ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 14 نوفمبر 2017

002 تاريخ الميلاد: عصر اسماعيل

تاريخ الميلاد: عصر اسماعيل

بقلم: د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 22 يوليو 1993م - 2 صفر 1414هـ
(ملحوظة: تمت إضافة المراجع وإضافات من الكتاب)

الأهرام من مواليد العام الثالث عشر من عهد الخديو إسماعيل، أي قبل نهاية هذا العهد بثلاث سنوات والذى انتهى بخلع الخديو الشهير في عام 1879.
وإذا كانت هذه النهاية المأساوية لحاكم من أبناء أسرة محمد على تنم عن شيء فإنها تنم عن طبيعة الفوران السياسى والاجتماعى والفكرى الذى عرفه عصر إسماعيل، والذى قدم عصراً نموذجياً لظهور الصحافة التي تعيش بالأزمات وتقتات بالمتغيرات!
وبينما يعتبر محمد على - جد إسماعيل - مؤسس "الدولة" الحديثة في مصر، فإن إسماعيل هو صاحب الفضل في الخطوة الثانية.. خطوة بناء "المجتمع" الحديث في البلاد.
وبلغة أصحاب النظرة البنيوية فإنه بينما تفرز عمليات التغيير الاجتماعى الاقتصادى (البنية التحتية)، نظام الدولة بكل مؤسساتها (البنية الفوقية)، فإنه في مصر قد حدث العكس، فقد قام محمد على بتشييد البنية الفوقية من خلال بناء الدولة المركزية، الأمر الذى جعل الدولة محور كل النشاطات بما فيها النشاط الثقافي، فيما تبدى من احتكارها للتعليم الحديث، وبما فيها النشاط الإعلامى حتى أن أول صحيفة ظهرت في مصر وقتذاك كانت صحيفة حكومية "الوقائع المصرية" العتيدة التي كانت توزع على كل موظف في الحكومة يتقاضى راتباً لا يقل عن ألف قرش شهرياً، بشرط أن يدفع الاشتراك!
ويأتي عصر إسماعيل لتتم خلاله ترجمة عملية التحديث التي جرت على مستوى "الدولة" إلى عملية تحديث تجرى على مستوى "المجتمع"، وهى عملية لم تكن الدولة بأى حال بعيدة عنها ممثلة في شخص الخديو نفسه، وإن كان ذلك لا يعنى أنها صناعته فهذه العملية لم يكن ليستطيع أن يوقفها حتى إذا شاء، الأمر الذى حاوله عباس الأول وفشل فيه تماماً.. كل ما في الأمر أنه عجل بها.
والتعجيل صنعته في جانب فروق بين محمد على وحفيده، فالأول رغم عبقريته التي لا يختلف عليها اثنان، كان أمياً حتى سن الأربعين مما أدى إلى أن يقتصر جل اهتمامه بالغرب على الأخذ منه في جوانب التنظيم العسكرى والتقدم العلمى، أما إسماعيل فقد تلقى هذا اللون من التعليم الراقى الذى يحظى به أمثاله من الأمراء، والذى أتاح له أن يقضى ثلاث سنوات منذ نعومة أظفاره في بعثة فى فرنسا، الأمر الذى ترك بصمته على تفكيره وجعله شديد التأثر بالغرب، مما لا يستغرب معه قولته التي نقلها عنه المؤرخين" "أريد أن أجعل بلادى قطعة من أوروبا".
التعجيل صنعه في جانب آخر سعى أوروبا إلى مصر، وهو سعى أضحى حميماً بعد شق البرزخ وبناء القناة المشهورة.. قناة السويس، مما وضع مصر في بؤرة الاهتمام الأوروبى، وفى حماة العصر الذى عرف بالعصر الامبريالى.
وصنع التعجيل في جانب ثالث البذور التي رماها محمد على في التربة المصرية، وكان جيلاً أو يزيد قليلاً كافياً لتطرح هذه البذور واقعاً جديداً غير ذلك الذى خيم على مصر طيلة قرون الحكم العثمانى الثلاثة السابقة، بكل ما في هذا الواقع من جوانب اجتماعية وثقافية وسياسية كانت لا تسمح فقط بظهور الصحافة الأهلية، التي كانت الأهرام أحد معالمها، بل تتطلبها!
***
على المستوى (الاجتماعى) فإن التغييرات التي حدثت خلا عصر إسماعيل قد وفرت عنصرين أساسيين لوجود الصحافة، أولئك الذين يصدرونها وأولئك الذين يقرأونها!
أول هذه التغييرات بدت في نشوء تلك الطبقة التي استمرت تلعب دوراً أساسياً في التاريخ المصرى ولنحو قرن، وحتى قيام ثورة 1952 على وجه التحديد.. طبقة كبار الملاك بالتوصيف الاقتصادى، أو كما سميت بالأعيان تبعاً للتوصيف الاجتماعى، وهم أنفسهم الباشوات والبكوات، أو غالبيتهم، إذا ما تم الأخذ بالألقاب السائدة!
ففي عصر إسماعيل استكملت هذه الطبقة مقوماتها بعد أن تحولت ملكية الانتفاع التي حصل عليها أبناؤها في عصر محمد على إلى ملكية كاملة، أو على حد التعبير الاقتصادى ملكية عين، ومن هنا جاء توصيفهم بالأعيان!
ومع التسليم بأن أغلب أبناء هذه الطبقة في بداية تكونها انحدرت من أصول غير مصرية إلا أن المصريين ما لبثوا أن دخلوها وأخذت المساحة التي يحتلونها تتسع مع الأيام.. سواء أولئك الذين اقتنوا ملكياتهم من خلال الوظائف الرفيعة التي تولوها، ويقدم على مبارك ومحمد سلطان وأحمد عرابى نموذجاً لهذه الشريحة، أو أولئك الذين صنعوا ملكياتهم باستثمار "مسموح المصاطب" وهو ما كان يعادل 5% من زمام كل قرية والتي حصلوا عليها نظير قيامهم بأعباء الإدارة واستضافتهم لعمال الحكومة وعابرى السبيل!
ولما كان كبار ومتوسطو الملاك الذين اقتنوا ملكياتهم من وظائف من قراء "الوقائع المصرية" بالضرورة فإنه قد تربت عند هؤلاء عادة قراءة الصحف، أما الآخرون من أبناء نفس الطبقة المنحدرون من الريف فهم وإن لم ينخرطوا في هؤلاء فإن أبنائهم الذين أرسلوهم للمدارس الحديثة أو حتى للتعليم خارج مصر كان لابد أن يأتوا معهم بهذه العادة.. عادة قراءة الصحف.
على نفس المستوى ظهر "الأفندية" وهى فئة اجتماعية بدأت محدودة في عصر محمد على إلا أنها أخذت في التكاثر على عصر إسماعيل ويقول مؤرخ التعليم لهذا العصر أن المجتمع المصرى "أخذ يتحول بالتدريج إلى طبقتين متمايزتين طبقة الأفندية وطبقة الفلاحين، وقد عاون على تجسيم هذه الأدوار أن أفراد الطبقة المتعلمة لم يعودوا إلى بيئاتهم التي نشأوا بها ليرفعوا مستواها بل تحولوا إلى بيئات أخرى".
ومع مرور الوقت كانت تتسع قاعدة أبناء هذه الفئة ففضلاً عن العاملين في سلك العسكرية كان هناك الموظفون المدنيون والمعلمون وأصحاب المهن الحرة وما لبث أن انخرط بعض هؤلاء في العمل بالصحافة وشكلوا شريحة هامة من شرائح هذه الفئة، وكان أحد هؤلاء أول من أصدر صحيفة أهلية في مصر هي صحيفة وادى النيل التي أصدرها صاحبها عبد الله أبو السعود أفندى عام 1867.
على المستوى الاجتماعى أخيراً فإن عصر إسماعيل قد عرف هجرة عريضة من الشام إلى مصر كان باعثها في جانب منها حوادث الستين في جبل لبنان وسعى أبناء الجبل لتلمس أسباب الأمان التي وجدوها في أرض الكنانة، ثم أنها قد تشجعت في جانب آخر بالحاجة لعناصر تجيد العربية جنباً إلى جنب اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، بعد أن تزايدت العناصر الأجنبية في الإدارات الحكومية، فضلاً عن كل ذلك فإن دخول مصر السوق الرأسمالية العالمية أتاح فرصاً عديدة للعمل لهؤلاء الذين كان لديهم من الخبرة المالية ما لم يكن يتوفر للمصريين آنذاك.
وقد تفرد الشوام واليونانيون بميزة لم تتوفر للآخرين من غير المصريين، وهى قدرتهم على الانبثاث في كل أنحاء مصر حتى أصغر القرى والدساكر.
وإذا كان مؤسسا الأهرام، سليم وبشارة تقلا، قد جاءا من أبناء هذه الفئة الاجتماعية فإن كافة وكلائها في مصر قد جاءوا منها أيضاً، الخواجا موسى بطاينى وكيل الأهرام في الإسماعيلية، والخواجا حبيب بولاد في المحلة الكبرى، الخواجا جبرائيل لباد في المنصورة، الخواجا دهان دهان في طنطا، الخواجة إسكندر غريب في كفر الزيات، الخواجا جرجس روم في سمنود، الخواجا مترى موسى في رشيد، الخواجا جبرائيل رطل في زفتى وميت غمر، والخواجات ميخائيل وطنوس خورى في بورسعيد!.
***
يلى ذلك في الأهمية المتغيرات (الثقافية) التي أفرزت الظاهرة والتي تعددت جوانبها بدءاً بالتعليم الحديث، مروراً بحركة الترجمة وانشاء مؤسسات ثقافية لم يكن لمصر في عهد سابق بها، ووصولاً إلى انتشار الطباعة، والتي تشكل في مجموعها الركائز التي قامت عليها الصحافة في مصر وفى مقدمتها "الأهرام".
ففضلاً عن المدارس العليا القديمة التي كان قد أقامها محمد على وأعاد فتحها بعد أن كان عباس قد أغلقها، فقد تم في عصر إسماعيل إنشاء مدرستى الحقوق ودار العلوم وكان لهاتين المدرستين دور هام في خلق مناخ ثقافى يفرز الصحف ويروجها.
مدرسة الحقوق نشأت عام 1868 تحت اسم مدرسة الإدارة والألسن، وقبل أن ينتهى القرن كان غالبية العاملين في السياسة والصحافة من خريجى هذه المدرسة بحكم ما يقومون بدراسته من مواد "البوليتيقيا"!.
مدرسة دار العلوم التي أسست عام 1872 والتي تخلت عن تقليدية الأزهر وفتحت المجال واسعاً لتحديث اللغة والآداب العربية، ووفرت بذلك الكوادر من الكتاب والمصححين الذين تحتاجهم أي صحيفة.
بدت الركيزة الثانية في حركة الترجمة، وهى الحركة التي نشأت مع عملية بناء الدولة الحديثة، وإن كانت قد اقتصرت في البداية على الجوانب التعليمية وبشكل فردى، إلا أنها منذ عام 1834 بدأت تتخذ شكلاً مؤسسياً بعد افتتاح مدرسة الألسن التي لم يقتصر دورها على أعمال الترجمة، وإنما الأهم من ذلك تخريج المترجمين.
وقد تحدث أحد المعاصرين عن أثر المدرسة فقال أن خريجيها "بأنفسهم وبالكتب العملية التي ترجموها ساعدوا على نشر أفكار الرقى والمدنية بين أهل البلاد، وانتفعت بهم الحكومة في المناصب الإدارية العالية، وفى وظائف الترجمة، ومنهم من انقطعوا للتعليم، وبفضل مجهودهم تعلم آلاف من أهل البلاد الفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية".
ويقيناً فإن هؤلاء مع الشوام شكلوا القاعدة العريضة للعمل في نقل الثقافة الحديثة ليس من خلال ترجمة الأعمال العلمية فحسب وإنما من خلال الاشتغال بترجمة المواد الصحفية، الأمر الذى يمكن رصده بسهولة في تقليب صفحات الأعداد الأولى من صحف العصر، خاصة الأهرام.
يثبت هذا التقليب أن جانباً كبيراً من تلك الأعداد قد قام على الأعمال المترجمة إما على شكل "الأخبار البرقية الواردة إلى الإسكندرية" وإما على شكل ترجمات من الصحف الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية تحت عنوان "حوادث مختلفة"، وإما على شكل ترجمات لأمهات الكتب التي كانت تنشر على حلقات.
وكما اتخذت الترجمة طابعاً مؤسسياً فقد اتخذ النشاط الثقافي نفس الطابع وعرف عصر إسماعيل نشأة عدد من المؤسسات الثقافية حين أقام على مبارك أول دار كتب عامة في مصر المعروفة بالكتبخانة الخديوية بالإضافة إلى عديد من الجمعيات العلمية كان أهمها جمعية المعارف (1868) والجمعية الجغرافية الخديوية (1875) والجمعية الخيرية الإسلامية (1878) فضلاً عن ظاهرة الصالونات الثقافية التي تبناها عدد من رجال الأسرة الحاكمة أو من أبناء طبقة الأعيان الصاعدة، والتي صنعت في مجموعها مناخاً ثقافياً كان يمكن أن تظهر في إطاره الصحف وتعيش!
تبقى قضية الطباعة والتي عرفتها مصر أول ما عرفتها على أيدى الحملة الفرنسية التي أحضرت معها مطبعتين، إلا أنها قد أخذتهما معها لدى رحيلها من البلاد عام 1801.
وفى عملية بناء الدولة الحديثة التي قام بها محمد على أدرك الرجل ما للطباعة من أهمية في هذا البناء الأمر الذى دفعه إلى إنشاء مطبعة بولاق المشهورة التي عرفت بالمطبعة الأميرية، وأهم من ذلك الاهتمام الذى أولاه لتوفير الكوادر الفنية لهذه المطبعة حتى أن أول بعثة تعليمية إلى الخارج كانت البعثة التي أرسلها إلى إيطاليا خلال العقد الثانى من القرن لتعلم فنون الطباعة والتي كان على رأسها "نقولا مسابكى" أبو الطباعين في مصر.
إلا أن أهم المتغيرات التي حدثت في عصر إسماعيل تلك النقلة التي عرفتها الطباعة من شأن تعنى به الحكومة وحدها إلى عمل يقوم به الأهالى سواء بصفتهم الشخصية أو كمؤسسات ثقافية. فقد عرف هذا العصر المطبعة التي أقامتها جمعية المعارف والمطبعة الأهلية القبطية والمطبعة الوهبية والمطبعة الوطنية بالإسكندرية، فضلاً عن مطابع الصحف، وفى هذا السياق لم يكن هناك ثمة مشكلة في أن يقيم آل تقلاً المطبعة. مطبعة الأهرام!.
ولا بأس من الإشارة هنا إلى مصنع الورق الذى أقامه حسين حسنى باشا ناظر مطبعة بولاق ملحقاً بها، والذى أنتج من الورق ما كاد يعطل ما يرد من أوروبا على حد تعبير الأستاذ عبد الرحمن الرافعى.
***
تبقى المتغيرات (السياسية) حين صنعت سياسات إسماعيل التحديثية عالماً غير ذلك العالم الذى استمر سائداً طوال العهد العثمانى ولم يغيره حتى بناء الدولة الحديثة الذى قام به محمد على وإن كان قد مهد له.
جانب من هذا العالم بدا في تصاعد التدخل الأجنبي في الشئون المصرية، وهو تصاعد تبدى أولاً في الهجمة البشرية الأوروبية على مصر والتي تواكبت مع زيادة الدور المصرى في السوق الرأسمالية العالمية مما نتج عن تزايد الطلب على القطن المصرى خلال النصف الأول من الستينات نتيجة للحرب الأهلية الأمريكية وتوقف الولايات المتحدة عن القيام بدورها في هذه السوق.
وتبدى هذا التصاعد ثانياً فيما ترتب على سعى إسماعيل الحثيث في توسيع قاعدة الاستقلال المصرى عن الدولة العثمانية، وهو في هذا السعي قد استعان ببعض القوى الأوروبية مما أدى إلى اتساع هامش تدخل هذه القوى في الشئون المصرية.
وتبدى هذا التصاعد ثالثاً فيما نتج عن بناء قناة السويس الأمر الذى أدى إلى احتدام الصراع الأوروبى حول مصر.
وتبدى هذا التصاعد رابعاً في نظام الامتيازات الذى كفل حماية الأوربيين الذين وفدوا إلى مصر، وقبل ذلك حماية مصالحهم، وفى أوقات كثيرة مطامعهم! وهو النظام الذى تم تقنينه بعد إنشاء المحاكم المختلطة عام 1876 نفس عام صدور الأهرام!
أخيراً فإن هذا التصاعد قد بلغ ذروته نتيجة لقروض إسماعيل من المؤسسات المالية الأوروبية، وما ترتب على عجزه عن تسديد هذه القروض من فرض الوصاية على الإدارة المصرية. إلى تشكيل أول هيئة للوزارة في مصر شارك فيها وزيران إنجليزى وفرنسى.
ولم يكن بالإمكان أن يحدث كل هذا دون رد فعل من جانب جموع المصريين، ومن ثم فإن نفس هذا العقد المثير، عقد السبعينات من القرن التاسع عشر قد شهد مولد الحركة الوطنية المصرية بمفاهيمها الحديثة وأدواتها المختلفة.
مفهوم رفض التدخل الأوربي عرفته الحركة الوطنية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر لدى قدوم الفرنسيين إلى مصر ولكنه جاء تماماً من منطلق دينى، وقد اختلف الأمر هذه المرة حين بدأ يسود هذا المفهوم الرؤية الوطنية.
ثم أن هذا الرفض الذى عرفته أواخر القرن الثامن عشر تسلح بأدوات العصر، هبات الحارات، أو ثورات الأحياء لأنه لم يكن قد وجد حتى هذا الوقت ولو الحد الأدنى مما يسمى بالرأى العام، وهو ما أخذ في النمو نتيجة للتطورات الاجتماعية والثقافية التي كانت قد شهدتها مصر إبان العقود السبعة السابقة على ظهور الأهرام، والذى عبر عنه ثم ساعد على تطور ظهور الصحافة.
وإذا كان هذا التدخل وراء إنشاء أول هيئة وزارة في التاريخ المصرى الحديث فإنه لم يكن بعيداً عن إنشاء أول هيئة نيابية في هذا التاريخ ممثلة في مجلس شورى النواب الذى تأسس عام 1866.
ورغم أن هذا المجلس عندما تم إنشاؤه بدا وكأنه مجرد تقليد - ليس له ما يبرره للأنظمة البرلمانية الأوروبية إلا أنه مع الوقت تحول لأداة مهمة من أدوات الحركة الوطنية، الأمر الذى بدا في دورته غير العادية التي عقدها في طنطا في أغسطس عام 1876، نفس شهر صدور الأهرام، حيث رفض قرار الحكومة بإلغاء قانون المقابلة وهو الإلغاء الذى كان يجلب مصالح الدائنين الأجانب على حساب الأعيان المصريين الذين كانوا يشكلون غالبية أعضاء المجلس.
عام 1876 عرف أيضاً تحول نشاط جمال الدين الأفغانى الذى كان قد جاء إلى مصر منذ مطلع السبعينات من النشاطات العلمية الأدبية إلى النشاط السياسى خاصة مع قيام الحرب الروسية - التركية في نفس العام وما خلفته الهزيمة العثمانية في تلك الحرب من ردود فعل قوية على الرأي العام المصرى.
وقد بدا انعكاس تتابع الأحداث السياسية على هذا النحو غير المسبوق على الصحافة الأهلية في مصر.
فالمعلوم أن الصحيفة الأهلى الأولى، وهى صحيفة وادى النيل، التي أصدرها عبد الله أبو السعود أفندى برعاية إسماعيل نفسه عام 1867، وقد رصد لمتابعة جلسات مجلس شورى لما ارتآه الخديو من أنه لا ينبغي أن تكون الصحافة "الرسمية" هي المعبرة عن هذا المجلس "الشعبى".
والمعلوم أيضاً بالنسبة لجريدة "مصر" التي صدرت عام 1877 أن الأفغانى نفسه سعى لحصول على امتياز صدورها باسم أديب اسحق لتكون ناطقة بلسان الحركة الوطنية الناهضة التي تجسدت في مجموع التلاميذ الملتفين حول الرجل.. جمال الدين الأفغانى.
وفى تلك الظروف صدرت الأهرام، ورغم أن سليم تقلا عندما تقدم بـ "العرضحال" الذى طلبت فيه ترخيص الصدور قال إن الغرض منها نشر "التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية، وكذا من المقاصد طبع بعض كتب كمقامات الحريرى وبعض ما يتعلق بالصرف والنحو واللغة والرياضيات والأشياء التاريخية والحكم والنوادر والأشعار والقصص الأدبية وما شاكل ذلك من الأشياء الجائز طبعها بدون أن أتعرض (للدخول مطلقاً في الأمور البوليتيقية")، فإنه أمام هذه المتغيرات المتلاحقة لم يكن بالإمكان أن يوفى بهذا الوعد.. وعد عدم الدخول في "الأمور البوليتيقية"، وهو الأمر الذى لم يتأخر كثيراً.

-------
مراجع:
د. احمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم في مصر في عصر محمد على
د. احمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم في مصر في عصر إسماعيل وتوفيق والسنوات المتصلة بها، القاهرة 1948
د. إبراهيم عبده: تاريخ الوقائع المصرية 1828 - 1942.
د. إبراهيم عبده: جريدة الأهرام - تاريخ مصر في خمس وسبعين سنة، القاهرة 1951.
د. رؤف عباس حامد: الملكيات الزراعية المصرية ودورها في المجتمع المصرى 1837 - 1914، القاهرة 1983.
عبد الرحمن الرفعى: عصر إسماعيل (جزء ثان) القاهرة 1948.
د. عبد الله عزباوى: الشوام في مصر في القرن الثامن والتاسع عشر، القاهرة 1986.
د. يونان لبيب رزق: تاريخ الوزارات المصرية 1978 - 1953، القاهرة 1975.
د. يونان لبيب رزق: قصة البرلمان المصرى، القاهرة 1991.

صورة من المقال: