ads

Bookmark and Share

الجمعة، 16 مارس 2018

017 تداخل الأجنبيين فى بر مصر!

تداخل الأجنبيين فى بر مصر!
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 11 نوفمبر 1993م - 26 جمادى الأولى 1414هـ
(ملحوظة: تمت إضافة المراجع وإضافات من الكتاب)

تحت هذا العنوان تابع الأهرام تطورات التدخل الأوروبى في مصر خلال السنوات الخمس التي انقضت بين صدور "1876" وبين قيام الثورة المصرية المعروفة بالثورة العرابية "1881"، وهى السنوات التي شهدت سرعة خطى هذا التدخل على النحو الذى أدى في نهاية الأمر إلى وقوع "البر" في أيدى قوة من هؤلاء "الأجنبيين"!
بدت هذه السرعة من أنه مع صدور الأهرام كانت الأزمة المالية قد بلغت ذروتها وأخذت مضاعفاته السياسية تفرض نفسها على الساحة المصرية، فقبل صدور الصحيفة بثلاثة شهور أنشئ صندوق الدين "مايو 1876" وبعد صدورها بشهرين فرضت الرقابة الثنائية الإنجليزية - الفرنسية على إيرادات الحكومة المصرية ومصروفاتها"!"
ولا ينقضى سوى عام إلا قليلاً وتترجم أعمال "تداخل الأجنبيين" إلى تدخل سياسى فاقع سواء في لجنة التحقيق أو تشكيل الوزارة المصرية الأول، والتي أسميت بالوزارة الأوروبية، ليس فقط لاحتلال وزيرين أوربيين لاثنين من مقاعد الوزارة الستة وانما لأنه كان لهذين الهيمنة الفعلية على الوزارة الأولى.
باختصار أصبح "تداخل الأجنبيين في بر مصر" حقيقة واقعة كان على ساسة ذلك العصر وصحافته التعامل معها، ولم يكن الأهرام بعيداً عن هذا التعامل، ولأسباب عديدة..
لم يكن بعيداً عنه بحكم نشأته السكندرية حيث كان الشعور بالوجود الأجنبي أكثر وطأة من أي مكان آخر، ففضلاً عن الجاليات الأوروبية الكبيرة المتمركزة في الميناء الكبير، فقد استمر مقراً لغالبية ممثلي دول "بلاد بر" الدبلوماسيين.
لم يكن بعيداً أيضاً بحكم الاهتمام الكبير الذى أولته الصحيفة منذ نشأتها لمجريات الأمور الدولية، وهو اهتمام بدا في أشكال مختلفة في تحريرها. سواء من تحصيص الصفحة الأولى للتلغرافات الخارجية التي كانت تصلها من سائر العواصم الأوروبية أو النقل عن المجلات والصحف التي تصلها من تلك العواصم، فضلاً عن متابعة الأحداث الكبيرة التي كانت أطرافها بعض القوى الأوروبية ووصل الاهتمام في هذا الشأن إلى أن كان "الأهرام" أول صحيفة عربية تقيم لها مكتباً في عاصمة أوروبية مما ينم عن حجم الاهتمام المبكر للصحيفة بالعالم الخارجي.
يشير إلى ذلك الخبر الذى نشره الأهرام في عدده رقم 170 الصادر في 6 نوفمبر عام 1879، والذى جاء فيه:
"نعلن عن إقامتنا مكتباً حاذقاً في مدينة باريز عاصمة الأمة الفرنسوية له تمام الاطلاع على ما يقع من الحوادث الكلية والجزئية.."
لم يكن بعيداً أخيراً بحكم ارتباطات آل تقلا مع فرنسا، وهى ارتباطات أتوا بها من بر الشام في جبل لبنان وازدادت توثقاً في بر مصر.. في الإسكندرية!
***
مظاهرة الضباط التي قامت في 23 فبراير 1879 كأحد مظاهر الرفض لسياسات "الوزارة الأوروبية" خلفت مضاعفات أدت إلى تكريس هذا التدخل، فقد تألفت الوزارة الثانية في تاريخ مصر الحديث برئاسة ولى العهد "محمد توفيق باشا"، وقد استمر الوزيران الأوروبيان في موقعيهما بها، ولكن بصلاحيات أكبر"!" حيث أصبح لهما حق الاعتراض "الفيتو" على أي قرار لا يتوافق مع مصالح الدولتين الكبريين، فرنسا وانجلترا، مما كان يعنى تكريس "تداخل الأجنبيين" الأمر الذى كان لا بد وأن يثير التعليقات والهواجس أيضاً"!" وهو ما نقرأه بين سطور الأهرام قبل أن نقرأه في تلك السطور!
في مقال احتل أغلب الصفحة الأولى من العدد الصادر في 20 مارس 1879، أي بعد عشرة أيام من تشكيل الوزارة التوفيقية استعرضت الجريدة "تداخل أوروبا في أحكامنا "شئوننا" وضع كاتب المقال توصيفاً لموقف الدول الأوربية من التدخل في الشئون المصرية، وكانت في رأيه روسيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وانجلترا وفرنسا، وهو توصيف لم يختلف كثيراً عما طرحته الكتابات العلمية التي تناولت هذا الموضوع بعد عشرات السنين من تاريخ هذا المقال..
قام هذا التوصيف على التمييز بين موقف الدول الأربع الأولى: روسيا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، والدولتين الأخيرتين، فرنسا وانجلترا.
روسيا كانت ترى أن الطريق الى استنبول يمر عبر القاهرة، وكما قال "الأهرام" انها كانت تأمل "أن يجر إنكلترا الطمع إلى الامتلاك "أي امتلاك مصر" فتنزع الروسية إلى إتمام عملها في العثمانية"!
ألمانيا كانت تسعى إلى توظيف المسألة المصرية في الإيقاع بين لندن وباريس مما كان يشكل ركيزة أساسية لسياسات المستشار الألماني الشهير "بسمارك" وهو ما عبرت عنه الأهرام في موقع آخر من المقال بالقول: "وأما ألمانيا فتروم أن يكون بين الدولتين اللتين لهما الصالح خلاف لتؤوب فرنسا كاسفة البال فتصفو الكأس للبرنس بسمارك"!
النمسا وإيطاليا يشخص "الأهرام" موقفهما على نحو طريف في قوله: وأما أرستريا "النمسا" وإيطاليا فغايتهما الظاهرة حفظ الموازنة "التوازن" وعدم العبث بالحقوق والباطنة "الحسد والضغينة"!
وخلص الأهرام بعد هذا الاستعراض إلى أن الدولتين صاحبتى "المصالح الأفضل" أي إنجلترا وفرنسا في مواجهة ذلك قد سعيتا إلى الوفاق و "أصرتا على حفظ حقوقهما واختلستا الفرص وقد فازتا بالمرام"!
أما "الفوز بالمرام" الذى عنته الصحيفة فقد كانت تقصد به دخول الوزيرين الفرنسي والانجليزى في وزارة نوبار..
يرتب الأهرام موقفه تأسيساً على هذا الفهم، وهو موقف يقوم على أن "تداخل الأجنبيين في أحكامنا نشأ عن سوء سياستنا ولا ريب أن عدم التداخل أفضل ولكن جنينا على نفوسنا"!
وبعد أن يسلم الأهرام بأن الجناية على النفس جعلت لا محيص من هذا التدخل فإن الخيار أمام مصر، إما بالتدخل من مجموع الدول المذكورة وهو ما ارتآه "يعود بالضرر علينا"، وإما باقتصار التدخل على كل من إنجلترا وفرنسا وهو ما أفرد له بقية المقال.. جاء فيه:
"إن العالم على رأيين متباينين هل اتفاق الدولتين أفضل لصالح مصر أم اختلافهما فالفريق الواحد "الأول" مطلق الاعتقاد أن اختلاف الدولتين أفضل لصالح هذا البر "بر مصر".. والقسم الآخر يعتقد غير ذلك ويرى الصالح في الاتفاق لا في الخلاف..".
وفى وسط هذه الحيرة التي يعبر عنها "الأهرام" عما هو أفضل لمصر.. اتفاق الدولتين أو اختلافهما، تتضارب المواقف، ويتبنى الأهرام أحد هذه المواقف المتضاربة!
كان رأى الجريدة باختصار أن "اتفاقهما أفضل لبر مصر" وهو الرأي الذى استمرت تدلل على صحته في عدد من المقالات الرئيسية التي حرصت على أن تحتل الصفحة الأولى في أكثر من عدد من أعدادها..
سلم الأهرام في جانب من هذه المقالات أن "لانكلترة في مصر صالحاً غير منكر وهو مضاف إلى أسباب كلية أخصها سبب واحد مهم جداً وهو كونها سكة الهند لها وأنت تدرى أن الهند كنز بريتانيا"!
دلف من ذلك إلى القول أن الانجليز أمامهم للحفاظ على هذا الصالح واحد من ثلاثة: "إما ترك مصر وإما تداخلها في أعمالها لصيانة سطوتها وإما الاستيلاء عليها".
يعد استبعاد الاحتمال الأول لتناقضه مع تعاظم المصالح البريطانية استبعد الأهرام أيضاً الاحتمال الثالث، احتمال استيلاء انكلترة على "بر مصر" وكان في هذا مغرقاً في في التفاؤل!
اعتمد "الأهرام" في هذا الاستبعاد على ما اعتقده من قوة فرنسا التي لن تهجع على حد تعبيره والتي سوف "تحرك ضدها - أي ضد إنجلترا - جميع الجهات المتطرفة "النائية" وعضدها على ذلك دولة أمريكا التي لا تتوسم في الإنكليز إلا شراً.. وتلك الطامة الكبرى "بالنسبة لإنجلترا" والداهية الدهماء والبلية العظمى وبئس المصير"!!
لا يكون أمام إنجلترا مع هذا، فيما اعتقده الأهرام، إلا التدخل في مصر بالاتفاق مع فرنسا.
غير أنه يلفت النظر في أصحاب هذا الرأي أن توجساتهم من إنجلترا كانت تمسك بتلابيبهم منذ هذا الوقت المبكر، وبالمقابل كانوا أكثر اطمئناناً لموقف فرنسا..
ويذهب محرر الجريدة في ذلك إلى القول بأن سياسة فرنسا غير سياسة إنجلترا، فبينما لا تسعى الأولى إلى فتح البلاد "وذلك مبنى على لطف الحاسة"!!، فقد وصف الثانية بالطمع وحب الذات، أو كما قال بالحرف الواحد: "ولا يخفى أن الطمع الذى هو نتيجة محبة الذات يغشى على بصيرة صاحبه.. وقد نعتت دولة بريتانيا بمحبة الذات فأوجس الضعيف منها خوفاً"!
***
يصل "تداخل الأجنبيين" إلى ذروته الدرامية عندما تنجح حكومتا لندن وباريس في الإطاحة بالخديو إسماعيل، وهو أمر لابد وأن يكون قد نزل على رؤوس المصريين نزول الصاعقة، سواء لأنه إجراء لم يسبق للدولة العثمانية أن أقدمت عليه بعد تولى أسرة محمد على لحكم مصر قبل نحو ثلاثة أرباع القرن "1805 - 1879"، أو لما اكتسبه إسماعيل خلال الستة عشر عاماً التي حكمها من احاطة نفسه بأسباب الأبهة والهيلمان، الأمر الذى كان يصعب على خيال أي مصري أن يستوعب إمكانية الإطاحة "بأفندينا ولى النعم" خاصة عندما تأتى هذه الإطاحة على أيد أوروبية!
أعقب هذا الزلزال السياسى مجموعة توابع مكنت "الأجنبيين" أكثر من رقاب المصريين، أو كان هذا على الأقل ما استشعره غالبية العاملين في ميدان الحركة الوطنية..
توفيق الذى علق عليه رجال هذه الحركة أمالاً واسعة خيب تلك الآمال بعد أن أسفر عن نواياه الأوتوقراطية حين رفض التصديق على مشروع الدستور الذى كان قد وضعه شريف باشا، الأور الذى كان يرضى المراقبين الأجنبيين بحكم ما كان يتيحه هذا الدستور للنواب المصريين من اشراف على المالية المصرية وما يستتبع ذلك من تقلص نفوذهما.
تبع ذلك أن أمر بنفى السيد جمال الدين الأفغانى بتهمة أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا"!
الأخطر من ذلك بالنسبة للأهرام جملة الإجراءات القمعية التي اتخذتها حكومة رياض تجاه الصحافة، خاصة تلك الصحف التي كان معلوماً أنها تتبنى اتجاه الأفغانى، ولم يشفع لها أن أصحابها كانوا من الشوام، على رأس هذه الصحف "التجارة" و"مصر" اللتين كان يحررهما أديب اسحق وقد جاء صدور "الحكم من إدارة المطبوعات بإلغائهما مؤبداً" "!" في 30 نوفمبر 1879، بعدهما ألغيت جريدة "الإسكندرية" التي كان يصدرها سليم الحموى، أعقبها "المحروسة" التي كان يحررها سليم النقاش.. وكانت التهمة الأساسية التي وجهت لتلك الصحف هي تهمة الهجوم على الدول الأجنبية.
وفى هذه الظروف آثر الأهرام الحذر وغلب على مقالاته الطابع التحليلى دونما اتخاذ مواقف حادة يمكن أن تودى به، خاصة وأنه منذ اللحظة الأولى لخلع إسماعيل انحاز للخديو الجديد، محمد توفيق، ولم يتخل عن هذا الانحياز رغم تقلبات الرجل.
توخياً لهذا الحذر يعود "الأهرام" لتناول موضوع "تدخل الأجنبيين" في مقال احتل للمرة الثانية أغلب الصفحة الأولى في عدده الصادر في 10 يوليو 1879، تحت عنوان "حالتنا وأروبا" وذلك بعد خلع إسماعيل بأسبوعين بالضبط!
عالجت الصحيفة في هذا المقال ما أسمته "بالحوادث الأخيرة" ويبدو الحذر الذى قررت أن تتذرع به من خلال هذا الكم من "حسن النوايا" الذى حفل به المقال والذى أثبت فيما بعد أنه كان "الطريق الى الجحيم"!
يتبدى الالتزام بالنوايا الحسنة من أن الأهرام بدلاً من أن يرى أن عزل الخديو إسماعيل انما يمثل ذروة "تداخل الاجنبيين" لها ما بعدها، فقد رآه بداية لانحسار هذا التدخل انطلاقاً من فكرة أن سوء إدارة الخديو السابق هي التي صنعت التدخل.
فقد جاء في جانب من هذا المقال: "أن أوروبا كلها وفى مقدمتها هاتان الدولتان "فرنسا وانجلترا" لها ملء الثقة بسمو خديوينا توفيق البر وعزيزه المعظم وكفانا فخراً ما نشرت في شأنه جرائد أوروبا الشهيرة".
ونظن أن صاحبى الأهرام قد تأثرا في اتخاذ هذا الموقف بحسن علاقتهما بالحاكم الجديد أكثر مما حكما الاعتبارات الموضوعية التي طالما حكماها في كتاباتهما السابقة في هذا الموضوع.
ويبسط الأهرام القضية بقوله: "ليس من غاية لهاتين الدولتين في قطرنا إلا حل مشكلة المال على وجه عادل وإحكام إدارته بموجب شرائع وقوانين لا يزايلها انصاف ولا يخامرها خلل.. ويستفاد مما ذكر أن الدولتين غير متعنتتين.. واتفاقهما على ما ذكرنا وشيك الحصول فإن علة الابتعاد في بادئ الرأي لم تكن إلا فقد الثقة أما الآن فليس شيء من هذا القبيل"!
ذهبت الأهرام إلى أكثر من ذلك في نغمتها التفاؤلية بالنسبة "لتداخل الأجنبيين" حيث تحدثت عن استحالة أن تحتل احدى الدولتين الكبريين "بر مصر" وعزت ذلك في جانب إلى أن "لكل من الدولتين" فرنسا وانكلترا رقيبة واقفة بالمرصاد، فلفرنسا ألمانيا ولإنكلترا روسيا.. فالخلاف والحالة هذه من قبيل المستحيل حالاً"!
وتخلص الجريدة في مقالها الرئيسى الذى نشرته تحت عنوان "حالتنا وأوروبا" في عددها الصدار في 10 يوليو عام 1879 إلى القول بأنه لا سبيل إلا الوفاق وأنه لا يتم "إلا بواحد من أمرين" "إما" الاستيلاء عليه "أي القطر المصرى" بالقوة وتقسيمه إلى شطرين يعطى الواحد للواحدة والثانى للثانية و"إما" الارتضاء بتركه بعد تحسين ادارته ونوال كل منهما ما لهما من الحقوق المالية" وقد انحاز الأهرام إلى "إما" الثانية!
***
تشير متابعة الأهرام خلال الفترة التي انقضت بعد عزل إسماعيل وبدايات أحداث الثورة العرابية التي بلغت أهم منعطفاتها يوم 9 سبتمبر عام 1881 بمظاهرة عابدين المشهورة إلى أن الصحيفة قد أخذت التخلي عن قناعاتها باستحالة احتلال مصر من احدى القوتين الكبريين..
مع حدوث ذلك فيمكن الخروج بثلاثة خيوط أساسية من نسيج كتابات الأهرام حول قضية "تداخل الأجنبيين"..
الخيط "الأول" يؤكد على التزام الأهرام بموقفه الموالى للخديو خاصة وأنه لم يمسه أي ضر من ذلك الذى وقع على سائر الصحف.
الخيط "ألثانى" يشير إلى تصاعد عداء الأهرام لإنجلترا، وهو تصاعد نتج عن اهتزاز القناعات القديمة لآل تقلا من أن الانجليز لن يقدموا على احتلال مصر، ذلك أن مجمل الأخبار التي كانت ترد من الخارج وقتذاك أخذت تشير إلى أن تلك القناعة لم يكن لها ما يبررها.
من بين هذه الأخبار ما نشرته الأهرام في 5 أغسطس عام 1881 حول اتفاق بين فرنسا وانجلترا حول تونس ومصر يؤدى إلى ترك الأخيرة رهن تصرف الحكومة البريطانية، وإذا كانت الأهرام قد اعتبرت تلك الأخبار من قبيل "الترهات" إلا أن أصحابها قد أخذت تنتابهم الهواجس من انتشار الانجليز في "بر مصر".
منها أيضاً "التلغراف" الذى نشره "الأهرام" في 3 سبتمبر من نفس العام عم إمكانية تدخل قوات إنكليزية في مصر عند حدوث فتن عسكرية الأمر الذى حول الهواجس إلى شكوك قوية.
في ضوء ذلك أخذ الأهرام يتخلى عن نغمته التفاؤلية القديمة وفى التنبيه إلى مخاطر الأطماع الإنكليزية كلما واتته الفرصة لذلك.
من أطرف تلك التنبيهات الخبر الذى نشرته الجريدة تحت عنوان "اختلاس حضرموت" "!" وقد جاء فيه: "استباحت انكلترة اختلاساً جديداً هو أهم اختلاس إذ ضمت إليها حضرموت وليس بخفى أن الدولة الإنكليزية تتسلط على رأسى العربية أعنى مسقاط "مسقط" وعدن، ولكا كانت على ملء الثقة بأن تسلطها هذا لا يجديها نفعاً دون أن تمتلك حضرموت الواقعة بين الرأسين المذكورين راعت الترصد والمراقبة.. وليس من يجهل أن انكلترة باختلاسها قد وطدت سطوتها في عد ومسقاط مفتاحى البحر الأحمر والجون "الخليج" الفارسى فأمست سيدة العرب الشمالية"!
غير أن تلك الروح العدائية التي تشبعت بها الأهرام تجاه الانجليز عبرت عن نقيضها تجاه الفرنسيين مما يمثل الخيط "الثالث" من نسيج الموقف الأهرامى حتى أنه كتب في تلك الظروف يتحدث عن دولة فرنسا بأنها: "مهد الإنسانية ومنشأها والدولة الوحيدة التي كانت ولا تنفك منتصرة للإنسانية ومفضلة الصالح العام على مصالحها ويكفيها والله ما يقوله الرأي العام في العالم أن للإنسان حزبين احداهما حزبه الخاص والثانى حزب فرنسا إ لا يحب من بعد نفسه ووطنه إلا فرنسا فكأنى بها وطن العموم"!
وبالروح المشبعة بالولاء للخديو توفيق، رغم تقلب مواقفه، وبالعداء لانجلترا وبالحب لفرنسا، كان على الأهرام أن يواجه المرحلة التالية من مراحل "تداخل الاجنبيين في بر مصر".. مرحلة الثورة الوطنية ضد هذا "التداخل".
وربما لم تختلف الآراء حول موقف أهرامى بقدر ما اختلفت على هذا الموقف من الثورة العرابية، وهو موقف له قصة تستحق أن تروى!
---
مراجع
أعداد الأهرام
رقم العدد التاريخ
119 1/11/1878
124 5/12/1878
139 20/3/1879
141 2/4/1879
153 10/7/1879
155 24/7/1879
159 21/8/1879
166 9/10/1879
170 6/11/1879
175 24/12/1879

- أحمد عبد الرحيم مصطفى: مصر والمسألة المصرية 1876 - 1882، القاهرة 1965.
- د. يونان لبيب رزق: تاريخ الوزارات المصرية 1878 - 1953، القاهرة 1975.