ads

Bookmark and Share

الجمعة، 26 أكتوبر 2018

029 تلغراف جرانفيل

تلغراف جرانفيل
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 3 فبراير 1994م - 22 شعبان 1414هـ

صباح يوم الأحد 6 يناير عام 1884 توجه السير ايفلين بيرنج "قنصل إنكلترا الجنرال إلى دولتلو شريف باشا وسلمه جواب حكومته - بعد ذلك توجه إلى مقابلة الحضرة الخديوية وخابرها بهذا الشأن كان هذا نص الخبر الذى طيره بشارة تقلا مدير تحرير الأهرام إلى يذهب بشارة نفسه إلى القاهرة ليراقب الأحداث ويرسل بأنبائها إلى الجريدة أن هناك حدثاً جللاً تتتابع مفرداته في العاصمة، وهو ما ظل يتكرر بانتظام من الأهرام إبان فترة إقامته في الإسكندرية والتي استمرت لنحو ربع قرن (1876 - 1899).
"الحدث الجلل" الذى جاء مدير التحرير ليرصده في القاهرة كان ابلاغ شريف باشا بنص "التلغراف" الذى كان قد أرسله اللورد جرانفيل وزير الخارجية البريطاني إلى رئيس وزراء مصر، والذى صنع أزمة سياسية أدت إلى استقالة الوزارة الشريفية، غير أن الأهم من تلك الاستقالة أنه أرسى مبدأ علاقة سلطات الاحتلال بالمؤسسة الوزارية، وهى هيمنة استمرت قائمة بشكل مباشر حتى صدور دستور عام 1923، أي لنحو أربعين عاماً، وبشكل غير مباشر بعد ذلك.
جاء في نص "التلغراف" الذى بعثت به الخارجية البريطانية لممثلها في القاهرة أن "Ministers must carry out that advice or forfeit office".
وقد اختلفت ترجمة تلك العبارة التي ترجمتها الوثائق المصرية عن ترجمة الأهرام. فقد ترجمتها الوثائق بأنه: "من الضرورى أن يتخلى عن منصبه كل وزير أو مدير لا يسير وفقاً لهذه السياسة"، أما ترجمة الأهرام التي جاءت في عدده الصادر في 8 يناير عام 1884 أنه "على مصر قبول كل نصيحة إنكليزية دون حدوث تردد أو اجراء جدال"، وواضح أن الترجمتين، رغم اختلافها، قد شابها بعض التصرف!
أما النصيحة التي أرادت الحكومة البريطانية إلزام وزراء مصر على قبولها، والتي لم تصبح بذلك نصيحة(!)، والتي قادت إلى تلك الأزمة، فقد كانت حول العلاقة المصرية - السودانية التي شهدت جملة من التطورات المتلاحقة بعد الكارثة التي أصابت حملة هكس التي أبادت الأنصار في شهر نوفمبر، 1883، ونبدأ القصة من أولها-
***
خلال ديسمبر 1882، الشهر السابق على "تلغراف جرانفيل" دارت اتصالات ومناقشات عديدة حول السياسة التي ينبغي اتباعها في السودان بعد فشل حملة هكس، وقد طرح في ذلك الشأن اختياران:
الاختيار الأول: أن مصر نتيجة لظروف الاضطراب السياسى الذى عانت منه خلال الثورة العرابية، ونتيجة للاحتلال البريطاني البلاد، لم تعد قادرة على اعداد القوة اللازمة للحفاظ على السودان، وانها في حاجة إلى "معاونة قوة حربية قوامها نحو عشرة آلاف رجل معاونة موقوته لتمكينها من الاستمرار في أداء رسالتها في السودان - وتكون مهمة هذه القوة أن نفتح بادئ ذي بدء الطريق بين بربر وسواكن - وتكتفى باتخاذ الوسائل اللازمة للاحتفاظ بالخرطوم كى تطمئن إلى السودان الشرقى وتسيطر على مجرى النيل"، كان هذا نص ما جاء في مذكرة لشريف باشا إلى بارنج في 21 ديسمبر عام 1883.
الاختيار الثانى: وكان اختياراً بريطانياً، فإن حكومة لندن وإن لم تمانع في ارسال قوة تركية إلى السودان إلا أنها ارتأت أن مثل هذا الارسال يمكن أن يؤدى في النهاية إلى تدخل الأتراك في الشئون المصرية، وهو ما كانت ترفضه بتاتاً.
ففيما توصل إليه المسئولون الانجليز في كل من القاهرة ولندن من أن أية قوة تركية ترسل إلى السودان لابد أن تتخذ من الأراضى المصرية قاعدة لعملياتها، بكل ما يترتب على ذلك من مضاعفات يمكن أن تنتهى إلى مطالبتهم بالجلاء عن مصر، يجعل الاستعانة بتلك القوة مخاطرة غير مأمونة العواقب.
تأسيساً على ذلك فقد قر رأى صناع السياسية البريطانية على مطالبة الحكومة المصرية بسحب قواتها إلى وادى حلفا التي ارتأتها الحدود الجنوبية لـ "مصر الأصلية Egypt Proper"، وان الالتزام الوحيد الذى يمكن أن تقبل به حكومة لندن هو حماية "مصر الأصلية"، فضلاً عن حماية يكلفها الأسطول البريطاني لموانى البحر الأحمر السودانية، وعلى وجه التحديد ميناء سواكن.
وحول هذين الاختيارين جرى صراع خلال شهر ديسمبر عام 1883 - ففي 16 من هذا الشهر أبلغ بارنج رئيس الوزراء المصرى ما استقر عليه رأى الحكومة البريطانية الأمر الذى دعا الأخير إلى أن يبعث بمذكرة طويلة إلى الأول ليقدمها لحكومة لندن يشرح فيها المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها مصر إذا ما تم تنفيذ ذلك الرأي.
من بين هذه المخاطر ان انفراد المهدى بالسلطان في السودان سوف تضطر معه القبائل "التي مازالت على ولائها لمصر وكذلك القبائل المتردد مثل : الكبابيش إلى الانضواء تحت لواء الثورة".
منها أيضاً أن حرمان مصر من حدودها الطبيعية سوف تصبح معه مكشوفة من كل الجهات الأمر الذى يتعين معه "أن تحتفظ بجيش عظيم تزيد نفقاته على حدود طاقتها".
وتشير هذه المصادر إلى أن شريف باشا في لقاء 16 ديسمبر أطلق قولته المشهورة أمام القنصل العام البريطاني والتي جاء فيها: "لئن تركنا السودان فهى لا تتركنا البتة"!
وصل بذلك الصدام بين الاختيارين إلى ذروته وكان مطلوباً أن يلوى أحدهما يد الآخر، ومن هنا نبتت فكرة التلغراف المشهور..
الفكرة كان صاحبها السير ايفيلين بارنج الذى رأى من لقاءاته مع شريف أن هناك استحالة من جانب الوزارة لقبول اختيار "الاخلاء" وأنه ليس ثمة وسيلة سوى وضع الوزراء والمديرين المصريين أمام الاختيار الصعب.. أن يتركوا مناصبهم إذا ما صمموا على معارضة الأخذ بهذا الاختيار، أكثر من ذلك فقد رؤى ألا يقتصر هذا الاختيار على الموقف القائم وانما يمتد إلى أي مواقف يمكن أن يعترض فيه هؤلاء على السياسات التي تضعها "حكومة جلالتها" لمصر في المستقبل.
تقرر بعد ذلك أن يبعث جرانفيل بالفكرة على شكل تلغراف يحوى تلك التعليمات الى السير بارنج الذى خول حق ابرازها لشريف باشا، وكان معلوماً أن هذا لن يجد أمامه سوى الاستقالة في تلك الحالة.
***
قبل تقديم التلغراف إلى رئيس النظار المصرى تسربت الاشاعات بأن وزارة شريف على وشك الاستقالة، وهى الاشاعات التي استنكرها الأهرام الذى لم يكن يعلم بعد بما استقر عليه الرأي في دوائر الحكومة البريطانية..
قال الأهرام في عدد الصادر يوم السبت 5 يناير عام 1884 أن "الاشاعات التي استنكرها الأهرام الذى لم يكن يعلم بعد بما استقر عليه الرأي في دوائر الحكومة البريطانية..
قال الأهرام في عدد الصادر يوم السبت 5 يناير عام 1884 أن "الاشاعات التي تتناقلها الألسنة عن استعفاء وزارتنا هي ساقطة وأسقط منها الدليل الذى عليه الاستعفاء"!
غير أنه في اليوم التالى مباشرة تراجعت صحيفتنا بعد أن تحولت "الاشاعات الساقطة إلى حقيقة مريرة" ووصلت لمندوب الأهرام في القاهرة أنباء الأزمة الوزارية والتي ارتأها "أهم حادثة وزارية" بعد سقوط الوزارة المختلطة عام 1879 بعد مظاهرة الضباط المشهورة.
وعزا الأهرام أسباب الأزمة إلى "تمنع إنجلترا عن التداخل في السودان مع معارضتها للعثمانية" وان كان مدير تحرير الصحيفة لم يدع أن "أسرار المسألة قد تم الوقوف عليها وقوفاً تاماً وغاية متمنانا أن تكون النتائج أيله لحفظ حقوقنا السياسية ومستقبل بلادنا الأدبى والمادى"!
رغم ذلك وفى رسالة أخرى بعض بشارة تقلا في نفس اليوم جرت محاولة من جانبه للكشف عن مزيد من أسرار "التلغراف"، يلاحظ مما جاء في هذه الرسالة الطويلة أن مدير تحرير الأهرام الذى لم يكن يعلم كثيراً عن الأزمة قبل ذلك بساعات قد أصبح ملماً بأغلب جوانبها، مما يبدو معه انه قد نجح في الاتصال بمصدر وزارى، وقد يكون شريف باشا نفسه، الذى أمده بأغلب تلك التفاصيل التي تتفق في فحواها مع تضمنته الوثائق بعد ذلك حول طبيعة الأزمة.
فقد تتبعت هذه الرسالة مجريات الأزمة خلال العشرين يوماً الأخيرة بكل ما اتصل بها من تبادل المذكرات حتى وصلت إلى "جواب إنكلترا" الأخيرة ومؤداها "وجوب ترك السودان وسحب العساكر التي تلك البلاد وإقرارها في وادى حلفا".
ونرى أن شريف بعد أن وضعه تلغراف جرانفيل في هذا الخيار الصعب ارتأى أن يسجل موقفاً تاريخياً قبل تقديم استقالته ومن ثم جاء بوحه بأسرار الاتصالات لبشارة تقلا وربما لغيره من الصحفيين، بل بوحه بما تنتويه الوزارة بعد التلغراف فيما جاء في نهاية ناس الخبر.. قال "لما وصل الجواب تقرر أن يعقد مجلس النظار بعد ظهر هذا النهار للبحث فيه،  وقد عاد وعلمنا منه إلى الآن الاستعداد لرفض ذلك وتأكد أن الوزارة ستبرم غداً القرار الأخير ولعلها تستعفى"!
وكان اليوم التالى.. يوم استقالة وزارة شريف من أهم الأيام في التاريخ المصرى، ويشير بعض رجال الخديوى إلى رئيس الوزراء قد توجه أولاً إلى سراى الجزيرة، حيث كان يقيم توفيق، وجرت بين الرجلين "محاورة شديدة".
سبب المحاورة أن توفيق، جرياً على عادته قبول الانجليز، لم يقاوم المطلب الجديد لسلطات الاحتلال، الأمر الذى أبلغه بارنج في برقية له إلى لندن جاء فيها أن الخديو أبلغه أنه يقبل بروح ودية (!) ما تقرر من سياسة اخلاء كل السودان والتي يعتقد أنها قد تقررت لتحقيق مصالح البلاد، وأنه أضاف إلى ذلك ابداء كامل ثقته بأن أية نصيحة ستتقدم بها الحكومة البريطانية انما تستهدف مصلحة مصر!
وخرج شريف من اللقاء مع توفيق ليدعو "هيئة الوزارة" الى اجتماع في منزله أعد فيه "جواب الاستعفاء" الذى وقع عليه جميع الوزراء ليرفع إلى الخديو.
فى مساء يوم الثلاثاء 8 يناير وفى مشهد درامى لم يتكرر في السياسة المصرية كثيراً قدمت وزارة شريف الرابعة والأخيرة استقالتها، والتي كانت بمثابة النهاية المشرفة لتاريخ الرجل، وليس أفضل من أن نترك للأهرام رواية هذا المشهد النادر.
قال في عدده الصادر يوم 9 يناير عام 1884: "توجه حضرات النظار إلى سراى الإسماعيلية يتقدمهم دولة شريف باشا ولما وصلوها صعد دولته أولاً وقدم لسموه رقيم (كتاب) الاستعفاء ثم تبعه بقية النظار وقدموا استعفاءهم أيضاً ومكثوا لدى سموه برهة ثم انصرفوا بعد أن قبل الجناب العالى استعفاءهم ولكنه طلب منهم أن يستمروا محافظين على مراكزهم مواظبين على أشغالهم إلى أن تتشكل وزارة ثانية جديد"!
ولم يكن هذا الخبر نهاية المطاف بالنسبة لموقف الأهرام من تلغراف جرانفيل!
***
جانب من هذا الموقف متصل بجواب الاستعفاء الذى تقدمت به الوزارة الشريفية، ونرى أن الأهرام قد أمدنا بنص واف لهذا الجواب لم يمدنا به مصدر آخر، فإن ما نشرته سائر المصادر، بما فيها الرسمية، جاء مقتضباً على نحو لا يتفق مع أهمية المناسبة.
أول ما عرض له جواب الاستعفاء أن الحكومة المصرية لا ترى ثمة سبب لإجبار مصر على إخلاء السودان فانه "من الممكن المحافظة على أملاكها السودانية بواسطة خمسة عشر ألف جندي ليس إلا".
عرض بعد ذلك للآثار الضارة لذلك الإخلاء "بمصلحة مصر سياسياً وتجارياً وفى حالى تخلى مصر عن السودان تقفل بيوت تجارية عديد شهيرة في القطر"!
الأهم من ذلك وعى شريف والوزراء المصريين بما يمكن أن يترتب على القبول بالنصيحة البريطانية من إرساء مبدأ التدخل من قبل سلطات الاحتلال في شئون الحكم المصرى - بدا ذلك فيما نقله الأهرام من جواب الاستعفاء وجاء فيه: "ان حكومة مصر لا يمكنها أن تقبل مطلقاً بتلغراف اللورد جرانفيل القائل بوجوب قبول كل نصيحة إنكليزية بدون تردد وأن كل ناظر لا يكون مشربه انكليزياً لا يلزم وجوده في النظارة فهذا مناقض لنص الدكرتو (المرسوم) الخديوى الصادر في 28 أغسطس سنة 78 القائل بأن الوزارة مسئولة أمام الجناب الخديوى ليس إلا وبناء عليه فلا تستطيع النظارة الحالية قبول ما تطلبه الوزارة الإنكليزية".
علق الأهرام على نص جواب الاستعفاء بقوله: "لا ريب أن هذا الاعتذار مملوء حكمة صادر عن مبادئ وطنية حقيقية لا يرتاب بها".
ويلفت النظر هنا أن الأهرام رغم علمه بموقف توفيق الخاص بقبول التلغراف، روغم علاقيته التقليدية الوطيدة بالجالس على العرش، فإن ذلك لم يمنعه من اتخاذ هذا الموقف المؤيد لشريف.
ولم تنته الأزمة عند ذلك الحد فقد كان على السلطتين، بريطانيا والخديو البحث عن خلف لشريف..
***
اتجهت الأنظار أولاً لرياض باشا أحد أقطاب السياسة في مصر والذى دخل ابان وزارته السابقة في صدام عنيف مع قادة الثورة العرابية انتهت بالإطاحة به.
ورياض كان عضواً في وزارة شريف الأخيرة، إلا أنه كان من الجناح المتشدد في هذه الوزارة الأمر الذى دعاه للاستقالة أثناء محاكمة العرابيين لما ارتآه من معاملتهم برحمة لا يستحقونها!
بيد أن الرجل رفض أن يقبل ما رفضه شريف باشا بل تشير دوائر القصر إلى أنه رد على عرض توفيق بقوله: "إنى أود لو كنت ناظراً في نظارة شريف باشا حتى يكون لى شيء من فخر موقفه الشريف"!
وفى تلك الظروف كان السير بارنج ممثل بريطانيا في القاهرة مستعداً أن يتقدم خطوة أخرى في طريق تثبيت أقدام الاحتلال في البلاد بتشكيل وزارة من الانجليز(!)، وهو الأمر الذى تخوفت منه دوائر الخارجية في لندن وإن كان يبدو أن الرجل قد لوح به للمصريين.
ولم يكن أمام جميع الأطراف، وبعد مشاورات دامت ليومين، سوى القطب الثالث من أقطاب السياسة المصرية، نوبار باشا، أول من شغل منصب "ناظر النظار" في مصر المحروسة.
علق الأهرام على اختيار الرجل بقوله أن "دولتلو نوبار باشا لما خبرة تامة بحل المشاكل واتقاء النوازل ودولته متضلع في لغات عديدة وقد قبض على زمام الاشغال وأخذ بزيارة القناصل الجنرالية رسمياً على حسب العادة المألوفة"!
في جانب آخر كان من رأى بشارة تقلا الذى استمر طوال الأزمة مقيماً بالقاهرة يبعث منها رسائله إلى إدارة الجريدة بالإسكندرية - كان من رأيه: "ان المركز السياسى الحالي هو غير المركز السابق فإذا سارت الوزارة سير الحكم كما هو المأمول والمنظور فربما أمكنها استرجاع ما فات وليس أقل من كونها تحافظ على ما تبقى"!
ويثير التأمل في هذه اللهجة أناه قد تكررت كثيراً في التاريخ المصرى كلما تدخلت سلطات الاحتلال لترغم المصريين على قبول ما ماكانوا يرفضونه، ولعل الوصف الذى أطلق على وزارة زيور التي تألفت عام 1924 بعد اجبار وزارة الشعب برئاسة سعد زغلول على الاستقالة - "وزارة انقاذ ما يمكن إنقاذه" قريب جداً من تلك العبارة التي وصف بها الأهرام وزارة نوبار الثانية.
دار موقف "الأهرام" بعد ذلك حول ثلاثة محاور، أولها: التمسك بحقوق السيادة المصرية على السودان رغم اجبار الانجليز للمصريين على إخلائه الأمر الذى عبر عنه بعد يومين من تشكيل الوزارة النوبارية في مقال طويل اقترح فيه مدير تحرير الجريدة سفر عبد القادر باشا حلمى ناظر الحربية في النظارة الجديدة إلى الأصقاع السودانية ليبرم "من الوفاق مع رؤساء العشائر وعمد البلاد ما يبيح للحكومة المصرية حق السيادة دون أن تبذل خزينة مصر درهماً واحداً"!
المحور الثانى اتخاذ موقف الدفاع عن شريف رغم خروجه من الوزارة الأمر الذى بدأ في تصديه لصحيفة الاجيبشيان جازيت الناطقة بلسان سلطات الاحتلال، بهد أن أخذت في محاولة تشويه سمعة الرجل بالقول بانغماسه في لعب البلياردو!
المحور الأخير دار حول اقناع المصريين انه رغم البلوى فقد "جرى خير" والخير الذى أرتاه الأهرام أن خروج المصريين من السودان أفضل مما لو أن بريطانيا كانت قد أرسلت قواتها إليه "لإنهاء العصيان"، فقد رأى بشارة تقلا "أنها لو تدخلت عسكرياً في تلك الأطراف لأفضى بها الأمر إلى تملكها وتملك مصر معها من غير تردد في مقابل ثمن الدم المهراق والمال المبذول"!
ونرى أن موقف الأهرام هذا قد تأثر بعلاقته التقليدية بالخديوى، وهى العلاقة التي نعتقد أناه قد دفعت بمديره إلى البحث عن مبررات لموقف توفيق المتخاذل!
غير أن هذا التبرير لا ينفى الواقع وهو ما سجله السير بارنج، لورد كرومر فيما بعد في كتابه الذى وضعه تحت عنوان "مصر الحديثة Modern Egypt" الذى صدر عام 1908، وجاء فيه "ان الوجود البريطاني في مصر قد أصبح أكثر رسوخاً بعد تلغراف جرانفيل" وما تضمنته وثائق الخارجية في لندن من أن التلغراف قد أصبح دستوراً لسياسات الاحتلال في مصر وان لم يكن أخر الدساتير التي أحكمت بريطانيا من خلالها قبضتها على البلاد.

صورة من المقال: