ads

Bookmark and Share

الاثنين، 9 أغسطس 2010

330 ديوان الحياة المعاصرة


قــال الفيلسوف


د‏.‏ يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام    الخميس 23 مارس 2000م - 17 ذو الحجة 1420هـ


نخرج عن المعتاد فى هذه الحلقة من الديوان عندما لا نختار عنوانها من كتابات الأهرام وفقا لاستخدامنا لهذه الكتابات‏..‏ المطروح‏:‏ هو عنوان برنامج إذاعى ذو طبيعة تثقيفية عالية‏,‏ وهو البرنامج الذى يقوم ببطولته الفنانة سميرة عبد العزيز وسعد الغزاوى ويخرجه الأستاذ إسلام فارس‏.‏
وإذا كان للإذاعة فيلسوفها الذى لا يفتأ يحدثنا كل أسبوع‏,‏ فقد كان للأهرام فلاسفتها الذين ظلوا يطلون علينا لفترات متصلة‏,‏ وبينما حفظت لنا اسم الدكتور زكى نجيب محمود‏,‏ باعتباره آخر الفلاسفة الذين كتبوا بانتظام خلال ذلك القرن فى جريدتنا‏,‏ فإن أعداد الأهرام خلال ربعه الأول حفظت لنا اسم أولهم‏..‏ الدكتور منصور فهمى أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية‏,‏ كما كان يفضل أن يوقع مقالاته‏!‏
الرجل من أبناء قرية صغيرة قريبة من طلخا بمديرية الدقهلية هى شرنقاش‏,‏ التى يؤكد فى كتاباته أنه ظل يقضى بها فترات غير قصيرة‏,‏ على الأقل حتى مطلع العشرينات‏,‏ وتقول المراجع التى عنيت بتقديم السيرة الذاتية لمنصور فهمى أنه قد تلقى الفترة الأولى من تعليمه فى مدارس المنصورة‏,‏ وانتقل منها إلى القاهرة حتى نال إجازة الحقوق‏,‏ ثم خرج إلى فرنسا مع أولى بعثات الجامعة الأهلية عام ‏1908‏ لينال درجة الدكتوراه فى الفلسفة من السوربون‏,‏ فى موضوع عن حال المرأة فى الإسلام‏,‏ ومنذئذ بدأت متاعبه‏,‏ إذ تقول الأهرام أن تلك الرسالة قد أحدثت دويا هائلا مما اضطره إلى أن يظل فى فرنسا حتى تهدأ تلك الثائرة إلى أن عاد إلى وطنه سنة ‏1914!‏
وتؤكد تلك المراجع أن قضايا المرأة ظلت أهم شواغل صاحبنا‏,‏ وهو ما لم ينكره الرجل حتى أنه لما استكتبته مجلة الهلال فى يناير عام ‏1930‏ فى استفتاء كانت قد أجرته تحت عنوان‏:‏ أهم حادث أثر فى مجرى حياتى,‏ جاء رده أقرب إلى اعتراف بهذا الشاغل‏..‏ قال‏:‏ عندما استعرض الحوادث الكثيرة التى كان لها الأثر الأكبر فى حياتى أرى (شبح المرأة‏)‏ يظهر فيها بوضوح وجلاء‏.‏ وإذا ذكرت المرأة فأننى أذكر تأثيرها فى شخصيتى من الناحية الخلقية‏:‏ فقد كنت تلميذا بمدرسة المنصورة الابتدائية لا أتجاوز العام الثالث عشر‏.‏ وكنت وقتئذ أعد من المهملين فى نظامهم‏,‏ المتأخرين فى أخلاقهم وفى دراستهم‏,‏ القذرين فى بزتهم‏.‏ وصادف أن عرفت فتاة مسيحية أقل منى سنا‏,‏ وكانت تلميذة فى مدرسة من مدارس البنات الأجنبية‏.‏ فجذبتنى إليها بنوع من العواطف البريئة‏,‏ وعندئذ تغير أسلوبى فى الحياة‏,‏ فانقلبت من طفل قذر إلى طفل ظريف‏..‏ إذن‏:‏ فى تاريخ طفولتى أثر حسن‏ (لشبح امرأة‏)‏ ويستطرد صاحبنا فى اعترافاته فيتحدث عن ناظرة المدرسة الفرنسية التى التحق بها فى القاهرة والعطف الذى أسبغته عليه فبذل جهد طاقته ليكون مستحقا له‏,‏ وفى باريس عرف فتاة روسية من المأخوذات بالمثل الاجتماعية العليا‏,‏ وكان لها بدورها بصمتها‏,‏ وينهى حديثه بقوله‏:‏ إذن‏:‏ ففى كل دور من أدوار حياتى أرى (شبح امرأة‏)‏ ماثلا أمامي‏-‏ فى حياة الطفولة‏,‏ وفى حياة الشباب‏,‏ وفى حياة الرجولة‏,‏ ومع هذا الاعتراف لا نجد فى اهتمام فيلسوفنا بها فى كتاباته ما يدعو للدهشة‏.‏
نتوقف عند هذه الكتابات ونلاحظ أنه بدأها فى الأهرام فى صيف عام ‏1921,‏ ونلاحظ أيضا أنه كان يفضل أن يختار لها عنوانا ثابتا‏..‏ بين كد الإفهام وثمرات الأقلام‏,‏ وكما يكشف العنوان فإن منصور فهمى آثر أن يدخل صحيفتنا من باب النقد الأدبى,‏ ومع أن الأهرام قد عنيت من قبل بهذا الجانب من الحياة الفكرية فيما حدث حين ظهر بها فى أول القرن باب تحت عنوان تقريظ التأليف‏,‏ وظهر بها عام ‏1917‏ باب تحت عنوان المؤلفون والانتقاد‏,‏ غير أن بين كد الإفهام وثمرات الأقلام كان مختلفا‏,‏ إذ لم يقتصر الباب الجديد على عرض الكتب وإنما تجاوز ذلك ليصبح ميدانا للمعارك الأدبية‏,‏ مثل المعركة التى نشبت بينه وبين الدكتور طه حسين حول ترجمة كتاب سيرانو دى برجراك التى قدمها الأديب المعروف مصطفى لطفى المنفلوطى.‏
ولعل غلبة الجوانب النقدية على كد الإفهام هى التى مهدت لفيلسوفنا أن ينتقل إلى الطور الثانى من كتاباته فى الأهرام‏,‏ وهو الطور الذى بدأ فى صيف العام التالى, 1922,‏ وجاء هذه المرة تحت عنوان خطرات نفس‏,‏ وقد ظلت لسنوات عديدة تظهر بشكل أسبوعى,‏ فى الصفحة الأولى من أهرام يوم الجمعة‏,‏ وفى حالات نادرة يوم السبت‏,‏ وقد خرج فى مؤلف يحمل نفس العنوان‏.‏
وهناك أكثر من فرق بين خطرات نفس كمقالات وبينها ككتاب‏,‏ فليس كل ما كتبه منصور فهمى فى الأهرام تضمنه الكتاب‏,‏ هذا من ناحية‏,‏ ومن ناحية أخرى فإن قراءة المقالات فى إطارها الزمنى,‏ خاصة وأن أغلبها كان ذا طبيعة نقدية‏,‏ يختلف كثيرا عن قراءتها بين دفتى كتاب‏,‏ فهى تحمل فى الحالة الأولى نبض الحياة‏,‏ على عكس وضعها بعد دفنها بين هاتين الدفتين‏,‏ الأمر الذى أغرانا أن نطالع بعض أقوال الفيلسوف فى حالتها الأولى!‏
كان من المنطقى من فيلسوف أن تغلب القضايا الفكرية على الخطرات‏,‏ خاصة تلك التى شغلت الفكر المصرى منذ أن أخذت جريدة لطفى السيد‏,‏ وكان من تلاميذه‏,‏ فى التنادى بها خلال فترة صدورها قبل الحرب العالمية الأولى ‏(1907‏ ـ ‏1915).‏
فصل الدين عن السياسة كان من أول الأفكار التى روج لها الفيلسوف‏,‏ ونلاحظ أنه كثيرا ما كان يروج لأفكاره بطرحها بشكل غير مباشر‏,‏ فهو يتحدث فى أحد خطراته عن زيارة له إلى أحد الأديرة بفرنسا‏,‏ وأنه انتهز الفرصة ليعرف الصلة بين رجال الدين والسياسة‏,‏ وجاءت إجابة رئيس الدير على شكل شكوى من أهل السلطة الدنيوية فهم يتظاهرون باحترامنا وحمايتنا ومع ذلك يضربون علينا أفدح الضرائب فلا نكره الآن أن ترتفع منا أصوات لنجهر بشكوانا لأولى الأمر على أنا نكره أن نشتغل بمسائل السياسة وما يتعلق بها لأنه أحب إلى رجال الله أن ينقطعوا إلى الله وعبادته‏.‏
ولا نعلم ما إذا كان هذا الحديث صحيحا أم مختلقا من جانب منصور فهمى,‏ ولكن ما نعلمه أنه استخدم هذا الحوار ليصل إلى بغيته‏..‏ قال‏:‏ أنه بعد أن فهم من شيخ الدير أنهم لا يريدون أن يحشروا بأنفسهم فى زمرة خدام السياسة نذكر‏-‏ هكذا‏-‏ بعض رجال الدين عندنا وكيف أنهم يدخلون أنفسهم فى معمعة الأحزاب السياسية وفى أحرج مواقفها وأخطر ميادينها دون أن يكون ثمة ما يدعو لأن يدفعوا بأنفسهم ويعرضوا كرامتهم الروحية لما ينجم عن السياسة من كيد الأهواء‏,‏ وشر الغرور ومخاوف الأطماع‏.‏
لعل ذلك ما زج بالرجل فى معارك متصلة مع رجال الدين‏,‏ والملاحظ أنه كثيرا ما كان البادئ بإعلان الحرب‏,‏ غير أنه يلاحظ أيضا أنه لم يحتكر الحقيقة وأنه فى مرات عديدة كان يخصص مساحات للرد على ما جاء فى أقواله فى هذا الشأن‏.‏
ويبدو تربص الفيلسوف بالمشايخ من مقال كتبه عن الاحتفال بوفاء النيل‏,‏ فهو من جانب أخذ على السادة العلماء ذوى المراتب الضخمة الذين حضروا هذا الاحتفال أنهم لم يقفوا احتراما عند عزف النشيد الوطني‏:‏ وقد أفهم بصعوبة أن حياة التقى حالت بينكم وبين أن تميزوا بين نغمة ونغمة ولكنى لست أفهم كيف أنكم لم تتنبهوا أن الناس قاموا إجلالا وكان من حسن الذوق أن تفعلوا ما فعلوا‏,‏ وهو من جانب آخر انتقد إقبالهم على حضور الحفل وقد يكون ذلك لمكانة الداعين من هيئة رجال الحكومة‏,‏ وقد يكون ليأتنس بعضهم ببعض وليتسامروا حول الموائد الكريمة الرسمية المعدة لهذه المناسبة‏,‏ وكان مصدر الانتقاد أن مثل هذا العدد لم يحضر حفلة تذكار الشيخ محمد عبده وقد أرسلت دعوات لهم‏ (!),‏ ولا ينسى أن يلمزهم بقوله أنهم يلبون الدعوات تبعا لمقام الاحتفالات‏.‏
أفسحت الأهرام صفحاتها للرد فنشرت لأحد العلماء‏,‏ عبد الجواد رمضان‏,‏ مقالا امتلأ بالهجوم على الفيلسوف‏,‏ وفسر عدم وقوف هؤلاء عند عزف السلام الوطنى بأنهم أبعد الناس عن التقاليد الغربية التى انغمس فى حمأتها كثير من وجوه رجالنا‏,‏ والتى وليدها النشيد الوطنى,‏ وفند ما جاء فى المقال من عدم حضور العلماء لذكرى الشيخ عبده متسائلا إلى ماذا ينتمى الرجل أليس إلى مهد علماء الأزهر الذى أنجب قبله وبعده شيوخه وإخوانه وتلاميذه‏,‏ ويختم الشيخ عبد الجواد مقاله بالرد على لمزات منصور فهمى بلمزات أشد قسوة مقرا أن العلماء لا ينازعوكم العلم الحديث‏,‏ ولا تحرير المرأة الذى هو شغلكم الشاغل وداؤكم الدخيل‏,‏ فدونكم فحرروها أو قيدوها فلستم ببالغين بها شرا مما بلغت بإرادتها واختيارها‏.‏
لا تمضى سوى أسابيع قليلة إلا ويخصص فيلسوف الأهرام خطرة أخرى مجسدا الصراع بين رجال الدين ورجال السياسة فيما وضعه على شكل محاورة بين معمم ومطربش‏..‏ الأول يشكو لله والناس من شر الأخيرين الذين لم يفهموا الدين حق فهمه فسولت لهم نفوسهم الإساءة إليه قبل أن يتبينوا من أهل الذكر حججه‏,‏ وقبل أن يفهموا منهم أحكامه فناصبوا الدين وأهله العداء‏,‏ فضلوا وأضلوا وباءوا من الله بالإثم العظيم‏.‏
يرد على ذلك أحد السادة المطربشين ممن لا تلتئم طبائعهم مع السادة الأولين‏,‏ قائلا‏:‏ إلى الله أشكو وإلى الناس هؤلاء القوم من رجال الدين‏.‏ يحشرون أنفسهم فى كل سبيل‏,‏ ويخوضون فى كل أمر‏,‏ يجادلون فى السياسة كأنهم من أقطابها‏,‏ ويحاورون فى الاجتماعيات كأنهم أحاطوا بدقائقها‏,‏ نجد فى أصواتهم نبرات الحدة إذا تكلموا‏,‏ ونتبين خلف لحاهم آثار الانفعالات إذا حدثوا‏,‏ يسوقون القول وكأنهم يحسبون أن الحق عندهم فلا يؤتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم ولا هم باللغو ينطقون‏.‏
الخطرة الثالثة كان ميدانها الخلاف حول تعليم المرأة‏,‏ وجاء هذه المرة على شكل تعليق لأحد رجال الأزهر حول بعثات الفتيات التى ترسل لتلقى العلم فى أوربا‏,‏ وكان رأى صاحبنا‏,‏ أنهن يعشن فى ذهابهن وإيابهن ونومهن وجلوسهن فى بحر من الرذائل والخبائث متلاطم الأمواج بين وحوش ضوار يشتهونهن ويشتهينهم ولا رقيب ولا محاسب‏,‏ فيرجعن وقد نبغن فى الفساد فنوظفهن فى مدارسنا فيعلمن باقى بناتنا ما أحسنه فى أوربا وما أحسن إلا الفساد والإلحاد‏.‏
وينبرى دكتور الفلسفة فى الجامعة المصرية للرد رافضا أسلوب سب الفتيات اللواتى سافرن إلى أوربا ونحن نعلم أن أحد شيوخنا الأجلاء قد أرسل فتاته فى بعثة من بعثات أوربا وعادت الفتاة مربية ومرشدة فاضلة تدير مدرسة من أكبر مدارس البلاد‏,‏ ويستنفر آباء فتيات البعثات وهم ليسوا أقل غيرة على الشرف أو أقل حرصا على حسن سمعة بناتهم‏,‏ ويخلص من ذلك إلى القول مخاطبا الشيخ صاحب مقال الهجوم بأن كتابته لم تكن مناسبة وأنه لو كان واعظا لما وصل إلى قلوب الناس وعظك وأنت تتخذ ما اتخذت من أسلوب‏.‏
يرتبط بهذا الموقف أن الرجل اعتبر نفسه داعية للتحديث مما نضحت به عديد من خطرات نفس التى وصفها فى بعض الأوقات بسمر الأسبوع‏,‏ وقد وصلت دعوته تلك إلى آفاق بعيدة‏,‏ كثيرا ما ألبت عليه المحافظين‏,‏ ولعل تلك الخطرة التى نشرها فى الأهرام يوم الجمعة ‏16‏ مارس عام ‏1923‏ تقدم نموذجا على ذلك‏..‏
الخطرة كانت حول الدفاع عن الرقص‏,‏ ولكن أى رقص؟‏..‏ يذكر صاحبنا أنه علم بوجود الجوقة الروسية الراقصة‏,‏ وأنه كان مترددا فى الذهاب لمشاهدتها إلى أن علم أن راقصة الباليه الروسية الشهيرة‏,‏ أنا بافلوفا‏,‏ ضمن هذه الجوقة‏,‏ فأخذ قراره ودخل المرقص فلم يجده مطرح الأهواء والمجون‏,‏ كما استقرت صورته فى عقول المصريين وإنما وجد ما يرفع الإنسان إلى عالم الأرواح‏..‏ أحقا كانوا من نسوة ورجال يذهبون ويجيئون على مرسح التمثيل؟ أم تلك طيور كانت تتهادى؟ أم غصون كانت تتمايس‏,‏ أم تلك أزاهر كانت تطوح بها النسمات؟ أم تلك إشارات من السحر علمتها الملائكة للبشر فكانت توجه الناس إلى التسبيح والتقديس؟ أم تلك إشارات إلى الملأ الأعلى تدل على أن فى الفن الجميل معراجا إلى الله‏!‏
القضايا الاجتماعية كانت البند رقم‏ (2)‏ فيما جاء فى جدول أعمال الفيلسوف‏,‏ وقد تعددت على نحو كبير إلا أنه يمكن اختيار قضيتين منها‏..‏
الأولى متعلقة بوضع المرأة فى المجتمع المصرى,‏ والمعلوم أن الرجل كان من أنصار السفوريين منذ أن بدأ كتاباته فى مجلة السفور التى كانت تصدر خلال الحرب العالمية الأولى,‏ ومن ثم اتسق موقفه فى خطرات نفس مع مواقف سابقة وأخرى لاحقة‏,‏ وعبر عنها بشتى أشكال التعبير‏.‏
ينتهز الفيلسوف فرصة دعوته إلى حفل أقامته هيئة تحرير مجلة المرأة المصرية فيقدم التحية لأب من آباء الحركة الإصلاحية فى مصر‏,‏ على حد توصيفه‏,‏ هو قاسم أمين وكان رأيه أن من الناس من يحيى ذكره جيل من الأجيال إما لميزته أو لمقدرته على استخدام الناس فى تمجيده‏,‏ أو لظروف تعين على إعلاء شأنه‏,‏ ولكن لا يلبث أن يخفت ذكره بانقضاء جيله‏.‏ ومن الناس من يعمل جيله على انتقاص ذكره ومطاردة آرائه ولكن الأيام تعلى شأنه وتحقق ما يذهب إليه‏,‏ وقد كان قاسم أمين من هذا الصنف من الناس فالأيام تسير رويدا رويدا إلى تحقيق ما كان يبشر به من أهلية المرأة للأعمال‏.‏
ولأنه كان قد تعرض لكثير من جوانب قضية تحرير المرأة فإنه كان ينتهز الفرصة لارتياد آفاق جديدة جاءت فى مضمونها ردا على الآراء التى كان يتنادى بها أعداء هذا التحرير‏,‏ منها أن المرأة خلقت لتكون قعيدة البيت ترعى شئونه وتقوم على أموره‏,‏ ولم يوافق الفيلسوف على مثل هذه الآراء‏.‏
قدم فى هذه المناسبة تعريفا للبيت‏,‏ وكان رأيه أنه ليس ذلك البناء المادى المنبسط على الأرض القائم تحت السماء‏..‏ إن بيتا كهذا لا يتميز كثيرا عن بيوت الحيوانات ومساكن الحشرات‏..‏ إنما بيت الإنسان هو الذى تمتد فيه إلى جانب الأطوال والأعراض المادية ذلك المعنى الروحى من الطمأنينة وتقوم مادته من الأرض وتتصل روحه بالسماء‏!‏
يخرج من ذلك إلى عرض مفهوم المحافظين لدور المرأة وأنها لا تستطيع أن تتفوق فى عمل من الأعمال إلا عمل البيت ثم يتصورون أن أهم أعمال البيت ليست إلا أعمالا مادية تافهة كمعالجة الطعام أو إعداد اللباس وما شاكل ذلك فيقصرون المرأة على هذه الأعمال المادية التى تشترك فيها مع النحل والنمل‏!‏
وبينما ينتقد منصور فهمى ما ذهب إليه المحافظون فى هذا الشأن فإنه ينتقد أيضا غلو الآخرين الذين ذهبوا إلى أن للمرأة أن تضرب فى كل عمل وتنال من الحياة كل مذهب‏,‏ صحيح أنه رأى أن المرأة لا يحول حائل بينها وبين مختلف الأعمال‏,‏ إلا أن المفهوم الجديد للبيت يجعل من دورها فيه أمرا على قدر كبير من الأهمية‏,‏ فمن وظائفه إعداد الأجسام للقوة وإعداد النفوس للخلق الحسن وإعداد الأذواق للصحة والسلام ورياضة العقول على شتى المعلومات‏..‏ وينبغى أن يكلف بذلك من يقدر عليه ممن درب فى معاهد العلم وأخذ عن حنكة الحياة ما يجعله لذلك أهلا‏.‏
القضية الثانية متصلة بالتعليم فيتحدث فى إحدى خطراته‏,‏ ومن منظور فلسفى,‏ عن واجب المدرسة وأنه تهيئة النفوس وإعدادها للخلق منه إلى شحن العقول بألوان من العلم والمعرفة‏,‏ وأن وضع التعليم فى مصر وقتئذ لا يسمح بتحقيق هذا الهدف إذ يحشر فى المدارس الأولى زمر من المعلمين الأقل تجربة‏,‏ والأصغر نصيبا من العلم وتزعمون أن تربية الصغار يسيرة هينة‏,‏ ولكنكم فى زعمكم خاطئون‏!‏
وقد لقى صاحبنا فى هجومه على نظام التعليم تأييدا من أصحاب أقلام عديدة‏,‏ حتى أن أحدهم واسمه عبد الرازق البحراوى,‏ أقر بأن المدارس القائمة وقتذاك ليست إلا أماكن نقذف فيها بأبنائنا أملا فى أن يخرجوا منها وقد حصلوا على ما نسميه ضمانة المستقبل التى تكفل لهم السعادة والعيش الهنيء‏.‏ أنها ليست غير سجون ليس فى قوانينها شيء من المرونة‏,‏ فإن تلطفنا فى القول فهى دور يقتاد إليها النشء قسرا ليس فيها ما يحببها إليهم أو يرغبهم فيها‏..‏ أبنية واسعة جميلة ولكنها فارغة غير محبوبة‏!‏
حظيت القضايا السياسية بمكان لا بأس به فى أقوال الفيلسوف‏,‏ نختار منها هنا مجموعة من المقالات‏,‏ بلغت ستة‏,‏ نشرها خلال شهر سبتمبر عام ‏1922‏ تحت عنوان إلى ثورة الإصلاح‏,‏ وقد اختلفت عن غيرها فى أنها نشرت تباعا وليس على نحو أسبوعى كما حدث لبقية الخطرات‏..‏
يؤكد منصور فهمى فى أول تلك المقالات أن روحا من الاستياء العام تسود البلاد‏..‏ فساد أخلاقى سرى إلى نفوس الناس‏,‏ وزعماء البلد لا هم لهم إلا الكيد لبعضهم البعض‏,‏ وأن الأحقاد ملأت الصدور وأصبح جو البلاد مسموما بالتهويش‏,‏ والعنت والمكابرة‏,‏ وأصبحت الأهواء السياسية تحول بين مقدمات المنطق ونتائج المعقول‏!‏
يخرج من ذلك إلى أن تلك الروح خلقت لونا من الشكوى,‏ فالجميع يشكو من الجميع وإلى الجميع‏,‏ حتى تتصور أن المصريين قد انضموا جميعا إلى حزب الشكاءين‏ (!)‏ فهذه شكوى تسمعها من محدثك ساعة يذكر لك مساوئ المحسوبية‏,‏ وساعة يذكر لك مظاهر الاستبداد من أهل السلطة‏,‏ وساعة يحدثك عن عناد رجال الأحزاب منا وتزاحمهم على الغلبة دون أن يفكروا فى التساند والتضامن على الخير‏,‏ وساعة يحدثك عن سوء التصرف والسفه فى أموال الأمة وعدم الحرص على المصلحة‏.‏
وتغلب على صاحبنا روح الفيلسوف عندما يخصص مقالا من الستة لما أسماه مواضع الخلاف‏,‏ فيميز بين ما رآه خلافا طبيعيا أو عاديا وبين ما اعتبره خلافا مرضيا أو مصنوعا‏..‏
الأول تصنعه سنة التطور مثل الخلاف بين فهم الشباب وفهم الشيوخ‏,‏ ومثل تقدير رجال العمل لمسألة اقتصادية وتقدير رجال المال لهذه المسألة‏,‏ ومثل الخطأ فى العلم والزلل فى المنطق فقد يترتب على الخطأ فى المقدمات اختلاف فى النتائج‏,‏ ولا يسبب مثل هذه الخلاف خطرا يذكر على مستقبل الأمة‏.‏
الخلاف الثانى,‏ هو الذى ينشأ عن مطامع الأفراد وشهواتهم وأنانيتهم وأهوائهم‏,‏ وهذا ما نستقبحه لأنه مصنوع‏,‏ ولأنه يضر بالأخلاق والأخلاق هى الأمم‏,‏ ويرى الرجل أن هذا النوع من الخلاف أقرب إلى الألغام القتالة فهى أكبر أسباب الانشقاق والفوضى والاضطراب‏.‏
وبعد هذا التشخيص الذى غلب عليه طابع‏ (التأمل‏)‏ أكثر من طابع‏ (الرصد‏),‏ وهو ما يميز مفكر من طراز منصور فهمى عن صحفى عادى يكتب فى ذات الموضوع‏,‏ يحمل فيلسوفنا مسئولية ما هو قائم لثلاث فئات خصص لكل منها مقالا مستقلا‏..‏
الأول‏:‏ وكان تحت عنوان المضللون والسوقة‏,‏ وكيف أن الأوائل يستخدمون لقيادة الجمهور ضروبا من السحر وأصنافا من التأثير فيخدرون من ملكات التفكير والتدبير‏,‏ ثم كيف أن الأخيرين‏-‏ السوقة‏-‏ يتعرضون لتأثير الأولين لأنهم الأقصر نظرا فى فهم الأمور والأقل علما والأنقص تدريبا والأدنى إلى السذاجة والطهر والبساطة‏..‏ وأهم ما يميزهم أنهم يشعرون بما هم فيه من حرمان فيشرأبون دائما للخلوص من حالهم السيئ ولكن لسذاجتهم‏,‏ وقلة درايتهم تراهم يتمسكون بكل سبب دون أن يكون بين هذا السبب وبين غايتهم علاقة‏.‏
عنوان المقال الثانى كان الخاصة والزعماء‏,‏ ويصفهم بأنهم تلك الجماعة الصغيرة التى تحمل رؤوس أفرادها خير ما فى رؤوس هذه الأمة من خبرة وعلم وذكاء‏,‏ وهو يحملهم مسئولية إبطال تأثير المضللين على السوقة‏,‏ إذ يرى أن دورها أن تسدد سير الجماعات إلى الهدى,‏ وتقيها شر التيه والضلال‏.‏
المقال الأخير تحت عنوان الزعامة والزعيم‏,‏ وكعادة منصور فهمى فى التنظير فهو يميز بين الزعامة الفكرية الذين تعيش أسماء أصحابها ما ظلت الفكرة التى قامت عليها زعامتهم متحققة‏,‏ ويضرب مثلا على ذلك بكارل ماركس‏,‏ والزعامة الحالة الذين تظل أسماءهم حية ما ظلت الحالة التى قامت عليها زعامتهم وأسماءهم حية‏.‏
وينتهى بذلك الدرس السياسى الذى ألقاه الفيلسوف على قراء الأهرام عام ‏1922,‏ غير أن أقوال الفلاسفة‏,‏ بحكم ما تتسم به من تأمل وتحليل‏,‏ تظل صالحة للتفكر والتدبر‏,‏ حتى ولو بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن‏!‏