مباحث علمية
د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 13 أبريل 2000م - 8 محرم 1421هـ
مع بدء صدور الأهرام فى منتصف سبعينات القرن التاسع عشر تعاملت مع نواتج حركة تقدم العلوم الطبيعية فى العالم باعتبارها من المستغربات والمستظرفات, وهو مفهوم ظل يسود لفترة غير قصيرة مما تم رصده فى أكثر من حلقة من حلقات الديوان.. عجايب أمريكانية, بلاد بره, وغيرها.
بدأ هذا المفهوم فى الاهتزاز فى أواخر القرن, وتحولت الأعجوبة إلى إعجاب, وبينما تقوم الأولى على عدم الفهم, تقوم الثانية على السعى إلى الفهم, وشتان بين المنهجين الفكريين!
المنهج الأول إبن عصر ما وراء الطبيعة, الميتافيزيقاعصر الفكر الغيبى القائم على القبول بالظواهر العامة باعتبارها من المسلمات, وعندما تتفاقم إحداها تتحول إلى معجزة, وهو النمط الذى ساد فى العصور الوسطى, وساندته المؤسسة الدينية الأوربية ممثلة فى الكنيسة الكاثوليكية, وكان من أهم أسباب التخلف فى الغرب خلال تلك العصور, إلى الحد الذى دفع المؤرخين إلى توصيفها بالعصور المظلمة
لم يعبر الأوربيون هذا النفق المظلم إلا خلال عصر النهضة, فاعتمادا على تقدم العلماء العرب الذين اكتسبوا شهرة كبيرة فى أوربا خلال تلك العصور.. ابن سينا, ابن الهيثم, ابن النفيس وغيرهم, واستنادا إلى ما توصلوا إليه من معارف الأقدمين بعد دراسة التراث اليونانى والرومانى, ظهرت جمهرة من علماء القرن السادس عشر, الذين نبذوا الأفكار الغيبية وبدءوا بالكشوف الفلكية فى طليعتهم كوبرنيكس وجاليليو, وتنادوا بالعلم التجريبى على رأسهم فرنسيس بيكون, مما احتلت معه العلوم الطبيعية القائمة على التفسير السببى مكانة زادت مساحتها مع الأيام.
لم يتم الانتقال إلى المنهج الجديد بسهولة, فقد دارت معارك ومعارك بين أصحاب المنهجين, كان أشهرها مثول جاليليو جاليلى, الفلكى وعالم الرياضيات الإيطالى, أمام إحدى المحاكم الكنسية فى روما (1632) بسبب ما جاء فى أحد مؤلفاته عن دوران الأرض وسائر الكواكب حول الشمس, وهى الآراء التى اضطر لإنكارها تحت تهديد الحكم بإلقائه فى المحرقة!
عاشت مصر تحت الحكم العثمانى فى ظل مناخ فكرى قريب من ذلك المناخ الذى عرفته أوربا خلال العصور الوسطى, ولعل الحوار الذى جرى فى تلك المقابلة التى تمت بين الوالى التركى أحمد باشا, وبين أحد علماء الأزهر, الشيخ عبد الله الشبراوى فى سبتمبر عام 1750, والذى ننقله عن شيخ المؤرخين المصريين, عبد الرحمن الجبرتى فى كتابه المعروف عجائب الآثار فى التراجم والأخبار يقدم صورة دقيقة عن ذلك المناخ..
الباشا- المسموع عندنا بالديار الرومية (تركيا) أن مصر منبع الفضائل والعلوم, وكنت فى غاية الشوق إلى المجيء إليها, فلما جئتها وجدتها كما قيل تسمع بالمعيدى خير من أن تراه
الشبراوي- هى يامولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.
الباشا- وأين هى, وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبى من العلوم, فلم أجد عندكم منها شيئا, وغاية تحصيلكم الفقه, والمعقول, والوسائل ونبذتم المقاصد.
الشبراوي- غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية, إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض, والمواريث كعلم الحساب, والغبار.
الباشا- وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة
الشبراوي- هذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط, وآلات وصناعات, وأمور ذوقية كرقة الطبيعة, وحسن الوضع, والخط, والرسم, والتشكيل, والأمور العطاردية, وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء.
وانتهى الحوار بأن حاول الشيخ حفظ بعض ماء وجهه, فذكر أن هناك (البعض) ممن تتوفر فيهم مثل هذه اللوازم والشروط, وأحال الباشا إلى أحد علماء الأزهر الذين اشتغلوا بالفلك والرياضيات, ولم يكن سوى الشيخ حسن الجبرتى, والد مؤرخنا المشهور.
صحيح أن الشيخ الوالد نجح فى مهمته حتى أن صاحب كتاب عجائب الآثار يروى أنه كلما التقى به الشيخ الشبراوى يردد عليه القول: سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا, فإنه لولا وجودك, كنا جميعا عنده حميرا, لكن تبقى ملاحظتان; أولاهما: أن العلماء العاملين فى مجال العلوم الطبيعية كانوا الاستثناء, بينما انشغل الباقون فى العلوم الفقهية واللغوية, وثانيتهما: أن هذا النوع من العلوم كان يدرس فى بيوت هؤلاء العلماء وليس فى حرم الأزهر, كما كان الحال بالنسبة لسائر العلوم, بكل دلالات ذلك.
التحول الهام نحو العلوم الطبيعية حدث فى عصر محمد على, ولكن على المستوى التعليمى وليس على صعيد الثقافة العامة, إذ لا يمكن الزعم أن تلك العلوم قد أصبحت محل الاهتمام العام, ورغم ظهور الصحافة الأهلية خلال ستينات القرن التاسع عشر على عصر إسماعيل, غير أنها كانت تتهيب من الاقتراب من مثل هذه الموضوعات, وظلت كما سبقت الإشارة, تنظر إلى نواتجها على أنها مستغربات ومستظرفات, صحيح أن بعض المجلات, مثل المقتطف التى صدرت عام 1885, قد أعارت اهتماما خاصا للعلوم الطبيعية وتطوراتها, غير أنها كانت على أى الأحوال توزع على نطاق ضيق.
لكل تلك الأسباب نرى أن صدور باب ثابت فى جريدة سيارة كبيرة مثل الأهرام خلال الربع الأخير من عام 1923 تحت عنوان مباحث علمية أمر يستحق التسجيل..
***
طبيعى ألا يصدر مثل هذا الباب بشكل يومى, ولكنه لم يكن أيضا أسبوعيا, فكثيرا ما كان ينشر مرتين وأحيانا ثلاث مرات كل أسبوع, هذه ملاحظة, والملاحظة الأخرى أن الباب كان ينشر بدون توقيع, وكان هذا من تقاليد الأهرام عندما يكون الكاتب أحد المحررين, مما يمكن القول معه أنه كان فى جريدتنا منذ ذلك الوقت المبكر من يمكن تسميته بالمحرر العلمى, الملاحظة الثالثة: أن ما كان يكتبه هذا المحرر كان محل اهتمام قطاع من المثقفين, الأمر الذى نستنتجه من كثرة التعليقات على تلك الكتابات.
ونرصد أن أغلب هؤلاء كانوا من المعلمين.. مسيحة جرجاوي- مدرس العلوم بالقسم الثانوى بمدرسة النهضة الحديثة بالإسكندرية, أحمد على إبراهيم- مدرس بمدرسة حلوان فى علم الجغرافية, وآخرين, كما كان يتدخل أحيانا بعض خريجى الأزهر عندما يجدون فى تلك الكتابات ما يخالف قناعاتهم.
نرصد أيضا أن الفلك احتل المساحة الأكبر من مباحث علمية, وهو ما سبق إليه الأوربيون خلال القرن السادس عشر, سواء لاتصاله بالرياضيات وغيرها من العلوم حتى أن البعض أسماه بهندسة الكون, أو لأن المصريين أخذوا يتطلعون للسماء التى أصبحت بالنسبة لهم مخزنا عجيبا للأسرار العلمية, وهى الأسرار التى كان يتعرفون على بعضها بشكل منتظم من خلال الاكتشافات الأوربية التى أصبحت محل اهتمام الصحافة المصرية.
تحت عنوان عظمة الكون فى الفضاء اللامتناهى حاول المحرر العلمى فى عدد الأهرام الصادر يوم 16 سبتمبر عام 1923 أن يقدم صورة مبسطة للكون بكل ما فيه من الشموس والنجوم والسيارات التى لا تقع تحت حصر تسير بسرعة مدهشة فى فضاء لا بداية له ولا نهاية, وأنه لو أمكن الإنسان أن يخترع وسيلة للمواصلات تسير بسرعة الضوء فإنها سوف تصل به إلى القمر, الذى يبعد89 ألف كيلومتر, فى ثانية وثلث من حيث نرى الأرض كوكبا يزيد حجمه أربعة أضعاف عن حجم البدر لما كنا ننظر إليه من الأرض.
ينتقل بعد ذلك للمريخ, أقرب السيارات للأرض, إذ لا يبعد سوى 60 مليون كيلومترا (!), وهو أصغر من الأرض, لا يزيد قطره عن نصف قطرها إلا قليلا, ومادته نحو عشر مادتها, وجوه أقل كثافة من جوها, وهو فى هذه المناسبة يصطنع حوارا مع سكان هذا الكوكب بعد أن افترض أنه مأهول بكائنات حية, وأن هؤلاء يرون الأرض غير مسكونة, السبب: أن الرجل الذى يزن على المريخ 75 كيلوجرام يزن على الأرض أكثر من مايتى كيلو, ثم أن قرب الأرض من الشمس يحول دون نمو الحياة فيها أما المريخ فهو الكرة المتوسطة الصالحة للحياة إذ لا برد ولا حر فيها!
عن زحل يقول صاحبنا أن حجمه يبلغ 745 ضعفا من حجم الأرض, والسنة فيه تعادل165 سنة من سنى الأرض وله تسعة أقمار, ويذهب بعيدا إلى أن يطاول النجوم فيصل إلى ألفا وهو أقرب النجوم إلى الشمس, وفى محاولة منه لشرح بعد المسافة بين الأرض وبين هذا النجم يقول أنه إذا حدث انفجار عليه فإننا لا نسمع صوته إلا بعد مرور ثلاثة ملايين سنة على وقوعه! فى النهاية يخلص المحرر العلمى للأهرام من هذا الوصف المبسط إلى القول بأنه كلما تقدمنا فى الفضاء اللامتناهى رأينا عوالم جديدة يتألف كل منها من ألوف من الشموس ويبعد الواحد عن الآخر مليارات المليارات من الأميال, إلى أن نصل إلى المجرة التى تبدو لسكان الأرض ذرات من الرمال كل ذرة منها شمس محرقة!
ويبدو أن السياحة فى هذا الفضاء اللامتناهى قد أعجبت صاحبنا, فكتب مقالا آخر تحت عنوان جغرافية السماء تتبع فيه اكتشافات الإنسان للنجوم والخريطة التى وضعها للقبة السماوية حتى ذلك الوقت - 1922- فوصفها بأنها أجرام كروية نيرة كالشمس لكل منها عدد من السيارات كالسيارات التابعة للنظام الشمسى. وقد أدهشت الناس بكثرة عددها منذ القدم لأن ما كانوا يرونه منها بالعين المجردة زاد على ثلاثة آلاف نجم فى الليالى الصافية. وإذا عرفنا أننا لا نرى فى الليل إلا نصف قبة السماء, وجب علينا أن نضاعف عدد النجوم التى يمكن رؤيتها بالعين المجردة فيكون مجموعها حينئذ نحو ستة آلاف نجم!
يتابع بعد ذلك مدى ما وصلت إليه البشرية فى رصد أعداد النجوم.. أكثر من 1500 فى القرن السابع عشر, وصلت فى أواخر القرن التالى نحو 48 ألفا, ثم فى أواخر القرن التاسع عشر زادت على 450 ألفا, ويذكر أن مزية التصوير الفوتوغرافى وتقسيم القبة السماوية إلى مربعات صغيرة, وتصوير كل مربع منها 1200 مرة من خلال 18 مرصدا تنتشر فى العالم قد أدت إلى رصد 30 مليون نجم حتى ذلك الوقت!
ويبدو أن احتمال الحياة على الكواكب كانت من أكثر ما شغل بال المحرر العلمى الذى خصص لها أربعة مقالات, ولا شك أن التكهنات التى دارت حول هذه الحياة قد جذبت بدورها اهتمام قراء الصحيفة خلال ذلك الوقت..
يستهجن صاحبنا فى أول مقالاته أنانية سكان الأرض الذين يريدون أن يحصروا الحياة فى كوكبهم وأن يعتقدوا بأنه ليس فى الكون أحياء على شاكلة الأحياء التى يرونها فى العالم الأرضى, فيقولون: (بما أن الأحياء الأرضية لا تستطيع أن تعيش فى المريخ مثلا فمن المحال أن تنمو الحياة فيه أو فى غيره من الكواكب والسيارات)!
يحاول بعد ذلك التدليل على قوة احتمال وجود حياة على كواكب أخرى, وبالذات على المريخ, فيقدم بعض المعلومات المعروفة عن هذا الكوكب.. اليوم: 24 ساعة و 37 دقيقة و 23 ثانية ونصف, والسنة: 686 يوما و 23 ساعة و 29 دقيقة و 41 ثانية, ثم أن وجود قنوات ظاهرة على سطح الكوكب أقرب إلى القنوات الصناعية تدفع إلى الاعتقاد أنها من صنع مخلوقات حية!
وينحاز صاحبنا إلى المخلوقات المريخية فيردد بعض ما جاء عنها فى كتابات الغربيين من أنهم يجب أن يكونوا أكثر رقيا منا وفقا لناموس النشوء والارتقاء لأنهم ظهروا إلى عالم الوجود قبلنا بألوف من القرون ولأن الحالة الجوية عندهم أكثر ملائمة للارتقاء منها عندنا, ويؤيد ذلك فى رأيه ما يقال أن أهل هذا الكوكب حاولوا مخاطبة البشر منذ ملايين السنين, ويغرق فى الخيال عندما يقول أنهم لما رأوا الأرض لا ترد على إشاراتهم قرروا أنها غير مسكونة واختلقوا لذلك أسبابا منها اختلاف الحرارة والسرعة والثقل النوعى فى الأرض عنها فى المريخ, وهو لون من التفكير لا زال يلقى رواجا حتى يومنا هذا.. بعضها فى مؤلفات تتحدث عن القادمين من الفضاء حتى أن بعضهم عزا لهؤلاء فضل إنجاز الأعمال الكبيرة فى العالم مثل بناء هرم خوفو (!), وبعضها فى أفلام سينمائية تمتلئ بالخيال والإثارة حول هؤلاء القادمين!
ودفع اهتمام القراء بقضية الحياة على الكواكب الأخرى المحرر العلمى للأهرام إلى أن يخصص مقالا عن الكواكب الصالحة لنمو الأحياء, فوضع ثلاثة احتمالات لظهور الحياة على الأرض; إما بفعل الخالق, وإما بتجمع خلايا المادة واتحادها بعضها مع بعض لتؤلف أحياء بسيطة أخذت ترتقى مع الزمن إلى أن بلغت شكلها الحالى, وإما بواسطة المواد القابلة للنمو والمندثرة فى الأثير.
يناقش بعد ذلك تلك الآراء, فيقول أن أولها وأساسه العاطفة الدينية لا ينفى كون الكواكب الأخرى آهلة بالسكان فليس من المعقول أن يقتصر الخالق جل جلاله عليها وحدها فى إظهار قوته وعظمته, أما الرأى الثانى فهو لا ينفى وجود مخلوقات على الكواكب الأخرى بل يؤيده لأنه إذا أمكن أن تنشأ الحياة عن تجمع بعض خلايا المادة فى هذه الأرض, فلماذا لا يمكن ذلك فى الكواكب الأخرى, ويبقى الرأى الثالث وهو بدوره يدفع أصحابه للتسليم بوجود الأحياء فى جميع الكواكب لأنها تستمدها من الفضاء المحيط بها.
بعد عرض تلك الآراء ومناقشتها يخلص صاحبنا إلى نتائج مؤداها تعذر وجود أحياء على كل من القمر وعطارد لأن الحرارة فيه سبعة أضعافها على أرضنا لذلك يتعذر وجود الماء فيه إلا بخارا, وإمكانية وجودها على كوكب الزهرة فإنه رغم حرارته محاط بجو كثيف يخفف عنه وطأة الحر الشديد, والمريخ, أقرب الكواكب للأرض ففيه ماء وأوكسجين وأزوت وجميع العناصر الموجودة على الأرض. وفيه ثلوج تقل فى الصيف وتزيد فى الشتاء. وفيه الأقنية (القنوات) التى يظن أنها اصطناعية.
ينزل محرر باب مباحث علمية بعد ذلك من الفضاء اللا متناهى إلى الكوكب الأرضى ليفسر بعض الظواهر التى عاينها البشر فى تلك الفترة..
***
تحت عنوان غرائب هذا الصيف خصص الرجل مقالين عن كسوف الشمس الذى عاينته الأرض يوم 10 سبتمبر عام 1923, وهو وإن لم يشاهده المصريون لأنه اقتصر على بعض أنحاء الكرة الأرضية, غير أن العلماء تسابقوا إلى كاليفورنيا والمكسيك لتصوير الشمس فى إبان كسوفها التام ودرس أحوالها والتثبت من بعض صفاتها خدمة للعلم.
خلاصة أقوال العلماء حول تفسير الظاهرة أنه متى وقع القمر بين الأرض والشمس يقع ظله على الأرض فيرسم دائرة تمر بدوران الأرض على جميع البلدان المواجهة إلى الشمس, ويكون الكسوف فى البلاد التى يمر فيها هذا الظل تاما أو حلقيا أو جزئيا.
فى المقال الثانى يزيد الأمر تفصيلا فيذكر أن الكسوف الكلى شوهد فى بقعة مستطيلة عرضها نحو 100 كيلومتر تمتد من الباسيفيك إلى كاليفورنيا منحرفة نحو الشرق حتى أواسط المكسيك وجزر الأنتيل, ولما كان القمر الذى حجب الشمس تماما فى تلك الجهة يسير بسرعة 770 مترا فى الثانية, فقد دام الكسوف الكلى فى كل مكان منها أربع دقائق على الأقل.
ويتحدث عن الفوائد التى عادت على الأرض من رصد هذا الكسوف فيؤكد أن الدراسة مكنت العلماء من معرفة المواد التى يتألف منها إكليل الشمس الذى لا يرى إلا فى إبان الكسوف, وهى التى أكدت لهم أن النور لا ينتشر فى خط مستقيم, وهى التى مهدت لهم السبل إلى اكتشاف عنصر الهليوم العظيم الفائدة فى كوكب يبعد عنا 150 مليون كيلومترا, والهليوم كما لا يخفى عنصر خفيف لا يقبل الاحتراق.
ولم يكن الرجل ليتجاهل حدوث الزلزال الكبير فى اليابان فى أول سبتمبر عام 1923, والذى ظلت الأهرام تقدم بعض أخباره تحت عنوان اليابان ونكبتها الهائلة, فقد دمر المنطقة الواقعة بين طوكيو وأوزاكا وطولها نحو300 كيلومترا, والأخطر من ذلك امتد إلى المناطق البحرية فغرقت سفن كثيرة من جراء طغيان المياه على الشواطئ ودمرت المنائر وهاج البحر فتعذر إرسال المدد إلى محل النكبة وانقطعت المواصلات فى داخل اليابان, وقدرت الخسائر البشرية بنحو260 ألفا.
وبحكم حجم الكارثة قدم المحرر العلمى للأهرام صورة قلمية بديعة عنها, فقد انخلعت القلوب حينما بدأت الأرض التى نظنها ثابتة تنتفض تحت الأقدام كما ينتفض المحموم من شدة الحمى فتبعثرت مبانيها تبعثر الرمال فى الهواء, ووثبت بحارها فى الفضاء, وفار أديمها تحت لجة الماء, أو انشق فابتلع ما عليه من الأحياء.
غير أنه مع هذه الصورة يقدم دراسة موجزة ولكن مفيدة عن أنواع الزلازل.. العمودية: وهى الأشد فتكا وتخريبا ينتفض بها أديم الأرض انتفاضا, فتتطاير المنازل والصخور إلى ارتفاع شاهق وسببها تمدد المواد السائلة فى جوف الأرض وطلبها الخروج منها فتدفع القشرة الأرضية أمامها لتشق لها منفذا. الموجبة: يعلو بها مكان وينخفض آخر وسببها ازدياد حجم المواد التى فى جوف الأرض بتأثير الحرارة ودفع ما فوقها دفعا ينشأ عنه تشقق فى القشرة وحركات يرتفع بها بعض الأجزاء وينخفض البعض الآخر, وأخيرا الزلازل الأفقية, وهى أقلها تأثيرا وضررا.
وشرح محرر باب مباحث علمية بعد ذلك أسباب الزلازل, فإن جوف الأرض الشديد الحرارة التى عرفها البشر من الحمم والسوائل الملتهبة التى تخرج منه أثناء البراكين يبحث عن مناطق الضعف فى القشرة الأرضية, التى تقل بالنسبة لحجم الأرض عن قشرة البيضة, وإن تمدد الحرارة فى باطن الأرض نتيجة لصهر المواد التى فى باطنها وتحويلها إلى حالة السيلان هو الذى ينتج عنه الزلزلة الموجبة والأفقية, أو يؤدى إلى تمزيق سطح الأرض فتقع الزلزلة العمودية أو ينفجر البركان.
وأحيانا ما كانت تلفت بعض الاكتشافات العلمية نظر المحرر العلمى للأهرام, كما حدث بالنسبة للراديوم, والذى كانت قد اكتشفته مدام كورى قبل ربع قرن (1898) وثبتت آنئذ قيمته الطبية الهائلة, فتحت عنوان أغلى شئ فى العالم شرح صاحبنا كيف أن استخراج بعض مواد من هذه المادة المعدنية الثمينة يتطلب العمل على أطنان من الصخر, والحقيقة أن مجموع ما استخرج منه للآن فى أوربا أربعون جراما, وفى أميركا مائة وسبعون جراما فقط, وقيمة هذه الخمس الأوقيات والنصف أوقية يتراوح بين ثلاثة ملايين ونصف وخمسة ملايين جنيه, فتكون قيمة الأوقية الواحدة من الراديوم مليون جنيه تقريبا, وهو مبلغ فلكى بمقاييس ذلك العصر!
حدث ذلك أيضا بالنسبة لاستخدامات الكهرباء, فقد وضع صاحبنا مقالا تحت عنوان الكهربائية أساس الوجود, تأسيسا على ما قال به بعض العلماء من أنه لا كيان للمادة إلا بما فيها من الدقائق الكهربائية السلبية والإيجابية.
ويقدم شرحا لتأثير ذلك على الحياة الإنسانية فيقول أن كل خلية من خلايا الجسم تتألف من ملايين من الدقائق الكهربائية, ويبحث عن أسباب مرض الخلايا أو هرمها فيؤكد أن العلماء عزوا ذلك إلى اختلال حركة الدقائق الكهربائية فيها, وقالوا أنه إذا توصل العلم إلى إصلاح هذا الخلل تغلب الإنسان على المرض والشيخوخة وطالت حياته!
وقد انتهز طبيب اسمه محمود أحمد عفيفى عضو الكلية الجراحية الملكية بإنجلترا- دبلوم فى الكهرباء الطبى والأشعة فرصة تعرض باب مباحث علمية لهذه القضية, فكتب فى الأهرام ثلاثة مقالات متتالية تحت عنوان أهمية الكهرباء والأشعة فى الطب, روج فيها لفكرة العلاج الكهربائى, ورغم المادة العلمية الوفيرة التى قدمها إلا أنه لا يمكن تبرئته من الرغبة فى الدعاية الشخصية!
لا يمكن أيضا تبرئة المحرر العلمى للأهرام من أنه كان أحيانا يختار موضوعات ذات طبيعة صحفية أكثر من طبيعتها العلمية, كما فعل عندما كتب مقالا تحت عنوان علم الغيب- عالمان فرنسويان يقولان بإمكان معرفة المستقبل- حقيقة أم خيال, ومع أنه أسهب فى شرح رأى هذين العالمين فى التوصل إلى كشف الستار عن مستقبل الإنسان فيصير يعرف الحوادث التى تنتظره كما يعرف الحوادث التى مرت عليه, إلا أنه لم يرحب بذلك, وكان من رأيه أنه لو أمكن ذلك فيالشقاء البشر ويالتعس الحياة ومرارتها, ونحن نوافقه على ذلك!