ads

Bookmark and Share

الجمعة، 16 مارس 2018

019 يوم حريق الأهرام!

يوم حريق الأهرام!
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 25 نوفمبر 1993م - 11 جمادى الآخرة 1414هـ
(ملحوظة: تمت إضافة المراجع وإضافات من الكتاب)

".. دائرة المسيو سرسق بشارع مطبعة الاهرام، دائرتان للمسيو أنطون أديب بشارع مطبعة الأهرام بما فيه إدارة الأهرام ومطبعتها، دائرة الخواجات بسترس وتوينى بشارع مطبعة الأهرام" كنت بعضاً مما جاء في بيان طويل "لأسماء المحلات التي أصيبت بالحريق في ثغر الإسكندرية وأسماء أصحابها" فيما نشره الأهرام في عدده رقم 1421 الصادر في 14 أغسطس عام 1882.
الحريق الذى يشير إليه الأهرام وراح ضحيته المطبعة والإدارة هو الحريق الذى أشعل في الإسكندرية في اليوم التالى لضربها من قطع الأسطول البريطاني في 11 يوليو من نفس العام، وهو يشكل فصلاً من فصول الصيف الدامى الذى بدأت نذره منذ مظاهرة "فسحة عابدين" في 9 سبتمبر عام 1881، على حد تعبير الأهرام، ولم تتحقق آمال الصحيفة، أو أصحابها، من أن الاستجابة لمطالب "الجهادية" سوف تضع حداً للأزمة..
فقد أعقب تلك الاستجابة طريق طويل من الأحداث الثورية يمكن تتبعه من خلال جملة من العلامات الرئيسية، وهى علامات معروفة في التاريخ المصرى، بيد أنه من المطلوب التذكير بها هنا سعياً بعد ذلك إلى تتبع موقف "الأهرام" منها..
العلامة رقم (1) ما تبع حادثة "الفسحة" من سقوط وزارة رياض وتأليف وزارة شريف التي فرض عليها العسكريون أولاً استبقاء البارودى وزيراً للجهادية والذى قبله الرجل على مضض(!)، تبع ذلك محاولة من جانب رئيس الوزراء الجديد لإبعاد الجيش عن السياسة من خلال اخراج عرابى من القاهرة إلى رأس الوادى، وهى المحاولة التي أتت بعكس المطولب منها فقد حول عرابى مسيرته إلى مقره الجديد إلى مظاهرة شعبية تأكدت من خلالها زعامته، الأمر الذى دعا الحكومة إلى اعادته للقاهرة.
العلامة رقم (2) تتجسد في الخلاف الذى دار بين الزعامة الثورية من جانب وبين شريف والخديو والقوى الأوربية، التي أسفرت عن موقفها من خلال المذكرتين اللتين تقدمت بهما إنجلترا وفرنسا في 7 و 26 يناير عام 1882، من جانب آخر، حول صلاحيات مجلس النواب الذى شرع في تكوينه، وما إذا كان من حق هذا المجلس الاشراف على شئون مصر المالية أم يحرم من هذا الحق، وهو الخلاف الذى أدى إلى استقالة شريف.
العلامة رقم (3) تبدت في تشكيل وزارة محمود سامى البارودى في 4 فبراير عام 1882الذى ارتآه المؤرخون "انتصاراً لإرادة الثورة" ليس فقط لما كان معلوماً من مساندة الرجل للتيار الثورى، وانما الأهم من ذلك لتولى عرابى "وزارة الجهادية" في الوزارة الجديدة، الأمر الذى استتبعه السيطرة الفعلية من هؤلاء على أداة الحكم.
العلامة رقم (4) فيما عرف "بمؤامرة الجراكسة"، فقد اتهم كبار ضباطهم بالتآمر على اغتيال زعماء الثورة وقدموا لمحاكمة عسكرية حكمت بنفى أربعين منهم إلى أقاصى السودان، وأدى رفض الخديو التصديق على تلك الأحكام بإيعاز من القنصلين الانجليزى والفرنسى، إلى استحكام الأزمة بين الطرفين، وسعى كل منهما إلى التخلص من الآخر، ومع تدخل النواب ورجال الدين تمت تسوية الأزمة، ولكن بدأ ما يمكن توصيفه بمرحلة التربص بين توفيق والثوار.
العلامة رقم (5) والأخيرة تبدت في الوضع الشاذ الذى أعقب استقالة وزارة البارودى في 25 مايو عام 1882 نتيجة لمذكرة مشتركة ثالثة طالبت بهذه الاستقالة وبإبعاد عرابى عن الجهادية (الحربية)، فقد بقيت مصر بعد هذه الاستقالة 26 يوماً، وحتى 21 يونيه بدون وزارة، واستمر يشرف على تصريف الأمور وكلاء الوزارات وعلى الحفاظ على الأمن أحمد عرابى من خلال موقعه الذى احتفظ به وزيراً للجهادية.
وفى تلك الأيما التي قاربت من الأربعة أسابيع شهدت مصر أحداثاً جساماً، نرى قبل الاقتراب منها تقليب صفحات الأهرام للتعرف على موقفه من تتابع الأحداث خلال الشهور السابقة.
***
السير على حبل مشدود أصدق توصيف يمكن أن يخرج به أي قارئ مدقق لأعداد الأهرام خلال ما يناهز الشهور التسعة الممتدة بين 9 سبتمبر عام 1881 و 5 يونيو من العام التالى حين اختار الاخوان تقلا إيقاف صدور الجريدة حتى تنجلى الأمور، وهذه قصة سوف نعرض لها في موقع آخر من تلك الحلقة.
صنع هذا "الجبل المشدود" رغبة ظاهرة من جانب الجريدة في الإبقاء على ولائها للخديو توفيق، سواء للعلاقة التي ربطته بآل تقلا منذ أواخر عصر أبيه، أو لاعتبارهم إياه ممثلاً للسلطة الشرعية، ولم يكن لديهم من أسباب الثورة عليه تلك التي كانت لدى المصريين الذين شاركوا في الثورة، وفى استرضاء القوة الثوري بقيادة "أحمد بك عرابى" التي كانت تكب أرضاً كل يوم.
وبينما استمرت رغبة الأهرام في الولاء للخديو ظاهرة قبل الأحداث الثورية، وفى خضمها، ثم بعدها، فإن المأزق الذى وقعت فيه الصحيفة بدا في محاولتها بناء علاقة جيدة مع قيادة الثورة، وهى في هذا اتبعت سياسات عديدة..
الترحيب بحكومة شريف باشا التي جاءت بناء على المطالب التي تقدم بها العرابيون يوم الفسحة.
وعندما تطورت الأمور وتولى "صاحب العزة أحمد بك عرابى" وكالة نظارة الجهادية أبدت عدم شكها "بأن هذه النظارة ستنال بحضرات سعادتلو ناظرها "البارودى" ووكيلها ما يجعلها قدوة في النظام"!
وبعد أن بدأ عرابى في ممارسة ماهام منصبه في الوزارة جاء تعليق الأهرام بأن ذلك جاء "بمثابة إعطاء القوس لباريها"(!)، وذلك بعد تقديم وصف للاستقبال الحافل الذى لقيه عرابى في الوزارة.
ويقدم الخبر الذى نشره الأهرام في 14 يناير عام 1882 نموذجاً للموقف الاسترضائى الذى اتخده من الزعامة الثورية.. جاء تحت عنوان "الجهادية" ما نصه "نرى سعادة الهمام محمود باشا سامى يشتغل ف إدارة نظارته حق الشغل وكفاه أنه حزوم لا يعرف التردد وهى صفة من أفضل معدات الإدارة ونرى نظارته آخذه في الاقتصاد المحكم ورؤساء الآلايات عاملين تحت رياسة الهمام أحمد بك عرابى بتكميل الآلايات الجديدة غير مبالين بالأتعاب"!
ووصل الأمر بالأخوين تقلا في اتباع هذه السياسة إلى درجة أنهما خرجا عن بعض تقاليد الأهرام حين أفردا جانباً من الصفحة الأولى من العدد رقم 1343 لنشر نصر ترجمة "المقابلة التي تمت بين سعادتلو عرابى بك ناظر الجهادية ومراسل جريدة الطان".
من جانب آخر وحرصاً من الأهرام على عدم التورط في نشر أخبار الأزمات المتلاحقة فقد كان يصوغها بشكل يتجنب مع اتخاذ أي موقف(!) وتتعدد الأمثلة..
عن الخلاف الذى نشب بين عرابى ورئيس مجلس النواب سلطان باشا، عندما تنشر جريدة التايمز اللندنية خبراً مؤداه أن الأول قد أوسع الأخير تهديداً "ويده على قبضة السيف إشارة إلى ما يحل بالنواب إن خالفوا الحزب الجهادى (العسكرى)"، يصف الأهرام ذلك "بالاختلافات التي لم تكن لتخطر على بال".
يبدو ذلك بشكل أوضح في التعليقات على "مؤامرة الجراكسة" التي كانت مصدراً للخلاف بين الخديو ووزارة البارودى، أو وزارة الثورة، الذى بدأ في شكل من الحياد البارد.. بل والبارد جداً.
أو خبر نشره الأهرام عن المؤامرة وضعها فيها في مرتبة الأقاويل والشائعات!
يصمت بعد ذلك لنحو أسبوع بينما مصر كلها مشغولة بأخبارها، وفى نهاية ذلك الأسبوع يسوق خبراً مقتضباً بأن المجلس العسكرى سيصدر الحكم على "13 شخصاً بنزع الرتب عنهم ونفيهم جميعاً"، ويصمت مرة أخرى لأكثر من أسبوعين ليقول: "شاغل الجمهور وموضوع أحاديثهم حكم المجلس العسكرى وتنفيذه وقد تشعبت الأقاويل وتنوعت دروباً فبتنا لا نفرق بين الصحيح منها وغيره"!
من جانب آخير مع كل هذا الحذر لم يغفل الأهرام التعبير عن ولائه للخديو في سياق تقديمه لأخبار عرابى كأن يقول وهو يسوق خبر تعيين الرجل وكيلاً للجهادية: " اقتبل "استقبل" سمو الخديو أمس سعادة أحمد بك عرابى وكيل الجهادية فشكر للجناب العالى التفاته بتقليده هذه الوظيفة"(!)
وبينما كان يعلم الجميع أن موقف توفيق من الحكم العسكرى الذى صدر في قضية مؤامرة الجراكسة كان سبباً في أسوأ نزاع مع حكومة الثورة، الأمر الذى أدى إلى استقالة البارودى تطلع الأهرام علينا بقولها: "أننا لم نكن لنشك بفضل سموه الذى حق التلطيف ولا بما لوزارتنا السامية من حسن السريرة وعليه فإننا نعتبر أن هذه المسألة أمست في حكم الماضى"!
بيد أن كل ذلك لم يجد الأهرام نفعاً فالثورات لها منطق آخر.
***
يقوم منطق الثورات في العادة على أن "من ليس معنا فهو علينا" ومن ثم فإن سياسة السير على الحبال المشدودة عمرها قصير مهما بلغت مهارة السائرين..
وقد بدأ الثوار بصناعة "من معنا"، وقد قدم عبد الله النديم أكثر صور هؤلاء بروزاً، والذى كان على صلة وثيقة بأحمد عرابى شخصياً، وتشير المراجع إلى أن الأخير كان هو الذى أشار على النديم بالكف عن الاستمرار في اصدار "التنكيت والتبكيت" ذات الطابع الهزلى وأنه هو الذى اختار للصحيفة الجديدة التي أصدرها النديم اسم "الطائف" تيمناً "بالبلدة الموجودة بهذا الاسم في الحجاز"، وتفاؤلاً بأنها ستطوف البلاد الإسلامية، وتسجل أحد المصادر المعاصرة أن الطائف كانت "لسان العرابيين الرسمي وترجمانهم الصحيح"!
تبعوا ذلك بأن رفضوا "من علينا" وقد دفع ثمن تلك السياسات بالأساس الصحفيون الشوام على اعتبار أنه كانت لهم اليد الطولى في إصدار الصحف الأهلية في ذلك الوقت.
لم يفرق الثوار في ذلك الوقت بين الصحفيين من أصحاب التوجهات الوطنية الذين عانوا من السياسات الاستبدادية لرياض باشا في مستهل عهد توفيق وبين غيرهم؟؟
فقد شجع تطور الأمور على النحو الذى أدى إلى اسقاط رياض في 9 سبتمبر عام 1881 إلى عودة رجل مثل أديب اسحق، صاحب جريدة التجارة الشهيرة التي كانت لساناً لجماعة الأفغانى، وشروعه في اصدار جريدة باسم "مصر"، غير أن العرابيين لم يستريحوا لما اعتبروه اعتدالاً في سياساتها الأمر الذى دفعه إلى الكف عن الكتابة فيها ثم توقف صدور الصحيفة بعد بضعة أشهر من صدورها.
وكان من الطبيعى أن يعانى "الأهرام" من تلك السياسات رغم كل ما تذرع به من أسباب الحرص، فقد نالت الجريدة خلال أسبوع واحد، بين يومى 17 و 22 أبريل عام 1882 إنذارين، ولأسباب لم تخف بواعثها على صاحبى الأهرام..
الإنذار الأول تعلل بأن الأهرام قد نقل من جريدة فرنسية خبراً عن المؤامرة على عرابى وقد طالبت إدارة المطبوعات الجديدة "بضرورة تحرى الأمر حتى يثبت صدقه أو كذبه وأنه لا يسوغ للصحيفة نشر كل ما يقع تحت يدها من أخبار".
الإنذار الثانى الذى أجبر الأهرام على نشره في صدر صفحته الأولى في عدده رقم 1377 بتاريخ 24 أبريل عام 1882 كان لأغرب سبب يمكن أن تنذر بسببه جريدة.. أنها "نشرت خبراً يتعلق بفصل عزت أفندى من خدمة المالية وقد تضمنت هذه الجملة من الكلام ما لا يليق نشره مع جهلكم بحقيقة الحال"!
والواضح أن السلطات الثورية قد استهدفت من وراء بعث رسالة إلى أصحاب الاهرام بأن يحملوا أمتعتهم ويرحلوا، وقد زاد من وضوح تلك الرسالة عمليات الاغلاق التي كانت قد أصابت عدداً من الصحف الشامية خلال الأسابيع القليلة السابقة، وقد فهم الاخوان تقلا الرسالة!
فهما من جانب اكتفيا بنشر الإنذارات دون أي تعقيب، وهما من جانب آخر قد توقفا عن اصدار الأهرام بعد العدد 1411 الصادر في 5 يونيه عام 1882(!)
***
امتنع الأهرام عن الصدور لنحو شهرين، وحتى أول أغسطس من نفس العام، وقد شهدت تلك الفترة، على قصرها حدثين من أهم أحداث الثورة العرابية.. الحادثة الأولى التي جرت يوم 11 يونية والثانية بعد ذلك بشهر بالضبط.. يوم 11 يوليو.
حادثة 11 يونية أسماها البريطانيون بالمذبحة Massacre، ثم تبعهم في ذلك آخرون فتبنوا التسمية والتي ترجموها أحياناً أخرى بالمجزرة وثالثة بالمقتلة(!)
وقد افترض هؤلاء أنه لابد وأن يكون وراء ما جرى بالإسكندرية فى ذلك اليوم لون من المؤامرة، الأمر الذى دعا خصوم عرابى إلى اتهامه بتدبيرها، ودفع أنصاره إلى اتهام رجال الخديو مرة والانجليز مرة أخرى.
ولم يضع كثيرون في حسبانهم أن "المناخ العام" الذى ساد مصر وقتذاك كان يمكن أن يفضى إلى مثل هذه الحادثة، والتي وصفها أحد الكتاب الأمريكيين "بالشغب الدموى Bloody riot" والذى نراه وصفاً أدق.
يقدم أحد المعاصرين توصيفاً لهذا المناخ فيقول: "وكان منذ قدمت سفن حرب الدولتين (إنجلترا وفرنسا) قد أخذ الأجانب يفدون عليها أفواجاً وهو فرحون بها مطمئنون كأنهم لا يخشون بجوارها جائراً فكبر ذلك على العامة والسوقة من أهل الإسكندرية وحسبوه إهانة لهم وإذلالاً وظنوا أن الأجانب انما يريدون بأهل البلاد الشر فأظهروا التغيظ وبدت منهم دلائل الشر وأغلظوا في مخاطبة الأجانب فكان إذا كلم الواحد منهم أجنبياً هز له الرأس وأسبل الجفن توعداً وتهديداً فأحس الأجانب بما وراء ذلك وخافوا شر العاقبة فأخذوا في التأهب والاستعداد وأكثروا من شر البنادق والبارود واستخدام بعض عظمائهم بعض الأقوياء من أسافل اليونان وزعر الطليان"!
لم يكن غريباً مع ذلك ما حدث في ذلك اليوم والذى فجره الحادث المشهور بالمشاجرة التي جرت بين المالطى والمكارى المصرى، والذى انعكس بدوره على الأهرام..
فإذا كان الاخوان تقلا قد توقفا عن اصدار الصحيفة قبل الحادث بنحو أسبوع فانه عجل برحيلهما في أعقابه ضمن ألوف من الناس، خاصة من الأجانب الذين استقلوا ما توافر لهم من سبل النقل البحرى مغادرين البلاد، ورغم أن العديد من المصادر تشير إلى أن صاحبى الأهرام قد تركا الإسكندرية عائدين إلى جبل لبنان في أعقاب وقف اصدار الصحيفة إلا أن بشارة يشير في كتاباته في الأهرام في أعقاب إعادة إصدارها في أول أغسطس أنه كان موجوداً وقت شغب الإسكندرية الدموى والذى أسماه بالمجزرة.
من ناحية أخرى فقد تبنى الأهرام موقف خصوم الثورة باتهام عرابى بتدبير الحادثة، فتحت عنوان "مجزرة 11 يونيو" في عدده الصادر في 7 أغسطس قال: "ان العاصى (يقصد عرابى) وأخاه محمود البارودى بعثا بهذه المأمورية حسن موسى العقاد ونديم ولدينا براهين عديدة تؤيد حجتنا هذه؟؟"، غير أن هذا القول قد جاء بعد ضرب الإسكندرية وعودة أصحاب الأهرام وانسحاب الثوار من الميناء بكل تأثيرات ذلك على تغير موقف آلا تقلا، أو بشارة الذى كان قد سبق أخاه في العودة.
أثناء تغيب الأهرام أيضاً حدثت واقعة ضرب الإسكندرية في 11 يوليو وما استتبعها في اليوم التالى من إحراق المدينة من جانب بعض الضباط العرابيين، حيث تجمع المصادر على اتهام "سليمان سام" حكمدار الآلاى السادس، والذى اعترف بالفعل بأنه قد أصدر الأوامر بذلك، وقد علل البعض هذا العمل بأن من بدأ في احراق المدينة كان ما أصابها من قذائف الأسطول البريطاني وبأن الاستمرار في العملية من جانب العرابيين انما جاء تنفيذاً لسياسة "احراق الأرض" التي كان قد اتبعها الروس في مواجهة نابليون نحو موسكو قبل ذلك بسبعين عاماً بالضبط!
على أي الأحوال وكيفما كانت الأسباب وراء الحريق فان آثاره كانت محدودة في المناطق الشعبية، بحيث يمكن توصيفه بحريق من الدرجة الأولى، وفى المناطق الأوروبية تصاعدت درجات هذا الحريق إلى الدرجة الثانية والثالية، وقد دخلت منطقة وجود الأهرام قرب ميدان القناصل في أخطر هذه الدرجات.. الدرجة الثالثة!
يؤكد ذلك مشاهدات أحد رجال حاشية الخديو، أحمد شفيق، والذى قال بالحرف الواحد في مذكراته، عن يوم الحريق:
".. ومازلنا نسير بين هذه المناظر المؤلمة حتى دخلنا المدينة في وسط لهب الحرائق التي كانت مشتعلة في الأحياء المهمة، وكانت فظيعة لا سيما في شارع شريف وميدان المنشية (القناصل) الذى بدا لنا كأتون نار. وما كنا نتصور أننا سنجتاز هذا الميدان دون أن نصبح طعاماً للنيران".
لوم يكن مقدراً أن تنجو مطبعة الأهرام وإدارته من هذا الأتون، وكان على بشارة بك تقلا بعد عودته إلى الإسكندرية في أعقاب جلاء الجيش المصرى واحتلال البريطانيين لها أن يتعامل مع هذا الواقع الجديد.. خرائب الجريدة.
وكان من المحتم أن تترك تلك الأوضاع أثرها ليس على نفسية الرجل فحسب وانما الأهم من ذلك على سياسات الأهرام خلال ما يقرب من شهر ونصف الشهر منذ عودته وحتى دخول قوات الجنرال ولسلى إلى القاهرة، وهى سياسات استمرت محل جدل شديد بين المعنيين بتاريخ الحركة الوطنية على وجه العموم، وتاريخ الصحافة المصرية على وجه الخصوص، وتاريخ الأهرام على وجه الأخص، الأمر الذى يستحق افراد حلقة لتلك الأيام الأربعة والأربعين بين أول أغسطس و 13 سبتمبر عام 1882، وربما بعد ذلك بقليل!
---
مراجع:
أعداد الأهرام
رقم العدد التاريخ
1292 5 يناير عام 1882
1293 7 يناير عام 1882
1294 9 يناير عام 1882
1299 14 يناير عام 1882
1302 18 يناير عام 1882
1311 28 يناير عام 1882
1329 23 يناير عام 1882
1342 23 فبراير عام 1882
1343 11 مارس عام 1882
1355 28 مارس عام 1882
1367 13 أبريل عام 1882
1368 14 أبريل عام 1882
1373 19 أبريل عام 1882
1377 24 أبريل عام 1882
1387 5 مايو عام 1882
1389 8 مايو عام 1882
1411 5 يونية عام 1882
1416 7 أغسطس عام 1882
1421 14 أغسطس عام 1882
1422 18 أغسطس عام 1882
1424 21 أغسطس عام 1882
1427 24 أغسطس عام 1882
1433 30 أغسطس عام 1882

- أحمد شفيق: مذكراتى في نصف قرن ج1، القاهرة 1934م.
- ميخائيل شاروبيم: الكافى في تاريخ مصر القديم والحديث ج4، القاهرة 1899م.
- تيودور روذشتين: تاريخ المسألة المصرية 1875 - 1910، ترجمة عبد الهادى العبادى، محمد بدران، القاهرة 1923م.
- عبد المنعم إبراهيم الدسوقى الجميعى: الثورة العرابية - بحوث ودراسات وثائقية، القاهرة 1982م.
- عبد المنعم إبراهيم الدسوقى الجميعى: عبد الله النديم - ودوره في الحركة السياسية والاجتماعية، القاهرة 1980م.
- سمير محمد طه: أحمد عرابى ودوره في الحياة السياسية المصرية، القاهرة 1986م.
-Cromer: Modern Egypt، Vol I Laudor 1908.
- Wright، L.C، United States Policy toward Egypt، 1835 - 1914.

صورة من المقال: