ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 7 يوليو 2010

263 ديوان الحياة المعاصرة


القول الفصل بشأن الجامعة المصرية‏!‏


بقلم : د . يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام   الخميس 12 نوفمبر 1998م 


الاحتفال بمناسبة الميلاد والذى تصحبه فى العادة فرحة طاغية لا يعنى بالضرورة طفولة خالية من المتاعب‏,‏ خاصة فى بلد كانت نسبة الوفيات تبلغ ذروتها خلال تلك المرحلة العمرية‏,‏ وإذا كان ذلك ينطبق على الإنسان فإنه ينطبق بدرجة أو بأخرى على المؤسسات‏,‏ وهو ما عانت منه الجامعة المصرية‏!‏
الاحتفال بميلاد هذه المؤسسة عام ‏1908‏ كان فخيما مما لم يملك معه كل من أرخ لها سوى أن يفرد له مكانا معتبرا‏,‏ بما فيها الديوان ‏(‏ الحلقة‏194),‏ أما مرحلة الطفولة بكل متاعبها ومخاطرها فهو ما لم يتابعه الكثيرون‏,‏ مع أن الجامعة المصرية كانت معرضة للإغلاق خلال السنوات العشر الأولى من عمرها‏.‏
تكشف الأهرام ذلك من رصدها لما ثار بين المصريين المعنيين بشئون التعليم خلال ذلك العقد من جدل حول مصير الجامعة الأهلية‏,‏ حيث كانت صفحات الجريدة ميدانا لهذا الجدل‏,‏ حتى أنها كتبت فى ‏5‏ نوفمبر عام ‏1915‏ مقالا شغل جل صفحتها الأولى تحت عنوان الجامعة المصرية‏-‏ القول الفصل بشأنها تدافع فيه عن ضرورة بقاء المؤسسة الواعدة وكان مما جاء فى مستهله‏:‏ كتبت الفصول العديدة فى الجامعة المصرية‏,‏ وقيل فيها ما قيل إن نقدا وإن دفاعا‏,‏ فرأينا أن نعيد الأمر فيها إلى نصابه وأن نرجع فى مسألتها إلى أوثق المصادر وإلى المصادر الرسمية حتى تكون كلمتنا فيها القول الفصل وحتى يكون البيان شافيا والإيضاح وافيا‏!‏
وحتى تكون دواعى البيان الشافى والإيضاح الوافى مفهومة فمن المطلوب متابعة أوضاع المؤسسة الجديدة خلال السنوات الأولى من عمرها بين قيامها‏ (1908),‏ وبين ما ثار بشأن مصيرها من جدل‏ (1915-1916)..‏
تقدم الإحصاءات فى هذا الشأن حقيقة محزنة وهى أنه بينما بدأت الجامعة بعدد من الطلاب بلغ‏754‏ فقد تناقص هذا العدد خلال السنوات الثلاث التالية بشكل أقرب إلى الانهيار ‏(403‏ ثم‏123‏ وأخيرا‏75),‏ صحيح أنه قد استرد بعض أنفاسه خلال العامين التاليين ‏(321‏ ف‏277)‏ غير أنها بقيت متقطعة‏,‏ وظل دون مستوى الآمال التى كانت معقودة على المؤسسة الجديدة بكثير‏!‏
وقد عكست التقارير السنوية التى كانت تصدرها دار المعتمد البريطانى فى القاهرة ما أخذ يحوط بتلك الآمال من شكوك خلال السنوات الأربعة الأولى من عمر الجامعة‏..‏
بدأت الآمال عظيمة فى العام الأول حتى أن تقرير عام ‏1908‏ يتحدث عن البشائر المحببة وأن المؤسسة الجديدة تسعى إلى استجلاب آخر التطورات العلمية والأدبية التى عرفتها أوربا لتقدمها للمصريين‏,‏ الأمر الذى يتبدى,‏ على حد تعبير التقرير‏,‏ فى المحاضرات التى تلقى فى الآداب الفرنسية والإنجليزية فضلا عن تاريخ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة الإسلامية والعلاقات بين المسلمين والغرب وقد بلغ عدد المحاضرين خمسة,‏ ثلاثة من الأوربيين وأثنين من المصريين‏,‏ بينما بلغ متوسط الحضور فى كل محاضرة ‏120,‏ وهو أكبر كثيرا من العدد الذى كان متوقعا‏.‏
السبب فى عدم توقع الإقبال على الجامعة المصرية عند نشأتها أنها قد رفعت شعار المعرفة من أجل المعرفة ذاتها‏,‏ وهو أمر لم يكن قد تعوده المصريون من مؤسساتهم التعليمية‏,‏ خاصة المؤسسات المدنية التى كرست جهودها منذ أن نشأت فى عصر محمد على لتلبية احتياجات الدولة من الموظفين‏,‏ غير أن ما تجاوزت به الجامعة مدارس الدولة العليا‏,‏ التى كان قد سيطر عليها البريطانيون وقتئذ‏,‏ من تقديم فروع الآداب والتاريخ والفلسفة التى كانت غائبة عن تلك المدارس‏,‏ قد أعطاها مذاقا مختلفا‏.‏
فضلا عن ذلك فقد يسرت الجامعة فرص اللحاق بها من خلال تقاضى رسوم معقولة من الراغبين فى هذا اللحاق‏..120‏ قرشا لثلاثة مواد أو أكثر‏,‏ ثلاثون قرشا لمادة واحدة‏,‏ وخمسة قروش صاغ فقط للراغبين فى حضور محاضرة واحدة‏,‏ وهى رسوم وإن بدت عالية فى عصر كان ثمن الجريدة اليومية خلاله نصف قرش‏,‏ فإنها كانت فى حيز قدرة الراغبين فى الانضمام للمؤسسة الجديدة‏.‏
ومن إحصاء طريف قدمه الباحث الأمريكى دونالد ريد ‏Donald Malcolm Reid‏ فى كتاب تحت عنوان جامعة القاهرة وصناعة مصر الحديثة نتبين أن ‏20%‏ من طلاب الجامعة عند قيامها كانوا من الخواجات خاصة الفرنسيين‏,‏ أما البقية فقد كانوا من المصريين‏,‏ واحتل الأفندية من موظفى الحكومة والمعلمين مكان الصدارة بين هؤلاء‏,‏ وإن بقى هامش ولو محدود للمشايخ وصل إلى ‏3%!‏
فى تقرير العام التالى ‏(1909)‏ ظلت الآمال فى تزايد‏,‏ خاصة بعد أن أبدت الجامعة اهتماما بالعلوم جنبا إلى جنب مع الآداب‏,‏ فقد ألقيت فى ذلك العام محاضرات فى الرياضيات العليا والطبيعيات والفلك والعلوم الطبيعية عند العرب‏,‏ فى نفس الوقت حظيت المؤسسة الجديدة باهتمام عدد من الدول الأوربية كان فى طليعتها إيطاليا التى أهدت حكومتها للجامعة آلات كاملة مما يلزم للتجارب الطبيعية‏,‏ فضلا عن تزويد مكتبتها بأعداد كبيرة من الكتب بلغت فى نهاية العام‏8000‏ كتاب‏,‏ والمفهوم أن السبب وراء ذلك كان أن الأمير أحمد فؤاد رئيس الجامعة وقتئذ ذو علاقات وثيقة بالدوائر الإيطالية حيث قضى ردحا من الزمن فى ربوعها مع أبيه‏..‏ الخديو إسماعيل إبان فترة نفيه‏.‏
فى عام ‏1910‏ أنشئ قسم لآداب اللغة والفلسفة‏,‏ ولأول مرة فى تاريخ الجامعة المصرية يشترط الحصول على شهادة إتمام الدراسة الثانوية أو ما يعادلها‏,‏ فيما كان يسمى فى ذلك الوقت بالبكالوريا للراغبين فى التقدم إلى هذا القسم‏,‏ ويقول الدكتور رءوف عباس حامد فى كتابه المفيد عن جامعة القاهرة‏-‏ماضيها وحاضرها أن ذلك التنظيم قد أرخ لمولد كلية الآداب التى أصبحت تمنح العالمية‏(‏ الدكتوراه‏)‏ التى اعترفت بها نظارة المعارف عام ‏1914,‏ ويلاحظ الدكتور رءوف أن الجامعة كانت تمنح طلابها خلال تلك الفترة درجة الدكتوراه دفعة واحدة دون الحصول على الليسانس‏,‏ وهى الشهادة التى لم تقنن إلا عام ‏1916!‏
ومع ما بدا من أن الجامعة تتقدم بخطى حثيثة حيث أنشئ قسم للسيدات وزاد عدد المواد من ‏9‏ إلى ‏13‏ وعدد المبعوثين لتلقى العلوم فى الخارج من ‏19‏ إلى ‏24‏ وعدد مجلدات المكتبة من ‏8000‏ إلى ‏10000,‏ فقد كان وراء الأكمة ما وراءها‏,‏ مما تضمنه تقرير العام التالى‏!‏
اعترف هذا التقرير بأن عام ‏1911‏ قد شهد تضاؤل الآمال المعقودة على المؤسسة الوليدة وأن عديدا من طلابها قد انصرف عنها بعد أن تبين أنها لا توفر لهم أى مستقبل مهنى,‏ ونصح كاتب التقرير‏,‏ وكان اللورد كتشنر‏,‏ بأن يعاد تشكيل الجامعة بأن تصبح المدارس العليا للحقوق والطب والهندسة والزراعة‏,‏ فضلا عن كلية الآداب التى نشأت بالفعل‏,‏ نواة لها تنمو حولها فيما بعد‏.‏
وكان تجاهل تقارير الأعوام التالية لشأن الجامعة المصرية أبلغ تعبير عما كان قد أصاب هذه المؤسسة من بوار‏,‏ الأمر الذى دعا الأهرام إلى تقديم القول الفصل بشأنها‏!‏
‏***‏
فى عدد الأهرام الصادر يوم السبت ‏19‏ أكتوبر عام ‏1915,‏ وتحت عنوان حول الجامعة المصرية‏-‏ ضجة فى الفضاء لا نعرف مهبها كتبت الجريدة‏,‏ وفى صورة قلمية معبرة‏,‏ تستعرض أهم الأسباب وراء ما أخذ يواجه مشروع الجامعة من مشاكل‏..‏ قالت‏:‏ أنشئت فى القاهرة هذه الجامعة وكان من الواجب أن تكون فى كل عاصمة من عواصم هذا القطر جامعة مثلها‏(‏ وهو ما تحقق بعد عمر طويل‏!)‏ فلم يدرك الأكثرون مهمتها فظن بعضها أنها ستحمل العلم بأكياس إلى الدور والمنازل فتوزعه بدرات بدرات حتى تملأ به كل بيت‏.‏ وظن آخرون أننا بها سنستغنى عن المدارس الأخرى العالية‏.‏ وازدراها سواهم لأن شهاداتها لا توصل الطالب إلى كرسى الاستخدام‏.‏ ووعد الكثيرون بأن يعطوها ويمنحوها ولم يفعلوا بل عادوا عن وعدهم‏.‏ وتخيل فريق العضوية فيها كمنصب الحكم‏!‏
غير أن الصحيفة‏,‏ رغم رنة الأسف من تلك المظاهر‏,‏ تنوه فى هذه المناسبة بفضل الأميرة فاطمة إسماعيل التى مدت يد الجود والإحسان والمبرة للجامعة‏,‏ وكانت يدا طولى فقد أوقفت على الجامعة ستمائة وواحد وستين فدانا من أجود الأطيان بمديرية الدقهلية وست فدادين ببولاق الدكرور لإقامة بناء للجامعة عليها وأهدت لها جواهر تقدر بنحو ثمانية عشر ألف جنيها‏,‏ وما تبع ذلك من إقامة هذا البناء وقد تفضل حضرة صاحب العزة محمود بك فهمى باشمهندس وزارة الأوقاف العمومية بقبول المراقبة الفنية لهذه العمارة تبرعا منه لهذا المعهد العلمى فالجامعة تقدم لحضرته باسم الأمة أجمل الثناء على هذه المبرة العظيمة‏.‏ هذا وقد تمت من العمارة جميع الأساسات وبدأ المقاولون بوضع الأعتاب الحديدية وبعدها يشرعون فى إقامة المبانى فوق سطح الأرض‏.‏
مع ذلك تعترف الأهرام بأن هذا المبنى الذى أصبح المقر الدائم لجامعة القاهرة‏,‏ حتى يومنا هذا‏,‏ والذى ظل يرمز لفكرة الجامعة فى الوجدان الوطنى العام‏,‏ قد وجد حينئذ من ينتقده‏,‏ وكان منهم من أسمى نفسه أحد الأدباء المفكرين‏,‏ الذى كتب للأهرام مقالا طويلا تحت عنوان مسألة الجامعة‏,‏ يؤاخذ فيه القائمين عليها مؤاخذة شديدة لاستمرارهم فى بناء دارها الجديدة لأنها تضطر أن تنفق نفقات كبيرة على بعض المواد التى ارتفع سعرها بالنسبة لانقطاع ورودها كالحديد والخشب وكان يمكن للجامعة أن توقف البناء حتى تمر الضائقة وتوفر النفقات الزائدة‏.‏
وفى محاولة من صحيفتنا لتشخيص الضائقة التى تعانى منها الجامعة‏,‏ والتى راجت معها الإشاعات أنها فى طريقها للإغلاق‏,‏ وهى الإشاعات التى صنعتها حملة صحافية منظمة نادى القائمون بها بالويل على أموال الجامعة التى ضيعت وإرساليتها التى أعيدت‏..‏ قدمت الأهرام وفى مقال طويل أهم أسباب تلك الضائقة‏,‏ وبدا وكأن معظمها خارج عن إرادة إدارة الجامعة‏,‏ الأمر الذى أوضحته فيما جاء فى قولها أنه من الواجب تصحيح الخطأ الذى تسرب إلى الأذهان عن حالة الجامعة حتى يصبح الشاكون فى أمرها أو الشاكون من إدارتها على علم بالحقيقة‏..‏
إيراد الجامعة الذى بدا وكأنه تناقص كثيرا بعد قيام الحرب‏,‏ كان الموضوع الأول الذى تناولته الأهرام‏,‏ فقد تنوعت مصادر هذا الإيراد بشكل ملحوظ‏;‏ إعانة الأوقاف وقدرها خمسة آلاف جنيها سنويا‏,‏ الاشتراكات‏,‏ إيجار الأطيان الموقوفة على الجامعة‏,‏ وأخيرا فائدة الأموال التى تم الاكتتاب بها والتى أودعت فى البنك الألمانى الشرقى,‏ وقد بلغ عائدها ألفين من الجنيهات سنويا‏.‏
والوضع على هذا النحو كان مطمئنا حتى قيام الحرب العالمية الأولى ولم يكن من المعقول أن الحوادث التى رجت الأرض رجا تخرج منها الجامعة ولم يصبها منها أذى مطلقا‏,‏ على حد تعبير الأهرام‏..‏ هذا الأذى نتج عن أن الجامعة قد وضعت الأموال المكتتبة باسمها‏,‏ نحو ‏19‏ ألف جنيه‏,‏ فضلا عن ثمن جواهر الأميرة فاطمة‏,‏ نحو تسعة آلاف جنيه‏,‏ فى البنك الشرقى الألمانى,‏ ومع قيام الحرب كانت حالته غير مأمونة‏,‏ والإشاعات عن قرب إفلاسه متواترة‏,‏ الأمر الذى دفع المسئولين عن الجامعة أن يقبلوا إحالة إيداعاتها عند البنك إلى بعض مدينيه‏.‏ وترى الأهرام أن مال الجامعة‏,‏ ومن خلال هذا التصرف‏,‏ لم يمسسه أذى وسيكون كل رأس المال وفوائده إن شاء الله تحت يد الجامعة فى آخر سنة ‏1916,‏ وكأنما كانت جريدتنا بذلك تطالب المنتقدين أن يترفقوا بالجامعة وتستمهلهم فى نفس الوقت‏!‏
رأس مال الجامعة‏,‏ ويتمثل فى المبالغ التى جمعت خلال عمليات الاكتتاب التى سبقت ولحقت قيامها‏,‏ ومرة أخرى تعود الأهرام للدفاع عن الجامعة فى هذا الشأن فتلاحظ أنه لا يزيد تقريبا لكون حركة الاكتتابات وعدم إقبال المكتتبين على دفع ما اكتتبوا به بالرغم من المساعى لحض الناس على مساعدة الجامعة والأخذ بناصرها لم تنقطع‏.‏ ولا يخلو تقرير من تقارير مجلس الإدارة من تذكير لمن لم يدفعوا ودعوة لمن لم يكتتبوا وكاد ينقطع الأمل فى ازدياد رأس المال‏,‏ والأهرام بذلك القول إنما تعود مرة أخرى إلى إلقاء التبعة على المقصرين فى دعم الجامعة وليس على إدارتها‏,‏ الأمر الذى عبرت عنه فى مقال آخر كان مما جاء فيه‏:‏ ألفنا نحن الشرقيين إذا دعينا إلى أمر أن نلبى سراعا خفاقا وأن نعد المواعيد الواسعة فإذا انقضى الاجتماع وانحل مجلسنا وتفرق جمعنا نسينا وعدنا وأحرقنا ما عبدنا وطرحنا ما رفعنا‏!‏
بعثة الجامعة إلى أوربا كانت ثالث الموضوعات محل النقاش‏,‏ فقد همت الجامعة نتيجة لقصور مواردها باستدعاء بعثة ألمانيا وفرنسا وإبقاء بعثة إنجلترا مع تخفيض مرتبات أعضائها‏,‏ غير أنها تداركت الأمر بعد قليل بسبب حسن مساعى مجلس الإدارة فى حمل وزارة الأوقاف على التعهد بدفع إعانتها والتى كانت قد توقفت بسبب ظروف الحرب فنقلت بعثت ألمانيا إلى سويسرا وأبقيت بعثة فرنسا‏,‏ غير أنه مع عدم وفاء الأوقاف بتعهدها لم يكن أمام مجلس الإدارة سوى أحد اختيارين إما الاستغناء عن التعليم الذى يلقى الآن بالجامعة أو الاستغناء عن الإرسالية ففضل بقاء التعليم الحاضر لأنه رمز أكبر على وجود الجامعة ولأن الإرسالية لا تستفيد الآن من أوربا كما كانت تستفيد أولا بسبب الحرب‏.‏ لذلك استدعى من لم يتمم دروسه من أعضاء الإرسالية‏,‏ وكان الباقى منهم ثلاثة فى إنجلترا وسبعة بفرنسا‏.‏ فعادت إرسالية إنجلترا وعاد من فرنسا اثنان بعد أن بقى بها خمسة يتممون دروسهم على نفقتهم‏..‏ ولم تلجأ الجامعة إلى استعادة الإرسالية إلا اضطرارا بحكم الظروف القاهرة التى ليس لها فيها يد‏,‏ والمعلوم أن طه حسين كان واحدا من الاثنين اللذين عادا من فرنسا عام ‏1915,‏ وراحت بعثته الأولى,‏ وكانت فى مونبلييه‏,‏ ضحية لأزمة الجامعة‏,‏ وكان عليه أن ينتظر عبور تلك الأزمة ليعود إلى باريس بعد الحرب ويصبح عميد الأدب العربى فى المستقبل‏!‏
بقيت بعد كل ذلك أقسام التعليم العالى التى كانت قد أقامتها الجامعة‏..‏ قسم نظامى للآداب تكميلا للدراسة الموجودة فى مدرسة المعلمين واعتمدت وزارة المعارف شهادة هذا القسم‏,‏ وآخر للعلوم الجنائية تكميلا للدروس التى تلقى بمدرسة الحقوق واعتمدت وزارة الحقانية شهادة هذا القسم‏.‏
ما اضطرت إليه الجامعة فى هذا الميدان‏,‏ بسبب أزمتها‏,‏ إيقاف بعض الدروس غير الداخلة فى بروجرام الأقسام النظامية وتخفيض مرتبات الموظفين والأساتذة بنحو ‏25‏ فى المائة وقد استحق الأساتذة كل شكر على مساعدتهم الجامعة بعلمهم وعدم ترددهم فى قبول التدريس بالرغم من نقص مخصصاتهم‏,‏ بل لقد قبل بعض المكلفين بالتدريس القيام به من غير أجر وتبرع آخرون بالتدريس‏,‏ ولا ندرى هل كان أمام هؤلاء سبيل آخر‏!‏؟
على أى الأحوال لم تكن هيئة تحرير الأهرام وحدها فى ميدان الدفاع عن الجامعة‏,‏ فقد دعمها فى ذلك عدد من القراء خصصت لهم الصحيفة مساحات واسعة منها‏,‏ مما يشكل الصفحة الأخيرة من سعى الجريدة إلى إقالة الجامعة من عثرتها‏,‏ وإلى أن يكون القول الفصل فى صالح استمرارها لا إلغائها‏,‏ وكان الجميع بذلك متوافقين مع دورة عجلة التاريخ ولم يضعوا العصى فيها كما فعل آخرون‏!‏
م‏.‏ى.,‏ ابن سينا‏,‏ أحد الأدباء المفكرين‏,‏ فؤاد أبو السعود‏..‏ توقيعات بعض قراء الأهرام الذين اشتركوا بمقالات فى الدفاع عن إبقاء الجامعة‏,‏ وفيما نلاحظ فان بعضهم قد آثر التوقيع بالحروف الأولى من أسمه‏,‏ وآثر آخرون أن يسبغوا على أنفسهم بعض الأوصاف‏,‏ ووقع آخرون باسم مستعار‏..‏ الوحيد الذى وقع باسمه كان أبو السعود‏!‏
أحد هؤلاء حاول تفسير أزمة الجامعة بأنها كان من الواجب أن تبدأ صغيرة ثم تتدرج وتنمو النمو الطبيعى ولكنها حاولت فى يوم مولدها أن تكون كبيرة جدا‏.‏ غير حاسبة لتراخى الأيدى من حولها حسابا‏.‏ وغير متعظة بطرقنا وأساليبنا نحن الشرقيين بأن نندفع فى بداءة كل أمر حتى يظن الناس إنا بالغون السماء طولا ثم نهبط إلى ما دون الحضيض وهنا وتهاونا وضعفا‏!‏
القارئ الآخر الذى وقع باسم ابن سينا قاد هجمة المضادة ضد أصحاب دعوة إغلاق الجامعة‏,‏ ففى أكثر من مقال تحت عنوان الانتقاد لا الانتقام هاجم بقسوة أصحاب هذه الدعوة‏..‏
يتحدث الرجل فى مستهل تلك المقالات عن الفرية التى تمكنت من نفوس بعض سريعى التصديق وجل الناس ميالون للتغنى بكل نغمة جديدة مشغوفون بالانتصار لكل صوت علا ولقى أعوانا مفطورون على حب الجديد لجدته وبغض القديم لقدمه أولئك يصفقون لكل صوت ويهللون ويكبرون لكل دعوة سريعو الانقياد والتأثر والمغايرة‏.‏
ويعزو ذلك لحب الانتقام والتشفى ولولا جيشة الصدور وعبعبة النفوس بما جفف فيها ينابيع الطيبة فحال ذلك بينها وبين العقول وغلبها على أمرها ما سمع لجب الصاخبين وصخب المنتقمين من الجامعة‏,‏ ويرد فى هذا السياق على ما قاله البعض أنه ما يدفعهم إلى مثل تلك الأقوال سوى الإخلاص‏,‏ فهو‏,‏ أى الإخلاص لا يدعو للشطط ولا يتطلب التهور‏,‏ وإن الطبيب المخلص ليس هو ذلك الذى يقف أمام المريض فينذره بانقطاع الأمل وقرب الأجل ولا هو ذلك الذى ينفذ كل ما أوتيه من قوة وحكم فى التشنيع واستكبار مستفحل مرضه وتعديد داءاته تشفيا لنفسه منه‏!‏
قارئ ثالث طالب مجلس إدارة الجامعة بتصحيح بعض أخطائه‏,‏ وكان منها‏,‏ فى رأيه الشروط التى وضعها لنظام الانتساب فقد اشترط أن يكون المنتسب للقسم الاقتصادى المالى من حائزى البكالوريا أو ما يعادلها كشهادة مدرسة التجارة المتوسطة أو شهادة مدرسة مشتهر الزراعية وهذه مسألة جديرة بالاعتبار وتستحق شيئا من العناية والاهتمام لأنه إذا دققت الجامعة فى بدء حياتها فى شروط الانتساب هذا التدقيق أصبحت كفرع راق من مدارس الحكومة وأصبحنا أمام نوع آخر من التضييق على التعليم‏.‏
نفس القارئ عزا الضائقة التى تعانيها الجامعة إلى اعتمادها على إعانة الحكومة والأوقاف‏,‏ وهى الإعانة التى توقفت نتيجة للضائقة التى كانت تعانى منها الحكومة نفسها والتى دفعتها إلى عدم دفع الإعانة كلها فى وقتها بل دفعتها مقسطة‏,‏ وهو ما فعلته الأوقاف التى لم تدفع من الإعانة المقررة عليها وقدرها خمسة آلاف جنيها سوي‏750‏ جنيها‏!‏
بيد أن القراء جميعا‏,‏ ومع اختلاف توجهاتهم‏,‏ اتفقوا على أنه ليس ثمة سبيل لإنقاذ الجامعة‏,‏ سوى استنفار قوى الأمة للتبرع لإنقاذها‏..‏
القارئ الذى وقع بالحروف الأولى من اسمه‏,‏ م‏.‏ى.,‏ طالب الأمة المصرية أن تبرهن على أنها أمة حية مشتاقة إلى العلم وتحتفظ بأثر من مآثرها العلمية وتنفخ فيه روح الحياة وتهب هبة واحدة فى مساعدة هذا المشروع الجليل الذى هو غرس أياديها وثماره لها‏.‏ فلتعد الصحف المصرية على صفحاتها قائمات الاكتتاب وليتبار فى ذلك الفقير قبل الغنى والصغير قبل الكبير‏!‏
الأستاذ فؤاد أبو السعود عقد مقارنة بين ما تلقاه الجامعة المصرية وبين ما تلقاه الجامعات فى الأمم الراقية من عناية من شعوبها والتى لا تدخر وسعا فى مساعدتها فيوقف عليها من المال والعقار والهدايا العلمية والمرتبات الشهرية والسنوية ما يكفى لسد حاجتها ويزيد ويحفظ كيانها‏,‏ ويعتب على المصريين أنهم بعد كل الدعم الذى قدموه للجامعة يعودون عن وعدهم ويتفرقون شذر مذر منتحلين لذلك أعذار ما أنزل الله بها من سلطان‏!‏
وتشير الكتابات العلمية إلى أن الجامعة ظلت تعانى من المتاعب خلال سنوات الحرب الصعبة‏,‏ خاصة وأن رئاستها قد انعقدت لحسين رشدى باشا رئيس النظار الذى كان مشغولا بمهام منصبه‏,‏ غير أنها تشير أيضا إلى أن عددا من المصريين الذين دخلوا مجلس إدارتها خلال تلك الفترة على رأسهم سعد زغلول وأحمد لطفى السيد قد نجحوا فى صلب طولها إلى أن اعتلى الأمير فؤاد‏,‏ رئيس الجامعة حتى عام ‏1913,‏ عرش مصر عام ‏1917,‏ ولم يكن بالإمكان أن يتخلى عن مشروعه القديم فعادت الحياة إلى عروقه‏,‏ وكان وراء تحويل هذا المشروع إلى مؤسسة حكومية عام ‏1925,‏ ومن ثم لم يكن غريبا أن تتسمى الجامعة باسمه فى أعقاب وفاته‏,‏ وإن اكتسبت اسما جديدا‏..‏ جامعة القاهرة‏,‏ فى أعقاب خلع ابنه‏,‏ وهى تسمية اقتضتها الظروف الجديدة التى نشأت عن تعدد الجامعات المصرية‏!‏