ads

Bookmark and Share

السبت، 17 يوليو 2010

265 ديوان الحياة المعاصرة


نشر الأعمال الصناعية فى القطر المصرى‏


د. يونان لبيب رزق


 نشر فى   الأهرام   26 نوفمبر 1998م


من أهم الأمور الوقوف على مبلغ تأثير الحرب الحاضرة فى صناعة البلاد وتجارتها والنظر فى التدابير التى تؤدى إلى إيجاد أسواق جديدة لتصريف الحاصلات المصرية أو إلى استبدال الأصناف التى انقطع ورودها بغيرها من الأصناف المصنوعة فى الديار المصرية أو التى ترد من البلاد المسموح بالتعامل معها‏.‏
كان ذلك مطلع قرار مجلس الوزراء المصرى الصادر فى ‏8‏ مارس عام ‏1916‏ بتقديم الأسباب التى دعت إلى تشكيل لجنة التجارة والصناعة‏,‏ وهى اللجنة التى ينظر المؤرخون الاقتصاديون إلى قيامها على اعتبار أنه فاتحة لمرحلة جديدة من تاريخ الاقتصاد المصرى كان أظهرها قيام بنك مصر بعد أربع سنوات فحسب من تشكيلها‏,‏ خاصة وأن واحدا من أعضائها السبعة كان مؤسس هذا البنك محمد طلعت حرب من أعيان القاهرة على حسب ما جاء فى نص هذا القرار‏.‏
لعل نفس الأسباب التى دعت إلى تشكيل لجنة التجارة والصناعة هى التى دفعت الأهرام إلى استكتاب الاقتصادى الشهير الأستاذ شارل شدياق الذى عهده المصريون مدرسا فى الجامعة المصرية وعهده الماليون والاقتصاديون باحثا مدققا سلسلة من المقالات تحت عنوان حالنا الاقتصادية وحياتنا المالية والصناعية ظهر أولها فى ‏12‏ ديسمبر عام ‏1916‏ ونشرت الجريدة آخرها فى فى ‏29‏ مارس من العام التالى,‏ أى لما يزيد عن أربعة شهور‏,‏ وهى ذات الفترة التى كانت اللجنة منهمكة أبانها فى إعداد تقريرها‏,‏ ويمكن اعتبار مقالات شدياق المسهبة عملا موازيا لهذا التقرير‏,‏ وربما قدمت جانبا من المادة العلمية التى كانت اللجنة فى حاجة إليها لإنجاز عملها مما يضفى أهمية خاصة عليها‏.‏
تقدم الأهرام هذا البحث الدقيق الجليل الشأن بمقدمة توضح فيه أسبابها لنشره كان مما جاء فيه‏:‏ إن بحث كل أمة فى شؤونها الاقتصادية والمالية والصناعية مقدم على كل بحث ودرس ومن أهمل ذلك وصرف ذهنه إلى سواه كان بمثابة الرجل الذى يهمل شؤون منزله وينصرف إلى الانشغال بشؤون سواه فلا ينتفع بما انصرف إليه ولا يمنع الضرر عن شؤونه لذلك كان جل قصد الأهرام بسط مالنا لقومنا والبحث عن طرق الإصلاح والتقدم والنهوض وهذا ما تنصرف إليه جهود الأمم الراقية رغم انشغالها فى الحروب‏!‏
وقد اتفق تقرير اللجنة مع مقالات شارل شدياق على أن هناك تدهورا أصاب الاقتصاد المصرى خلال الفترة السابقة على قيام الحرب العالمية الأولى وفى أبانها إذ بينما كان القطر المصرى من الأقطار التى تصدر المواد الغذائية إذا به يصبح الآن وقد ازداد اعتمادا على الأسواق الأجنبية فى تدبير ما يلزمه من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى إذ بينما كانت نسبة المحصولات ‏3%‏ من الواردات عام ‏1836‏ و ‏14%‏ من الصادرات وصلت عام ‏1913‏ إلى ‏24%‏ من الواردات و ‏4%‏ فقط من الصادرات‏.‏
اتفق الجانبان أيضا على تمجيد تجربة محمد على الصناعية وأنها قد تكفلت بتبديد الأسطورة القائلة بأن مصر بلد زراعى,‏ وفندت أقوال الذين يزعمون أن محمد على ارتكب غلطة جسيمة إذ حصر مشروعاته فى يد الحكومة دون الأفراد بحيث لم يعد للجهود الفردية أدنى مجال للظهور‏,‏ وعزت اللجنة فشل مشروع محمد على الصناعى إلى نقص فى أساليب الحكم أكثر من كونه خللا فى التجربة ذاتها‏.‏
أخيرا اتفق الطرفان على توجيه اللوم إلى الصناع المصريين الذين يركنون إلى الدعة والنفور من كل مجهود ويقتصر العامل فى عمله على مسك الرمق وانحطاط الذوق واتسامه بالجمود وعدم الاهتمام وعدم الإتقان‏,‏ واستخفاف الجمهور والحكومة بالشئون الصناعية من جهة وانحطاط أخلاق الصانع المصرى ونقص تربيته من جهة أخرى هما العلتان اللتان تستوجبان المبادرة إلى علاجهما قبل كل شئ آخر إذا أريد إنهاض الصناعة المصرية من كبوتها‏!‏
هذه بعض جوانب الاتفاق بين لجنة التجارة والصناعة وبين شدياق‏,‏ غير أنه كانت هناك جوانب اختلاف من أظهرها أنه بينما لم يزد عمل اللجنة عن وضع تقرير‏,‏ رغم كل الأهمية التى حظى بها لدى الاقتصاديين‏,‏ فإن عمل الاقتصادى الذى استكتبته الأهرام امتد ليشمل دراسة كاملة عن أحوال الاقتصاد المصرى,‏ وإن كانت الصناعة قد احتلت مكانة متميزة فى داخلها‏.‏
فقد كتب شارل شدياق‏,‏ والذى يدل اسمه على أصوله السورية‏,‏ خمسة وعشرين مقالا بدأها بنظرة عامة فى حالة مصر الاقتصادية‏-‏ مقارنة منتوجاتها بحاجتها وما يستنتج من تلك المقارنة‏,‏ وخصص المقالات السبع التالية لتجارة مصر الخارجية‏,‏ ثم أربع مقالات عن روابط المصريين بالخارج‏,‏ الاقتصادية طبعا‏,‏ والثلاثة التى تليها وحتى المقال الخامس عشر عن حاصلات البلاد‏,‏ ثم أولى عنايته بعد ذلك للصناعة التى احتلت مساحة كبيرة من عمل الرجل‏,‏ وجاءت أغلب مقالاته فيها تحت عنوان نشر الأعمال الصناعية فى القطر المصرى,‏ وهو نفس العنوان الذى اخترناه لهذه الحلقة من ديوان الحياة المعاصرة‏,‏ ليس فقط بسبب المساحة التى احتلها وإنما قبل ذلك بسبب ما اتفق عليه المؤرخون الاقتصاديون أن مثل تلك المقالات وقبلها تقرير لجنة التجارة والصناعة كانت هى التى وضعت الأساس لنهضة الرأسمالية المصرية التى عرفتها مصر منذ العشرينات‏.‏
ويمكن تقسيم ما خص الصناعة فى مقالات شدياق‏,‏ التى تصل إلى مرتبة الدراسة الشيقة الرصينة‏,‏ إلى قسمين‏;‏ أولهما‏:‏ عملية رصد واسعة للصناعات التى كانت قائمة فى القطر وقتئذ‏,‏ وثانيهما‏:‏ الوسائل التى يمكن من خلالها إنهاض الصناعة فى البلاد التى اختار لها عنوانا نشر الأعمال الصناعية‏,‏ مما تقدم قراءته صورة ممتعة لمولد التجربة الصناعية الثانية فى التاريخ المصرى بعد التجربة الأولى التى تنسب لوالى مصر المرموق محمد على باشا‏.‏
بعقلية منظمة يتضح منها شمول الإحاطة رصد شارل شدياق الصناعات التى كانت قائمة فى مصر عشية قيام الحرب العالمية الأولى,‏ وهو رصد يتضح منه صحة المقولة التى ظل يرددها الاقتصاديون ومؤداها أن فترة الاحتلال البريطانى قد عرفت انحسارا واضحا فى الصناعات المصرية‏.‏
نظم الرجل عملية الرصد تلك حين قسم الصناعات إلى ثلاثة أقسام من حيث الحجم‏;‏ كبرى ووسطى وصغرى,‏ وثلاثة أخرى من حيث النوع‏;‏ كيماوية وميكانيكية وعملية‏..‏
الأولى تضم الصناعات المعدنية والمنتوجات الكيماوية والمصابن واستخراج الكحول وأعمال الدباغة‏.‏ أما الميكانيكية فتشمل فروعا أكثر‏;‏ صناعة المحركات البخارية والتى تقوم على الاحتراق الداخلى,‏ الآلات الزراعية البخارية وغير البخارية‏,‏ آلات المهن والصنائع‏,‏ الأسلحة على اختلاف أنواعها‏,‏ الأوانى بالتطريق وتشمل صناعة قزانات وأوانى معامل السكر‏,‏ وأيضا أوانى النحاس المنزلية‏,‏ الخردوات مثل صناعة الأوانى المنزلية غير النحاسية وأدوات التنوير والوقود وعدد القص والقطع كالسكاكين والمناجل والفؤوس والمقصات‏,‏ وأخيرا المراكب على اختلاف أشكالها وأحجامها‏.‏ تبقى الصناعات العملية ولا ندرى السبب الذى دفع كاتب تلك المقالات إلى اختيار ذلك التوصيف‏,‏ وتضم أربعة فروع‏;‏ الغذائية من المطاحن الكبرى ومعامل السكر ومعاصر الزيت ومعامل المكرونى ومعامل حفظ المأكولات بالعلب‏,‏ والنسيجية التى تقوم بأعمال الغزل والنسج واللباد والدنتلات والعقاده‏,‏ بعدها صناعة تأثيث البيوت مثل عمل المفروشات والموبيليات وأعمال القيشانى والصينى والفخار وأعمال الزجاج والبلور والساعات على اختلاف أنواعها وأحجامها‏,‏ وأخيرا ما أسماه شارل شدياق صناعة الأدوات للحاجة العقلية وتشمل صنع الورق وأعمال المطابع وسبك الأحرف والآلات الهندسية والرصد والفوتوغرافية وغيرها‏.‏
شرع بعد ذلك فى استعراض كل من تلك الصناعات فى مراتبها التى سماها‏..‏ الكبرى والوسطى والصغرى,‏ وبدأ بالصناعات الكيماوية‏..‏
وبينما لم يجد ما يمكن أن يندرج تحت هذا النوع فى الصناعات الصغرى,‏ فقد وجدها قليلة فى الصناعات الكبرى,‏ غير أنها عثر على كثير منها فى الصناعات الوسطى..‏
فى الكبرى لم يجد سوى أربعة أنواع من المصانع‏;‏ الكحول بطرة ويستخرج من العسل الأسود على نوعين غير نقى للوقود ونقى للمشروبات الروحية‏,‏ ومفهوم أن تندرج مثل هذه الصناعة ضمن الصناعات الكبرى بحكم أن الكحول أو السبرتو كما كان يسميه الناس استخدم وقتئذ لاستخراج الوقود النظيف بدلا من الحطب أو الكيروسين الذى كان يخلف بقايا أو عوادم ضارة‏,‏ بعده ثلاثة من مصانع البيرة‏..‏ اثنان فى الإسكندرية وواحد فى القاهرة حيث يتركز الأجانب والافندية الذين يقبلون على هذا المشروب خاصة فى الصيف‏,‏ مصنعان للسماد العضوى,‏ وأخيرا ثلاثة مصانع للتنوير بالكهرباء والغاز ويمتلكها جميعا شركة ليبون الفرنسية فى كل من القاهرة والإسكندرية وبورسعيد‏.‏
الكثرة الغالبة كانت من الصناعات الكيماوية كانت فى المرتبة الوسطى كما ينبئنا شدياق الذى يعترف بأنه استقى معلوماته تلك من إحصاءات الشركات المساهمة والدليل المصرى العام‏..‏
يبدأ بالصابون الذى بلغ عدد مصانعه أربعة وعشرين أغلبها فى الإسكندرية ‏(20)‏ واثنان فقط فى القاهرة ومثلهما فى الأقاليم‏,‏ وليس السبب طبعا أن أهل الإسكندرية كانوا أكثر نظافة من سائر المصريين‏,‏ وإنما لأن أغلب المواد الأولية التى تعتمد عليها هذه الصناعة‏,‏ مثل الزيت والصودا‏,‏ كانت تستورد من الخارج حيث تتلقاها الإسكندرية قبل أية مدينة أخرى.‏
بعدها مسابك الحديد التى بلغت ‏115‏ ورشة ‏48‏ منها فى الإسكندرية و‏30‏ فى القاهرة والبقية فى الأقاليم‏,‏ يليها معامل المشروبات الروحية‏,‏ وكانت من الصناعات القليلة المزدهرة حيث يدخل فى صناعتها مليون و‏400‏ ألف لتر كحول‏,‏ والسبب مفهوم‏..‏ غلبة الأجانب ومن يقلدونهم من المصريين‏,‏ ويتصل بها معامل المياه الغازية‏(‏ الكازوزة‏)‏ حيث رصد كاتب المقالات خمسين منها‏10 ‏ فى القاهرة و ‏13‏ فى الإسكندرية‏.‏
معامل الشمع بأنواعه‏,‏ الأبيض والعسلى والشمعى,‏ وصل عددها إلى عشرين وإن كان شدياق قد لاحظ أن النوع الأول لا يكفى الاستهلاك المحلى الأمر الذى دفع إلى الاستيراد منه على نطاق واسع‏,‏ وأخيرا معامل المرايا ولم يجد منها سوى واحدا فى الإسكندرية‏.‏
خصص القسم الثانى للصناعات الكيماوية واعترف فى مستهله بأنه لا يمكن إدراج آى مصنع فى مصر فى مرتبة الصناعات الكبرى,‏ كما عثر على قليل منها فى الصناعات الصغرى مثل بناء القوارب‏,‏ وكما حدث بالنسبة للصناعات الكيماوية تركز هذا النوع من الصناعات رغم قلته فى الدرجة الوسطى..‏
يتحدث عن مصنع للأسرة الحديدية والرفاصات فى شبرا بالقاهرة ومصنوعاته تزاحم بأسعارها وبجودة صنعها أحسن المصنوعات الخارجية حتى أنه يؤمل أن يرتقى سريعا إلى درجة الصناعة الكبرى,‏ بعده مصنعان للمحركات بالزيوت المعدنية موجودان بالإسكندرية‏,‏ وخمسة لصناعة حنفيات النحاس أغلبها بالإسكندرية ومعمل للسكاكين فى القاهرة وأخيرا ‏47‏ ورشة للأعمال الميكانيكية تتركز أساسا بالقاهرة والإسكندرية وهى تتعاطى جميع الأشغال الميكانيكية فى التصليحات وتركيب المعدات التى ترد أجزاؤها من الخارج بصفة مواد أولية مصنوعة بعض الصنع ليصير إتمام صنعها فى القطر‏!‏
القسم الأخير تناول فيه الرجل ما أسماه الصناعات العملية وكانت صاحبة النصيب الأوفر من الصناعات القائمة فى مصر وقتئذ‏,‏ وعلى المستويات الثلاثة‏;‏ الكبرى والوسطى والصغرى..‏
أول فروعها الصناعات الغذائية‏,‏ وعلى مستوى الكبرى منها وجدت فى مصر وقتئذ صناعة السكر ومعها ثلاث شركات كبيرة للملح والصودا تستخرجها من البحار ووادى النطرون‏,‏ فضلا عن شركتين للثلج أحدهما بالقاهرة والأخرى بالإسكندرية‏,‏ وشركة لضرب الأرز هى شركة وابورات الأرز بالإسكندرية ورشيد‏,‏ أما على مستوى الوسطى فأهمها معامل المكرونه التى بلغت ‏23‏ معملا‏..‏ اثنان منها فقط فى الأرياف وثمانية فى القاهرة وثلاثة عشر فى الإسكندرية بحكم غلبة الأجانب من أكلة المكرونه فى الثغر‏(!),‏ معامل عصر الزيوت البالغ عددها ستة وعشرين وكان للريف الغلبة هذه المرة حيث كان للأقاليم نصفها وهو أمر مفهوم بحكم أن هذه الصناعة تعتمد على بذرة القطن التى تنتجها المحالج التى تقع فيه‏,‏ معمل واحد للمأكولات المعلبة بالإسكندرية و ‏13‏ معمل للثلج موزعة على سائر أنحاء البلاد وخيرا معمل للحلويات وثالث للزبدة الاصطناعية‏,‏ أما على مستوى الصغرى فلم يكن لهذا النوع من الصناعات نصيب يذكر‏.‏
الفرع الثانى خاص بصناعة المنسوجات ويندهش القارئ أنها لم تحظ على مستوى الصناعات الكبرى إلا بمعملين أحدهما للطرابيش‏(!),‏ وإن كانت حظيت بنصيب أكبر بالنسبة للصناعات الوسطى, 25‏ معملا أكثرها فى المحلة الكبرى,‏ غير أنه يبقى انتشارها فى الصناعات الصغرى حتى أن شدياق يقول أن لأعمال المنسوجات والخياطة المنزلة الأولى فى الصناعة على اختلاف طبقاتها‏.‏
يعدد صاحبنا بعد ذلك صناعات البناء‏,‏ الكبري‏:‏الطوب والأحجار الاصطناعية خمس شركات‏,‏ الأسمنت اثنتان أحدهما فى المعصرة بالقاهرة والأخرى بالإسكندرية‏,‏ ثم يليها على مستوى الصناعات الوسطى الدباغة‏,‏ الصياغة والجواهر‏,‏ الكرتون‏,‏ الشمسيات‏,‏ العصى والعقادة‏.‏
ولا شك أن هذا الرصد لم يرض صاحبنا شارل شدياق‏,‏ كما لم يسعد قراء الأهرام من المصريين‏,‏ مما دعا الرجل إلى أن يخصص مقالاته الأخيرة للدعوة إلى نشر الأعمال الصناعية فى القطر المصري‏!‏
زيادة عدد السكان زيادة عظيمة من جانب‏,‏ وظروف الحرب القائمة وتأثيرها على استيراد الحاجات اللازمة للبلاد من جانب آخر‏,‏ كانت الأسباب التى دعت الحكومة لتشكيل لجنة التجارة والصناعة‏,‏ وهى التى دعت كاتب الأهرام‏,‏ شارل شدياق‏,‏ إلى تقديم دراسة فى ثلاثة مقالات متتالية عن إمكانية نشر الأعمال الصناعية‏.‏
متطلبات تحقيق هذا الهدف لم تكن متوافرة‏,‏ فيما تحدث به الرجل فى مقاله الأول‏,‏ فمن بين ستة من هذه المتطلبات‏;‏ المواد الأولية‏,‏ القوى المحركة‏,‏ الأيدى العاملة‏,‏ الأموال المتنقلة‏,‏ المعرفة الفنية لم يتوفر سوى الأيدى العاملة وحسن الإدارة وإن وضع شروطا للأخيرة التى وصفها بأنها الواسطة ذات الأهمية الكبرى التى تضمن نجاح المشروعات الصناعية‏.‏
وينبهنا فى هذا الصدد إلى أن كل المصانع‏,‏ خاصة على مستوى الصناعات الكبرى فى أيدى الأجانب ولم يشترك فيها الأهالى,‏ ويميز هنا بين الأعمال الزراعية التى توفر على ربها التعب والتفكير والحسابات وبين الأعمال الصناعية التى تتطلب مثل تلك العناصر‏,‏ ويتوقف عند هذه النقطة على اعتبار أنها من أكثر معوقات خوض المصريين لميدان الأعمال الأخيرة‏.‏
ففى رأيه أن التقصير فى الأعمال الزراعية لا ينتج عنه ضرر يذكر لأن الطبيعة تسد النقص الذى ينتج عنه وعبارة ماعليش الدارجة على الألسن تشخص واقع الحال إذ لا عاقبة مهمة تنتج من الإهمال أو من سوء الإدارة أو من عارض استثنائى..‏ وشتان بين هذه الحالة وبين ما تستدعيه إدارة الأعمال الصناعية من الدقة والسهر إذ أن أدنى إهمال أو غلط فى تسييرها يؤدى سريعا إلى الخراب‏!‏
وينهى شدياق مقاله الأول بأن يضع القارئ أمام إشكالية وهى أن مصر تجاه موقفين حالة اضطرار القطر للدخول فى دور الصناعة الحقيقى وحالة عدم استيفاء الشروط اللازمة لذلك الدخول أو عدم التأكد من وجود الشرط الأصلى الذى يضمن وحده نجاح المشروع فكيف يمكن التوفيق بينهما؟؟‏,‏ ويعد القارئ أن يجيب على هذا السؤال فى المقال التالي‏!‏
فى مستهل هذا المقال تناول بالحديث الشروط الثلاثة اللازمة لنشر الأعمال الصناعية‏;‏ عدم كفاءة الحاصلات الزراعية لسد حاجات السكان‏,‏ ضرورة تحسين أحوال الطبقة الدنيا أو من أسماها بالطبقة الواطئة والتى يبلغ عددها أربعة أخماس عدد الشعب‏,‏ والأخير إدخال عوائد فى الأخلاق تكون خاتمة‏(‏ الماعليش‏)‏ فى الشعور‏!‏
ويرى أن كل ذلك لن يتم إلا بمداخلة الحكومة‏,‏ وعدد الصور التى يمكن أن تتم عليها هذه المداخلة وكانت خمسة نسوقها بنصها لما تعبر عنه من لون من التفكير الاقتصادى السائد عندئذ‏,‏ والذى يمثله رجل يصعب اتهامه بالاشتراكية‏,‏ أو أنه ليس مع الحرية الاقتصادية‏..‏
حين دخول البضاعة الأجنبية إلى القطر إذا كانت مواد أولية خاما أعفيت من رسم الجمارك أو خفض الرسم المرتب عليها اعتياديا تخفيضا كبيرا‏,‏ وهكذا يكون الأمر إذا كانت تلك البضاعة عددا أو ماكينات معدة لأعمال المعامل الداخلية‏.‏ وإذا كانت الواردات مصنوعات تتولد أو يمكن توليدها فى القطر يقرر عليها رسم بشرط أن لا يتجاوز الحد الذى من بعده ينشأ ضرر للمستفيدين‏.‏
فى إنشاء الفابريكات‏:‏ للحكومة أراض واسعة بجوار المدن وبالذات النقط التى تصلح لتشييد الفابريكات فباستطاعة الحكومة إعطاء تلك الفابريكات مجانا ما يلزمها من الأراضى لتشييدها عليها‏.‏
فى مشتروات الحكومة‏:‏ لا يخفى أن للحكومة المرتبة الأولى بين جميع المشترين سواء كانوا أفرادا أو جماعات‏..‏ فيمكنها أن تقرر فى مزاداتها أنها فى المصنوعات الأجنبية والمصنوعات الداخلية تعطى الأفضلية للثانية بعد أن تكون اختبرت جودتها وصلاحيتها‏.‏
فى تنشيط الصنائع الممتازة‏:‏ تستطيع الحكومة أن تقرر إقامة معرض سنوى فى القاهرة ثم إنشاء معارض فى الإسكندرية وسواها فتقوم بنفقاته وتعطى له كل ما يلزم من الرونق والبهاء وتوزع فى نهايته جوائز على الممتازين بين العارضين‏.‏
تعيين لجنة دائمة للنظر والمباحث فى الشئون التى تهم رقى الصناعة فى القطر وتؤلف الحكومة هذه اللجنة من الرجال القادرين على تلك المباحث فتستشيرهم الحكومة فى كل ما يتسنى لها أن تطلب الاستفتاء عنه من الأمور الصناعية‏.‏
المقال الذى ختم به شدياق مجموعة مقالاته الخمسة والعشرين كان تحت عنوان كيفية انتفاع طبقات الأهالى من نشر الصناعة فى القطر المصرى,‏ ويستهله بشن حملة عنيفة على حزب الماعليش‏,‏ ويرى أن بينها وبين حسن الإدارة الصناعية عداوة تستحيل إزالتها فإما أن يعدل الإنسان عن فكرة الإقدام على تلك الأعمال وإما أن يعدل عن الماعليش‏,‏ ثم يقدم وصفة اجتماعية لأحسن وسائل نشر الصناعة فى القطر‏..‏
الطبقة العليا من الأهالى أرباب الثروة والأشغال العقلية جديرون بالاشتراك بالأعمال الإدارية فإذا شاركوا الأجانب فى هذه الأعمال فإنهم يكتسبون فوق الأرباح عوائد جديدة تمكنهم تدريجيا من القيام بذاتهم بمثل هذه الأعمال دون مشاركة أحد‏.‏
الطبقة الوسطى لا بد من دخولها فى تلك الأعمال‏..‏ بمساعدة الرؤساء الأجانب فى المعامل الموجودة فى القطر فيكسبون فعلا عوائد جديدة أعظم مما تكسبه الطبقة االعليا‏.‏
أخيرا الطبقة الواطئة أو العامة كما أسماها هذه المرة ووصف لها أن تنشط فى مجال الصناعة الصغرى لأقصى درجة ولا يترك لأعمال الصناعة الكبرى سوى مجال صغير ذلك لأنها تحتاج إلى زيادة كلية فى الأيدى العاملة بالنسبة إلى ما تحتاجه الصناعة الكبرى,‏ ونعتقد أن تلك الوصفة التى قدمها شارل شدياق فى نهاية مقالاته لا زالت ناجعة حتى يومنا هذا‏.‏