ads

Bookmark and Share

الاثنين، 5 فبراير 2018

004 جريدة التقاليد

جريدة التقاليد

بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 5 أغسطس 1993 - 16 صفر 1414هـ
(ملحوظة: تمت إضافة المراجع وإضافات من الكتاب)

كما أن الانسان لا يولد وقوراً أو عابثاً فالصحف كذلك، ذلك أن اعتبارات عديدة هي التي تحدد في النهاية قسمات الصحيفة.
من هذه الاعتبارات (العصر) الذى ترعرعت فيه بكل مقولات، وهى مقولاته قد تدعو في مجملها إلى ارتداء ثياب التقاليد، كما أنها قد تقوم إلى خلعها، وقد كان عقد السبعينات من القرن الماضى الذى صدرت فيه الأهرام عقداً حافلاً بالأسباب التي تدعو إلى الاكتساء بهذه الثياب أو خلعها، وقد اختارت الأهرام أن تكتسى!
منها أيضاً (البيئة) التي خرجت منها، ولك بيئة أحكامها والتي تقود في كثير من الأحيان إلى صنع جانب كبير من القسمات، قسمات الصحيفة وقد حد أن خرج الأهرام من بيئة أهل الشام الذين استوطنوا مصر.
منها ثالثاً (الأبوان) اللذان انحدرت الصحيفة من صلبهما (!)، وكانا بالنسبة للأهرام الشقيقان سليم وبشارة تقلا، ثم بعد ذلك مجموع، الآباء الذين تعاقبوا عليها، فالصحف ليست مثل البشر تكتفى بأبوين فحسب!

ولنبدأ بالعصر..
كان العصر الذى صدر فيه الأهرام عصر قيام العديد من المؤسسات في مصر بكل تقاليدها التي تم ارساؤها..
ويمكن أن نرصد على الأقل ثلاً من تلك المؤسسات.. بلاط الحاكم والبرلمان المصرى ثم أخيراً مجلس الوزراء.

* البلاط المكى The Royal Court
بدأ تأسيسه بكل مفرداته بعدما شرع الخديو إسماعيل في بناء قصره الشهير في عابدين ثم الانتقال من القلعة التي استمرت منذ عهد صلاح الدين مقرا لحكام مصر إلى القصر الجديد، ولم يكن مجرد انتقال من بناية متجهمة تنتمى إلى العصور الوسطى إلى بناية ذات مستوى فنى تنتمى إلى عصر النهضة.. كانت المسألة أكثر من ذلك بكثير.
كان الانتقال في الحقيقة من بناية يتمترس الحاكم داخلها ويحيك فيها المؤامرات لضرب خصومه الذين كانوا ينازعونه السلطة، خاصة من كبار المماليك، إلى بناية تعبر عن استقرار الحكم المركزى الذى صنعه محمد على، بكل تقاليده الجديدة التي أرساها إسماعيل.
يمثل النظام الذى وضع للقصر جانباً من هذه التقاليد، سواء جاء منه متصلاً "باستقبالات ولى النعم" أو الاحتفالات التي تحدد لها مواقيتاً بعينها، وما ارتبط بذلك من تطبيق البروتوكول والاتيكيت وهى قواعد لم تكن متبعة يقيناً داخل القلعة!
تمثل الإدارة في عابدين جانباً آخر للبلاط الجديد والذى سمى مع نشأته "بالمعية السنية"، أي أولئك الذين بصحبة الخديوى أو بالأحرى بلاطه، وقد بدأت هذه الإدارة بالقلمين العربى والافرنجى ثم تعددت بعد ذلك أجهزتها، خاصة ذلك الجهاز الذى تولى إدارة أملاك حكام مصر والذى عرف بالخاصة الخديوية ثم الملكية بعد ذلك.
وتمثل الحاشية الجانب الأخير من تقاليد القصر التي نشأت في عصر إسماعيل والتي تشكلت من مجموعة من الرجال القريبين من الخديو، أو فيمن أسماهم أحد المعاصرين "الخدم والحشم والخصيان والنساء والجوارى" وكان لهم نظام مخصوص.

* كان البرلمان المصرى المؤسسة الثانية التي نشأت وأرست تقاليدها خلال نفس العصر، فإن ما نشأ عام 1866 تحت اسم مجلس شورى النواب لم يلبث أن أصبح خلال السبعينات مؤسسة نيابية كاملة التقاليد.
وقد تضمنت اللائحة الأساسية للمجلس عديداً من القواعد التي تحولت مع الوقت إلى تقاليد راسخة..
خطبة العرش أو ما أسمى في هذه اللائحة بمقالة الخديو والرد عليها من قبل المجلس كان يشكل أول هذه التقاليد.
لجان المجلس أو ما عرف آنئذ بالأقلام التي تفحص صحة نيابة الأعضاء وتعرض قراراتها على هيئة المجلس كانت ترسى التقليد الثانى.
الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها الأعضاء فلا ترفع عليهم دعوى جنائية أثناء انعقاد المجلس إلا إذا ارتكب العضو جريمة القتل كانت ترسى التقليد الثالث.
وقد وصلت العناية بالتقاليد في هذه المؤسسات إلى حد تقرير نوع الملابس التي يرتديها العضو في المجلس بأن تكون "بالحشمة اللائقة" وطريقة الجلوس بأن تكون "بهيئة الأدب"!

* ويقدم "مجلس الوزراء المصرى" ثالث المؤسسات التي نشأت في نفس العصر (1878).
قبل ذلك كانت الوزارات أو النظارات بتسمية العصر، مجرد وحدات إدارية تقوم كل منها بتصريف الأمور في جانب بعينه، تحت الاشراف المباشر للحاكم.
أما بصدور الأمر العالى في 28 أغسطس 1878 "ألمؤسسة لهيئة النظارة الجديدة ووظائفها" فقد تشكلت المؤسسة الجديدة، وقد أرسى الأمر المذكور بعضاً من تقاليدها، وتكفل الزمن بإرساء المزيد من هذه التقاليد.
"أن يكون أعضاء مجلس النظار بعضهم لبعض كفيلاً فإن أمر لابد منه" والذى يعنى التضامن في المسئولية الوزارية كان أول هذه التقاليد.
"مجلس النظار يتفاوض في جميع الأمور المهمة المتعلقة بالقطر، ويرجع رأى أغلبية أعضائه على رأى الأقل فيكون حينئذ صدور قراراته على حسب الأغلبية" أرسى تقليداً ديموقراطياً كان مفروضاً أن يستمر بعد ذلك.
العلاقة بين رئيس النظار وسائر النظار وضع الأمر المذكور تقاليدها سواء فيما يتصل بتعيين كبار الموظفين أو فصلهم، فضلاً عن تحديد الاختصاصات فلا يتعدى ناظر على اختصاصات آخر أو موظفيه الذين "لا يجب عليهم طاعة أمر غيره"!
باختصار فقد كان العصر الذى صدر فيه الأهرام عصر إرساء التقاليد في مناخ شتى، ولم يكن غريباً أن يتولى القائمون على اصدار الصحف الجديدة إرساء التقاليد النابغة من احتياجاتهم والخاصة لهم، وكانت الأهرام في طليعة تلك الصحف.
***
نأتى بعد ذلك إلى البيئة..
ولا نظن أننا نضيف جديداً عما هو معروف من أنه بعد حوادث الستينات (1860) التي شهدها جبل لبنان فقد خرجت من أرال من البشر توجهوا حيث يتلمسون الأمان بدأت بشائرهم تصل إلى مصر والتي كانت قبل ذلك بوقت طويل موئلاً لعناصر شتى من سار أنحاء الدولة العثمانية. بمن فيهم أهل الشام.
ومع الحركة الدستورية في تلك الدولة في منتصف السبعينات والتي نسبت إلى مدحت باشا، وما تبع ضرب هذه الحركة من سياسات قمعية ارتب باسم السلطان عبد الحميد الثانى تزايدت معدلات الخروج من بلاد الشام.
وقد حدث في نفس ذلك العقد.. عقد الستينات أن كانت مصر تشهد عصراً جديداً.. حاكماً واسع الأفق هو إسماعيل، فتح قناة السويس في أواخره، قدوم أوربى على نطاق واسع، الأمر الذى أغرى الشوام على مزيد من الوفود إلى "البلاد المصرية".
وقد تميز أهل الشام الذين جاءوا إلى مصر عن غيرهم في مناح عديدة...
فهم لم يدرجوا في نطاق الأجانب الذين قدموا من سواحل البحر المتوسط الأخرى، مثل اليونانيين والايطاليين أو الفرنسيين، أم ممن أتو من غرب أوربا مثل البريطانيين، فقد كانوا في النهاية رعايا الدول العلية. مثلهم مثل المصريين.
وهم لم يدرجوا ضمن العناصر التركية التي استمر الحكم في مصر يستمد منها أدواته حتى أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثم لم يشكلوا مجتمعاً متمايزاً عن المصريين، وقد ساعدهم على الاقتراب من الأخيرين وحدة اللسان.. اللسان العربى.
وهم لم يتقوقعوا داخل "جيتو" مثل حارة اليهود، الأمر الذى صنع دائماً حاجزاً ما بين هؤلاء وبين جموع المصريين!
بيد أن هذا التميز وإن صنع قدراً من الاسهما في الحياة المصرية، خاصة في مناحيها الاقتصادية والثقافية، إلا أنه كان اسهاماً محسوباً، ولعل هذا الحساب هو الذى صنع بعضاً من تقاليد الصحافة الشامية، ومن بينها الأهرام.
العلاقة بالسياسة كانت أول هذه التقاليد، وهى علاقة بدت منذ اللحظة الأولى التي خطاها سليم تقلا لإصدار الجريدة.. طلب الترخيص بإصدارها الذى رفعه إلى "ناظر الخارجية"، جاء فيها بالحرف الواحد: ".. بدون أن أتعرض للدخول مطلقاً في الأمور البوليتيقية"!
صحيح ان الأهرام لم يوف بهذا التعهد على نحو الوعد الذى قطعه منشئه على نفسه إلا أنه كان البداية لإرساء مجموعة من التقاليد التي استمرت تحكم مسيرة الأهرام السياسية..
* "عدم التورط في الصراعات السياسية الداخلية" استمر القاعدة التي تحكم هذه المسيرة فالأهرام لم يحسب في أي وقت على جماعة سياسية بعينها من الجماعات المصطرعة على الساحة في مصر.
بالمقابل فإن "الأهرام" قد قبل المواجهة في القضايا القومية، وهو تدخل محسوب في السياسة، فبينما تتسم مثل هذه القضايا بقدر من ثبات المواقع، فإن الصراعات الحزبية يغلب طابع التقلب الذى أودى بصحف كثيرة لم يكن القائمون على الأهرام مستعدين أن تكون جريدتهم إحداها!
* "ضبط النغمة" شكل العنصر الثانى من التقاليد التي تم ارساؤها من جانب "الأهراميين" فهم في أي الظروف كانوا حريصين على أن يكون صوتهم السياسى "معتدلاً" فلم يلجأوا في أي الأوقات إلى "الصياح" الذى استمرت تلجأ إليه بعض الصحف المصرية، خاصة الصحافة الحزبية، فقد كانوا يعلمون أن الصياح عمره قصير، كما أنهم وبنفس الدرجة لم يلجأوا إلى خفض الصوت إلى حد الشحوب أو التوارى، لأن هذا كان يعنى ببساطة لوناً من الانتحار البطئ، وهو وإن كان قد حدث في بعض العهود لكنه لم يستمر طويلاً بعد استشعار خطورته.
* "الحرفية" صنعت العنصر الثالث من تقاليد الأهرام الناشئة عن عدم التورط في الصراعات السياسية، فإن المعارك التي كانت تخوضها الصحف الأخرى ونأى الأهرام بنفسه عنها كان لها معجبوها من الساعين إلى تتبعها، وكان على الصحيفة العتيدة أن تقدم البديل، ولم يكن سوى مزيد من الدقة ومنذ اللحظة الأولى لصدور الأهرام.
في العدد "زيرو" أو ما أسمى بـ "مثال جريدة الأهرام" الصادر في 15 يوليو عام 1876 جاء بالحرف الواحد عن الجريدة المزمع إصدارها أنها "تستقصى عن الأخبار الصادقة الراهنة ولا تترك خبراً مفيداً سواء كان برقياً أو بغير وساطة، وقد أقمنا في جميع الجهات وكلاء لهم إلمام ومعارف في جميع الأمور والأحوال لتستند على أخبارهم الوثيقة".
وعاد العدد الأول الصادر في 5 أغسطس من نفس العام ليؤكد هذه النية فيما جاء من قول أن الجريدة "تجعل من يتصفح صفائحها واثقاً بما يطالعه لأنها تعانى البحث لتقف على الفوائد الصحيحة".
وبمقارنة الأهرام بالصحف المعاصرة والتي قامت بالأساس على الطباعة اليدوية يلاحظ أنه قلما كانت تتسلل الأخطاء المطبعية لصفحات الأهرام بينما كانت تحفل بها صفحات الجرائد الأخرى!
* تجنب "البوليتيقا" أدى أخيراً من بين ما أدى إليه إلى إعطاء عناية بالغة للأخبار الخارجية، فقد كانت أكثر أمناً من التورط في أخبار الأوضاع الداخلية، الأمر الذى نلاحظه في المساحة الكبيرة التي خصصها الأهرام منذ أعداده الأولى لبرقيات الوكالات الأجنبية ولترجمة المقالات عن الصحف والمجلات الأوربية، وقد استمر الأهرام من اكثر الصحف المصرية اهتماماً بالخارج، حتى يومنا هذا!
وقد فرضت هذه التقاليد على الأهرام نوعية بذاتها من القراء مثل تلك النوعية التي عرفتها التايمز والفيجارو، والتي يقال عن قارئها أنه يعقد ربطة عنقه ويرتدى قبعته قبل أن يشرع في قراءة صحيفته(!) وهو أمر لا يريح الكثيرين!
***
يبقى الأبوان كرافد في صناعة التقاليد، وأول ما يلفت النظر هنا أن الأهرام وفى كثير من الأوقات لم تكن أكثر الصحف انتشاراً إلا أنها كانت أطولها عمراً.
فتاريخ الصحافة المصرية يحفل بجرائد اكتسبت شهرة واسعة لكنها انتقلت إلى رحمة الله في نفس القبر الذى ضم أصحابها بعد وفاتهم بشهور قليلة.
والفارق بين صحيفة بوفاة مؤسسيها، مهما تكون قد اكتسبت من شهرة وبين صحيفة أخرى تعيش بعد رحيل المؤسسين، هو الفارق بين الارتباط بالشخص والامتثال للتقاليد.
وبينما تقدم صحيفة المؤيد التي صدرت عام 189 وعاشت لنحو ربع قرن، وكانت من أوسع الصحف المصرية انتشاراً والتي لم تعش بعد وفاة مؤسسها، الشيخ على يوسف، سوى شهور قليلة، نموذجاً للنوع الأول، فإن الأهرام تقدم النموذج للنمط الثانى.
وقبل أن نعرض للدور الذى لعبه الاخوان في إرساء تقاليد الأهرام ينبغي التذكير، بالوضعية الاجتماعية للعاملين بالصحافة وقت صدور الأهرام، ولفترة غير قصيرة بعد ذلك، وهى وضعية وصفتها احدى محاكم القاهرة في حكم شهير عام 1904 بأنها "حرفة دنيئة!"
ينبغي التذكير أيضاً بأن الاخوين سليم وبشارة، كانا إفرازة لتلك النهضة الأدبية التي قادها الشيخ ناصيف اليازجى وبطرس البستانى في لبنان، فهما لم يقر به فقط لهذين الزعيمين من زعماء النهضة وانما أتيجت لهما الفرصة للتتلمذ على أيديهما.
وعيا بهاتين الحقيقتين فإنه يلفت النظر حقيقة، ودون انحياز مسبق للأهرام أو لمؤسسيها، إن الأخوين، خاصة بشارة الذى امتد به العمر عن أخيه (سليم توفى عام 1892 عن 43 عاماً وبشارة توفى عام 1901 عن 48 عاماً)، قد أحرزا في إضفاء قدر من الاحترام على المهنة، وهما في هذا لم يبحثا عن الشعبية بقدر ما بحثا عن الاحترام.
وكان بشارة تقلا من قليلين ممن حصلوا على رتبة الباشوية في عمره من باب واحد هو باب الصحافة، صحيح أن الزعيم الوطنى المعروف مصطفى كامل حصل على نفس الرتبة، غير أن هذا الحصول قد صدر عن كونه سياسياً قبل أن يكون صحفياً.
وتشير الترجمات التي وضعت للرجل خاصة تلك التي قدم لها خليل مطران في أعقاب وفاته إلى أن أبواب الحكام والعظماء سواء في مصر أو في خارجها، كانت مفتوحة أمامه دائماً، ولم يأت ذلك من فراغ بل صنعه تقاليد تم ارساؤها.
فقد أدار بشارة الأهرام عل (نحو مؤسسى) وليس على نحو شخصى فيما سجله خليل مطران بقوله: "الشرقى لا يفطر على التدبير ولا يربى عليه فهو فاقده خلقاً واكتساباً ولهذا لا يحسن القيام على المال ولا يجيد إدارة الأعمال إلا أفراد شذوا عن القاعدة كالمترجم فانه كانت لا تفوته شاردة ولا واردة من أمره ولا أمر عمله".
ولعل ذلك كان من وراء أن الأهرام عند نشأته صدر كصحيفة أسبوعية ذي مطبعة هزيلة بطيئة على حد تعبير خليل مطران، غير أنه وقت وفاة بشارة (1901) كان قد تم استبدال تلك المطبعة "باثنتى عشرة مطبعة مختلفة الحجم متناسقة في قاعة رحيبة بقصر شاهق يدار أكثرها بنفس الغاز المحترق وتعمل فيها أدق المطبوعات وأجملها ويكون الصناع فيها نحو الستين من ذوى العيال الذين يرتزقون"! وصدرت بدلاً من الجريدة الأسبوعية جريدتان يوميتان، الأهرام والبيراميد، وكانت ثانيتهما تصدر بالفرنسية.
وألقى التكوين الشخصى لآل تقلا بظلاله على بناء الأهرام، وبالتالي وضع تقاليده، ولعل أهل ما في هذا التكوين (رفض الانسياقات العاطفية أو الحدة) في اتخاذ المواقف، وهو تكوين صادر فيما نرى، عن الانتماء للأقلية الشامية بكل التحوطات النفسية التي تمسك بتلابيبها!
تروى مجلة الضياء غداة وفاة بشارة قصة عنه فتقول أن بعض أخصائه كتب إليه كتاباً شديد اللهجة يستعجله بشأن مطلب من المطالب فتأثر من ذلك ولما اجتمع به قال بالحرف الواحد: "لا يرتقى الانسان هكذا ولو كنت بحدتك وسرعتك لما قدرت أن أعمل شيئاً بل كنت اليوم حيث كنت أمس بلا زيادة ولا نقصان".
ويقدم أحد محررى الأهرام شهادة في هذا الصدد فيقول أنه "كان يأنف كل طعن في الأفراد فكان إذا تولت الحدة أقلامنا للرد على معتد نختلس لذلك فرصه غيابه أو غفلة منه فنكتب ما نكتب ونحن نتوقع منه توبيخنا"!
(التعفف) كان تقليداً آخر سعر آل تقلا على ارسائه منذ ذلك الوقت المبكر من تاريخ الأهرام.
ومع أنه يمكن استقراء هذه الحقيقة من تقليب صفحات الأهرام خلال ربع القرن الأول من حياته فإن أحد العاملين فيه يقدم شهادة أخرى في هذا الشأن جاء فيها أنه لدى توليه لعمله في الصحيفة الشهيرة استدعاه بشارة تقلا وكانت أولى وصاياه له: "إذا رأيت كلمة تقولها يخسر معها شخص قرشاً وتربح الأهرام آلافاً فلا تقلها ولو خسرت الأهرام فوق الربح المنتظر أضعافاً".
(تغليب العام) على الخاص، الأمر الذى وعاه بشارة جيداً فيما جاء في وصيته وهو على فراش مرضه الأخير للمتحلقين من حوله من هيئة تحرير الأهرام، فقال: "تحروا المباحث المفيدة للأمة ولا تخشوا في الخدمة الصحيحة والحقيقة المفيدة أحداً واجتنبوا المثالب واسكتوا عن المطاعن ولو كانت على"، مما استمر أحد التقاليد الراسخة للجريدة العريقة يصعب الخروج عنه حتى لو أراد له البعض ذلك!
(الاستمرارية) كانت تشكل تقليداً دائماً وأخيراً من التقاليد التي ارساها آلا تقلا في الأهرام، ونعود مرة ثانية إلى شهادة خليل مطران التي قال في جانب منها: "كنت أستقرى كل حادثة من بدئها إلى نهايتها كأننى أقرأ قصة لذيذة وعندى أن المترجم بما أورده من الأنباء المتسلسلة التي لم يقطع موردها عن القراء يوماً واحداً في ربع قرن لا يضارعه أخبارى في الغرب فضلاً عن الشرق".
وتأسيساً على هذه الشهادة فلا نجد ثمة غرابة فيما رواه القريبون من الرجل لحظة احتضاره من أن آخر كلماته كانت: "أديروا المطابع"!
---
مراجع:
أعداد الأهرام:
رقم العدد التاريخ
المثال 15/1/1876
الأول 3/1/1881

- د. إبراهيم عبده - جريدة الأهرام - تاريخ مصر في خمس وسبعين سنة - القاهرة 1951م.
- جرجى زيدان - تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر -  القاهرة 1922م
- خليل مطران - بشارة تقلا 1853 - 1901م - مطبعة الأهرام القاهرة 1902م
- د. سعيدة محمد حسنى - المجالس النيابية في مصر في عد الاحتلال البريطاني 1882 - 1914 - القاهرة 1990م
- د. عبد الله عزباوى - الشوام في مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - القاهرة 1986م
- فؤاد كرم - النظارات والوزارات المصرية 1878 - 1954 -  القاهرة 1969م
- د. يونان لبيب رزق - تاريخ الوزارات المصرية 1878 - 1953 - القاهرة 1975م
- د. يونان لبيب رزق - قصة البرلمان المصرى - القاهرة 1991م

صورة من المقال: