المرأة فى دار الإنابة
د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 30 مارس 2000م - 24 ذو الحجة 1420هـ
ما جرى يوم الأحد 16 مارس عام 1919 من قيام مظاهرة ضمت أكثر من خمسمائة سيدة وفتاة لتصب فى مجرى الثورة التى كانت قد تفجرت بمظاهرة طلاب الحقوق قبل أسبوع بالضبط, أثار إعجاب المصريين وأوقع الدهشة بغيرهم, وعندما تكرر ذلك بعد أربعة أيام ووصل الأمر إلى صدام بين المتظاهرات والقوات البريطانية, تحول الإعجاب والدهشة إلى يقين بأن النساء المصريات قد خرجن من خدورهن!
ولم يكن ذلك سوى بداية لاشتغال المرأة المصرية بالعمل السياسى, الأمر الذى رصدته الأهرام فى متابعتها ليوميات الأحداث الثورية..
ففى يوم 18 نوفمبر عام 1919 وفى إطار المشاركة فى الاحتجاج على لجنة ملنر اجتمع نخبة من السيدات المصريات فى ميدان الحلمية الجديدة وركبن فى نحو عشرين عربة طفن بها فى أنحاء القاهرة هاتفة لمصر والحرية والاستقلال والوفد المصرى ورئيسه وبسقوط لجنة ملنر, وفى يوم 13 من الشهر التالى ولنفس الغرض اجتمع عدد عظيم جدا من السيدات المصريات بالكاتدرائية المرقسية لتأييد مقاطعة هذه اللجنة الاستعمارية والاحتجاج على قدومها لمناوأة الأمة فى مطلبها الحق المشروع والإصرار على التمسك باستقلال مصر التام.
فى 16 يناير عام 1920, قامت السيدات المصريات بمظاهرة أخرى بدأت من ميدان المحطة إلى لوكاندة شبرد وهناك هتفن لسينوت بك حنا المقيم بها وللوفد المصرى ورئيسه وللاستقلال التام. ولما وقع نظر السيدات على بعض الضباط الإنجليز أخرجت كل واحدة من تحت إزارها علما مصريا صغيرا وصحن بأعلى أصواتهن (لتحى مصر حرة. ليحى الاستقلال التام. ليحى الوفد المصرى. ليحى سعد باشا زغلول).
فى ذات الشهر, وفى الكاتدرائية المرقسية أيضا, تحول العمل السياسى للمرأة المصرية من هبات غير منتظمة إلى طابع مؤسسى عندما أعلن عن تأليف لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات فى طليعتها: هدى شعراوى, شريفة رياض, نعمت حجازى, إحسان أحمد واستر ويصا, ومهمتها: مساعدة اللجنة المركزية للوفد المصرى لاستمرار المطالبة باستقلال مصر استقلالا تاما, وعندما بلغ سعد زغلول الخبر, أبرق لرئيستها من العاصمة الفرنسية يهنئها بقيامها ويبلغها إن العمل الذى أعلن فيه إرادتكن فى طلب الاستقلال يملأ نفوسنا افتخارا, فأنتن بذلك ترين العالم المتمدين كله أن أمهات أبنائنا ومربيات رجالنا الذين يقبضون غدا على أزمة شئون الوطن لهن جديرات بمهمتهن السامية.
ولم يقتصر عمل المرأة المؤسسى على لجنة لوفد المركزية للسيدات فحسب, بل أن تلك الفترة عرفت ظهور عديد من الجمعيات النسائية كان فى طليعتها جمعية المرأة الجديدة التى كتبت سكرتيرتها إلى صاحب الأهرام رسالة فى 20 إبريل عام 1919 توضح فيها ظروف قيام هذه الجمعية وأهدافها.. جاء فى هذه الرسالة:
فكر جمع من السيدات فى تأليف جمعية منهن للسعى فى خدمة الوطن المفدى بكل وسيلة يرينها نافعة وحقة وقد جعلت همها الأول جمع الإعانات لمنكوبى الحوادث فى الحالة الحاضرة (تقصد ضحايا الثورة) ثم يعقب ذلك العمل ترقية المرأة المصرية وإعلاء شأنها. وقد انتخب من بين أعضائها رئيسة عاملة وسكرتيرة وأمينتان للصندوق وتقرر بإجماع الآراء تسمية هذه الجمعية (المرأة الجديدة).
فى نفس الشهر, ابريل عام 1919, قامت جمعية جديدة تحت اسم جمعية فتاة مصر الفتاة, وهى وإن لم تكشف عن أسماء عضواتها, مثل سابقتها, غير أنه يفهم من أدائها وأهدافها, أنها قامت بشكل مختلف عن جمعية المرأة الجديدة, وإن كان لتحقيق نفس الهدف, فبينما انتمت عضوات الجمعية الأولى لطبقة الأعيان, فالواضح أن أغلب عضوات الجمعية الجديدة كن من الشابات من بنات الطبقة الوسطى الصغيرة, اللاتى دفعهن حماسهن, هذا من جانب, وظروف الثورة من جانب آخر إلى أن يلجوا باب الخدمة العامة.
فى الشهر التالى, مايو, بعث وكيل الأهرام فى الغربية خبرا مؤداه أنه قد تم فى طنطا تأليف جمعية أدبية وخيرية من السيدات المصريات المسلمات والقبطيات للسعى فى ترقية المرأة المصرية فى العادات والأخلاق والآداب, وقد أفسحت الأهرام مساحة لتأييد تلك الجمعيات, والحركة النسائية عموما, مما يتضح من سلسلة من المقالات التى وضعها حسن الشريف تحت عنوان الجمعيات النسائية فى مصر.
وحتى لا يبدو وكأن دور المرأة المصرية فى العمل السياسى مرهون بفورة الثورة الأولى فقد ظلت لجنة الوفد المركزية للسيدات تقوم بدور سياسى بعدئذ مما سجلته الأهرام فى اكثر من مناسبة, كان منها الخطاب الذى وجهته إلى عدلى باشا, وهو يتأهب للسفر إلى لندن لمفاوضة اللورد كرزون, مطالبة إياه ألا يتساهل فى حقوق مصر وأن تضعوا نصب أعينكم أن الأمة كتلة واحدة تؤيدكم وتناصركم وتشد أزركم.. فلا تنسوا دماء شهدائكم من شيوخ ورجال ونساء وأطفال.
ولم يملك سعد باشا سوى الاعتراف بهذا الدور فى أول خطبة ألقاها بعد عودته للبلاد فى 12 إبريل عام 1921 فقد استهلها بقوله: أظهر السيدات فى النهضة الحاضرة من الشجاعة والإقدام ما أعجب به كل واحد منا وكل ناظر إلينا وكن فى كل موقف موضع إعجاب الجميع. وكن يملين على الرجال من الثبات والاحترام ما رأينا آثاره الآن- لقد كتبن بأعمالهن المجيدة صحيفة من أجمل صحائف تاريخ النهضة الحاضرة, فلهن الشكر ولتصيحوا جميعا لتحى السيدة المصرية (فهتف لها الحاضرون).
ومن هذا الموضع الذى أمكن احتلاله أخذت النساء المصريات اللاتى نزلن إلى ميدان السياسة يراقبن عن كثب مجريات الأمور, حتى قرر عبد الخالق ثروت تشكيل لجنة لوضع الدستور فى مارس عام 1922, وهى التى عرفت باسم لجنة الثلاثين أو لجنة الأشقياء, ووجدت لجنة الوفد المركزية للسيدات نفسها فى مواجهة مع المصريين هذه المرة..
***
فى بيان للجنة نشرته الأهرام يوم الجمعة 2 يونيو من ذات العام, ووقعته إحسان أحمد, عبرت عن رأيها أن تلك اللجنة خالفت إجماع الأمة وسارت فى طريقها غير مبالية بإرادتها فصح ما توقعناه من أنها ستسترشد بأعتق المبادئ وتبحث عن كل ما يقيد حرية الشعب.
السبب فى هذا الاتهام ما عرف عن قرارات اللجنة من ضآلة نسبة النواب إلى حد لا يفى بغرض التمثيل وأنها أغفلت حق النساء فى الانتخاب مع أن الدساتير وقوانين الأمم الراقية التى قالت أنها تعمل مسترشدة بها أعطت لهن هذا الحق!
وكأنما كان هذا الاحتجاج بمثابة إشارة البدء لمعركة مجهولة فى التاريخ المصرى الحديث.. معركة مطالبة المرأة بحقوقها فى الدخول فى دار الإنابة شأنها فى ذلك شأن الرجال, وهى المعركة التى بدأتها قارئة من الإسكندرية وقعت باسم الآنسة منيرة ث, وهى نفسها منيرة ثابت التى اكتسبت شهرة كبيرة بعدئذ كإحدى رائدات العمل الصحفى من المصريات, فقد أصدرت عام 1926 مجلة الأمل التى وضعت برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا, وكانت من أولى المجلات النسائية التى تنحاز لمبادئ الوفد.
تحت عنوان النساء والبرلمان المصرى وفى عدد الأهرام الصادر يوم 10 يونيو كتبت الآنسة منيرة مقالا طويلا تكشف فيه عن نيتها بأنه ستعقبه مقالات أخرى, وقد استهلته ببداية ساخنة عندما طالبت كل محافظ غضوب على كل حركة تقوم بها المرأة فى طريق تطورها الانسحاب من أمامنا, فما كنا نرجو من السادة الرجعيين تشجيعا ولا تعضيدا لمطالبنا!
وتزداد السخونة بعدئذ عندما تتحدث عن الاستياء العام الذى قابل به الرأى العام تأليف لجنة الدستور, خاصة ولم نجد بين أعضائها نساء يشتركن مع الرجال فى سن الدستور فى الوقت الذى رأيناها فيه قد ضمت بين أعضائها منصور يوسف باشا وصالح لملوم باشا وأمثالهما ممن لا يجهل الخاص والعام مبلغ كفاءتهم ودرجة علمهم!
وكان معلوما أن الآنسة الاسكندرانية تسخر من أمية هذين العضوين, وهو الأمر الذى لم تحتمله الأهرام, حتى أنها اضطرت أن تنوه فى آخر المقال أنها كانت تود من الكاتبة أن تتفادى مثل هذا القول لأن الرجلين كبيران وهما موضع احترامنا!
وبعد أن عددت صاحبتنا مثالب مشروع الدستور الذى وضعته اللجنة نزلت تأنيبا فى الكتاب الذين لم يراعوا فى نقدهم له غير ما لحق (الرجل المصرى) من حيف وما لحق بحقوقه من قيود غاضين النظر عن افتئات اللجنة على حقوق المرأة المصرية.. أليس كان خليقا بجميع الكتاب أن يتناولوا بحث هذه النقطة والاعتراض على اللجنة لإهمالها؟ وتصل من ذلك إلى وجوب أن نتقدم نحن أولا للمطالبة بحقوقنا هذه.. تلك الحقوق التى سوف أدافع عنها للنهاية!
وخلصت منيرة ثابت فى نهاية مقالها الطويل إلى وضع برنامج للمرأة المصرية لمواجهة الموقف من مادتين:
الأولي: الاحتجاج بشدة عند الرأى العام على الوزارة ولجنة الدستور لافتئاتهما على حقوق المرأة المصرية وأطالبهما بشدة, وفى كل لحظة بتخويلنا الحق فى عضوية مجلس النواب والشيوخ بلا تمييز بين المرأة والرجل. ولتعلما- الوزارة واللجنة- أننا مهما صادفنا من العقبات فلن ننثنى أبدا عن المطالبة بحقنا هذا الطبيعى.
الثاني: توجيه نداء إلى جميع النساء والسيدات المصريات لمشاركتى فى المطالبة بحقوقنا فى عضوية البرلمان وفى الاحتجاج على من يحاولون هضمنا هذه الحقوق!
الغريب أن أول من تصدى لصاحبة مقال النساء والبرلمان المصرى كانت آنسة مصرية أيضا, واسمها منيرة كذلك, وإن اختلفت عن الأولى فى أن اسمها كاملا كان منيرة كمال, كما اختلفت عنها فى أنها عارضتها على طول الخط!
وصفت منيرة الثانية مبدأ التمثيل النسائى بأنه فاسد.. السبب: أن البلد فى شدة الاحتياج للرجال وهى فى حالة التكون وإذا كان الحذر فى انتخاب اللائق من هؤلاء لتمثيل الأمة واجب فكم يكون الحذر أشد إذا خولت النساء حق الانتخاب والجلوس على مقاعد الرجال حتى ولو كانوا غير متعلمين. ألا ترى السيدة أن الطبيعة لم تسو بين الجنسين إذا صرفنا النظر عن الاستثناءات الفردية.. ولأنى من الجنس الآخر لا أشك فى أن رأيى لا يجد سبيلا إلى سوء الظن والمطاعن التى تكال جزافا فى هذه الأيام.
ولا تنسى منيرة كمال أن تؤكد لمنيرة ثابت فى نهاية مقالها أنها ليست من الرجعيين المحافظين ممن أعلنت الثانية أنها لا تود مخاطبتهم, ولكنها لا تريد التورط فى تقليد أمم مضى على رقيها المدنى قرون عديدة, وليس فى طبائعهم ولا عوائدهم ولا دياناتهم من المحظورات ما فى بلدنا المسلم الشرقى والسلام!
غير أن قارئا آخر وقع بحروف اسمه الأولي (م.ف.), كان أشد قسوة على صاحبة مقال النساء والبرلمان المصرى, وردد بعض الآراء التى ظل خصوم المرأة يرددونها حتى اليوم, فهى ما خلقت إلا لتكثير النوع الإنسانى فوظيفتها لا يستطيع أن يجاريها الرجل فيها وقد متعها الله تعالى لحسن أداء هذه الوظيفة بكل ما تحتاج إليه من الأعضاء وناسب بين تركيبها وتلك الوظيفة...
ويضيف القارئ المجهول أن العلم أثبت أن عقلية المرأة أقل من عقلية الرجل, ولا يرى بأسا فى هذه المناسبة من أن يستعين ببعض النصوص الدينية لتأييد دعواه, فيثبت نص الآية الكريمة بأن (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض), ويخلص من كل ذلك إلى القول أن الله فضل الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة.
ولا تفوت المناسبة أمير الظرفاء, الأستاذ فكرى أباظة المحامى, وكان بينه وبين الجنس اللطيف تار بايت ظل يعبر عنه فى كتاباته المختلفة, حتى أنه استهل مقاله الذى نشرته الأهرام فى 20 يونيو عام 1922 بعبارة تحذيرية وهى أن هذا الجنس برهن على أنه لا يرحم إذا كتب ولا يشفق إذا خطب ولا يجامل إذا طلب!
وكعادة كاتبنا الساخر فقد تساءل فى بداية حديثه عما يمنع السيدات والآنسات من (التصويت) خاصة وأنهن يتمتعن بهذا الحق من بدء الخليقة للآن: فى الجنازات والمشاجرات والعمليات وفى كل ما يستفز الشعور بالنسبة لربات الخدور!
يفترض بعد ذلك أن بعضهن دخلن بالفعل دار الإنابة ويقدم على ضوء هذا الافتراض مجموعة من الصور الهزلية..
* أحد النواب الخشنين نظر أو شخط فى نائبة يدفعه فى ذلك الصالح العام إلا أنها لرقة شعورها ودقة إحساسها ضجت بالبكاء والعويل من شدة التأثير وربما قذفت عليه من فيها مختلف الدعوات الصالحات متشفعة بالأولياء والأنبياء. ثم لا تلبث أن تنتابها حمى عصبية تشنجية فتحتاج (لدق الزار) فى رابعة النهار!
* نائبة أخرى تركت أولادها لزوجها الوقور واشتغلت بحماس, على حد تعبيره, فى التقنين والتشريع وبينما هى كذلك إذا بحاجب المجلس يخطرها بأن أطفالها يبكون لحاجتهم للرضاع- أتظن أنها تفضل التشريع على ابنها الرضيع أو سن القوانين على أولادها المساكين!؟.
ثم يتصور مجموعة القوانين التى سوف تتقدم بها النائبات دفاعا عن الجنس اللطيف.. منح الزوجات حق طلاق الأزواج, عند محاكمة إحداهن تكون أغلبية القضاة للجنس اللطيف, الزوج الذى يتغيب عن منزله دون سبب معقول يكون مرتكبا جنحة الخيانة الزوجية ويقع تحت طائلة قانون العقوبات, إذا أرادت زوجة ترك الزوج فيجب عليه أن يدفع تعويضات بسخاء كما تفعل الحكومة المصرية لموظفى الأمة البريطانية, ونظن أن الضاحك الباكى كان فى غاية القسوة على المرأة, خاصة وقد أثبتت الأيام بعد أن جلست تحت القبة أن كل ما تقول به كان مجرد هواجس لعدو آخر من أعدائها!
وبدلا من أن يفت ذلك فى عضد الآنسة الاسكندرانية, منيرة ثابت, وتنسحب من الساحة بعد أن ثبت قوة خصومها, فإنها قررت أن تسير فى معركتها قدما..
***
مرة أخرى تحت نفس العنوان, وفى عدد الأهرام الصادر يوم السبت 24 يونيو سنة 1922, كتبت مقالها الثانى لتعلن أنها غير مبالية بما تلاقيه مصممة على مواصلة الجهاد لنصرة مبدأ تحرير المرأة المصرية من كل القيود البالية والتقاليد العتيقة ومساواتها مع الرجل فى جميع الحقوق.. أجل صممت, أنا المسلمة الشرقية, على متابعة العمل للقضاء على تلك العادات وليدة الجهالة التى رزحت تحتها المرأة المصرية حينا من الدهر!
خصصت بعد ذلك معظم مقالها للرد على سميتها, منيرة كمال, ووصفت آرائها وحججها بأنها واهية, غير أنها كانت منصفة حين قدمت اعتذارها عن أمرين جاءا فى مقالها, الأول: أنها لم تقصد الطعن فى الباشوات يوسف ولملوم وأنما أرادت فقط القول للذين يتهمون المرأة بأنها ليست أهلا للجلوس فى دار الإنابة أنه وجد بيننا كثيرات ممن فى مستوى كفاءة من ذكرتهما وكثيرات أيضا يفقنهما, ونعتقد أن صاحبتنا أخطأها التعبير فى ذلك, حتى أنه ينطبق عليها المثل العامى المشهور جه يكحلها عماها!
الاعتذار الثانى: عن مطالبتها بتحديد سن المرأة التى تخول حق الانتخاب بثمانية عشر عاما فقط, فقد اعترفت أنها قد تطرفت بعض التطرف فى هذا لذلك أرجع عن رأيى الأول وأوافق على تحديد السن بواحد وعشرين عاما كما هو شائع فى أغلب الدساتير.
على أى الأحوال فقد انثنت من ذلك لتفند النظرية الضارة التى اعتمدت عليها منيرة كمال بأن أحكام العادات الشرقية تأصلت من آلاف السنين ويستحيل زوالها بسهولة, وأن تمكن مثل هذه النظرية من عقول الكثيرين يؤدى إلى الخراب والدمار, وبعبارات نارية قدمت شرحا لما ذهبت إليه, فقد تساءلت ما هى تلك العادات إن لم تكن الخمول والانكماش المتفشيين بين بعض المصريات؟ وحب السلامة والطمأنينة والخوف من الإقدام على الأعمال والتراجع أمام أية صغيرة قد تعكر صفو الراحة والهناء؟, ثم انقلبت من ذلك لتضع يدها فى عش الدبابير عندما طعنت فى الحجاب باعتباره إحدى هذه العادات, والذى رأت أنه بلى فى مصر وتلاشى أثره وأصبح لا يرى من اسمه الضخم غير رمز للتهتك والخلاعة!! فأمسينا نؤثر عليه سفورا محتشما.
وكان أهم ما ذهبت إليه فى تفنيد النظرية الضارة ما ظل يروج له أصحابها من أن ما تطالب به معارض لأحكام الدين: فما سمعنا قط أن الدين الإسلامي- ولا المسيحي- يحرم على المرأة مشاركة الرجل فى الأعمال على اختلاف أنواعها, وليس فى أحكام ديننا المحمدى ما يمنع المرأة من الوقوف بجانب الرجل بعد أن رأينا سالفاتنا قد اقتحمن ميادين القتال بجانب الرجال بل وبزونهم فى كثير من الأعمال!
وبنفس القوة رفضت الحجة التى ظل يرددها خصوم المرأة بأن الطبيعة لم تسو بين الجنسين واعتبرتها دعوى باطلة وغريبة وإلا فإنى أتساءل كيف سوت بين الجنسين فى أوربا فأصبحت المرأة شريكة للرجل- شركة الند للند- وأتت كثيرا من الأعمال الجليلة؟ بل ما هو الفارق بين المرأة الشرقية وأختها الغربية التى لم تمثل فقط فى البرلمانات بل دخلت المحاكم وأغلب دور الحكومة!؟.
وفي3 يوليو نشرت الأهرام لمنيرة ثابت مقالها الثالث ترد فيه هذه المرة على الكاتب الذى آثر التوقيع بحروف اسمه الأولى, م.ف., ورأت أنه بنى اعتراضه على حجتين; أولاهما: مسألة تحديد سن العضوة بثمانى عشرة عاما, والثانية: أن المرأة غير أهل لذلك لانتقاص فى عقليتها ولأن تركيبها الخلقى لا يسمح بذلك. وأن الحجة الأولى قد سقطت بعد أن تراجعت عن هذا الرأى, غير أنها لم تقبل بالحجة الثانية, وعادت هنا لتردد ما سبق لها قوله من أن المرأة المصرية لا تقل عن قرينتها الأوربية التى أتت من الأعمال ما عجز عن إتيانه بعض الرجال, وتسخر منه عندما تذكره بقول الخديو اسماعيل المشهور بأن مصر جزء من أوربا, وكيف أن المحافظين يريدون بعد مضى أكثر من نصف قرن على هذا القول أن نتغلغل فى مجاهل إفريقيا فنكون جزءا من خط الاستواء.. أليس من العجب العجاب أن نرى (بعضا) من المصريين- أولئك الذين يقتبسون قوانينهم ومدنيتهم من قوانين أوروبا ويتتبعون خطواتها على درجة الرقي- لا (يخجلون) من الوقوف فى وجه المرأة حائلين بينها وبين مشاركتهم فى هذا الاقتباس والاقتداء!
ويبدو أن ثبات منيرة ثابت على موقفها قد دعا آخرين إلى اتخاذ صفها, وإن حدث ذلك بقدر من التردد من البعض أو بشكل غير مباشر من البعض الآخر..
يندرج فى صف الأولين إسماعيل وهبى المحامى بمصر الذى اعترف بوجاهة كل الحجج التى أدلت بها الآنسة المدافعة عن حقوق المرأة, وكان هذا الاعتراف فى حد ذاته نصرا لصاحبتنا, غير أنه رأى مع ذلك أن كل ما تفعله صرخة فى واد, والسبب: أن الوقت لم يحن بعد لهذه الخطوة, وأن مسألة انتخاب السيدات هى الشغل الشاغل فى الدساتير الأوربية, وما زال الكثيرون يرفضون تمثيل السيدات فى البرلمان. إن أوروبا التى بلغ فيها مكان المرأة كمكان الرجل من أجيال متعددة لم تفكر فى انتخاب السيدات إلا فى القرن الأخير.. أننى لا أقول بحرمان السيدة لمصرية من حق الانتخاب فى الزمن المستقبل غير أننى أؤكد للآنسة الفاضلة أن هذه المسألة سابقة لأوانها.
من الآخرين سلامة موسى المفكر المصرى المرموق الذى نصح بإتباع سياسة الخطوة خطوة فى هذا الشأن, خاصة وقد أزعجه بعض الآراء التى أعرب عنها عدد من أعضاء اللجنة من الوجه القبلى بضرر تعليم البنات وأن الأفضل ترك المصريات ينشأن زوجات وأمهات جاهلات, وأنه ينبغى أولا محاربة هذه الأفكار والتنبه إلى هؤلاء الذين لا يدركون للآن قيمة تربية المرأة.
منهم أيضا أنطون زكرى أمين المتحف المصرى الذى استخدم معرفته بالتاريخ المصرى القديم للدفاع عن المرأة, وكيف أنها كانت عند الشعوب القديمة مستعبدة ذليلة وكانت المرأة المصرية وحدها حرة محترمة متمتعة بكثير من الحقوق الاجتماعية حتى كانت تتزوج بمحض إرادتها وتتعلم العلوم التى تجعلها كفؤا للرجل.
ويبدو أن منيرة ثابت قد اقتنعت فى النهاية بوجوب الانتظار حين أغلقت المناقشة فى الموضوع بشكر وجهته للأهرام بأنها لا تزال منبر الوحى بكل ما هو مفيد وآخرها وجوب تمثيل النساء فى دار الإنابة, وكان على مصر أن تنتظر نحو ثلث قرن لتدخل المرأة هذه الدار, ولا ندرى ما إذا كانت صاحبة الحملة التى نعلم أنها كانت تتاهز الخامسة والعشرين عندما شنتها, قد عاشت لتشهد حلمها يتحقق أم لا.