سقوط سلطان البرين والبحرين
د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 6 أبريل 2000م - 1 محرم 1421هـ
عام 1922 كان علامة فاصلة فى تاريخ سلاطين الشرق, فبينما انتهى عهد مصر بالسلطنة بعد أن تخلى فؤاد الأول عن لقب صاحب العظمة سلطان مصر, أسقط بعد نحو ثمانية شهور اللقب عن حاكم الدولة العثمانية, وشتان بين ظروف اختفاء اللقبين.
انتهاء عهد حكام الأسرة العلوية باللقب تم كإحدى نتائج استقلال البلاد الذى نالته بمقتضى تصريح28 فبراير من ذلك العام, وهو على أى الأحوال اللقب الذى كانوا قد اتخذوه بناء على قرار بريطانى بعد إعلان الحماية البريطانية على البلاد عام 1914, وهو ما لم يأسفوا عليه كثيرا, خاصة وأن فؤاد الأول قد استبدله بلقب صاحب الجلالة ملك مصر, مما كان مصدر سعادة له ومحل ترحيب من أغلب المصريين, فقد تساوى مع صاحب الجلالة ملك المملكة المتحدة, ولو فى اللقب!
وفى مقابل هذا العمر القصير للسلطنة فى مصر, والذى لم يتجاوز الثمانى سنوات, فإن عمرها فى الدولة العلية فاقه بنحو مائة مرة, فقد عاشت نحو ستة قرون كما ينبئنا الدكتور عبد العزيز الشناوى فى عمله الموسوعى الدولة العثمانية-دولة إسلامية مفترى عليها, والذى قدم من خلاله صورة شاملة عن السلطان العثمانى..
الألقاب التى تمتع بها: بادشاه وهى كلمة فارسية بمعنى ملك الملوك, فى عام 1453 وبعد أن نجح محمد الثانى فى فتح القسطنطينية أضيف لقب آخر هو سلطان البرين والبحرين, هذا فضلا عن لقب حامى حمى الحرمين الشريفين الذى أطلقه سليم على نفسه بعد ضم المشرق العربى بما فيه إقليم الحجاز.
ونتوقف عند لقب الخليفة الذى اعتز به السلاطين العثمانيون كثيرا, وروجوا له بشتى الوسائل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, فقد رأى هؤلاء أن تجميع المسلمين تحت مظلة الخلافة من أهم أدواتهم لرد الأطماع الأوربية والتى تفاقمت كثيرا خلال هذين القرنين.
وبينما تقول الرواية التى قدمها الدكتور الشناوى أن السلطان مراد الأول كان أول من أطلق على نفسه لقب خليفة الله بعد أن استولى على أدرنه عام 1366, تقول رواية أخرى أن السلاطين العثمانيين قد أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب بعد أن دخل سليم الأول القاهرة عام 1517, ونجح فى دفع آخر خلفاء العباسيين, محمد المتوكل على الله, والذى كان مقيما وقتذاك فى العاصمة المصرية, على مبايعته.
ويضيف صاحب كتاب الدولة العثمانية بأن تاريخها عرف ستة وثلاثين سلطانا يصنفهم المؤرخون فى مجموعتين; الأولى وتضم عشرة سلاطين وحكموا فترة تقرب من 267 سنة, انتهت عام 1566, وهى الفترة التى شهدت بناء الدولة, خارجيا: بالتوسع فى القارات الثلاث, آسيا وأوربا وإفريقيا, وداخليا: بإرساء قواعد الأنظمة السياسية والعسكرية والإدارية التى قامت عليها, أما الثانية فقد امتدت لفترة تصل إلى 357 سنة, والتى انتهت عام 1922, حكم خلالها ستة وعشرون سلطانا, كان آخرهم السلطان محمد السادس, وهى فترة مختلفة عن سابقتها, فقد توقفت حركة التوسع خلالها, وبدأت الدولة تعانى من مظاهر الضعف الداخلى والخارجى.
وقد أدى غياب قانون لتنظيم وراثة العرش إلى استخدام السلاطين أشد الأساليب وحشية فى التعامل مع من يطمحون إلى اعتلائه, حيث كانت تحدث عمليات إبادة جماعية بين أمراء البيت السلطانى كلما تربع على العرش سلطان جديد, وهو التقليد الذى بدأه محمد الثالث, السلطان الثالث عشر من آل عثمان, والذى قام بخنق أخوته الثمانية عشر يوم وفاة والده ودفنهم معه فى مقبرة واحدة!
غير أن هذه الأساليب قد خفت وطأتها فى أواخر القرن السادس عشر حين وضع نظام يقضى بنفى أمراء الأسرة الحاكمة, أو تحديد إقامة كل منهم فى مقصورة داخل القصر, لها حديقة تحوطها جدران عالية, أطلق عليها اسم القفص, يحرم على قاطنها الاتصال بالعالم الخارجى, ويقضى حياته فى صحبة عدد قليل من الخصيان والسيدات والجوارى وغلمان القصور, ولا يخرج منه إلا إذا صادفه الحظ وتولى العرش, بكل ما يصحب هذا الخروج من اعتلاء سلاطين لا يملكون من البرين والبحرين سوى الاسم, فقد كانوا فى العادة يفتقرون إلى خبرة الحكم, فضلا عن العقد النفسية التى ورثوها عن فترات بقائهم فى الأقفاص.
وقد باءت محاولة أحد السلاطين, وهو عبد العزيز, لوضع نظام لوراثة العرش فى أكبر أبنائه بالفشل, فقد حدث أن تولى الحكم بعده أربعة من أخوته; مراد الخامس (1876), عبد الحميد الثانى (1876 ـ 1909), محمد الخامس (1909 ـ 1918) وأخيرا محمد السادس (1918 ـ 1922), وكان آخر سلاطين البرين والبحرين, والذى روت الأهرام قصة سقوطه عن العرش بتفاصيلها الدقيقة.
غير أنه قبل متابعة تفاصيل هذه القصة فمن المفيد أن نذكر أن كثيرا من المؤشرات كانت تكشف خلال تلك الفترة أن سلطنة آل عثمان إلى زوال, فبينما لم ينته عهد أى من الجالسين على عرش السلطنة العتيدة إلا بأوامر إلهية, فقد انتهت عصور أغلب هؤلاء بتدخلات سياسية, إما من الدول الأوربية التى أصبحت تدس أنوفها فى شئون الدولة, وإما من قوى التحديث التى عادت أساليب السلطنة وارتأتها السبب الرئيسى فيما أصاب الدولة من وهن أطمع فيها البعيد والقريب, بدءا من مدحت باشا داعية الدستور عام1876, ومرورا بجمعية الاتحاد والترقى التى أجهزت عام 1909 على السلطان عبد الحميد الثانى, أشهر سلاطين الدولة وأطولهم عمرا خلال تلك الحقبة, فقد ظل يحكم البلاد لثلاثة وثلاثين عاما, وانتهاء بمصطفى كمال, مؤسس تركيا الحديثة, والذى كان وراء خلع آخر هؤلاء السلاطين, محمد السادس, وهو الخلع الذى لم يقم للسلطنة بعده قائمة.
صحيح أن الرجل حاول فى عام حكمه الأخير أن يضع نظاما لأسرة آل عثمان, فيما نشرته الأهرام بالتفصيل فى عددها الصادر يوم 25 فبراير عام 1922 والذى جعل له الولاية على جميع أفرادها, ولكنها كانت محاولة متأخرة للغاية..
***
كان واضحا بعد خلع عبد الحميد الثانى عام 1909, والذى اشتهر بالسلطان الأحمر, أن قواعد عرش آل عثمان قد تزعزعت تماما, وأنه فى طريقه إلى الانهيار, ونترك للأهرام رواية القصة.. تقول جريدتنا أن خليفته محمد رشاد الخامس اخرج من سجنه الذى سجنه فيه أخوه ثلاثا وثلاثين عاما وهو شيخ مريض فتبوأ العرش اسما تاركا لحزب الاتحاد والترقى سياسة الدولة.
وتستطرد الأهرام أن استئثار الاتحاديين بشئون الدولة هو الذى حمل خليفته, محمد السادس, على أن يواجه سلسلة من المآزق منذ اللحظة الأولى لوفاة أخيه, فقد فكروا فى تغيير نظام العرش وحرمان ولى العهد من حقوقه ولكن غالبيتهم خافت مغبة هذا العمل, لأن منافسهم على الساحة السياسية, حزب الائتلاف, كان قوى الساعد, ولأن الجيش قد انشق فريق منه عليهم, ولكنهم صمموا على أن يخضعوه لإرادتهم ووقفوا فى وجهه منذ الساعة الأولى إلى أن ظهر له بالاختبار أنه لا يستطيع الاعتماد على حزب آخر يقاومهم فاستسلم لهم بعد ما رأى المسدس مصوبا إلى صدره!
ثم أن سلطان البرين والبحرين الأخير تولى الحكم خلال الشهور الأخيرة من الحرب العظمى, وهى الحرب التى اختارت تركيا أن تخوضها فى الجانب الخطأ.. جانب دول الوسط الذى لقى الهزيمة, والتى تبعها جملة من المواقف حسبت فى النهاية على آخر السلاطين, مما تصفه الأهرام بقولها لما انتهت الحرب بالهدنة قام فى ذهن الجميع من رجال الأستانة أن المقاومة محالة وأن الأفضل الاتفاق مع الدول, وتقدم جريدتنا صورة للإذلال الذى واجهه الأتراك وقتئذ.. تقول: أن ممثل الدولة العثمانية توجه لمؤتمر الصلح فلم ترفض الدول قبوله فحسب بل أنها ذهبت بعيدا إلى حد أن طلبت منه العودة إلى الأستانة لحين النظر فى مصير إمبراطورية آل عثمان فيدعونه للتوقيع على ما تمليه إرادتهم!
وتصف الأهرام ما توصلت إليه تلك الإرادة.. فرنسا تفرض انتدابها على منطقة كيليكيا, وإيطاليا على منطقة أضاليا, وأخيرا اليونان على منطقة أزمير, أما بريطانيا فتسخر الصحيفة من مطالبها المتواضعة وكانت الأستانة والمضايق.. فقط خدمة للإنسانية!
وباختصار شديد تذكر جريدتنا تطورات الأيام الأخيرة من عمر السلطنة العثمانية.. دخول الإنجليز للأستانة واحتلالهم لوزارة الحربية ووزارة البحرية ودور البوسطة والتلغراف وجعلوا جميع المواصلات فى قبضتهم, وأخذوا يقبضون على من يظنون أنهم أعداء سياستهم فإما أن يرسلوهم إلى أغوب خان وإما أن يرسلوهم إلى مالطة ليعتقلوا, ودخلوا البرلمان التركى وقبضوا على النواب وتفرق الآخرون. وجاء رد فعل ذلك بانتشار دعوة مصطفى كمال الذى كان مفتشا فى الأناضول فأبى العودة إلى الأستانة وقال الإنكليز أنهم وصلوا إلى غرضهم وجمعوا حولهم الذين كانوا قد استمالوهم بالمال وغيره فألفوا منهم جماعة باسم (أصدقاء إنكلترا) فجعلوا بذلك الأمة التركية كلها (عدوة إنكلترا), ولم يقف خطأهم عند هذا الحد فتجاوزوه إلى خطأ أفظع بإنزال الجنود اليونانية فى أزمير.
وقف محمد السادس من تلك الأحداث موقفا شديد التخاذل خاصة بعد أن تصاعدت روح المقاومة التى قادها مصطفى كمال فى الأناضول, الأمر الذى بدا فى موقف حكومة الأستانة من الحركة الكمالية التى اعتبرت القائمين عليها خارجين على الشرعية وأفتى بذلك شيخ الإسلام وأصدر السلطان أمره بتنفيذ الفتوى وسعوا لتأليف قوة من الترك لمحاربة الذين وقفوا يذبون عن حوض وطنهم, وكان على سلطان البرين والبحرين أن يدفع الثمن, خاصة بعد أن نجح الكماليون فى تحرير وطنهم من القوات الاحتلالية!
في4 نوفمبر عام 1922 وصل الخبر المنتظر, فقد اجتمع المجلس الوطنى الكبير بأنقرة وأصدر ثلاثة قرارات أسمتها الأهرام بالتغيير العظيم الشأن فى نظام الحكم بتركيا, وكانت على التوالي: زوال السلطنة العثمانية, بقاء الخلافة مرتكزة على الدولة التركية, وأخيرا إعطاء مقام الخلافة لمن هو بين أعضاء أسرة آل عثمان أكثر جدارة وأهلية على أن ينتخبه المجلس الوطنى الكبير.
وتنقل جريدتنا عن الديلى ميل الإنجليزية أن مصطفى كمال وافق على خلع السلطان, كما نقلت عنها أن السلطنة قد ألغيت نهائيا وأنه قد تقرر محاكمة السلطان وأعضاء حكومة الأستانة بتهمة الخيانة العظمى ولا يكون هناك من الآن فصاعدا سلطان من بنى عثمان وإنما يبقى أحد أعضاء الأسرة شاغلا لمنصب دينى محض هو منصب خليفة المسلمين, ولما كانت الأمة قد فازت على أعدائها فى الخارج والداخل فقد وضعت سلطتها مكان سلطة السلطان!
وكأنما كان أهالى الأستانة ينتظرون هذا الموقف من المجلس الوطنى الكبير فى أنقرة, فقد جاءت الأخبار بأنه قامت فيها يوم الاثنين 6 نوفمبر مظاهرات حاشدة وصاح طلبة الجامعة بصفة خاصة قائلين (لتسقط السلطنة) وحاول جمهور كبير اجتياز الكوبرى إلى بك أوغلى فمنعوا. ووردت الأنباء بأن رجال البوليس اضطروا إلى استخدام مسدساتهم فجرح وقتل ستة أشخاص.. ولا تزال الاستعدادات جارية للقيام بمظاهرات جديدة ويحتمل وقوع حوادث أخرى!
فى نفس اليوم تأتى الأخبار عن تفاصيل اللقاء الذى جرى بين مبعوث المجلس الوطنى الكبير, رأفت باشا, وبين السلطان.. بدأ الأول حديثه فى وصف الحالة فى الأناضول فقاطعه السلطان قائلا أنه يعرف من أنباء الأناضول قدرا كافيا, وسأله عما تنوى حكومة أنقرة فعله معه, فأجاب الباشا أنه يجب أن تستقيل وزارة الأستانة وتتوقف ازدواجية الحكم فى البلاد, غير أن السلطان رفض ذلك متذرعا بأنه بينما تولت وزارته بالطرق الدستورية السليمة فانه قد تم انتخاب المجلس الوطنى الكبير على وجه السرعة الأمر الذى لا يخوله تمثيل الأمة.
غير أن أهم ما جاء فى التقرير الخاص بتلك المقابلة الحاسمة ما دار من بحث بين الرجلين حول مصير السلطنة, فقد أبلغ رأفت باشا السلطان أن الرأى السائد فى أنقرة يؤيد فكرة إلغاء السلطنة وانتخاب خليفة من آل عثمان, الأمر الذى استنكره محمد السادس وأنه لا يمكن البت بهذه السهولة فى مسألة تمس مصالح الإسلام الجوهرية لا يمكن البحث فيها إلا بين العالم الإسلامى وبينى بصفتى السلطان الخليفة صاحب الحق, وحق لى أن تسوى المسألة بطريقة قانونية.
أكثر من ذلك أن السلطان الذى كان لا زال يعتقد أنه سيد البرين والبحرين أكد أنه لن يستسلم إلى أن يستولى المجلس الوطنى الكبير على مقاليد الأمور فى الأستانة بالقوة, وهو ما حذر منه رأفت باشا وأنه إذا بقى الوزراء فى مناصبهم ضد إرادة الأمة فيكون نصيبهم جميعا الإعدام شنقا!
وبحكم العلاقة الطويلة التى ربطت مصر بآل عثمان, فقد كان من الطبيعى أن تتابع الصحف المصرية تلك الساعات الأخيرة من عمر السلطنة العتيدة, وأن ينحاز بعضها (مع) وتنحاز أخرى (ضد), وكانت الأهرام فى صف الانحياز للكماليين مما نتبينه من تخصيصها للمقالين الافتتاحيين لعدديها الصادرين يوم 9 و10 نوفمبر للدفاع عن مصطفى كمال..
الأول كان تحت عنوان مصطفى كمال- اشتراكى وطنى وأن ما يفعله الرجل هو إقامة مدنية جديدة هى الاشتراكية مقام المدنيات التى قامت على قواعد الدين وأصوله وتعاليمه ومذاهبه, وإن كانت تلك المذاهب والتعاليم الدينية هى أساس الاشتراكية ومصدر الحرية والمساواة والعدالة والإخاء لو أنها تنحصر فى المؤمنين, بينما يكشف عنوان الثانى عن فحواه.. العنوان طويل نوعا, وكان نصه: قضية كمال باشا ـ فليحى استقلال القضاء وليحى العدل!
***
لما بدا أن الأمر ميئوس منه قرر محمد السادس الفرار من الأستانة, وهو ما جاءت به الأخبار فى منتصف نوفمبر, قالت أن الرجل بعد أن سحب مبلغا كبيرا من المال كان مودعا باسمه فى البنك العثمانى, تمكن من الخروج بليل قاصدا جزيرة مالطة, وليس واضحا ما إذا كانت بريطانيا قد عاونته فى الهروب أم لا, كما أنه ليس واضحا ما إذا كان الكماليون قد اعترضوا طريقه, أم أنهم رأوا فى فراره خلاصا من تعقيدات دولية وقانونية كان يمكن أن تواجههم لو بقى فى البلاد.
غير أن ما يرجح أن حكومة لندن قدمت يد المساعدة لسلطان البرين والبحرين الهارب أنه فى اليوم التالى لاختفائه ـ15 نوفمبر ـ قصد مائة وأربعون رجلا من حاشيته السفارة البريطانية يطلبون الحماية, ولما كانت هناك قوة بريطانية حتى ذلك الوقت فى منطقة المضايق فقد ذهبوا إلى مقر قائدها العام ومكثوا فيه طول الليل, وقد حدث أن أحد هؤلاء الرجال قال أنه لا يخشى شيئا وخرج إلى الشارع, ولكنه لم يخط خطوات قليلة حتى وقع قتيلا برصاصة, وكانت جثته رأس الذئب الطائر التى أدخلت الجزع الشديد على قلوب الآخرين فقادهم البريطانيون إلى معسكرهم حيث ينتظرون باخرة تقلهم إلى مالطة!
يتأكد أكثر الموقف البريطانى المتعاطف مع السلطان المخلوع من الحفاوة التى لقيها فى الجزيرة فقد قدمت الحكومة البريطانية الخدم والحراس علاوة على رجال حاشيته لزيادة راحته وإكرامه. كما راعت رغبته فى العزلة والانفراد حتى أنه لم يزره غير اللورد بارمور حاكم الجزيرة, أكثر من ذلك أنها منعت الصحفيين الذين توافدوا من سائر أنحاء أوربا والولايات المتحدة الأمريكية من زيارته.
وحتى تقطع الحكومة الكمالية على محمد السادس أية فرصة للمناورة, وحتى تحرمه من استخدام وضعيته الدينية, فقد أعدت على جناح السرعة فى يوم 24 نوفمبر حفلة لمبايعة أحد أمراء آل عثمان, واسمه عبد المجيد, خليفة على المسلمين, والذى ظهر لابسا بدلة (استامبولى) متقلدا نشانات آل عثمان, يحف بمظهره الوقار والمهابة, وقد تلقى المفاتيح الذهبية المشتملة على المخلفات المقدسة ففتح أولا الصندوق المشتمل على بردة النبى وهى ضمن أربعين لفافة من الحرير, ثم فتح الصناديق المشتملة على راية النبى وسيفه وشعر لحيته والكتابات المقدسة وسائر مخلفات الخلفاء السابقين.
ومع أن الخليفة سار بعد ذلك فى موكب مهيب إلى حيث كان ينتظره كبار رجال البلاط والعلماء إلا أن الموجودين قد لاحظوا أنه لم يقلد سيف آل عثمان بكل دلالة ذلك من إسقاط سلطته الدنيوية!
لم تغب هذه الحقيقة عن الأهرام التى ناقشت مسألة فصل الخلافة عن السلطنة فى مقال طويل فى عددها الصادر يوم 16 نوفمبر عام 1922, فذكرت أن حكومة أنقرة تسعى إلى تجريد السلطان من السلطة الزمنية والروحية تماما وأنها تريد أن يصير الخليفة كالبابا ولا ريب فى أن أنقرة ترمى إلى إصلاحات متطرفة جدا, ولكن الجماهير الإسلامية بقدر فهمها للمسألة تعارض فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية, ويقولون أن هذا الفصل بمثابة خرق لأحد أركان الشريعة الإسلامية ويشكون من تقديم السياسة على الدين. ولكن المجلس الوطنى الكبير وعلى رأسه كمال باشا نفسه مصمم على استبدال الحكومة الثيوقراطية (الدينية) بحكومة ديموقراطية.
على أى الأحوال تركت الصحف المصرية هذه المناقشات النظرية وأخذت تلهث وراء أخبار السلطان المخلوع وأركان عهده..
من هذه الأخبار ما جاء حول أسرة السلطان, وأن السلطات الجديدة أخذت فى تفريقها, وذكر فى هذه المناسبة أنه كان للرجل ثلاثمائة جارية, وقد تقرر إرسال نصفهن إلى أوطانهن التى جلبوا منها والبحث عن أزواج للباقيات (!), على أن تبقى زوجاته الأربع فى أملاكه الخصوصية ولا يسمح لهن إلا بأخذ أقل ما يمكن من المال والزاد بسبب خيانة السلطان السابق, ويبدو أن الرجل فى بحثه عن الهروب بجلده قد نسى كل ما كان له من النساء.. زوجات أو جوارى!
وتناثرت الأخبار بعدئذ عن مقر إقامة سلطان البرين والبحرين السابق, وأنه قرر أن يترك مالطة إلى أحد البلاد الإسلامية, وأنه يقصد الذهاب إلى الحجاز, بحكم مكانتها الدينية السامية, خاصة وأنه تلقى دعوة من الملك حسين حاكم الحجاز.
وعلى الرغم من نفى المصادر الإنجليزية لتلك الأخبار فقد فوجئ مراسل الأهرام فى بورسعيد يوم الاثنين 8 يناير عام 1923 بدخول الطراد البريطانى أجاكس الميناء, وانتشرت الأخبار أن السلطان على متنها, وهو ما تأكد منه عندما علم أن الأمير عبد الله بن الملك حسين كان فى الانتظار حيث صعد إلى ظهر السفينة الحربية محييا باسم أبيه الذى كان فى انتظاره فى الحجاز, وكان كل ما أمكن نقله عن السلطان فى فترة عبوره للقناة قوله: يعلم المنصف أن مثلى لا يمكن أن يكون خائنا لبلاده!
المهم أن الحاكم العثمانى السابق وصل إلى مكة فى 22 يناير حيث استقبل استقبالا رسميا والتقى بأعيان المدينة, ومع ذلك يبدو أن الإقامة لم ترق للرجل فى الحجاز رغم الاستعدادات التى أجراها المسئولون لتوفير كل سبل الراحة لشخصه حتى أن حسين ابتاع من مصر مركبة فاخرة وكثيرا من الأوانى الفضية وغيرها للمائدة ولحاجات أخرى منزلية لأجل ضيفه العظيم, فقد جاءت الأخبار فى أوائل إبريل أنه ينوى مغادرة الحجاز متوجها إلى سويسرا.. السبب كما جاء فى الأهرام أن حر مكة شديد لا يناسب صحته!
فى صباح يوم الأحد 6 مايو فوجئ المصريون بالسلطان المخلوع بين ظهرانيهم, فقد وصل إلى السويس يصحبه ابنه وحاشية مؤلفة من 9 أشخاص, وكانت الحكومة المصرية قد هيأت له قطارا خاصا نقله من على رصيف الميناء متوجها بشكل مباشر إلى الإسكندرية حيث كان فى انتظاره فى محطة سيدى جابر قره قول شرف مؤلف من عشرين جنديا وقد أعد لجلالته فى قصر أنطونيادس ما يلزم من أسباب الراحة! بيد أن وجود الرجل فى مصر كان مجرد محطة فى طريق سفره إلى أوربا, إذ لم تمض سوى ثلاثة أيام, لم يلتق خلالها بالملك فؤاد, حتى كان يستقل الباخرة إسبريا فى طريقه إلى إيطاليا, ويبدو أن المسئولين فى مصر, رغم تعاطف الإنجليز مع السلطان المخلوع, كانوا حريصين على ألا يسبب وجوده على أرض مصرية أية مشاكل مع حكومة أنقرة, الأمر الذى بدا فى قرار السلطات المصرية بمنع الاختلاط مع الرجل.
آخر أخبار الرجل التصريحات التى نشرتها له الأهرام قبيل سفره بأنه سوف يقصد مدينة جنوة الإيطالية لبضعة أيام ينتقل بعدها إلى سويسرا التى تقرر أن يستقر فيها بشكل نهائى, ومع مغادرة إسبريا لمياه الإسكندرية صباح يوم الخميس 10 مايو عام 1923 فقد المصريون كل اهتمام بآخر سلاطين البرين والبحرين!