ads

Bookmark and Share

الأحد، 22 أغسطس 2010

334 ديوان الحياة المعاصرة


البلاشفة قادمون

د‏.‏ يونان لبيب رزق

نشر فى الأهرام    الخميس 20 أبريل 2000م   -   15 محرم 1421هـ

البلشفيك‏ كلمة روسية بمعنى الأغلبية‏,‏ اكتسبت مضمونها السياسى بعد الانقسام الذى حدث داخل الحزب الديموقراطى الاشتراكى الروسى فى عام ‏1903..‏ فتجمعت‏ (الأغلبية‏)‏ حول التصور الذى طرحه لنين للثورة‏,‏ بينما لم يستطع مارتوف سوى أن يجتذب‏ (الأقلية‏),‏ والتى تعنى بالروسية المنشفيك
وقد اكتسب اسم البلشفية شهرة واسعة بعد النجاح الكاسح الذى أحرزه الجناح اللينينى فى الثورة المعروفة بثورة أكتوبر‏,‏ والتى نجحت فى ‏7‏ نوفمبر عام ‏1917‏ فى إنهاء النظام القيصرى الروسى والسيطرة على الحكم فى تلك البلاد الشاسعة التى ظلت تلعب دورا أساسيا فى السياسات الأوربية‏,‏ بل والسياسات العالمية‏,‏ منذ أن نجح فى تحديثها قيصرها الشهير‏,‏ بطرس الأكبر‏ (1672‏ ـ ‏1752)‏.
ولا شك أن هذا النجاح شد اهتمام شعوب العالم لهذه الدولة الكبرى,‏ ولأسباب عديدة‏;‏ منها‏:‏ تأثير سيطرة البلاشفة على الحكم فى مجريات الحرب العالمية الأولى التى كانت لا تزال محتدمة وقتئذ‏,‏ ومنها‏:‏ الصراعات التى نشبت بينهم وبين القوى المعارضة التى دعمتها قوات الحلفاء الذين لم ينظروا بعين الرضاء للثورة الوليدة لما ترتب عليها من انسحاب روسيا من الحرب‏,‏ بكل ما عناه ذلك من انهيار جبهتهم الشرقية‏,‏ وهى الصراعات التى اكتسبت تسميات لونية‏..‏ البلاشفة الذين عرفوا بالحمر‏,‏ وخصومهم الذين تسموا بالبيض‏!‏
وقد عظم من هذا الاهتمام أن أفكار الثورة الروسية‏,‏ شأنها فى ذلك شأن الثورة الفرنسية التى سبقتها بما يزيد عن قرن وربع‏,‏ كانت قابلة للتصدير‏..‏ الفرنسية بأفكارها السياسية الداعية إلى الديموقراطية‏,‏ والروسية برؤاها الاجتماعية الاقتصادية الداعية إلى العدالة‏.‏
وكان لتعاظم هذا الاهتمام وقع خاص فى البلاد التى شهدت أعقاب الحرب العالمية الأولى ثورات وطنية‏,‏ وكانت مصر من بينها‏,‏ فالمعلوم أنه لم يفصل بين الثورة الروسية‏ (نوفمبر ‏1917)‏ والثورة المصرية‏ (مارس ‏1919)‏ أكثر من ستة عشر شهرا‏,‏ الأمر الذى دعا البعض‏,‏ خاصة من القوى المعادية للاشتراكية إلى التوجس من التأثيرات البلشفية على الحركة الوطنية فى مصر‏.‏
زاد من هذا التوجس أن ثورة ‏1919‏ قد عرفت ظاهرة اقترنت بالثورة البلشفية‏,‏ تلكم هى ظاهرة تكوين العمال للسوفيتات فى سائر المدن والقرى الروسية‏,‏ والتى رفعت راية العصيان على السلطة المركزية لتنخرط بعد ذلك فى التيار العام للثورة‏,‏ فيما بدا فى مصر من قيام الثوار بإعلان تولى السلطة على أنقاض السيطرة الاحتلالية‏,‏ الأمر الذى شهدته مدن عديدة مثل طنطا والمنيا‏,‏ غير أن زفتى المدينة الصغيرة الواقعة فى مديرية الغربية قد اكتسبت شهرة خاصة فى هذا الصدد حتى أن البعض وصف ما قام فيها بالجمهورية‏.‏ هذا فضلا عن اصطباغ الثورة بالمطالب الاجتماعية فيما حدث فى بعض المناطق الريفية كان أبرزها هجوم الفلاحين على أملاك أحد الباشوات‏,‏ إبراهيم باشا مراد‏,‏ فى قرية ميت جابر قرب بلبيس بالشرقية‏.‏
ويرى الدكتور رفعت السعيد فى عمله الموسوعى عن تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر‏,‏ أن هذا التوجس شابه كثير من المبالغات‏,‏ ويفسر ذلك بأن تلك المبالغات كانت تستهدف تخويف كل القوى الوطنية من الاشتراكيين وإيهامها بأن تأسيس الحزب الاشتراكى خطر على الاستقلال‏,‏ وهو تفسير يتصف بقدر كبير من الموضوعية من رجل نذر حياته للفكر اليسارى,‏ وكان يهمه بالطبع الموافقة على ما جاء فى مصادر عديدة من تضخيم حجم العمل الاشتراكى آنئذ‏,‏ غير أنه يعترف من جانب آخر بأن المبالغات المذكورة قد أثرت بالفعل حتى على قيادة الثورة‏,‏ فيما نقله عن خطاب سرى أرسله سعد زغلول إلى اللجنة المركزية فى 23‏ يونيو عام ‏1919‏ يعرب فيه الأخير عن عدم رضائه عن المنشورات التى تفيد اعتماد المصريين على الألمان أو تتضمن الانتصار للبلشفيك‏,‏ فإن هذه المنشورات يستفيد منها أعداؤنا للقول بأن الحركة المصرية لها اتصال بالألمان والحركة البلشفية‏!‏
وإذا كانت المخاوف من هذا التأثير قد وصلت إلى الزعيم المصرى فى مقره بباريس‏,‏ فقد كان من الطبيعى أن تجتاح سلطات الاحتلال البريطانية فى البلاد‏,‏ هذا من جانب‏,‏ والقوى المحافظة على أرض الوطن من جانب آخر‏,‏ الأمر الذى فرض نفسه على الوثائق البريطانية خلال تلك الفترة‏,‏ كما فرض نفسه على الأهرام مما تكشف عنه كتابات صحيفتنا بدءا من صيف عام 1919‏.
ونبدأ بالوثائق التى تسوق لنا تقريرين طويلين وضعتهما إدارة المخابرات التابعة للجيش البريطانى فى البلاد‏,‏ جاءا تحت عنوان البلشــــــــــــفية فى مصــــر
الأول بتاريخ‏23‏ أغسطس عام ‏1919‏ والثانى بتاريخ ‏8‏ سبتمبر من ذات العام‏..‏
جانب من المعلومات التى جاءت فى هاتين الوثيقتين عنى عناية كبيرة برعية إيطالية اسمه بيزوتو
وأنه بعد أن ترك البلاد فى بداية الحرب عاد إليها لينفق عن سعة ويبث الدعاية للبلشفية‏,‏ وأن تلك الدعاية لقيت نجاحا ليس فحسب بين الرعايا الإيطاليين واليونانيين‏,‏ ولكن بين بعض المصريين‏,‏ ولأنه يعلم تأثير الدين على المصريين‏,‏ فقد ظل يؤكد فى دعايته أن النبى محمد كان بلشفيا‏,‏ أما المسيح فقد كان متطرفا فى البلشفية‏!‏
ونظن أن استخدام الدين فى الدعاية للمذهب الجديد هو الذى دعا إلى الاستخدام المضاد‏,‏ الأمر الذى بدا فى الفتوى المعروفة التى أصدرها حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتى الديار المصرية‏,‏ والتى نشرتها الأهرام فى صفحتها الأولى فى عددها الصادر يوم الاثنين ‏18‏ أغسطس عام ‏1919‏ تحت عنوان كبير‏:‏ البلشفية تهدم الديانات‏-‏ فتوى مفتى الديار المصرية‏-‏ سؤال وجواب‏.‏
وإذا كان مضمون فتوى الشيخ بخيت قد اكتسب شهرة كبيرة‏,‏ وجاء نصها فى أكثر من عمل من الأعمال التى عنيت بتاريخ اليسار المصرى,‏ أو بتاريخ مصر الحديث عموما‏,‏ فإن السؤال الذى أقام عليه تلك الفتوى والذى وجهه الشريف حسن محمد لم يكتسب نفس الشهرة‏,‏ مع إن الاثنين مكملان لبعضهما‏..‏
يصف صاحب السؤال طريقة جماعة البلشفية التى فشت فى هذا الزمان بأنهم يدعون إلى الفوضى والفساد وإنكار الديانات وإباحة الحرمات وعدم التقيد بعقيدة دينية وإلى الاعتداء على مال الغير وينكرون حق الأشخاص فيما يملكون‏,‏ ويعتقدون أنه يسوغ لكل واحد أن يغتصب ما شاء ممن يشاء‏,‏ ويستبيحون سفك الدماء‏,‏ وينكرون حقوق الزوجية بين كل زوجين‏,‏ كما ينكرون نسبة الأولاد إلى آبائهم بل يجعلونهم منسوبين إلى حكومتهم‏,‏ ويهدمون سياج المعيشة العائلية ولا يفرقون بين حلال وحرام‏,‏ وكل امرأة تحل لكل واحد منهم ولو لم يكن بينها وبينه عقد زواج‏,‏ ويستبيحون دم كل امرأة تصون عرضها عن أى واحد منهم‏.‏ وكثيرا ما يجبرون النساء على انتهاك حرماتهن‏..,‏ وهو ما وافقه عليه المفتى الذى وقع على فتواه باسمه كاملا‏..‏ الفقير إليه عز شأنه محمد بخيت المطيعى الحنفى عفى عنه‏!‏
وكما تبين الأهرام فإن تلك الفتوى فتحت الباب على مصراعيه بين أنصار البلشفية وخصومها‏,‏ وإذا كان ثمة ملاحظة فى هذا الصدد فإن جريدتنا وإن حاولت أن تبدو محايدة فى عرض وجهات نظر الطرفين‏,‏ إلا أنها كانت أكثر انحيازا للخصوم‏!‏
‏***‏
ظهر هذا الانحياز من الأخبار المتناثرة التى ظلت الأهرام تنشرها عما كانت تكتبه الصحافة الأوربية المعادية للبلاشفة‏,‏ فتنقل عن إحداها قول بسمارك‏,‏ السياسى الألمانى العجوز‏,‏ بأنه كان يود من الأمم والشعوب أن تعين لهؤلاء المعلمين الاشتراكيين بقعة فى الأرض يخرجون بها تعاليمهم من حيز النظر إلى حيز العمل ليرى العالم كله هل بالإمكان السير على تعاليم ماركس أم لا؟؟‏.‏
فى مناسبة انعقاد مؤتمر الصلح فى العاصمة الفرنسية‏,‏ فى أوائل عام ‏1919,‏ تقول جريدتنا بالحرف الواحد‏:‏ طلب البولشفيك أن يرسلوا مندوبين إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح فأبى الحلفاء قبولهم‏,‏ لأنهم خانوا عهدهم وخفروا ذمتهم واستبدوا بالحكومة والحكم ومزقوا شمل الأمة الروسية واضطهدوا رعايا الحلفاء وأنكروا الديون والواجبات‏!‏
غير أن الأنكى من هذا وذاك ما كتبته الأهرام فى صفحتها الأولى يوم الأحد ‏9‏ مارس عام ‏1919‏ تحت عنوان فى جنة البولشفيكية تروى قصة ضابط بولندى سافر إلى روسيا و قدم‏,‏ بحق أو بباطل‏,‏ صورا مأسوية عن حياة الشعب الروسى فى ظل الحكم الشيوعى,‏ كان أكثرها تأثيرا ما رواه عن كيفية حصول الروس على غذائهم‏,‏ وأن كل شخص يتناول وجبة واحدة فى اليوم فى كل المطاعم وأن ما يقدم للشخص الواحد فى مطعم منها يقدم لكل شخص فى كل مطعم‏,‏ وثمن الأكلة الواحدة ثلاثة روبلات ونصف ومتى قدمت التذكرة ألقى أمامك الخادم حساء تعافه النفس ولحما مفروما من كل نوع وبعض السمك وهذا ما يكفيك ثلاث ساعات على الأكثر وتضطر إلى البقاء على هذه الأكلة حتى اليوم التالى!‏
ومع تصاعد أحداث الثورة المصرية‏,‏ ومع تزايد المخاوف من تعرضها للتأثيرات البلشفية انتقلت الجريدة من التلميح‏,‏ الذى قام على النقل عن الآخرين‏,‏ إلى التصريح الذى يقوم على الرأى المباشر‏,‏ هو ما نلاحظه فيما كتبته تحت عنوان البولشفية والعمال‏-‏ حلم لم يتحقق والذى بدأته بالقول‏:‏ لما قامت البولشفية فى روسيا ونشر لينين تعاليمه وقواعده وقراراته الكثيرة كان بعضها للعمال بمثابة السراب الخادع أو بمثابة الحلم اللذيذ تمسكوا به فى بدء الأمر مستبشرين بتلك القاعدة التى معناها‏ (زيادة فى المال وقلة فى العمل‏)‏ فبات العمال ينتظرون أن تتم الأعجوبة أو يتحقق الحلم اللذيذ‏,‏ فإذا بهم بعد وقت قليل أمام سراب كاذب وأمام حقيقة قضت على تلك الأحلام‏.‏ فقرارات الحكومة البولشفية هدمت صرح الصناعة على اختلاف أنواعها وعبثت بأنظمتها وأعمالها وتركت مئات الألوف من العمال لا يجدون رزقا وقد أحدق بهم الضيق وجور البولشفية من كل جانب‏,‏ ونرى أن فى مقدمة هذا المقال ما يغنى عن قراءته‏!‏
ويؤكد رصد الأهرام خلال العام التالى, 1920,‏ أنها ظلت على سياستها القائمة على العداء للمذهب الجديد‏,‏ سواء بإفساح صفحاتها لخصومه أو بنشر أخبار لسنا متأكدين من صحتها‏..‏
تنشر فى أحد أعدادها تحت عنوان تحذير أمير مصرى تصريحا للأمير جميل طوسون جاء فيه أنه يجب على المسلمين مساعدة الحلفاء على محاربة البلشفية‏,‏ فإنها لا تتفق مع الشريعة الإسلامية لأنها على رغم تنكرها ومداراتها تسلب حقوق الأفراد فى الحرية والملكية كما يفهمهما المسلمون ويوصى القرآن فى آياته باحترامهما‏.‏ ويجب أن لا ننسى تأثير هذه الآيات فى الحياة اليومية فإن القرآن جزء مهم من قانون المعاملات والأحكام ومنه يستمد هذا القانون‏.‏
ويحذر الأمير المصرى فى هذه المناسبة مسلمى القوقاز والفرس والأفغان والروسيا من مخاطر البلشفية‏,‏ وأنهم الذين ينتظر منهم لموقع بلادهم وعقائدهم الدينية أن يساعدوا الحلفاء فى هذه الحرب المتفاقمة‏,‏ حرب المدنية والموت الاجتماعى,‏ ولا ريب أن تهديد البلشفية للحضارة ودعائم الممالك الثابتة يجعلها أكثر أخطار هذا العصر‏!‏
أكثر من ذلك تفسح الأهرام مساحات فى صفحاتها لقارئ وقع باسم مراد‏,‏ وقد وضع صاحبنا ثلاثة مقالات قصيرة تحت عنوان جماعة البلشفيك‏..‏
يركز فى المقال الأول على الفروق الفردية بين البشر فقد استهله بالقول جعل الله الناس فوق بعض درجات لا يتساوون فى شيء‏,‏ فمنهم من وهبت له الفطنة ومنهم من إدراكه أشد سوادا من الفحم‏,‏ ومنهم من سكب روحه على كعبة الهمة والنشاط والجد والاجتهاد تكوينا لنفسه وخلقا لوجوده بين الناس حتى يستطيع أن يعيش وأن لا يمد يده بالسؤال‏,‏ ومنهم من إذا خير بين الخبز اليابس يبله أو يموت جوعا لاستكلف الحركة وأنام على الكسل‏..‏ لذا قام الناس من البدء على الأفضل والمفضولية‏!‏
يرتب على ذلك ما يشعر به من دهشة من أولئك المعروفين بالبلشفيك كيف هم يريدون التسوية بينهم فى المال والرزق والملك وهم طبقات فى المزايا والصفات وكيف يوفقون بين الحياة والجمود والحركة والسكون وبماذا يستحلون الملك فى يد صاحبه يستبيحونه استباحة وكأنه لهم‏..‏ كيف يستحلونه غصبا وسرقة وإعناتا ويشرعون بين أنفسهم‏!‏
ويقارن فى المقال الثانى بين الروس فى ظل النظام القيصرى حين كانوا‏-‏ فى رأيه‏-‏ مثالا حيا ظاهرا للعبادة والتعلق بالدين تعلق الكوكب بالسماء‏,‏ فكانوا كلما مروا ببيعة من البيع وقفوا وأحنوا رؤوسهم ولا يخلو مكان من أمكنتهم من مثال رسول الناصرة يقصد تمثال للسيد المسيح‏,‏ وما أصبحوا عليه من انصراف عن الدين فسبحان من قلبهم رأسا على عقب وأنفا إلى ذنب‏!‏
ثم أنه يتهم البلاشفة فى مقاله الأخير بمقابلة الإحسان بالإساءة إذ يتحدث عن قروض فرنسا لروسيا التى اقتطعتها الأولى من لحمها ودمها وكيف أنكرها هؤلاء بعد استيلائهم على السلطة ويسألهم إذا كانت الاشتراكية كما يقولون مؤسسة على العدل فأى عدل يكون فى إنكار الدين وما هو هذا الأدب الجديد الذى يستحل المدين مال دائنه غنيمة باردة لا يتحرك ولا يوخزه ضميره البشرى فى إضاعته عليه واغتياله منه كقطاع الطرق ونهاب الأسواق‏!‏
وتلجأ جريدتنا فى حملتها إلى حيلة طالما لجأت إليها الصحافة فى التشهير ببعض الأفكار التى تعاديها‏,‏ كان منها ما نشرته تحت عنوان الاحتيال بالبلشفية‏,‏حيث روت قصة شاب تركى كان يتعلم بالأزهر ثم قام بجولة فى الصعيد ليشيع أنباء فحواها أن البلشفيك راغبون فى مساعدة مصر على التخلص من النفوذ البريطانى,‏ وأن المطلوب أن يشارك المصريون بالاكتتاب بجزء من نفقات هذه المساعدة‏,‏ غير أنه حدث بينه وبين أحد أهالى أسيوط شجار أدى إلى القبض عليه وهو الآن فى المستشفى يعالج من تأثير الضرب الذى أصابه فى تلك المعركة‏!‏
غير أن ما نما إلى علم الأهرام من أن البعض يسعى لتأسيس حزب اشتراكى مصرى دفعها إلى أن تعدل من موقفها كثيرا‏..‏
‏***‏
تركزت اهتمامات المعنيين بالسياسة فى مصر خلال صيف عام ‏1921,‏ وعلى وجه التحديد خلال النصف الثانى من شهر أغسطس على المحاولة التى قام بها البعض لتأسيس الحزب الاشتراكى المصرى,‏ ولم يكن أول حزب عرفته البلاد بهذا الاسم‏..‏
فقد حدث خلال الفترة السابقة على الحرب العظمى,‏ أن قام أحد المثقفين‏,‏ واسمه حسن جمال الدين‏,‏ بتأسيس ما أسماه الحزب الاشتراكى المبارك‏,‏ وهى المحاولة التى افتقرت لكل أسباب النجاح‏,‏ خاصة وأن هذا الحزب لم يحمل من الاشتراكية إلا أسمها‏!‏
أول خبر عن الحزب الجديد جاء فى عدد الأهرام الصادر يوم 16‏ أغسطس‏,‏ وفيه إشارة عن جهود يبذلها المسيو روزنتال لتأسيس الحزب الاشتراكى المصرى والذى سيتكون من ثلاثة فروع‏;‏ الفرع الفرنساوى الإنجليزى يتولى هو سكرتاريته‏,‏ والفرع اليونانى بسكرتارية الخواجا بتريدس‏,‏ ثم الفرع الوطنى ويقوم بسكرتاريته الدكتور على أفندى العنانى.‏
ويمدنا الدكتور رفعت السعيد بمعلومات وافية عن روزنتال نقلا عن مذكرة سرية لإدارة الأمن العام‏;‏ الجنسية‏:‏ روسى,‏ المهنة‏:‏ جواهرجى,‏ بدأ اهتمام أجهزة الأمن به منذ وقت مبكر بعد أن اشتهر كفوضوى شديد التعصب يقوم بترويج دعايات مثيرة‏,‏ تم رصد اسمه فى قضايا مختلفة أعوام‏1920,1916,1913,‏ وقد اتخذ من الإسكندرية مقرا لنشاطاته حيث يكثر الأجانب‏,‏ وكما جاء فى تقرير لبوليس الثغر أنه شخصية جماهيرية وله نفوذ وسط الجاليات الأجنبية‏.‏
علقت الأهرام على الخبر بأنها لا تعرف مذهب الدكتور العنانى من هذه الوجهة وما هى اشتراكيته‏.‏ وهل هى متطرفة أو عملية‏,‏ ولكنا نعرف شيئا من مذهب المسيو روزنتال أنه اشتراكى متطرف وقد يتجاوز حدود التطرف‏.‏ فهل الدكتور العنانى من مذهبه؟؟‏.‏
الخبر الثاني‏:‏ جاء على شكل رسالة بعث بها سلامة موسى إلى الأهرام ذكر فيها أن عددا غير قليل من الاشتراكيين المصريين اجتمعوا وقر رأيهم على تأليف جمعية‏,‏ لا حزب‏,‏ تمكنهم من المذاكرة فى فروع هذا المذهب وتطبيقه على الأحوال المصرية‏.‏
ويعترف المفكر المصرى الذى احتل مكانة بارزة فى تاريخ الحركة الاشتراكية‏,‏ بأن الوقت الحاضر قد يكون أسوأ الأوقات لتأليف هذه الجمعية لاعتبارين‏:‏ أولهما‏:‏ أن البلشفية الروسية قد أخفقت إخفاقا يكاد يكون تاما ونشرت على ربوع البلاد الروسية ألوية الخراب والدمار‏.‏ وثانيهما‏:‏ أننا فى مأزق سياسى لا ينبغى أن نزيده حراجة بما يمكن أن يتذرع به المعارضون لاستقلالنا‏.‏
مع ذلك فقد عزا الرجل فشل البلشفية إلى أنها لجأت إلى تحقيق غايتها طفرة وغالت فى تطبيقها‏,‏ والاشتراكية ينبغى أن تكون بطبيعتها وبالوسائل التى تتذرع إليها فكرة نشوء وتطور‏,‏ وهو الاعتراف الذى نعتقد أن قد شجع الأهرام على أن تخصص مزيدا من مساحاتها للمدافعين عن الحزب‏,‏ وبنفس الدرجة لمعارضيه‏..‏
المدافعون‏:‏ كان فى طليعتهم الدكتور على العنانى الذى خصصت الجريدة جانبا كبيرا من الصفحة الأولى فى عددها الصادر يوم الجمعة ‏19‏ أغسطس عام ‏1921‏ لمقال له تحت عنوان الحزب الاشتراكى المصرى,‏ وقد أنكر فيه على الأهرام تساؤلها عن اشتراكيته وما إذا كانت متطرفة أو عملية لأن مقابل التطرف الاعتدال ومقابل العملية العلمية‏,‏ وأن اشتراكية العصور الأخيرة قامت على أسس ثلاثة عامة‏;‏ أساس دينى بنى عليه كثير من الزعماء هيكل مبادئهم الإصلاحية من أشهرهم بيير ليرو الفرنسى,‏ وأساس أخلاقى قائل بالحرية والمساواة والإخاء والعدالة‏,‏ وأخيرا الأساس الطبيعى المادى الذى وضع برنامجه كارل ماركس وفى هذه الأسس جميعها مبادئ إصلاحية كبرى..‏ وللطبيعة سنن لا تحول عنها متى تهيأت لها الأسباب‏.‏
من المدافعين أيضا محمد عبد الله عنان المحامى الذى كتب تحت عنوان الاشتراكية المصرية لا تدعو إلى ثورة أو فوضى,‏ وفسر قوله هذا بأن الاشتراكية ليست على الإطلاق من ضروب الثورة لأنها لا تسعى إلى إحلال غاية محددة مكان حالة معينة إنما ترمى إلى هدم الأنظمة الاجتماعية الحاضرة واستئصالها كاملة شاملة وذلك خلافا للانقلابات السطحية كتغيير الحكومة من ملكية إلى جمهورية مثلا‏,‏ أو كالسعى إلى نيل حقوق سياسية فإن ذلك يمكن تحقيقه بالالتجاء إلى القوة والسفك‏,‏ ولكن انقلابا يراد به إحكام وسائل الإنتاج وتنظيم العلاقة بين العمل والمكافأة على أسس عادلة وسحق نظام أدى إلى الغنى الفاحش والبأساء البالغة جنبا لجنب لا يمكن أن يؤدى إلى تحقيقه ثورة قوامها سفك الدماء‏!‏
المعارضون‏:‏ جاء فى طليعتهم الأستاذ أحمد حلمى الكاتب الوطنى الذى اشتهر منذ مطلع القرن باعتباره أقدر كتاب صحيفة اللواء‏,‏ وكان رأيه أن قيام الحزب الاشتراكى يشكل خطرا يهدد النظام الاجتماعى المصرى,‏ وأنه ليس فى مصر مشكلة رأس مال ويؤكد أن عزاء الفقراء من ذوى الأديان أن الرزق محدود مقسوم من الله فإذا انهدم ذلك الكيان الدينى من النفوس كان ذلك نكبة على النظام الاجتماعى المصرى!‏
منهم أيضا اندراوس حنا الذى اعتبر الاشتراكية لونا من الكهانة الجديدة وانطلق مقاله من اختلاف الظروف بين مصر وأوربا حيث نشأت الاشتراكية‏,‏ وإن الأفكار التى يأتى بها الداعون إلى الاشتراكية فى مصر مستمدة من الحضارة فى أوربا وهى مسألة معقدة ليست الأفكار الاشتراكية أو الديموقراطية إلا جزءا تافها منها‏!‏
وفى جو من التأييد والمعارضة طلعت الأهرام على قرائها يوم الاثنين ‏29‏ أغسطس ببيان الحزب الاشتراكى المصرى الذى تضمن مبادئه السياسية والاقتصادية والاجتماعية‏,‏ والذى أعلن لطمأنة المتوجسين أنه سيعمل على تحقيقها بالصراع الحزبى والدعوة السلمية‏,‏ الأمر الذى بدأت معه قصة أخرى فى التاريخ المصرى الحديث‏!‏