للفكرة بحكم ارتباط اسم الرجل بتجارة الرقيق.
بيد أنه بعد سلسلة الإخفاقات التي واجهها الباشا الانجليزى عادت مرة أخرى فكرة الاستعانة بالباشا السودانى تفرض نفسها، وبينما جاء رفض الفكرة في المرة الأولى من الجانب البريطاني فإن الذى رفضها في المرة الثانية كان الزبير باشا نفسه، فيما رواه الأهرام بالتفصيل يوم 17 مارس عام 1884.
ذكرت هذه الرواية أن غوردون أبريق مطالباً بتعيين الزبير باشا خلفاً له "لتسوية مشاكل السودان إذ يتعذر على سواه الوصول إلى الإصلاح المطلوب، ولم تتأخر الحكومة عن "مخابرة زبير باشا بمراد غوردون باش" الذى لم يبلغه مراده!
الأسباب التي ذكرها الأهراء وراء رفض الزبير بأن ما فعله غوردون خلال الأيام السابقة في السودان قد أغلق كثيراً من منافذ اصلاح الموقف، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه كان يمكنه في بادئ الأمر "قبل استفحال الثورة بمبلغ شأنه وقوة ذكائه ومزيد دربته أن يدرأ النازلة من دون قوة أما الآن وقد صار خطب العصيان جللاً فلا بد من القوة ولا وجود للقوة عندنا وهذه عقدة المسألة"!
وقد أثبتت الأحداث صحة رؤية الباشا السودانى حتى أن الأهرام كتب بعد ذلك بأيام يقول أن "الحالة صعبة جداً" وبلغت النازلة ذروتها عندما جاءت الأخبار بأن المهدى أرسل يرد على تعيين غوردون له سلطاناً على كردفان مندهشاً "وداخلنى مزيد من الاستغراب أنك لم تعطينى بلاداً هي لى، فأعلم أن رسالتى لا تستوقفنى في كردفان بل تقضى على أن أذهب إلى الخرطوم واحتلها ومنه أذهب إلى الأصقاع البعيدة"، وأرسل إليه مع الرد "دلقاً"، وهو الرداء الذى يتزيى به أنصاره وطلب منه ارتداءه لينال رضاه!
ودخلت بذلك النازلة طورها الثالث والأخير..
***
منذ أواخر أبريل بدأ غوردون باشا في موقف ميئوس منه في الخرطوم فقد انقطعت الاتصالات النهرية والبرية بينه وبين بربر ووقعت العاصمة السودانية تحت حصار القوات المهدية حتى أن خبراً نشره الأهرام جاء فيه: "إن رصاص بنادق الأعداء تتساقط على سراى الحكومة وقتلت كثيرين والحالة ضنكة"!
وفى تلك الظروف أخذ الباشا الانجليزى في إرسال الاستغاثات التي حرص الأهرام على متابعتها..
إحداها إلى السير صمويل بيكر المكتشف الشهير وحاكم المديرية الاستوائية السابق يستنفر فيها "همم أغنياء الانجليز والأمريكان لإنقاذه"، وأخرى لحكومته يطلب منها أن ترسل حملة لإنقاذه، وثالثة بالعودة إلى الفكرة القديمة التي طالما تبناها الساسة والصحافة في مصر باللجوء إلى الدولة العثمانية.
وبعد أن تقاعس أغنياء الانجليز والأمريكان، وبعد أن رفضت حكومة استنبول الاستجابة إلا بعد أن تتخلى العساكر الإنكليزية عن القطر المصرى وتبقى مصر وملحقاتها تحت سيادة الباب العالى، مما تعذر معه قبوله من جانب الحكومة البريطانية، لم يعد من حل سوى إرسال حملة انجليزية هي التي عرفت "بحملة الإنقاذ".
قصة هذه الحملة طويلة نختار منها بعض المعالم الأساسية..
* أنه قد مضى وقت طويل تجمعت خلاله القوات والمعدات التي بدأ تقدمها من مصر في أواخر أغسطس عام 1884، وخلال تلك الشهور كان الحصار يزداد استحكاماً حول الخرطوم وأحوال أهاليها تزداد سوءاً.
يسجل الأهرام هذا الواقع في عدده الصادر في 23 سبتمبر الذى نشر فيه رسالة موجهة من حضرات العلماء وعموم الأهالى ومستخدمى الحكومة والملكية المحصورين في الخرطوم يستجيرون فيها من أنه قد مضى ستة شهور وهم يدافعون عن الحكومة بأرواحهم وأموالهم ليل نهار وقد عظم مصابهم واشتد كربهم!
أنه أخذت تتواتر الأخبار في تلك الفترة عن مشاريع انجليزية لاستغلال السودان أعارها الأهرام أهمية كبيرة، فنشر خبراً عما أسمى بالشركة السودانية الملكية للمقاولة على بعض الأشغال في السودان واستخراج معادنها فيالله من شر الأثرة"!.
* عرفت نفس الشهور بداية عقد الصفقات بين حكومة لندن من جانب والحكومات الأوربية من جانب آخر لإرث الأملاك المصرية في أفريقيا فيما جرى من اتفاقات مع إيطاليا حصلت بمقتضاها على عدد من الموانى المصرية في البحر الأحمر الأمر الذى احتج عليه الأهرام في عدده الصادر في 4 فبراير من قوله "استغربنا ما علمناه أن إنكلترا أشارت على حكومة مصر بالانجلاء عن مصوع وبيلولة، فكأنما لم تقصد من ذلك إلا خدمة إيطاليا مكافأ لها عن سكوتها في عدم محاماتها عن حقوق مصر"!
أخيراً فإن الحملة التي قادها الجنرال ولسلى، وهو نفسه قائد الحملة البريطانية التي احتلت مصر قد سارت من الشمال إلى اتجاه الخرطوم في ظروف بالغة الصعوبة تابعها الأهرام يوماً بيوم حتى عدده الصدار يوم 6 فبراير عام 1885 حين نشر خبرها الأخير وجاء فيه" "في صبيحة يوم 28 الفائت وصلت ثلاثة وابورات من الحملة إلى موقع أم درمان فانصبت عليها نيران المدافع انصباب مياه المطر من موقع أم درمان وجميع طوابى الخرطوم وطوابى معكسر المهدى فأخذ قواد الإنكليز النظارات ووجهوها إلى الخرطوم فشاهدوا جميع مبانى الحكومة فيها متهدمة ولا تعلوها راية".
ورغم ان الآراء تضاربت بعد ذلك في مصير غوردون إلا أن الجميع قد أدركوا يومئذ أن حملة الإنقاذ قد فشلت في تحقيق أغراضها، وأنها استحقت التوصيف الذى أطلقه عليها المؤرخون فيما بعد، بمن فيهم الانجليز.. الحملة المتأخرة جداً The Too Late Expedition.
أما بالنسبة للمصريين فقد أدركوا مع وصول تلك الأخبار أن النازلة قد تحولت في عرض بسيط في أول الأمر إلى داء عضال وفعلت فعلها بأن فصلت السودان عن مصر، الأمر الذى كان على الشعبين أن يعانيا منه ربما حتى يومنا هذا!

صورة من المقال: