دندرة (واحد)!
بقلم : د . يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام 19 نوفمبر 1998م
على مقربة من القناطر الخيرية شهدت مياه النيل فاجعة أليمة قل أن شهد لها مثيلا طوال تاريخه الطويل.. فعندما دقت الثامنة من صباح الجمعة 8 مايو عام 1959 كانت الرحلة النيلية التى نظمها نادى نقابة المهن الزراعية من مرسى روض الفرج تحولت من نزهة إلى رحلة موت على ظهر الباخرة دندرة التى كانت تحمل 200 راكب عندما بدأت تغوص فى أعماق المياه وهى على بعد أمتار قليلة من محطة الوصول ولم تستغرق العملية سوى 15 دقيقة بينما استمرت عمليات البحث عن الجثث أسبوعا كاملا وأسفر الحادث عن غرق79 من ركاب الباخرة ما بين أطفال وسيدات ورجال.
كان هذا بعض ما جاء فى الأهرام تعليقا على الحادث الذى استقر فى الوجدان الوطنى المصرى باعتباره رمزا لأكبر كارثة نيلية عرفتها مصر, حتى أن كثيرين, ربما حتى يومنا هذا, يصفون أية حادثة كبيرة بأنها دندرة أخرى, غير أن ذلك لا يمنع من الاعتراف أن قول الأهرام فى تعليقها الآنف بأن النيل قل أن شهد لهذه الحادثة مثيلا طوال تاريخه الطويل,كان يعوزه الدقة, فنفس الجريدة, وفى مناسبات سابقة عديدة ظلت ترصد أخبار الكوارث التى كانت تلحق براكبى أمواج النيل, والطريف أنها فى كل مرة, وفى مجال توصيفها للكارثة كانت تستخدم التعبير إياه.. أن النيل قل أن شهد لها مثيلا!
وقبل أن نرصد بعض أخبار تلك الكوارث فهناك أكثر من ملاحظة قد تعين على تفهمها:
أن تلك الكوارث كانت لا تلحق فى العادة بسفن الملاحة المنتظمة التى ظلت تغص بها مياه النهر, وليس أدل على ذلك من أن تلك السفن التى ظلت تذرع مياه النهر جيئة وذهابا, من الشمال إلى الجنوب والعكس, قلما كانت تتعرض لمثل هذه الحوادث, ولأسباب; منها: أنه كان يقودها فى العادة ملاحون متمرسون, ومنها أنه لو حدث وغرقت إحدى تلك السفن فقد كانت خسائرها البشرية فى العادة طفيفة, سواء لأن ركابها يقتصرون على طاقمها, أو لأن هؤلاء يجيدون السباحة والنجاة بأنفسهم, ومنها أخيرا أن الجهات الحكومية كانت تعنى بتيسير سبل الملاحة التجارية فى النهر من خلال توفير الأهوسة الملاحية للقناطر التى تم بناؤها على النيل, والتى بلغت عام 1914 أثنى عشر هويسا, ولم يكن غريبا مع ذلك ما سجلته الإحصاءات خلال الفترة السابقة على قيام الحرب العالمية الأولى (1911-1914), والتى أفادت أن متوسط عدد المراكب الشراعية والبخارية التى مرت عبر الأهوسة المقامة على النهر بلغت سبعين ألف سفينة ذهابا وإيابا, وهو العدد الذى هبط إلي59 ألفا فى العام الأخير بسبب ظروف قيام الحرب.
المشكلة لم تكن فى الملاحة مع جريان مياه النهر أو ضده وإنما كانت فى عبوره بين الضفتين حيث اضطر الألوف إلى استخدام معديات بدائية لإتمام هذا العبور, خاصة مع الافتقار إلى الكبارى التى تيسر مثل ذلك العبور بشكل آمن, فحتى قيام الحرب العالمية الأولى لم يقم عبر النهر أكثر من 12 كوبرى خصص أغلبها للخطوط الحديدية; امبابة, بنها, كفر الزيات, دسوق, زفتى ونجع حمادى, ولم يكن للعبور من المشاة مع دوابهم سمى ممرات محدودة على جانبى الخط الحديدى.
والمعلوم أنه قد ازدادت حركة عبور النهر مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التى كانت قد عرفتها مصر خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر, والتى استمرت حتى قيام الحرب العالمية, فالنمو المضطرد للمدن وقيام الأسواق فى جنباتها كان يدفع أبناء الريف المجاور إلى الانتقال إليها بحثا عن الرزق, هذا من ناحية, ثم أن انتشار التعليم وتطلع أبناء طبقات جديدة فى الريف إلى الالتحاق بالمدارس قد أدى بدوره إلى ظاهرة الانتقال اليومى للتلاميذ مستخدمين فى ذلك تلك المعديات التى كثيرا ما كانت تنوء بحمولاتها البشرية حيث يتدافع الركاب إليها متسابقين فى الوصول إلى أعمالهم.
فوق كل ذلك فلم يكن هناك أية قوانين أو لوائح أو تنظيمات تضبط حركة هذه المعديات التى كان يمتلكها بعض الأهالى, ولم يكن يحكمهم فى تشغيلها سوى تحقيق أكبر قدر من الربح, بغض النظر عن تعريض أرواح العابرين للمخاطر, متذرعين فى ذلك بالعبارة المشهورة خليها على الله!
يبقى أخيرا من السفن ذات الحمولات البشرية الثقيلة تلك التى تخصصت فى السياحة الداخلية, وفى اعتقادنا أنها لم تعرف على نطاق كبير إلا بعد الحرب العالمية الثانية, حين بدأت المؤسسات التعليمية وبعض النقابات والنوادى تنظم رحلات ترفيهية.. ولأن تلك السفن كانت تحمل فوق طاقتها, وبحكم الحركة البشرية الدائبة عليها تعبيرا عن المرح والحبور لأناس أتوا ليقضوا يوما سعيدا على صفحات النهر, فضلا عن الخبرة المحدودة للملاحين الذين كانوا يتولون قيادتها وتشغيلها, فكثيرا ما كانت تفقد توازنها وتهوى إلى أعماق النيل, وكان منها باخرة دندرة الشهيرة!
بيد أنه هناك لونا من السياحة كان معروفا منذ وقت طويل وكان مصدرا لنفس الخطر, تلك التى يمكن توصيفها بالسياحة الريفية, ونعنى بها الموالد الكبيرة التى كانت تقام فى طنطا أو دسوق أو غيرها من مقار الأولياء, والتى كان يتقاطر عليها الفلاحون بأعداد هائلة, وكثيرا ما استخدم هؤلاء نهر النيل أو الترع الكبيرة للوصول إلى مكان المولد, ولما درج عليه الناس فى مثل تلك المناسبات من الهرج والمرج, ولما كانوا يرونه أنها مناسبة تفاريحية يسعون جميعا للاشتراك فيها, فإن اندفاعهم إلى هذه المراكب كثيرا ما كان يودى بهم إلى غياهب المياه, دون أن تفيدهم بركات أصحاب الموالد!
ومن الملاحظات إلى متابعة صفحة الحوادث فى الأهرام خلال أواخر القرن الماضى والسنوات الأولى من القرن العشرين, وحتى فترة الحرب, لنتبين منها المخاطر التى ظل المصريون يتعرضون لها دون أن يدفعها عنهم أحد, فقد كان على المتضررين أن يلجئوا إلى القضاء والقدر! منذ تسعينات القرن التاسع عشر بدأت الأهرام تخصص جانبا من صفحة الحوادث لأخبار ركاب النيل كان من أشهرها ما جرى خلال النصف الثانى من أكتوبر عام 1895 مما كان بمثابة تجربة للحوادث الكبرى التى جرت بعد ذلك..
فى 18 من هذا الشهر تنبئنا الجريدة بما أسمته أفظع المصائب وأفجعها وكانت, على حد كلماتها, أن نحوا من ستين شخصا من أهل امبابة الذين يشتغلون فى العاصمة فى أعمال المطابع والصناعات الأخرى ركبوا معدية مساء أمس ليجوزوا النيل إيابا إلى بلدتهم فألقى التيار المعدية تحت باخرة للشركة التوفيقية فأغرقتها بمن فيها ولم ينج إلا سبعة وقد قبض اليوم رجال البوليس على بعض أصحاب تلك المعدية للتحقيق.
وكعادة الصحف فى مثل هذه الأحوال تبحث عن القصص الإنسانية وما اتصل بها من مظاهر الشجاعة أو الجبن, فمثلا أخذت الأهرام تقرع بعض النوتية الذين كانوا فى معديتين قرب محل غرق المعدية الأولى لأنهم انهزموا جبنا ونذالة ولم يلووا على المنكوبين لانتشالهم وإعانتهم, بينما أثنت من جانب آخر على رجال الباخرة التى اصطدمت بها المعدية لأنهم أنقذوا السبعة الذين أمكن إنقاذهم.
وكالعادة فى مثل هذه الأحوال أيضا لا يعتد كثيرا بالأخبار الأولى للحادثة التى تهول أحيانا وتهون أحيانا أخرى من الخسائر.. فإنه جاءت الأخبار أولا بأنه لم ينج من الستين سوى سبعة, ولم يمض سوى سويعات إلا وكان مندوب الأهرام الذى هرع إلى مكان الحادثة يبرق للجريدة إن الذين غرقوا بحادثة إمبابة هم 20 شخصا وقد انتشل 40 أحياء خلافا لما أشيع.
ظاهرة أخرى وهى أن عملية البحث عن الغرقى والعثور عليهم كانت تستغرق أياما, فبعد أكثر من أربعة أيام من الحادثة تخبرنا الأهرام أنه قد تم العثور على جثتين من جثث هؤلاء وقد عرفهما أهلهما فسلمتها مديرية القليوبية إليهم, ثم بعد ذلك بأسبوع يأتى خبر العثور على جثتين أخريين فى محلة مالك فانتشلتا وهما فى حالة تعفن شديد وقد ذهبت لحماتهما ولم يبق منهما إلا عظم يقبض منظرها الصدور, وكان هذا طبيعيا على ضوء تخلف وسائط البحث وقتئذ, فلم يكن هناك الرجال المدربون على الغوص ممن أصبح يطلق عليهم تسمية الضفادع البشرية, ولم تكن هناك معدات الغوص التى أدخلت عليها تحسينات كبيرة فيما بعد.
يبقى من الظواهر التى ارتبطت بتلك الحوادث الدعوات التى كانت ترتفع أصوات أصحابها بفتح الاكتتابات لإعانة المصابين وأهالى الضحايا, وكما حدث هذا فى واقعة دندرة فقد حدث فى فاجعة إمبابة وفى غيرها من الكوارث التى أصابت ركاب النيل خلال ما ينوف عن الستين عاما الفاصلة بين الحادثتين.
بالنسبة لدندرة, وتحت عنوان حساب لتبرعات المواطنين لأسر ضحايا الباخرة دندرة تنبئنا الأهرام أنه تم فتح حساب فى بنك مصر لتلقى التبرعات لصالح هؤلاء وأنه قد أمكن جمع 22500 جنيها خلال أيام قليلة, منها خمسة آلاف جنيه دفعتها وزارة الشئون الاجتماعية, وهو ما حدث بالنسبة لضحايا حادثة إمبابة أيضا فقد نهضت جمعية فى امبابة اسمها جمعية الاقتصادات الخيرية بالدعوة لاكتتاب لمواجهة تلك الكارثة التى رملت نساء وأثكلت آباء وأمهات ويتمت أولادا لم يبق لهم ملجأ إلا إحسان المحسنين وتحث الأهرام أولى اليسار على التبرع لمنكودى الحظ من هؤلاء فان الله لا يضيع أجر المحسنين!
غير أنه تبقى ملاحظتان حول هذه الظاهرة; أولاهما أن تلك الدعوات كانت تلقى استجابة لا بأس بها فى أول الأمر باعثها عاطفى بسبب الإشفاق على هؤلاء المنكوبين, بيد أن مثل هذه الفورات العاطفية لا تلبث أن تهدأ مع مرور الوقت ويخرج أولو اليسار أياديهم خاوية من جيوبهم, على عكس الحال فى الاكتتابات التى كانت تتم الدعوة إليها للمؤسسات الخيرية, مثل المدارس وبيوت العبادة والمستشفيات وغيرها.
الملاحظة الثانية أنه بينما لقيت الدعوة لاكتتاب دندرة نجاحا لا بأس به, فهى لم تلق مثل ذلك النجاح فى الحوادث الأخرى.. السبب يتضح من نظرة إلى قوائم المكتتبين, ففى تلك الحادثة كان أغلب هؤلاء من الهيئات, فإلى جانب وزارة الشئون الاجتماعية كان هناك القوات المسلحة والجمعيات الزراعية, وهو ما لم تعرفه الكوارث السابقة, خاصة وأن وزارة الشئون الاجتماعية التى نشأت فى صيف عام 1939 لم تكن موجودة أصلا!
بعد إمبابة وحتى قيام الحرب العظمى تظل الأهرام تمدنا بأخبار الحوادث الصغيرة.. قارب قادم من المنصورة على متنه بضائع لبعض تجار سمنود غرق عند وصوله إلى بلدة ميت نابت, والسبب: أن المراكبى شحن االقارب فوق ما يحمل. مركب يحمل عددا كبيرا من الناس اشتبكت صاريته بأحد أجنحة هويس النعناعية فانكسر وغرق لساعته بمن فيه من الركاب وكان يحمل عددا كبيرا من الناس وقام معاون الشرطة بضبط الحالة ولم يعلم عدد الغرقى إلى الآن. مركب آخر قادم من المنصورة غرق عند بطره بالغربية ولم ينج من ركابه إلا اثنان أنقذهما مركب آخر كان مارا من هناك ويقال أن الذين غرقوا 8 أشخاص بينهم بعض النساء.
من بين كل تلك الحوادث تحتل حادثة دسوق مكانة هامة, ويمكن تصنيفها فى نطاق الحوادث المتوسطة, فقد وصفتها الأهرام بالحادث المحزن وليس الفواجع والمصائب التى كانت تصف بها الحوادث الكبيرة.. مركب غاص بالقرويين القادمين إلى دسوق للبيع والشراء فى سوقها العمومية انقلب فى النيل على مقربة من كوبرى دسوق ولم ينج من ركابه سوى ستة أنفس, وفيما جاء فى البلاغ الذى أصدرته المديرية عن الحادث: أبلغنا مركز شبراخيت أن بعض الأهالى أرادوا أن يجتازوا النيل إلى الرحمانية من كوبرى دسوق والكوبرى مفتوح الأبواب والمعابر وركبوا قاربا لهذا الغرض فاصطدم قاربهم بالكوبرى وغرق ولم يعلم عدد الغرقى, ولم نجد فى الأهرام بعد ذلك ما يدل على توصل السلطات للعدد الدقيق لهؤلاء!
من كل تلك الحوادث الكبيرة والصغيرة والمتوسطة يحتل ما حدث فى كفر الزيات فى صيف عام 1911 مكانة خاصة جدا الأمر الذى دعانا إلى توصيفه ب دندرة واحد.
يصف مكاتب الأهرام فى المدينة الحادث فى برقية طويلة نشرتها الصحيفة فى 7 أغسطس تحت عنوان فاجعة مؤلمة- غرق 39 نفسا أمام كفر الزيات, وكان نصها حدثت هنا أمس الظهر فاجعة مؤلمة وبيانها أن جمهورا كبيرا من أهالى الغربية والمنوفية رجالا ونساء وأولادا ركبوا فى رفاص بخارى لزيارة المولد الدسوقى الكبير وعند تحرك الرفاص بهم لدسوق غرق لتجاوزهم العدد الذى يمكنه حمله وقد ألقى الذين كانوا منهم على ظهره بأنفسهم فى النيل وبادر أولو المروءة لإغاثتهم فأنقذوهم جميعا وهم نحو 80 نفسا أما الباقون فغابوا مع الرفاص فى قاع النيل.
وتستطرد برقية مكاتب الأهرام فى دسوق فى وصف محاولات الإنقاذ حيث استجلب ونش من مصلحة السكة الحديد لرفع الرفاص, ولما أخفقت المحاولة وصل فى عصر نفس اليوم وكيلا مديرية الغربية على قطار خاص ومعهما ونش آخر واللذين تعاونا لأداء المهمة فرفعا الرفاص وقد وجد من الغرقى فيه نحو 39 نفسا بين رجال ونساء وأطفال ولم يعلم عدد المفقودين تماما.
وتبدو أهمية هذا الحادث من أن قلم المطبوعات الذى كان لا يصدر بلاغات إلا فى حالة الأحداث الجسيمة قد نشر بلاغا عن الحادثة فى اليوم التالى أدرجته الأهرام فى صدر صفحتها الثانية, وكان مما جاء فيه استأجر رجل من أهالى فوه رفاصا لنقل الركاب بين كفر الزيات ودسوق فى النيل فى أيام المولد الدسوقى وقد حدث والرفاص يخترق النيل أنه غرق بكل ركابه وجاء وكيلا الغربية وغيرهما من عمال الإدارة والبوليس بونش فرفعوا الرفاص وأخرج معه من الغرقى 39 نفسا والبحث دائر عن الباقين.
ولم يكن لمثل هذه الحادثة أن تختفى عن صفحات الأهرام فى يوم أو يومين كما جرى الحال بالنسبة للحوادث السابقة فقد ظلت الجريدة تستقى أخبار تطوراتها سواء من مكاتبها أو من غيره ممن آثروا أن يمدوها بمشاهداتهم عنها..
صاحب البورصة المصرية فى كفر الزيات كتب فى اليوم التالى للصحيفة أن عدد الغرقى الذين أخرجوا من عنبر الرفاص أو انتشلوا من النيل بلغ 48 شخصا, 12 رجلا, 13 امرأة و 23 طفلا ولم يعلم تماما عدد الذين ركبوا الرفاص لكنهم لا ينقصون عن 173 راكبا.
يضيف مراسل الأهرام فى طنطا أنه تم انتشال خمس جثث أخرى فبلغ عددها ثلاثا وخمسين والأهالى مجتمعون حول الجثث يذرفون العبرات والمشهد مؤثر تتفتت له الأكباد!
فى اليوم التالى تنشر الجريدة تقريرا كاملا لوكيل الأهرام فى الغربية يقدم فيها مزيدا من التفاصيل سواء عن الرجل الذى تسبب فى الكارثة أو عن طبيعة الضحايا..
سبب الكارثة أحد أبناء فوه واسمه محمود خضر, وقد استأجر الرفاص من مصر لمدة أسبوع واحد بأجرة قدرها 40 جنيها لنقل زوار المولد الدسوقى بين كفر الزيات ودسوق ثم تناهى فى الطمع فأنزل فيه فوق ما يمكنه نقله من الركاب والأمتعة فهوى الرفاص بالذين فيه فى قاع النيل. أما الضحايا فقد رأى الرجل منهم سبعة من عائلة واحدة وأمهات حاضنات أولادهن وممسكات بهم ورأيت حولهم جميعا جمهورا غفيرا من الرجال والنساء والأولاد وكلهم يبكون ذويهم ويندبونهم بعبارات قبل العبرات!
ولجسامة عدد الضحايا فى حادثة كفر الزيات لاحقت الاتهامات السلطات بأنها قد أهملت فى إنقاذ الرفاص بمن فيه فى الوقت المناسب, الأمر الذى دعا قلم المطبوعات إلى أن يصدر بلاغا آخر لنفى هذه الاتهامات مؤكدا أن البوليس وصل إلى محل الفاجعة عقب وقوعها بنصف ساعة وأنقذ من الغرقى 149 شخصا منهم مائة من الأحياء والباقون تعرف عليهم أهلوهم.
وفى سعى قلم المطبوعات لنفى أى تقصير من جانب السلطات فى الحادثة ألقى التبعة كلها على مستأجر الرفاص والربان, محمود خضر ومحمد القاضى, لجشعهما وعدم تقديرهما محمول الرفاص قبل إنزالهما فيه هذا العدد العظيم من الركاب وقد عدت النيابة جرمهما من جرائم القتل غير المقصود وطلبت معاقبتهما وفقا لقانون العقوبات الأهلى.
فى 22 سبتمبر تصدر محكمة الجنح بكفر الزيات, وبعد سماع أقوال النيابة والمحاماة حكمها على ربان الرفاص ومساعده والفوى الذى استأجره للنقل بالحبس سنتين مع الشغل وبكفالة قدرها خمسون جنيها, وهى الكفالة التى أكلت كل أرباح هؤلاء من الرفاص ويزيد.
فى ظل تتابع الدندرات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة على هذا النحو كان مفهوما أن تطالب الأهرام وغيرها من الصحف بسن قانون لتنظيم الملاحة فى النيل..
كتبت صحيفتنا فى أحد أعدادها تنبه إلى أن سبب غرق المراكب هو شحنها فوق ما تحمل ويا حبذا لو أمرت حكومتنا المراكبية أن لا يحملوا القوارب فوق طاقتها طمعا فى زيادة الأجرة وفرضت عقابا صارما على كل من يخالف هذا! وكتبت فى عدد آخر تطالب أن يتنبه رجال الإدارة إلى هذه الحوادث وأن يشددوا على الخفراء بمراقبة هذه المراكب مراقبة دقيقة إذ أنهم أهملوا إهمالا عظيما فى الحوادث الأخيرة, ورحبت بما ترامى إليها من أن السلطات تقوم بوضع قانون لمواجهة الكوارث التى تحدث بحرا, وأسمته نظاما لإدارة حركة الكوارث(!), غير أنه كان عليها أن تنتظر حتى عام 1917 ليصدر القانون لمذكور.
فى أول أكتوبر من ذلك العام نشرت الأهرام نص القرار الوزارى لتسجيل البواخر والمراكب فى النيل والترع, وقد تضمن سبع عشرة مادة..
فى مستهله قضى القرار بوجوب تسجيل المراكب بمكاتب التسجيل بالمحافظة أو المديرية التى يقيم بها مالك أو أحد ملاك المركب, وأن يتخذ كل مكتب من مكاتب التسجيل سجلا يسمى سجل المراكب ويشمل البيانات الكافية على كل مركب يمخر عباب النيل أو الترع.. اسم ولقب المالك, اسم ولقب الشخص المعهود إليه المركب, اسم المركب ووصفه وأبعاده وطريقة تسييره, الغرض المعد له المركب ثم مقدار حمولته.
ولأن تحميل المركب فوق طاقته كان من أهم أسباب الكوارث النيلية فقد عنى القرار عناية خاصة بتنظيم تلك الحمولات ومراقبتها.. أن تقوم مكاتب التسجيل والموظفون المعينون من قبل وزارة الأشغال العمومية بإجراء أى قياس وفحص المراكب أو أية أبحاث يرونها ضرورية لتحقيق البيانات التى يحويها طلب التسجيل, أن يثبت على المركب الرقم أو الحرف أو الحروف المميزة له والتى تبين حمولته, وقد قسمت المراكب إلى مجموعتين; أولاهما: المراكب المعدة للنقل أو الصيد أو لأغراض أخرى ويبين رقمها وحروفها بالدهان على المقدم وأيضا على القلع الأكبر للشراعية منها, وثانيتهما: مراكب السفر والتنزه والتى كانت تسمى وقتئذ بالذهبيات والمساكن العوامة وتوضع عليها لوحة معدنية مبين فيها الرقم والحرف المميزان.
أخيرا وضع القرار كل ما يسبح فوق مياه النيل والترع تحت المراقبة الدقيقة فسمح بضبط المخالفات من جانب رجال الضبطية القضائية أو خفراء البوابات أو رؤساء الكبارى أو أى عامل منتدب بهذا الغرض انتدابا خاصا من قبل وزير الأشغال العمومية.
وقرظت الأهرام وغيرها من الصحف القرار الوزارى الجديد واعتبرته البداية الصحيحة لوقف الكوارث النيلية, وكانت متفائلة فى ذلك أكثر مما يجب, فقد برهنت الأحداث أنه ليس بالقوانين وحدها يمكن منع الدندرات, فيما أثبتته الأيام بعد عام 1917!