الإنفجار السكانى الأول!
د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام 3 ديسمبر 1998م
بينما تتصاعد أحداث الحرب العالمية الأولى وما كان يتعرض له المصريون أبانها من مخاطر الغارات الجوية وارتفاع أسعار الحاجيات الضرورية, وما عانى منه الفلاحون من سخرة الخدمة فى صفوف القوات البريطانية, حان ميعاد الإحصاء العشرى للسكان, فقد كان مقررا له, ووفقا لنظام التعداد المصرى أن يجرى عام 1917, وقد تصور الكثيرون أن كل تلك الظروف سوف تؤدى إلى إرجائه.
لم يكن هذا رأى الأهرام والتى بدأت تبشر, وقبل عام كامل من التاريخ المفترض لهذا التعداد, بقرب ميعاده, فيما نقرأه فى باب حوادث وأخبار فى تعليق طويل نشرته تحت عنوان سكان القطر المصرى والإحصاء القادم- بيانات لذيذة لطيفة!
تقدم لنا الجريدة فى بداية هذا التعليق نبذة عن تاريخ التعداد فى مصر, فتذكر أن التعداد المزمع إجراؤه هو الرابع من نوعه فى قواعده ونظامه والسابع فى تاريخ الإحصاء..
الأول جرى عام 1800 أيام الحملة الفرنسية وبلغ فيه عدد السكان نحو مليونين ونصف, أو مليونين و 460 ألفا على وجه التحديد, بينما جرى الثانى عام 1821 وعرف زيادة طفيفة إذ لم يزد عدد السكان خلال هذين العقدين أكثر من سبعين ألفا, بزيادة قدرها 1.45%, ولم يكن على أى الأحوال إحصاء دقيقا, فقد جرى كما وصفته الأهرام حسب كشف الممولين, أفضل منه الإحصاء الثالث الذى عقد بعد ربع قرن (1846) والذى جرى حسب تعداد المساكن, وبلغ عدد المصريين بناء عليه ما يقرب من خمسة ملايين (4.476.440).
ويمكن اعتبار هذه الإحصاءات الثلاثة الأولى مرحلة انتقال بين اللا تعداد وبين بدء نظام التعداد على النحو العلمى المعروف, ولنا عليها عدة ملاحظات:
فيما قبل كانت علاقة الحكومة العثمانية بالمصريين تتم من خلال وسيط, شيخ الحارة فى المدينة وشيخ البلد فى الريف, ومن ثم لم تكن تعرف شيئا عن هؤلاء, ولم يكن يهمها أن تعرف, طالما تتقاضى ضرائبها منهم!
يتصل بهذا طبيعة تلك الحكومة اللامركزية, وهو النوع من الحكومات الذى ساد فى العصور الوسطى ودعم من وجوده النظام الإقطاعى, غير أنه منذ أن جاءت الحملة الفرنسية إلى البلاد, وما تبع ذلك من قيام محمد على بتأسيس الدولة الحديثة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر, بدئ فى بناء الحكومة المركزية التى قامت على التدخل فى كل كبيرة وصغيرة فى شئون المحكومين, ومن ثم كانت فى حاجة إلى أن تعرف كل شئ عنهم, وكان التعداد وسيلتها الأولى لتحقيق هذه الغاية.
ترتبط مرحلة اللاتعداد أخيرا بالأوضاع الاجتماعية التى كانت سائدة بين المصريين وقتئذ, هذا من جانب, وبعلاقتهم بالحكومة من جانب آخر.
بالنسبة للجانب الأول فقد كان المصرى فى ذلك العصر يعتبر كل ما يخص بيته من الأسرار المكنونة وأنه لا يجب إطلاع الغرباء عليها, وعندما تضطره الظروف للحديث عن هذا البيت كان يستخدم توصيف الجماعة, وهو توصيف شديد الغموض!
أما بالنسبة للجانب الثانى فقد قامت علاقة الحكومة بالمصريين, سواء من أهل الريف أو أهل المدينة, على عمليات نهب منظمة, مما تحفل بأخبارها كتابات الشيخ الجبرتى, ومن ثم كان لهؤلاء أن يتوجسوا من أية محاولة حكومية لمعرفة خباياهم, وهى محاولة لم تتم على أى الأحوال!
نعود لبيانات الأهرام اللذيذة اللطيفة التى استعرضت الجريدة من خلالها التعدادات الثلاثة التى قامت على القواعد والنظام المعروفين..
التعداد الأول جرى بعد أكثر من ثلث قرن (1882), وبلغ عدد السكان فيه نحو سبعة ملايين (6.831.131) بزيادة وصلت إلي 81.11% مما شكل بدايات ما اصطلح على تسميته الآن بالانفجار السكانى, غير أن هذا الانفجار أصبح حقيقة واقعة فى التعدادين التاليين.
ففى تعداد1897 وبعد خمسة عشر عاما من سابقه وصل المصريون إلى ما يقرب من الملايين العشرة (9.734.405) بزيادة وصلت إلي 23.89%, وفى تعداد عام 1907 وصل العدد إلى ما يزيد عن الأحد عشر مليونا (11.287.359) بنسبة بلغت 9.14, وهى نسبة تقترب كثيرا من التعداد السابق, إذا ما لاحظنا أن فترة هذا التعداد بلغت خمس عشرة سنة بينما لم تزد فترة التعداد الأخير عن عشرة سنوات, فقد بدأت مصلحة الإحصاء التى كانت قد تشكلت وقتئذ, كإحدى المصالح التابعة لوزارة المالية, فى القيام بمهامها, وكان منها التعدادات العشرية.
لعل ذلك ما دعا الأهرام, وقبيل إجراء تعداد عام 1917, إلى أن تنبه إلى مخاطر هذه الزيادة غير المحسوبة للمصريين فى مقالين طويلين جاء أولهما تحت عنوان حركة السكان فى نمو عددهم, وكان عنوان الثانى حركة السكان فى القطر وتقسيمهم حسب أشغالهم.
حتى يبين كاتب المقال حجم الزيادة فى تعداد السكان فى مصر خلال السنوات العشر السابقة على عام 1907 عقد مقارنة بين هذه الزيادة فى القطر المصرى وبينها فى سائر الأقطار الأوربية, وقد فاز المصريون فى تلك المقارنة إذ بينما بلغت نسبتهم 49.1% سنويا كانت هذه النسبة فى بريطانيا واحد فى المائة وتناقصت فى فرنسا لتصل إلى أقل من نصف فى المائة (0.40%), الأمر الذى دعا كاتب المقال إلى أن يعلق بالقول إن لأهالى القطر المصرى المنزلة العليا فى نسبة نمو عددهم وأن لأهالى فرنسا المنزلة الدنيا!
ترى الأهرام فى ذلك تناقضا مع المبادئ السائدة فى الأمم الراقية, وهو أن وجود عدد محدود من الأهالى فى إحدى الممالك يعنى أن تلك المملكة قائمة بتوفير رزق ذلك العدد ولو لم يكن ذلك لوقع نقصان تدريجى سواء بالمهاجرة أو بالوفيات إلى أن تتم المساواة بين إنتاج البلاد وحاجات الأهالى, ويتفرع عن ذلك أن نمو الأهالى يكون بالظاهر دليلا على ارتقاء البلاد بالعمران وعلى تصاعد إنتاجها, وهو ما لم ينطبق على سكان القطر المصري!
فى المقال الثانى قسم كاتب المقال سكان القطر حسب المهن والحرف والأشغال إلى ستة أقسام; الأعمال الزراعية, الأعمال الصناعية والاستخراجية, النقل, الأعمال التجارية, الأعمال العقلية, وأخيرا ما أسماه بالخدمة الشخصية, وقد أبدى عددا من الملاحظات فى هذا الشأن..
عزا كثرة عدد الخدم إلى أن قسما من الأهالى الذين لهم أكثر من زوجة قيدوا أسماء زوجاتهم بصفة خادمات عندهم (!),سجل بعد ذلك ملاحظة مؤداها أن زيادة الأجانب الذين دخلوا البلاد أفسدت فعل النمو الطبيعي (!),
وفى ملاحظته الأخيرة لم يبد انزعاجا بحركة الهجرة الداخلية التى عرفتها البلاد وقتئذ من الريف إلى المدينة, لسبب انتشار التعليم أو لأسباب أخرى فلم ير منها أى ضرر لأن عدد المزارعين كبير جدا وهو أكثر مما تحتاج إليه الأعمال الزراعية.
وعلى امتداد أعداد الأهرام بعدئذ روت لنا الجريدة قصة البيانات اللذيذة اللطيفة لإحصاء عام 1917..
تنظيم الحملة التعدادية, والسعى إلى تبديد هواجس الأهالى منها, كانا المحورين الأساسيين الذين دارت حولهما اهتمامات الأهرام خلال الشهور الستة السابقة عليها..
قبل صدور المرسوم السلطانى بالقواعد التى تقرر أن تسير عليها الحملة أخذت الجريدة تتكهن بالأسس التى سوف تقوم عليها, فهى تذكر فى وقت مبكر أنه سيخول مصلحة الإحصاء إجبار الأهالى الذين يحسنون القراءة والكتابة على مساعدتها مجانا فى العد والإحصاء ثم تعين فى المدن الكبرى معاونين خصوصيين للعمل معها وفى المديريات تكلف الصيارفة معاونتها مقابل مكافأة خصوصية تنقدهم إياها, ولم يصب هذا التكهن كبد الحقيقة تماما فيما بينه المرسوم الذى صدر فى 31 أغسطس عام 1916, ونقلته الأهرام عن الوقائع المصرية.
المرسوم تكون من خمس مواد; أهمها ما جاء فى المواد الثانية والثالثة والرابعة, فقد نص أولها على تكليف المأمورين والصيارف والعمد والمشايخ وغيرهم من عمال الحكومة الذين تطلب منهم مصلحة عموم الإحصاء الأميرية أن يقدموا لها كل مساعدة بإنفاذ جميع إجراءات الاستعلام والتحقيق اللازمة للتعداد, وأجازت المادة التالية لهؤلاء المندوبين أن يضعوا أو يرقموا على كل محل, وفى أى موضع منه الحروف, أو العلامات, أو الأرقام التى يرونها لازمة لعمل التعداد, وقررت المادة الثالثة عقوبة الغرامة بما لا يتجاوز جنيها واحدا أو الحبس لمدة لا تتجاوز أسبوعا لكل من ينقل, أو يمحو, أو يطمس أو يتلف الحروف, أو الأرقام الموضوعة, أو المرقومة, أو المرسومة لعمل التعداد, كذا لمن يرفض أو يهمل القيام بالواجبات التى تفرضها المادة الثانية!
يتبع وزير المالية المرسوم السلطانى بجملة قرارات يفسر فيها آليات هذا المرسوم.. قرار صادر فى 11 نوفمبر, وقد تضمن طبيعة عمل كل قائم بالتعداد وكانت: أن يطوف بالمنازل ليسأل السكان الداخلين فى المنطقة المنوط به تعدادها جميع المعلومات المشار إليها فى القوائم الرسمية المسلمة له, أن يدون أجوبة السكان كما أدلوا بها فى القوائم المذكورة, أن يوزع تلك القوائم على سكان منطقته الذين يطلبون ملء هذه القوائم بأنفسهم, وأخيرا أن يعيد إلى مراقبة عموم الإحصاء الأميرية أو إلى مندوبيها جميع القوائم والاستمارات التى قد استلمها بعد استيفاء ملئها ومراجعتها.
وفى قرار آخر صادر يوم 7 ديسمبر يؤكد وزير المالية, يوسف باشا وهبة, أن المعلومات الشخصية المتعلقة بسن السكان وحالتهم المدنية ومهنهم وجنسياتهم وبلادهم الأصلية, تعتبر سرية ولا يجوز استخدامها لأى عمل آخر غير تحضير الكشوف الإحصائية ولا فى أى مصلحة أخرى, ملكية أو عسكرية, أميرية أو غير أميرية, غير مصلحة عموم الإحصاء الأميرية.
وليس من شك أن صدور هذا القرار جاء نتيجة لما استشعره المسئولون من زيادة هواجس المصريين من التعداد المزمع, والذى شكل المحور الثانى من اهتمامات الأهرام.
بدأت الجريدة حملتها فى هذا المحور بتعليق قصير كان مما جاء فيه أنه لما كان أكثر الناس لا يدركون نفع الإحصاء ويظنونه مضرا بهم رأينا أن نقول لهم أن هذا الوهم باطل فإن المراد من الإحصاء أمر واحد وهو معرفة عدد السكان, ومعرفة متوسط الزيادة, ومعرفة طوائفهم وطبقاتهم وأعمالهم, لسن الأعمال النافعة على الأساس الذى يوفر الرزق والأعمال ويساعد على تنظيم الحياة الاجتماعية. فالذين لا يساعدون الحكومة فى ذلك يخطئون كثيرا فالمأمول من الجمهور المصرى أن يكون خير عون لها على مهمتها النافعة!
تبعت ذلك بمقال طويل صدرته بالآية الكريمة وكل شئ أحصيناه فى إمام مبين خصصت الجانب الأكبر منه لإفهام الناس فائدة الإحصاء, هذا من جانب وأن القانون يمنع إفشاء المعلومات الإحصائية من جانب آخر..
فائدة الإحصاء يكشف الستار عن الأمور التى يجب على الحكومة الاهتمام بها بوجه خاص ويمنع وقوع كل خطأ أو مظلمة على الأهالى ويتلافى ما عسى أن يكون قد وقع من ذلك فى الماضى ويوضح حاجات الأمة ويمهد الطريق لسد تلك الحاجات التى ترقى الأمة بحيث لا تكون أقل من غيرها فى الحضارة والعمران!
أما منع إفشاء المعلومات الإحصائية فقد أكدت الصحيفة على أن أى موظف من القائمين على العملية الإحصائية يعرض نفسه لأشد العقوبات إذا ما قام بذلك, ثم أن مصلحة الإحصاء تجمع المعلومات وتتوخى غاية الكتمان فى حفظها, ولا تستعملها إلا فى عمل مجموعات عامة عن القرى أو المراكز, وبعد ذلك تحرق الاستمارات الخاصة بها!
على الرغم من ذلك فيبدو أنه كلما اقترب الوقت لإجراء عملية التعداد التى تقرر لها ليلة الأربعاء/ الخميس الموافقة7/6 مارس عام 1917, كانت الهواجس تتزايد, حتى أن الأهرام قد اضطرت إلى التخلى عن وقارها لتهاجم من وصفتهم بالسخفاء والأدعياء الذين يبثون معارضتهم للتعداد فى صدور الساذجين البسطاء حتى يحولوا دون الإصلاح ودون سير البلاد فى الطريق القويم!
وعادت فى هذه المناسبة لتكرر القول بأن أى إصلاح فى الهيئة الاجتماعية لا يكون تاما إلا إذا بنى على أساس صحيح متين, ولا يكون هذا الأساس صحيحا متينا إلا إذا بنى على معرفة عدد أهالى البلاد ومعرفة حرفهم وصنائعهم وميولهم وحاجاتهم ودخلهم ورزقهم وأكلهم وشربهم وكل ما يتناول شئونهم كبيرة كانت أو صغيرة.
ولأن الشعب المصرى متدين فإن الجريدة قررت أن تلجأ إلى أحد رجال الدين ليدعم حملتها ضد السخفاء والأدعياء, وهو حضرة الخطيب الواعظ العام فى وزارة الأوقاف الشيخ محمد المهدى صاحب( مجموعة الخطب العصرية المنبرية الأخلاقية), وقررت أن تستعرض إحدى تلك الخطب التى تحض على قيام الناس بمعاونة القائمين على العملية الإحصائية.
بعد مقدمة طويلة وصف الخطيب عملية التعداد بأنها أمر جلل فبالإحصاء نعرف أنفسنا, وبالإحصاء نعلم كيان مجموعنا وحقيقة وجودنا وما يناسب ذلك العدد من النظامات على اختلاف أنواعها, وبلهجة منبرية استطرد الشيخ المهدى فى عظته فذهب إلى القول نعم-نعم إن عملية الإحصاء هى كمرآة تمثل فيها الأمة فإن أردتم أن تكون تلك الهيئة مطابقة للحقيقة والواقع فبادروا إلى إمداد ذوى الحل والعقد بما لديكم من المعلومات تحسنوا لأنفسكم ولأمتكم ولحكومتكم, ولم ينس الرجل طبعا الاستعانة ببعض الآيات القرآنية لحض الناس على قول الصدق للإحصائيين, ولم يبق بعد كل ذلك سوى إجراء عملية التعداد.
بدأت مصلحة الإحصاء الأميرية بتعيين المعاونين للتعداد, وتقرر أن يكون مركزهم فى أقسام البوليس, على أن يلحق بكل معاون بعض المساعدين الذين يحصون الحارات وينمرون المنازل ويضعون عليها العلامات اللازمة, وتقرر أيضا أن يتم تدريب هؤلاء الأخيرين على الخرائط قبل ثلاثة شهور من الإحصاء حتى يكون عملهم دقيقا فيسلم من الخطأ جهد المستطاع وقد جعلت المصلحة راتب المعاون ثمانية جنيهات!
وجهت المصلحة بعد ذلك خطابا رسميا لعدد من الموظفين الحكوميين تخطرهم باختيارهم عدادين فى الإحصاء المزمع, وتطلب من كل منهم التوجه إلى محل عينته, فى الغالب قسم البوليس الذى سيجرى الإحصاء فى دائرته, فى تمام الساعة الثالثة والنصف من ظهر يوم الخميس 15 فبراير عام 1917, ونبهتهم أن عملهم خدمة عمومية تؤدى لصالح البلاد, ولا يدفع عنها مكافأة, وأنذرتهم بأن من سوف ينكص عن أداء هذه الخدمة سيتعرض للعقوبة المقررة فى القانون, جنيه غرامة أو أسبوع حبس!
تبع ذلك أن وجه مراقب مصلحة عموم الإحصاء الأميرية, المستر ج.ا.كريج تعليماته لهؤلاء العدادين المغلوبين على أمرهم, والتى تضمنت الشروط اللازمة لحسن القيام بالعمل:
أن يعرف العداد واجباته معرفة تامة وأن يتحلى بالصبر وحسن المعاملة مع جميع الناس واجتناب أى منازعة أو مخاصمة مع الأهالى, وأن يكتم المعلومات التى يعطيها الأهالى كتمانا تاما ولا يخفى أن إفشاء هذه المعلومات أو استعمالها فى أغراض شخصية يترتب عليه مسئولية كبرى مدنيا وجنائيا.
ممنوع قطعيا أن ينيب العداد عنه شخصا آخر, وله الحق فى الدخول فى جميع الأماكن المسكونة الواقعة فى قسم التنمير الخاص به ما عدا الأماكن المشغولة بالجيش البريطانى وعليه أن لا يلح فى دخول المسكن إذا كان خاصا بأسرة مسلمة لا تقبل دخوله بل يؤدى مأموريته وهو عند الباب!
إذا رفض شخص من القسم الخاص بالعداد إعطاء البيانات اللازمة فعلى العداد أولا أن يسعى فى الحصول على غايته بالوسائط الأدبية والترغيبية, وأن يذكر للشخص الممتنع أن هذه المعلومات ستكون فى طى الكتمان, فإن أصر على امتناعه يقرأ له المادة الخامسة من القرار الوزارى التى تنص على معاقبة كل من يرفض أو يهمل تقديم المعلومات المطلوبة!
بالنسبة لعمر الأشخاص محل الإحصاء, ولما كان كثيرون لا يعرفونه على وجه التدقيق, فقد أعطت تلك التعليمات حرية التصرف للعداد للتوصل للعمر التقريبى لهؤلاء الأشخاص فإذا كان متزوجا مثلا يطلب منه معرفة سنه عندما تزوج وكم سنة مضت على زواجه, وإذا كان أعزب يسأله عن حادثة تتفق بالتقريب مع تاريخ ميلاده, وفى بعض الأحيان يمكن للعداد أن يقدر سن الشخص من تلقاء نفسه!
بدأت العملية المنتظرة بإعلان أصدرته مصلحة الإحصاء قبل يوم 6 مارس بثمانية وأربعين ساعة أكدت فيه أن نجاح التعداد يتوقف على مساعدة الأهالى وغيرتهم, وناشدت هؤلاء تقديم العون المطلوب, ووصلنا إلى الليلة المنتظرة ويقول مراسل الأهرام بالإسكندرية ذكر الكثير عن جهل العامة وما أشاعه البسطاء من مختلف السخافات والأوهام من غرض الحكومة من إحصاء السكان, ولكن هذه الأقوال والإشاعات لم تؤخر عمل المحصين ساعة واحدة لأن جميع الناس فهموا أن الحكومة أمرت وأن على الأهالى الامتثال بدون بحث ولا جدال.وقد سألنا اليوم عما أصابه العدادون من تأدية مهمتهم فى الإسكندرية ففهمنا أن كل شئ يدل على أنهم ناجحون فى العمل نجاحا كبيرا.
بيد أنه رغم كل ما اتخذ من احتياطات ظهرت بعض المشاكل, وكان أخطرها المشردين الذين لا مأوى لهم, ورغم أن إعلانا قد صدر قبل إجراء الإحصاء بسويعات قليلة يطلب من رجال البوليس والخفراء أن يضبطوا بين الساعة الأولى والساعة الثالثة صباحا جميع الذين يجدونهم نائمين فى العراء فى الشوارع العمومية والحدائق العامة فإن الأهرام قد اعترفت أنه فى القاهرة وحدها تم القبض على نحو مائتين من هؤلاء رغم أن رجال البوليس لم يجمعوهم كلهم إما لأنهم فروا من وجههم واما لأنهم ادعوا أن لهم منازل ولكن النعاس رنا على جفونهم وهم فى الطريق فناموا فى زاوية من الزوايا!
ومع هذا الجانب المأسوى من العملية الإحصائية كان هناك الجانب الطريف الذى بدا فى المفارقات التى تعرض لها بعض العدادين ورووها للأهرام.. أحد هؤلاء سأل رجلا مسنا عن عمره فأجاب مائة وأربعين سنة, والعمل: سقا, فدفعه الفضول أن يسأله عما إذا كان قد مرض بامتداد حياته الطويلة, فأجاب مرة واحدة عندما أصابنى رمد بعين من عينى وما عدا ذلك فعشت طول العمر سليما معافى أقوم بمعاشى لحد الآن. آخر طرق باب أحد الدور المكلف بإحصاء من فيها قائلا كلمة عداد فأجابه أصحاب الدار لم يأت أول الشهر ياسيدى بعد (!), ونوادر أخرى عديدة.
فى يوم 6 مايو عام 1917, وبعد أربعين يوما كاملة من إجراء الإحصاء, أعلنت المصلحة نتائجه الأولى التى اتضح منها أن عدد المصريين ناف عن ثلاثة عشر مليونا, وهو العدد الذى فاق كثيرا ما كان منتظرا لو استمر متوسط الزيادة على ما كان عليه قبل عشر سنوات, حيث كان مقدرا أن يصل المصريون لنحو أثنى عشر مليونا ونصف فحسب, وأن الزيادة أكبر كثيرا فى الحواضر الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد عنه فى الأقاليم ويستفاد من ذلك أن الأهالى فى مصر قد بدءوا ينزحون نحو المدن نزوحا واسع النطاق, وكانت الدلالة واضحة.. علامات حمل مبكر فى الانفجار السكانى!