ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 4 أبريل 2018

024 الجندرمة

الجندرمة
بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 30 ديسمبر 1993م - 17 رجب 1414هـ

في العدد رقم 1450 يوم الأربعاء 20 سبتمبر عام 1882، وبعد أسوبع بالضبط من موقعة التل الكبير، نشر الأهرام أغرب ديكرتو (مرسوم) خديو لم يزد عدد كلماته عن خمس كلمات وكانت "قد صار إلغاء الجيش المصرى"!، وأصبحت مصر لأول مرة خلال سبعين عاماً دون هذا الجيش الوطنى الذى ظل يعتبر أهم إنجازات محمد على باشا الجد الكبير للخديو توفيق.
وبينما عزا ذلك "الديكرتو" الغريب التصرف الذى أقدم عليه الخديو إلى ما قام به هذا الجيش من "عصيان عسكرى" فإنه في المناخ الهستيرى الذى ساد معسكر الخديو كانت تجرى استعدادات أخرى للانتقام من هذا الجيش العاصى لم تكن محاكمة قواده على رأسهم أحمد عرابى مظهرها الوحيد.
لعل أعجب ما ساقه الأهرام عن الأفكار التي كانت تراود هذا المعكسر الفكرة التي زعمت "أن القوانين العسكرية تقضى على جيش جاهر بالعصيان أن يقتل منه عشرة في المائة، أي يصف الجيش ويبتدأ بالعدد ممن تقع عليه أول يد دون تقصد وتعمد فيرفع العاشر من الصف ويقتل وهكذا إلى آخر الجيش"!، وانه لم ينقذ هؤلاء من ذلك المصير سوى "المراحم الخديوية" التي آثرت بدلاً من ذلك أن تلغى الجيش كلية وأن "يذهب كل نفر إلى بلدته والعقاب يتناول المذنبين من الضباط لا غير"!
وفى هذا الجو الملئ بالغرائب أصبحت مصر بلا جيش وتعدد الاجتهادات حول البدائل.
لم يكن البديل طبعاً قوة الاحتلال البريطانية، فمن ناحية اعتادت السياسات الاستعمارية لحكومة لندن أن يكون وجودها العسكرى في البلاد التي تهيمن عليها رمزياً وأن تقوم بعد ذلك ببناء قوة عسكرية تحت اشرافها فيما يمكن تسميته "ألنموذج الهندى"، ومن ناحية أخرى فقد كان مفهوماً، حتى ذلك الوقت عل الأقل، أن الاحتلال البريطاني لمصر مؤقت!
ومن ثم جاء أشهر البدائل وهو الاستغناء عن وجود جيش في مصر: "لأن الوسائط السياسية كافية لتؤمن القطر من الدسائس الأوروبية وغيرها" وأن يكون البديل قوة شبه عسكرية Semi Military تقوم بمنع "تعديات أهل البادية في الصحراء وترعة (قناة) السويس" وهى القوة التي أسميت بالجندرمة ولها قصة في التاريخ المصرى..
ومع أن عمر هذه القصة لم يتجاوز العام إلا بقليل فقد عنى بها الأهرام الأمر الذى يدعونا إلى متابعتها من خلاله..
وأول ما نلاحظه في هذا الصدد أن المصادر العربية، وعلى رأسها الأهرام قد فضلت استخدام اللفظ الافرنجى. جندرمة Gendarmerie بدلاً من المقابل العربى.. الدرك.
الملاحظة الثانية أنه منذ البداية أيضاً اتجهت النية إلى استخدام العناصر التركية والأوروبية بالأساس في المراكز القيادية في القوة الجديدة فيما تشى به مجموعة من الأخبار التي أوردها الأهرام خلال الشهر التالى لوقوع البلاد في قبضة الاحتلال.
أحد هذه الأخبار تضمنه العدد الصادر في 10 أكتوبر عام 1882 وقد جاء فيه: "يرد إلينا مع كل وابور (سفينة) عدد من الاتراك وسواهم من البلاد التي انضمت إما للسرب (الصرب) وإما لليونان أو غيرهما والمرجو أن لا تمر علينا فرصة طويلة حتى نرى جندرمة مرتبة..".
بعد ذلك بأسبوع ينقل الأهرام خبراً آخر عن المونيتور بلج" وقد تضمن عدة تفاصيل حول القوة المقترحة..
جاء في جانب من هذا الخبر أن عملية الالتحاق بخدمة الجندرمة المصرية تجرى في جنيف على قدم وساق وأنه فضلاً عن السويسريين تقدم عديد من الألمان والبلجيك وان كان قد تقرر عد ضم "فرنسيين أو انكليزيين" وفقاً لتعبير الأهرام.
الجانب الثانى يتناول شروط الالتحاق ويتسم بقدر من الطرافة، فهو بعد أن يتناول طبيعة المرتبات التي ستمنح للأنفار أو للقواد يشير إلى المكافآت التي سوف ينالوها بعد مدة خدمة لا تقل عن عامين ونصف ويسميها "الحلوان"(!)، وعن خصم مبلغ يومى مقابل تناول الطعام على "ألا يقدم لهم الرؤساء لحماً إلا على الظهر"!
الجانب الثالث الخاص بالسويسريين الذين أرادوا إضافة بند إلى تلك الشروط ينص على أنهم أحرار إذا وقعت حرب بمصر أن يعودوا عاجلاً إلى وطنهم وتعين لهم النفقة من جانب الخزينة المصرية"!
***
رغم هذه البداية الساخنة فإنه لم يمض وقت طويل حتى تم التخلي عن فكرة الاستغناء عن وجود الجيش المصرى ولكن لم يتم الاستغناء عن فكرة انشاء "الجندرمة".
ففي خلال النصف الأول من أكتوبر أشار الأهرام إلى اجتماع "لمجلس الوزراء" للنظر في لائحة تنظيم الجيش المصرى الذى تقرر أن يتكون من 10.900 رجل 1400 منهم يشكلون آلايين للجندرمة.
ويتضح من الخبر أن تحولاً كبيراً قد حدث في التوجهات السياسية المتعلقة بتكوين القوة الجديد، فبعد أن كانت النية متجهة إلى أن تكون عناصره القيادية من تركيا أو من دول أوروبية لا أطماع لها في مصر فقط تقرر أن تتألف تلك العناصر من أبناء الدولة المحتلة، أي من الانجليز، فيما تضمنه الخبر الذى جاءت تفاصيله في الأهرام الصادر في 20 أكتوبر عام 1882.. قال:
"أما الجندرمة فسيعهد بقيادتها إلى ضباط وطنيين من ذوى الإخلاص والخبرة وتقسم إلى قسمين أحدهما في الوجه القبلى والآخر في الوجه البحرى مع كل من الالايين مفتش انجليزى".
غير أن ما كان ينشره الأرهام وغيره حول هذه القضية كان أقرب إلى التكهنات منه إلى الحقائق فقد كان المسئولون البريطانيون ما زالوا يعدون "الطبخة المصرية" والتي عهد بطهيها إلى اللورد دفرين سفيرهم في استنبول والذى تم تكليفه بالتوجه إلى القاهرة ووضع تقارير عن إعادة تنظيم Re-organization مصر.
أحد تلك التقارير السرية أرسل به اللورد في 13 نوفمبر، أي بعد شهرين من التل الكبير وخصصه للجندرمة وتقدم هنا قراءة بعض جوانب ذلك التقرير الطويل..
***
رأى دفرين أن الهدف الأساسى من تشكيل قوة الجندرمة هو درء تعديات قبائل العربان التي اعتادت على الغزو، وأن تكون قوتها موازية لنصف قوة الجيش، وأن يشكل الفرسان جانباً كبيراً منها على أن تكون أعمالهم داخل القطر ذات طبيعة أمنية وأن يكون زيهم مقارباً لزى رجال البوليس.
اقترح الرجل بعد ذلك الأعداد المطلوب توافرها للقوة الجديدة التي بلغت 5650 رجلاً وإن كان أهم ما أشار إليه في هذا الصدد أن يكونوا مثل رجال الجيش "مصريى المولد عربيى اللغة"، وهو بذلك قد استبعد الأفكار الأولى التي راجت حول استخدام الأتراك والأوروبيين بالأساس.
وهذا التعديل الجوهرى الذى اقترحه دفرين صدر عن عدة أسباب ساقها في التقرير الذى بين أيدينا..
توفير النفقات كان أول تلك الأسباب، فقد تبين بعد فترة قصيرة أن اللجوء إلى تجنيد غير المصريين في القوة الجديدة سوف يكلف الخزينة المصرية المنهكة مبالغ طائلة لا تقوى عليها، وأن موافقة الدولة المحتلة على مثل هذه الفكرة كانت تعنى ببساطة التضحية بمصالح الدائنين الأوروبيين التي جاءت لحمايتها.
سبب آخر ناتج عن تشكيل الجندرمة من أخلاط من الأوروبيين على هذا النحو بكل ما هو مطلوب من انتشارها في المدن والأقاليم المصرية سوف يفضى في النهاية إلى تزايد شعور المصريين بوطأة الوجود الأجنبي بكل ما يمكن أن يترتب على هذا الشعور من استنفارهم لمواجهته.
السبب الأخير أن الأفكار المقترحة كانت يمكن أن تؤدى في النهاية إلى استبعاد الوجود البريطاني من هذه القوة وهو ما لم يكن اللورد دفرين أو المسئولين في الخارجية في لندن على استعداد لقبوله، فقد كان هذا الوجود بمثابة قضية محورية لصانع القرار الاحتلالى!
أسفر التقرير السرى عن تلك الحقيقة عندما أشار إلى أنه سيوعز للخديو أن يطلب وضع الجندرمة مباشرة كالجيش "تحت إدارة أوروبى ونائب عنه معهما أربعة أوروبيين بوظيفة مفتش" فضلاً عن مجموعة من الضباط وصف الضباط يصل عددهم إلى ثمانية عشر".
وبملاحظة أن نفس الأسس كانت قد تقررت للجيش الجديد، القيادات الصغيرة والأنفار من المصريين بينما يركز البريطانيون القيادات الكبيرة في أيديهم، يصبح مفهوماً أن الأجانب الذين كانوا سيتولون المناصب الكبيرة للجندرمة سوف يكونون من الانجليز.
ولم يمض وقت طويل حتى فرضت تلك الحقيقة نفسها حين تم تكليف عسكرى بريطاني هو فالنيتن بيكر قائد للجندرمة، وقد ارتبطت قصة هذه القوة العسكرية بتلك الشخصية الأمر الذى يحتاج إلى وقفة..
فالتنين بيكر هو الشقيق الأصغر للسير صمويل بيكر المكتشف الانجليزى الشهير، وقد خدم في الجيش البريطاني ثم التحق بالجيش التركى وشارك في الحرب الروسية - التركية 1876 - 1877 وأبلى فيها بلاء حسناً فأنعم عليه السلطان برتبة الفريق ولقب الباشوية، وقد وصل إلى مصر في أعقاب الاحتلال متطلعاً إلى قيادة الجيش المصرى الجديد الذى تقرر تشكيله.
فقد رأى الرجل أنه جمع بين الحسنيين.. رتبة الفريق في الجيش العثمانى الذى كان يعتبر الجيش المصرى جزءاً منه، ولو من الناحية النظرية، والجنسية البريطانية.. الدولة المحتلة.
بيد أن ذلك لم يشفع له فالتفتيش في ملفه الشخصى كشف أنه كان قد فصل من الجيش البريطاني عان 1875 لجريمة ارتكبها، في نفس الوقت لم يكن بإمكان سلطات الاحتلال تجاهل الرجل كلية، ومن ثم رئى الاكتفاء بإسناد قيادة الجندرمة إليه، وكان له قصة معها..
***
يحرر الأهرام شهادة الميلاد للجندرمة بأول فبراير عام 1883 بالخبر الذى ساقه في العدد رقم 1559 وجاء فيه:
"اصطف صباح اليوم نفر الجندرمة في الشارع الموصل إلى قرة قول (قسم شرطة) الإسماعيلية أمام قنصلاتو إنكلترا الجنرالية وكان عددهم نحو الألفين فاستعرض سعادة الجنرال باكر باشا وحضر الاستعراض سعادة اللورد دفرين والسير مالت (القنصل البريطاني العام) والجنرال وود (الذى أسندت إليه قيادة الجيش المصرى الجديد) وبعض ضباط الإنكليز وقد سروا جميعاً من حسن انتظام العساكر ونظافتهم واستمر العرض نحو ساعة وشكر الحضور عليه سعادة الجنرال باكر باشا.."
وخلال الشهرين السابقين على يوم الميلاد تضمن الأهرام أخباراً متناثرة حول القوة الجديدة تكشف عما يجرى في أورقة الحكومتين المصرية والبريطانية لإعدادها..
أحد هذه الأخبار ينم عن أنه قد نشأت حالة من النزاع حول تبعية الجندرمة، لوزارة الحربية أم لوزارة الداخلية، وهو النزاع الذى انتهى بالاستقرار على أن يكون التبعية لوزارة الأخيرة بحكم أن عمل الجندرمة سوف يتمحور في بالأساس حول توفر الأمن الداخلى.
خبر آخر حول طبيعة الفرسان والمشاة في القوة الجديدة وطبيعة التوازن بينهم، وما يترتب على وجود الأولين من تثبيت هيبة الحكومة في النفوس، وما يترتب عليه أيضاً من زيادة التكاليف!
خبر ثالث عن الضباط الأوروبيين الذين تحولوا بقدرة قادر إلى انجليز الأمر الذى دعا الأهراء إلى ابداء تعجبه وتساءل محرره هل يمكن أن يأتي الوقت لتنتقل تلك القيادة إلى يد أوروبية أخرى.. فرنسية مثلاً!
وقد تضمن هذا الخبر حول الضباط الانجليز، فضلاً عن القيادة العامة التي عقدت لبيكر باشا أن يكون رئيس الجندرمة "في الأرياف لواء انكليزياً وضباطها من انكليزيين ومصريين ويكون عدد الضباط في وجه بحرى وقبلى من الإنكليز فوق العشرة".
غير أن الأخبار التي جاءت بعد إعلان الميلاد كانت أخطر..
***
رنة الاستبشار غلبت على تقارير مندوبى الأهرام في عواصم المديريات بوصول قوات الجندرمة إليها، وهو ما حفلت به أعداد الجريدة بعد ان ساقت يوم 7 فبراير خبراً مفاده: "يتم هذا الأسبوع توزيع الجندرمة إلى جميع جهات الأرياف والهمة منصرفة إلى ذلك".
مندوب الأهرام في بورسعيد يبشر أهالى الثغر بأن "بلوكاً من الجندرمة سيصل يوم السبت"!
مندوب المنصورة كان أكثر نشاطاً في تغطية أخبار الجندرمة فيقول في رسالة له نشرها الأهرام في 5 يونية: "أفدتكم سابقاً عن حضور 50 نفر من الجندرمة البيادة والآن هنا ثلاثة بلوكات عددها 150 نفراً من الجندرمة السوارى للتجول في أنحاء المديرية وملاحظة الخفراء في كل بلدة وهم يقدمون للمديرية تقريراً يومياً عما عهد إليهم من هذا النحو..".
مندوب المنوفية لا يكتفى فسحب بالأخبار وانما يعرب عن "شكر الجميع من سلوك عساكر الجندرمة عندنا وعائد الفضل في ذلك إلى سهر حضرات.." ثم يسوق مجموعة من أسماء اليوزباشية (النقباء) "ومن يتبعهم من الملازمين"!
وفى الصعيد ومن طهطا في مديرية جرجا ينوه مندوب الجريدة بحضور "الكولونيل مكار مفتش الجندرمة بالمديرية وتفقدها أحوال عساكرها الموجودين بالبندر وأماكن مبيتهم وحال خيولهم".
في نفس الوقت يتتبع الأهرام أخبار القضايا التي تعالجها الجندرمة هنا وهناك، خاصة في الأقاليم، ولعل أهم ما نشره في هذا الصدد ما أسماه بـ "نادرة تذهل القاضي والدانى" والتي أرسل بها مندوبها في محلة أبو على..
والقصة الطويلة التي رواها الأهرام في عدده الصادر يوم 8 مايو عام 1883 تقول أن أحد ملاك الأراضى، وينم اسمه عن كونه شامياً.. أسعد "بوسماح" قد ذهب لتقاضى ايجار أرضه فقابله المؤجر بسببه هو والحكومة(!) وأن الرجل استجار بالمركز ونترك لمراسل الأهرام استكمال القصة، قال: ".. فحضر نفر من الجندرمة للمحافظة على محلة أبو على وأخذت النساء تولول لافظات الكلام المهيج الذى يكدر الراحة ويسلب الأمنية فدخلت الجندرمة العزبة وعومل الشقى بما يستحقه".
***
يثر الدهشة أنه لم تنقض عشرة شهور عل تحرير شهادة ميلاد هذه القوة الغريبة في التاريخ المصرى إلا وكتبت شهادة الوفاة، ومع أن الأهرام سجل تلك الشهادة الأخيره في عدده الصادر يوم 4 ديسمبر، إلا أنه لم يكتب فيها أسباب الوفاة!
لعل ذلك يدعونا إلى أن نقرأ فيما لم يكتبه الأهرام..
فالواضح أنه رغم كل الترحيب الذى قابلت به الصحيفة الجندرمة فإنها لم تجد سوى القليل لتكتبه عن وجوه نشاطها الأمر الذى ينم عن أن الأوضاع في الريف المصرى، خاصة من ناحية هجمات البدو أو الدفاع عن قناة السويس لم تكن تدعو إلى كل ذلك القلق.
من جانب آخر كان من بين ما نشره الأهرام خبران على جانب كبير من الأهمية: أحدهما عن قوة الجندرمة في بورسعيد التي اكتشف أن أحد ضباطها كان من رجال الثورة "ونسبت إليه بعض الحوادث في كفر الدورا" الأمر الذى أعرب معه المحرر عن دهشته،خاصة وأن "ضباط الجندرمة لا يقبلون إلا متى كانت معهم شهادة الفرز الذى جرى بمعرفة قومسيون مؤلف من رجال مخلصين".
الخبر الثانى عن إقالة قومندان جندرمة طنطا الذى عليه عليه بقوله: "وهذا تنبيه كاف لجميع رؤساء الجندرمة على تباين مراكزهم كيما يواظبوا على تتميم واجباتهم بكل ضبط وربط طبقاً لمقاصد الحضرة الخديوية الفخيمة".
بمعنى آخر ان الممارسة أثبتت قصوراً بدد الكثير من أسباب الاستبشار التي قوبلت بها الجندرمة في عامها الأول والأخير!
الجانب الثالث ما نتج عن انتشار الثورة المهدية في السودان من تزايد الحاجة إلى المال لدعم قوة الجيش المصرى الجديد، ومن ثم فقد رئى الاستفادة بالاعتمادات المخصصة للجندرمة لهذا الجيش، بل رئى الاستغناء عن خدمة الجندرمة وتسريح من يرغب من رجالها ونقل من يقبل منهم الاشتراك في القتال الدائر في السودان.
وبالفعل ذهب بيكر باشا مع قوة الجندرمة المصرية إلى مديرية البحر الأحرم السودانية في أوائل عام 1884 وقبل أن يمضى وقت طويل لقيت حتفها على أيدى أنصار المهدية في شرق السودان الذين كانوا تحت قيادة عثمان دقنه، وذلك في معركة التيب في ضواحي ترنكتات، مما كان بمثابة كتابة شهادة الوفاة لتلك القوة، بل ولمؤسسها فالنتين بيكر باشا!
صحيح أن الرجل وعدد قليلاً من رجال القوة قد نجوا بجلودهم من المذبحة إلا أنه قد عاد إلى مصر بعد أن فقد كل سمعته العسكرية وتوفى في مدينة المحلة الكبرى بعد أقل من ثلاثة أعوام مقهوراً على حلمه الذى تبدد.. حلم انشاء قوة عسكرية تحافظ على أمن مصر وترتبط باسمه.. قوة اسمها الجندرمة!

صورة من المقال: