ads

Bookmark and Share

الأحد، 22 أغسطس 2010

335 ديوان الحياة المعاصرة


الشرق شرق‏..‏ والغرب غرب

د‏.‏ يونان لبيب رزق

نشر فى الأهرام    الخميس 27 أبريل 2000م   -   22 محرم 1421هـ

المكان‏:‏ فندق سافوى فى لندن‏,‏ الزمان‏:‏ مساء يوم أول سبتمبر عام ‏1923,‏ الحادث‏:‏ مشادة بين الزوج على كامل فهمى بك‏,‏ أحد الأعيان المصريين وزوجته الفرنسية مدام مارجريت‏,‏ والذى خرج بعدها يصفر لكلبه الصغير الذى انطلق إلى الممر الموصل للغرفة‏,‏ غير أنه فوجئ بزوجته تطلق عليه النار من الخلف فأردته قتيلا فى الحال‏!‏
كان من الممكن أن تبقى هذه الواقعة حبيسة صفحة الحوادث‏,‏ سواء فى الصحافة الإنجليزية حيث جرت‏,‏ أو فى الصحافة المصرية والفرنسية بحكم جنسية الزوج والزوجة‏,‏ غير أن المحاكمة التى تمت لمدام مارجريت فهمى فى العاصمة البريطانية‏,‏ والتى امتدت وقائعها بين يومى ‏11‏ و‏15‏ من ذلك الشهر أثارت ضجة كبيرة حتى أن مراسل جريدة النير ايست فى القاهرة وصف ذلك بقوله‏:‏ إن الصحف العربية فى مصر أنفقت مبالغ طائلة على جلب تلغرافات من لندن عن قضية مدام فهمى.‏ وقد امتازت‏ (الأهرام‏)‏ بنشر نصوص ما جرى فى المحكمة وحاول بعضهم هنا أن يبتاع نسخة من‏ (الأهرام‏)‏ بعد الظهر‏.‏ فأبدى له غلام يبيع الجرائد ملاحظة مفيدة قائلا له‏:‏ لو دفعت كل ما فى مصر من المال لما حصلت بعد الظهر على نسخة من‏ (الأهرام‏)‏ وفيها قضية فهمى!‏
صحيح أن بعضا من تلك الضجة قد نتجت عن طبيعة البطلين‏..‏ القتيل والقاتلة‏,‏ غير أن الأهم من ذلك ما أثارته القضية من بحث فى العلاقة بين الشرق والغرب‏,‏ الأمر الذى أدى إلى استدعاء قول الشاعر الإنجليزى المشهور رديارد كبلنج1865‏ ـ ‏1936
Rudyard Kipling‏
بأن الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا أبد
ا‏East is east and west is west and they can never meet
نبدأ بطبيعة البطلين‏..‏ مدام مارجريت سيدة فرنسية‏,‏ العمر‏:33‏سنة‏,‏ سبق لها الزواج‏,‏ على درجة فائقة من الجمال كما وصفها مراسلو الصحف الذين حضروا المحاكمة لها ابنة غير شرعية عمرها‏15‏ سنة‏ (!).‏ البطل‏:‏ على كامل فهمى بك المجنى عليه‏,‏ شاب مصرى صغير‏,‏ العمر‏23‏ سنة‏,‏ أى أنه يصغر زوجته بعشرة سنوات‏ (!)-‏ ليس هو بالطبع على فهمى كامل بك شقيق الزعيم مصطفى كامل‏-‏ ينتمى إلى طبقة الأعيان المنحدرين من أصول تركية فى الغالب‏,‏ حيث ظل خلال فترة زواجه القصيرة يدعى بأنه قريب الملك فؤاد‏,‏ بل ذهب فى ادعائه إلى حد بعيد حين أخذ يلقب نفسه بالبرنس‏,‏ له ثلاث أخوات‏,‏ أما ثروته فتقول الأهرام أنه قد أنفق خلال السنوات الأربعة السابقة على اغتياله نصف مليون جنيه على النساء والخمر والسيارات وكلفه القصر الذى بناه نحو‏120‏ ألف جنيه‏,‏ وكان يهدى هدايا قيمة إلى البوليس فى كل مدينة يحل فيها‏,‏ باختصار فقد كان وارثا متصفا بالرعونة‏,‏ وهى رعونة لم تتوقف عند حد التبذير‏,‏ وإنما امتدت لاختياره لزوجته الفرنسية‏,‏ التى لم تكن تملك أية صفة يمكن أن يتطلبها شاب مثله سوى جمالها الباهر‏,‏ والأكثر من ذلك أنها انعكست على علاقته بتلك الزوجة‏!‏
وحسب رواية مدام مارجريت فى مذكراتها عن قصة زواجها من على فهمى,‏ والتى تسابقت الصحف على نشرها بعد محاكمتها‏,,‏ فإنها كانت فى القاهرة عندما أخذ فى التقرب إليها بما أبداه من مظاهر العطف والحب الأمر الذى شعرت معه بسعادة عظيمة وقد أخذ غرام فهمى بك يقوى ويشتد‏,‏ فرأيت أمامى حياة كالحياة التى قرأت وصفها فى كتاب‏ (ألف ليلة وليلة‏)‏ وسمعت كلاما ينم عن هيام شديد ويدل على ما تستطيع مثل هذه الثروة الطائلة أن تكفله من السعادة‏,‏ وتم التوقيع على العقد المدنى فى يوم 27‏ ديسمبر عام ‏1922‏ وكان يقضى باعتناقها الإسلام فيما حدث فعلا بعد أسبوعين بالضبط‏.‏
روت المدام بعد ذلك طرفا من أعمال البك‏,‏ التى تدل على إسرافه ونزقه‏,‏ كأن يكون فى غرفته ثلاث آلات تليفون‏,‏ مع العلم أن آلة واحدة تكفى,‏ وكأن يطير بزورقه الذى وضع فيه محركا قوته‏450‏ حصانا على سطح النيل بسرعة هائلة وكان الخطر الذى ينشأ عن ذلك عظيما حيث الدهبيات التى تتعرض لتموجات تهتز منها فتصطدم بالشواطئ وتتكسر الأوانى فيها فيصعد الناس على ظهورها وينهالون على راكبى الزورق بالشتائم‏.‏
المهم أن هذا الزواج الذى لم يعمر إلا نحو ثمانية أشهر وانتهى بالمشهد المأسوى الذى جرى فى إحدى غرف فندق سافواى,‏ قد أسقط النقاب عن طبيعة النزعة العنصرية الكامنة عند الأوربيين والتى عبرت عنها قول رديارد كبلنج‏,‏ فيما أظهرته وقائع محاكمة مدام مارجريت‏,‏ وهى الوقائع التى تابعتها الأهرام بتفصيل كبير من خلال مراسلها الخصوصى فى العاصمة البريطانية‏..‏
‏***‏
المحاكمة بدأت يوم الثلاثاء ‏11‏ سبتمبر عام ‏1923‏ فى إحدى المحاكم ذات القاعات الصغيرة فى العاصمة البريطانية‏,‏ حتى أن مراسل الأهرام يصفها فى أول تقاريره بأن عدد مقاعد المتفرجين فيها لا يزيد عن عشرين مخصصة للمحامين والصحفيين وجمهرة قليلة حصلت على تذاكر الحضور‏,‏ ويبدو أن المسئولين عن المحاكمة تصوروا فى بداية الأمر أنها لن تكون سوى قضية عادية لن يقبل عليها أحد‏,‏ غير أن تطورات المحاكمة خلال اليومين التاليين أدت إلى تهافت الجمهور على رؤية الجلسة‏,‏ حسب تعبير الأهرام‏,‏ وأنه بعد امتلاء القاعة عن آخرها كان هناك طابور بلغ عدد أفراده الخمسين واقفين على باب القاعة ينتظر كل منهم خروج أى من الحضور ليحل محله‏,‏ ومن الطريف‏,‏ حسب رواية جريدتنا‏,‏ أن بعضا من هؤلاء كان يبيع مكانه لأحد المتلهفين على الحضور إذا اقترب دوره‏!‏
هيئة المحكمة ضمت إلى جانب القاضى والادعاء أثنى عشر محلفا‏,‏ غير أن البطل الذى فرض وجوده على الجميع كان السير مارشال هول محامى المتهمة الذى رأس هيئة الدفاع التى تكونت من ثلاثة أفراد‏,‏ فهو الرجل الذى حول القضية من جناية عادية لها أطرافها المحددين إلى محاكمة للعادات الشرقية‏,‏ بكل ما ترتب على ذلك من أنها غدت قضية رأى عام انحاز فيها البريطانيون والفرنسيون لمدام مارجريت التى اعتبروها ضحية لتخلف الشرق وهمجيته‏ (كذا‏),‏ بينما وقف المصريون ومعهم بعض العرب يدافعون عن عاداتهم وتقاليدهم‏,‏ وبدا وكأن لا لقاء بين الطرفين على حد تعبير الشاعر الإنجليزى الشهير‏.‏
وقبل التعرض لمرافعة هول التى شكلت العمود الفقرى للقضية فإن الخطة التى اتبعتها الجانية للنجاة من عواقب جريمتها كانت متعددة الجوانب‏,‏ فهى لجأت لهذا المحامى لمكانته الاجتماعية‏,‏ وهو يحمل لقب السير‏,‏ كذا لشهرته العريضة فى عالم المحاماة‏,‏ رغم الأتعاب الجسيمة التى كان يتقاضاها‏,‏ والتى بلغت حسب رواية الأهرام ثلاثة آلاف جنيه‏,‏ وألفين لمساعده الأول‏,‏ فضلا عن خمسمائة لمساعده الثانى,‏ وهى مبالغ جسيمة بتقديرات العصر‏.‏
وتذكر نفس الرواية أن مدام فهمى خصصت مبلغ‏4500‏ جنيها للصحف فى لندن وباريس لجذب الرأى العام وتقوية شعور العطف عليها‏,‏ وتجسيم شناعة الزوج الشرقى وما تعانيه الزوجة فى مصر خاصة إذا كانت أوربية متمدنة‏ (!),‏ وليس من شك أن صاحبتنا قد حصلت من القتيل على تلك الأموال التى أنفقتها عن سعة للإفلات من جريمتها‏,‏ خاصة وأنها كانت تنحدر من أصول اجتماعية متواضعة‏,‏ فقد كان والدها مجرد سائق‏!‏
ونعود لمرافعة المحامى البريطانى الشهير التى حشدها بالهجوم على القتيل أكثر من الدفاع عن القاتلة‏,‏ فقد استغل بعض ما جاء فى شهادة الشهود ليسمه بالكذب حتى أمكنه أن يحمل مدام مارجريت على القدوم إلى مصر وبأنه هناك جعل يريها قصره البديع وما عنده من الخدم والحشم وسياراته الممتازة ويخته وزورقه البخارى وجميع وسائل الرفاه يدفعه إلى كل ذلك ما ترسب داخله فى العلاقات بين الشرق والغرب والإعجاب الذى ينظر به الرجل الشرقى إلى امرأة غربية‏!‏
وأخذ بعد ذلك يبرهن على ما وصفه بهمجية الرجل الشرقى وبأنه وحش ضارى من خلال رصده العديد من أعمال الشاب الصغير على كامل فهمى بك خلال فترة زواجه القصيرة من السيدة الناضجة مدام مارجريت‏,‏ وبإشارات خطابية مؤثرة‏,‏ على حد توصيف مراسل الأهرام الخصوصى الذى كان حاضرا المحاكمة‏..‏
أنه كان يحمل مسدسا يطلق منه الرصاص فوق رأسها ليخيفها ويخضعها ويحملها على طاعته شأن الزنجى مع المرأة لأنه يعتبرها متاعا له‏!‏
‏*‏ منع زوجته مرة من ركوب السيارة وأرسلها لركوب الترام مع خادم نوبى ليراقبها‏,‏ ولعل المحامى الإنجليزى الشهير كان لا يعلم أنه من عادة الأسر الكبيرة فى ذلك الوقت إرسال أحد الخدم لمصاحبة سيداتها وبناتها فى تنقلهن للحماية وليس للمراقبة‏.‏
‏*‏ تعهد بأن يدفع لها صداقا قدره ألفى جنيه غير أنه لم يدفع منها سوى أربعمائة وخمسين وأعطاها صكا بالباقى وكان هذا المبلغ هو كل ما أخذته مدام فهمى من هذا الرجل الذى نعتوه بأنه من أكبر أغنياء مصر‏,‏ ومع أن السير هول لم يقدم ما يستطيع أن يثبت به هذه القصة‏,‏ فإنها حتى لو حدثت إنما تدل على النظرة الغربية للزواج التى تتسم تماما بالطابع المادى,‏ وهو ما تختلف معه النظرة الشرقية التى تنظر إليه باعتباره رباطا مقدسا وأساسا للبناء العائلى.‏
‏*‏ يصور صاحبنا الزوجة الفرنسية وقد عاشت فى القصر الذى هيأه لها فهمى بك فى القاهرة تحت رحمة خدم من الزنوج وصارت أسيرة فى يده على نوع ما‏,‏ ومرة أخرى لا يعير التفاتا إلى الحقيقة بأن عدد الخدم فى القصور كان يشكل جانبا من الأبهة الاجتماعية للطبقة التى انتمى إليها الزوج‏,‏ أما القول بالأسر فنظن أن مصدره سعى الرجل لكبح جماح المدام التى رغبت أن تعيش بنفس الطريقة الباريسية التى تعودت عليها‏,‏ وهو ما كان يمكن أن يعرضه للقيل والقال فى عاصمة المعز‏!‏
‏*‏ وبحركة مسرحية يخرج السير مارشال هول خطابا غفلا من الإمضاء ادعى أن أحدهم أرسله لمدام مارجريت من باريس‏,‏ وكان أشبه بعريضة اتهام للشرقيين‏..‏ جاء فيه‏:‏ أرجو أن تسمحى لصديق جاب أقطارا عديدة من بلاد الشرق ودرس أخلاق الشرقيين وعرف اعوجاج طباعهم أن يسدى إليك بعض النصح‏.‏ فلا تعودى إلى مصر‏,‏ وخير لك أن تخاطرى بالثروة من أن تخاطرى بحياتك‏.‏ ولا يبعد أن يصيبك حادث إذا سافرت‏!‏
وقبل أن ينهى مرافعته الطويلة يخلص محامى مدام مارجريت إلى القول بأن كل عيوب الرجل الشرقى قد بدت فى تصرفات على كامل فهمى بك‏,‏ فهى امرأة ذات قوة جذابة غريبة‏,‏ هاشة باشة هادئة ساكنة‏ (كذا‏)‏ ارتكبت غلطة فادحة فى تقديرها أخلاق فهمى بك وكثيرا ما يميل النساء إلى من هم دونهن سنا من الرجال‏.‏ وقد ظهر فهمى بك بما جبل عليه من الدهاء الشرقى بمظهر الرقة والقبول فى عينيها‏.‏ وهو رجل ولوع بالنساء‏,‏ وقد بدأ خداع هذا الرجل الخائن يظهر بعد أن عقد له عليها عقدا مدنيا‏,‏ فمنذ ذاك الوقت بدت حقيقة طباعه‏,‏ فتحول من عاشق دنف إلى وحش ضار مع أحط ما عرف من الطباع وكلما أنعم الإنسان النظر فى الأحوال التى عاشت فيها هذه المرأة المنكودة لا بد أن تعتريه القشعريرة والاشمئزاز‏!‏
ويعود السير هول فى يوم الجمعة ‏14‏ سبتمبر ليطالب المحلفين إلا يضعوا اعتبارا إلى كون فهمى بك أصغر من زوجته بعشر أعوام‏..‏ قال‏:‏نعم أنه لم يكن يبلغ سوى الثالثة والعشرين من العمر ولكنه كان منغمسا فى كثير من الرذائل ومنهمكا فى الإسراف بقواه الجنسية‏,‏ ومرة أخرى ردد اتهاماته للرجل الشرقى بأنه يعتبر امرأته متاعا من الأمتعة التى يشرف عليها سكرتيره‏,‏ وأنه مهما بلغ الشرقى من التمدن فلا بد أن تجدوا الطباع الشرقية تحت جلده‏,‏ وكثير من الأقوال الشبيهة التى ألقاها على حد توصيف الأهرام ببراعة فى التمثيل كبراعته فى المحاماة مما كان محل تأثير ظاهر على المحلفين وعلى الرأى العام البريطانى فى ذات الوقت‏.‏
ولم تكن مرافعة الادعاء بقوة مرافعة الدفاع‏..‏ صحيح أن النائب العمومى استهل هذه المرافعة بقوله أن خطبة السير مارشال هول من أعظم وأقوى ما أخرجته المحاماة فى إنجلترا فنا وتمثيلا‏,‏ ولكنى أريد أن أنقلكم من المحيط التمثيلى السائد فى هذه المحكمة منذ أربعة أيام‏,‏ وهو ما حاوله فعلا‏,‏ غير أنها لم تكن المحاولة التى يمكن أن تفسد الأثر الذى تركته مرافعة الدفاع‏.‏
نبه الرجل أولا إلى فارق السن بين الزوجين‏,‏ وأنه يدل على أنها خبيرة بشئون العالم وأحوال الرجال‏,‏ خاصة وأنها كانت قد أنجبت وهى فى السادسة عشرة‏,‏ ثم سعى بعد ذلك إلى أن يبرهن على صدق حب فهمى بك لمرجريت من عقد الزواج المدنى والخطابات الغرامية التى كان يرسلها إليها وأنها كانت تعيش فى القاهرة عيشة البذخ والرفاهية وليس هناك ما يبرر القول بأنه كان يتسلى بتعذيب النساء‏.‏ وكانت مدام فهمى تتوق إلى أن تكون أميرة بدليل أنها كانت مستعدة أثناء زواجها لترك دينها والتنازل عن حقها فى الطلاق‏,‏ وقد لعب الطمع دورا كبيرا فى هذا الزواج‏.‏
غير أنه مما أضعف كثيرا من تأثير تلك المرافعة اعتراف النائب العام بكثرة المنازعات والمشاحنات بين الزوجين‏,‏ وأعرب فى هذه المناسبة عن أسفه أن الشريعة الإسلامية تخول الزوج الشرقى بعض الحقوق الزوجية وأن له حق تأديب الزوجة فى بعض الأحيان‏,‏ ولكن ليس بالطريقة التى ذكرها السير مارشال هول والتى وصفها بالقسوة الشديدة‏,‏ وكأنه بذلك اتفق مع محامى المتهمة فى إدانة المبدأ‏.‏
وقد أدرك القاضى بأن الرياح تملأ أشرعة سفن الدفاع مما بدا سواء على وجوه المحلفين أو فى تصرفات الجمهور الحاضر أو تعليقات الصحف الأمر الذى دعاه قبل نهاية جلسات المحاكمة إلى إلقاء خطبة تحذيرية طويلة كانت موجهة بالأساس للمحلفين‏..‏ جاء فيها‏:‏
لقد أثبت الاتهام أن المتهمة قتلت على فهمى بك والقانون يعتبر أن هذا العمل هو قتل عن عمد ما لم يثبت الدفاع غير ذلك‏.‏ وإذا كان عند المحلفين شك فى أنها اعتقدت أو لم تعتقد أن عملها ليس جرما أو هو جرم أقل من القتل فعليهم أن يقرروا أنها ارتكبت جريمة قتل عن عمد‏.‏ ويجب علينا أن لا نسمح لشهادات يقشعر منها الجسم أن تشغلنا أو تؤثر فى حكمنا فلا تدعوا الخشية والاشمئزاز يمنعانكم عن استخدام مواهبكم العقلية‏.‏
رغم ذلك‏,‏ وبعد أن خلا المحلفون ساعة للمذاكرة خرجوا من خلوتهم وجلسوا فى مقاعدهم ونترك لمراسل الأهرام الخصوصى وصف ما جرى..‏
كاتب المحكمة‏-‏ هل مدام فهمى مجرمة بالقتل عمدا؟
كبير المحلفين‏-‏ ليست مجرمة
كاتب المحكمة‏-‏ هل هى مجرمة بالقتل من غير تعمد؟
كبير المحلفين‏-‏ ليست مجرمة‏.‏
فلما سمع المتفرجون فى المحكمة هذا الحكم جعلوا يصفقون‏.‏ واتصل الخبر بالجمهور الذى ينتظر خارجا فجعل يصفق أيضا‏.‏ فاستاء القاضى من تظاهر المتفرجين وأمر بإخراجهم جميعا من المحكمة ما عدا المحامين والصحافيين‏,‏ ثم قال مخاطبا مدام فهمي‏: (مدام فهمى أن المحلفين وجدوك غير مجرمة فأنت بريئة مما عزى إليك‏).‏
وينهى مراسلنا وصفه بتنبيه المصريين أن يتوقعوا حملات شديدة عليهم من الصحف الإنجليزية خلال الأيام التالية‏,‏ وقد حدث‏.‏
‏***‏
تأسيسا على هذا الفهم أخذ صاحبنا يرصد بدءا من يوم الاثنين ‏17‏ سبتمبر أقوال الصحف البريطانية حول القضية ليوافى بها الأهرام‏..‏
كتبت الديلى ميرور بأنه ليس من المستحب عقد زواج بين رجال شرقيين ونساء غربيات‏,‏ فهذا الزواج يفشى أمورا مضحكة مثيرة للعواطف وغير لائقة وقدمت قضية مدام فهمى عبرة لبناتنا ذوات العواطف اللاتى لم يؤخذن بالسفسطة بعد‏.‏
لويد نيوز قالت أن المرأة البيضاء‏ (الأوربية‏)‏ التى تطلب محبا من غير جلدتها سواء كان من الصفر أو السمر أو السود تدخل عالما لا بد أن تثور طبيعتها عليه عندما تعرف الحقيقة‏,‏ وهو ما صدقت عليه الصنداى بكتوريال بقولها أن قضية مدام فهمى لم تحدث سوى قليلا من الاستغراب لدى الذين ألفوا المظاهر التى تظهر بها عقلية الشعوب الشرقية‏.‏
وتحذر جريدة وسترن مورننج نيوز من روح التساهل التى انتشرت بين كثير من الأسر الإنجليزية وحدت بهم إلى قبول أعداد من الشرقيين فى منازلهم على أساس الصداقة والألفة فكان ذلك سببا للزواج فيما بعد‏,‏ ولكن لما ذهبت الزوجة الإنجليزية إلى الشرق بدأت خيبة الأمل‏,‏ فعلى الآباء والبنات الإنجليز أن يحترسوا من الشرقيين‏.‏
غير أن عديدا من الصحف الكبيرة رفضت أن تنجرف فى هذا التيار اللاشرقى خاصة بعد أن ظهرت ردود فعل قوية لإجراءات المحاكمة وضد الحكم سواء بين المصريين المقيمين فى إنجلترا أو الذين تصادف وجودهم بها خلال المحاكمة‏,‏ أو فى صفوف الشعب المصرى,‏ أو على صفحات الجرائد المصرية‏..‏
أرسل أحد هؤلاء وهو عبد الرحمن البيلى بك بيانا إلى الصحف الإنجليزية يدافع فيه عن الحياة الزوجية المصرية مفندا لأقوال السير مارشال مؤكدا أن المصريين يعاملون زوجاتهم بكل احترام ولا يزيد عدد الذين يشذون عن هذه القاعدة منهم على عدد الذين يشذون عنها فى البلدان الأخرى.‏ وقد نصت الشريعة الإسلامية على شروط لإباحة تعدد الزوجات يجعل هذا التعدد مستحيلا‏.‏ وتتناقل الصحف البريطانية بين الحين والآخر أخبارا عن الحركة النسوية فى مصر تدل على الشأن الخطير الذى للمرأة فى شؤون البلاد‏.‏ وقد كان فى موكب استقبال معالى سعد باشا زغلول ثمانون سيارة للسيدات‏.‏ واشترك الوفد المصرى النسوى الذى ذهب إلى رومه برياسة السيدة هدى هانم شعراوى اشتراكا ذا شأن فى المناقشات التى دارت فى المؤتمر‏.‏ ثم أن القانون المصرى لا يعترف للزوج بأن يعامل زوجته معاملة تختلف عن أى شخص آخر‏.‏ وبين الزوجات المصريات سيدات من جميع الجنسيات الأوربية وهن ينكرن كل الإنكار ما أبداه السير مارشال من ملاحظات‏.‏
فى القاهرة اجتمعت لجنة الوفد المركزية للسيدات وأرسلت برقيات احتجاج للصحف الإنجليزية ودار المندوب السامى على ما جرى فى المحاكمة المشئومة احتجت فيها على التهم الفظيعة الباطلة التى وجهها المحامون عن مدام مارجريت فهمى وأغلب الصحافة الإنجليزية ضد الشرقيين عموما والمصريين خصوصا‏.‏ تلك التهم الباطلة التى لا ترى فيها السيدات المصريات إلا خطة عدائية ونوعا جديدا من نشر الدعوة للتشهير بالشرقيين تبريرا لسياسة الاستعمار الإنجليزى.‏
وعبرت الاحتجاجات الحدود المصرية مما يظهر فيما نشرته جريدة الديلى إكسبريس نقلا عن مكاتبها بالقدس من أن قضية مدام فهمى أحدثت استياء شديدا من البريطانيين بين عرب فلسطين‏,‏ فقد تذمروا مما وجهه السير مارشال هول إلى الشرقيين من الشتائم واتهموا المحلفين بالتحيز‏.‏
لعل ذلك الموقف المصرى من جانب‏,‏ فضلا عما شاب قرار المحلفين من كثير من أسباب القصور من جانب آخر‏,‏ كان مما دفع عددا من الصحف البريطانية إلى اتخاذ موقف مغاير‏..‏
كانت الديلى هيرالد‏,‏ الجريدة الناطقة بلسان حزب العمال‏,‏ من أولى الصحف التى لم ترحب بالحكم‏,‏ فقد رأت أنه لم ينتج عن مقتضيات العدالة بقدر ما نتج عن براعة السير مارشال هول‏,‏ وأنه إذا صار الحكم للعمال فستقلب الحكومة هذا النظام الذى يجعل حظ المتهمين من البراءة متوقفا فى الغالب على مقدار ما يستطيعون أن ينفقوه من مال على الدفاع‏.‏
ووصفت الأهرام موقف جريدة الديلى كرونيكل بأنه التعقل بعد التهور‏,‏ فقد اعترفت تلك الجريدة بمعقولية الاحتجاجات المصرية‏,‏ والتى دافعت عن أنظمة الزواج الإسلامية فى مصر‏,‏ وأنها مؤسسة على مبادئ أدبية قويمة يقصد منها أن يقوم الرجال والنساء على السواء بواجبات الزواج‏,‏ وبين المسلمين من الصالحين كما بين المسيحيين‏,‏ ومن الرياء أن ندعى أن حضارتنا أنسب لعقولنا من بعض الحضارات المتأخرة فى معظم أنحاء الشرق‏.‏
كما كتبت جريدة الديلى نيوز تحت عنوان حقوق المرأة فى الشرق والغرب مؤكدة أن ضررا عظيما وقع من الحملات التى كالتها الصحف على الشرقيين بوصفهم أنهم أزواج قساة وأن تعدد الزوجات فى الشرق أفضل منه فى الغرب‏,‏ فبينما يوضع لهذا التعدد قيود وشروط فإنه موجود فى الغرب فى شكل أعظم ظهورا وخطرا‏.‏
وعلى الرغم من تعدد المقالات التى كتبتها الصحف الإنجليزية والتى حملت ذات النغمة الاعتذارية إلا أنه لا يمكن القول أنها بددت مقولة كبلنج الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا أبدا‏,‏ على الأقل من الناحية الاجتماعية بكل ما تحمله من عادات وتقاليد وبنية نفسية‏!‏