ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 7 يوليو 2010

262 ديوان الحياة المعاصرة


غروب أسطورة استعمارية‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام   الخميس 5 نوفمبر 1998م


الزمان‏:‏ الساعة الثامنة من مساء يوم الاثنين ‏5‏ يونية عام ‏1916,‏ المكان‏:‏ ساحل جزيرة اسمها بومونا‏,‏ وهى واحدة من مجموعة الجزر الواقعة فى بحر الشمال والمعروفة باسم أوركنى ‏Orkney‏ والتى تتاخم السواحل الشمالية لاسكتلنده‏,‏ المشهد‏:‏ باخرة حربية تشتعل فيها النيران وقد أنزل منها أربعة من قوارب النجاة تحمل اثنى عشر من طاقمها نجحت فى الوصول لساحل الجزيرة الصخرى, ولم يكن سكان بومونا القليلين الذين هرولوا لإنقاذ الناجين يعلمون أن أسطورة من أكبر الأساطير الاستعمارية فى تاريخ الإمبراطورية البريطانية كانت فى السفينة الغارقة‏!‏
علم المصريون ذلك من البرقية التى طيرها مراسل الأهرام الخصوصى فى لندن والتى نشرتها صحيفتنا صباح اليوم التالى, وكان نصها‏:‏ أعلن رسميا أن الطرادة المدرعة همبشير كانت مسافرة باللورد كتشنر وأركان حربه إلى روسيا فغرقت مساء أمس فى غرب جزر أوركنى بانفجار لغم أو بطوربيل‏ (طوربيد‏)‏ ولا يوجد أدنى أمل بإنقاذ أحد من الذين كانوا فيها‏,‏ ولم يكن ما جاء فى البرقية دقيقا‏,‏ فهى لم تشر إلى الناجين الإثنى عشر‏,‏ فيما سجلته الكتابات التاريخية التى سجلت الحادثة فيما بعد‏!‏
أهم تلك الكتابات هى الترجمة التى وضعها أحد المؤرخين الإنجليز واسمه هويلر هارولد لحياة اللورد الغارق‏,‏ تحت عنوان قصة اللورد كتشنر ‏THE STORY OF LORD KITCHENER والتى صدرت بعد ابتلاع أمواج بحر الشمال للرجل الأسطورة بشهور قليلة‏.‏
يقول هارولد أن كتشنر قد استقل همبشير قاصدا روسيا فى رحلة للتشاور مع القيصر فى تطورات الحرب التى لم تكن تسير وقتئذ فى صالح الحلفاء‏,‏ وأنه بصفته وزيرا للحربية آنئذ‏,‏ تحمل كثيرا من انتقادات أعضاء مجلس العموم‏,‏ خاصة بعد فشل الحملة على غاليبولى, ويقول أيضا أن أحد البحارة الناجين واسمه روجرسون قد صرح بأنه كان آخر من رأى اللورد على ظهر السفينة وأنه لم يتمكن أن يغادر السفينة الحربية‏,‏ لا هو ولا أحد من أركان حربه على رأسهم سكرتيره الخصوصى الكولونل فيتزجرالد‏,‏ وهو الرجل الذى كان يعرفه المصريون جيدا‏,‏ فقد لازم كتشنر أيام أن كان معتمدا بريطانيا لمصر فى القاهرة خلال الفترة السابقة على قيام الحرب‏.‏
يقول أيضا أن الرجل قد جاءته الميتة المناسبة‏,‏ فهو كان قد وصل إلى أقصى ما يتمناه عسكرى من رجال الإمبراطورية‏..‏ شغل وظيفة وزير الحربية للإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس‏,‏ بينما كان مصير تلك الإمبراطورية موضع امتحان فى ميادين القتال‏.‏
فى لندن تقول الأهرام أن وقع الفاجعة كان أليما فى النفوس‏,‏ وأن وزارة الحربية أقفلت نوافذها ونشرت رايات الحداد‏,‏ بينما ذهب جميع سفراء الدول فى العاصمة البريطانية إلى وزارة الخارجية لتقديم واجب العزاء وحذا حذوهم جميع الملحقين العسكريين والبحريين فقاموا بهذا الواجب لدى وزارة الحربية ووزارة البحرية‏.‏
والواضح أن الإنجليز تعاملوا مع الوزير الراحل بصفته الفيلد مارشال هوراسيو هربرت كتشنر‏,‏ ومن ثم نظروا إليه بصفته أحد أبطالهم العسكريين‏,‏ وهو ما اختلف المصريون فيه عنهم‏,‏ فقد نظر إليه هؤلاء أحيانا باعتباره اللورد كتشنر أوف خرطوم‏,‏ وهو اللقب الذى حصل عليه بعد نجاحه فى القضاء على الدولة المهدية عام ‏1898,‏ ونظروا إليه أحيانا أخرى بصفته كتشنر باشا سردار الجيش المصرى لفترة غير قصيرة‏,‏ وبصفته المعتمد البريطانى فى البلاد لفترة أخرى.
غير أن النظرتين كان يجمع بينهما أن كليهما اعتبرت الرجل أسطورة‏..‏ عسكرية بالنسبة للبريطانيين واستعمارية بالنسبة للمصريين‏,‏ وهى الأسطورة التى يمكن تبينها بسهولة من الترجمة التى وضعتها الأهرام للورد فى صدر صفحتها الأولى يوم الخميس ‏8‏ يونية عام 1916.
عن النشأة تقول الأهرام أن الرجل ولد فى أيرلندا يونيو عام ‏1850,‏ أى أنه عاش لست وستين سنة كاملة دون نقصان‏ (!)‏ وأنه تلقى دروسه فى مدرسة وولويش العسكرية‏,‏ وأنه قد قرر أن يكرس حياته للعمل العسكرى, الأمر الذى يكشف عنه أمران‏;‏ أولهما‏:‏ أنه منذ هذا الوقت المبكر صرف أغلب وقته فى أعمال تلغراف الميدان فكان يقوم بكل الأعمال الفنية التى تقتضيها وظيفته فى الجيش مقضيا أوقات فراغه للتبحر فى الفنون الهندسية الحربية التى ظهرت فى أعماله العظيمة التى قام بها فى بناء السكك الحديدية فى السودان‏.‏ وثانيهما‏:‏ أنه قد قرر ألا يتزوج قط رغم محاولات الكثيرين إغرائه على الزواج خاصة وقت توليه منصب المعتمد البريطانى فى القاهرة‏,‏ وهو منصب كان يقتضى وجود الزوجة‏,‏ غير أنه فيما تقول به الترجمة كان مؤمنا أن عمله فى الميدان وليس فى القصور‏,‏ ومن ثم صمم على موقفه‏.‏
وتؤكد متابعة سنى الحياة الأولى لكتشنر على كيفية صناعة الشخصية الاستعمارية‏,‏ فى ذلك العصر الذى عرف باسم العصر الفيكتورى, نسبة إلى الملكة فيكتوريا التى عرف عصرها بناء الإمبراطورية البريطانية الثانية‏..‏
روح المغامرة‏:‏ كانت أول أركان هذه الصناعة‏,‏ وقد بدت هذه الروح ولم يكن الرجل قد بلغ العشرين بعد‏,‏ ذلك أنه عندما نشبت الحرب السبعينية بين كل من فرنسا وبروسيا عام ‏1870‏ قرر الشاب الصغير التطوع فى صفوف القوات الفرنسية‏,‏ ولما يكن قد أنهى تعليمه فى وولويش بعد‏,‏ وكما تقول ترجمته التى نشرتها الأهرام أنه حضر عدة معارك صغيرة وصعد فى بالون حربى فأصيب بداء الرئة واضطر إلى اعتزال الخدمة والعودة إلى إنكلترا لاستئناف دروسه فى وولويش‏.‏
أعمال المخابرات‏:‏ وقد بدأ فى ممارستها عام ‏1874‏ أى وهو فى الرابعة والعشرين‏,‏ فقد كان من دأب السلطات الاستعمارية فى ذلك العصر أن تشجع جمعيات التنقيب عن الآثار ومسح الأراضى والكشوف الجغرافية على القيام بنشاطاتها فى المناطق محل أطماعها حتى يكون لديها صورة كاملة لتلك المناطق‏,‏ إلى أن يحين الوقت لفرض سيطرتها عليها‏,‏ فيما تروى الأهرام أحد فصوله فى نفس الترجمة بقولها أنه فى ذلك العام تألفت جمعية فى إنكلترا بقصد البحث عن الآثار العلمية فى فلسطين ومسح أراضى تلك البلاد ورسمها بقصد التوسع فى المعلومات عنها‏..‏ وكان يقوم بتلك الأعمال ضابطان من الفرقة التابع كتشنر لها فخلا مركز بين رجال تلك الحملة وعرض على هربرت كتشنر فقبله وانضم إلى رجال تلك الحملة فى نوفمبر عام ‏1874,‏ وتضيف الجريدة أن كتشنر كان هو الذى قام بجميع الأعمال الفوتوغرافية‏,‏ وأنه بعد عدة مصاعب واجهت بعثة الجمعية رجعت إلى إنجلترا‏,‏ غير أنها عادت عام ‏1877‏ برئاسة كتشنر نفسه هذه المرة حتى أنجزت عملها بالكامل‏,‏ وهو العمل الذى أعطى للسلطات الاستعمارية الصورة الكاملة عن تلك البلاد التى مكنتها من وضع يدها عليها بعد نحو أربعين عاما‏.‏
ومن خلال تلك الأعمال كان قد تم بناء الشخصية الاستعمارية وبقيت صناعة الأسطورة‏,‏ وهى الصناعة التى تمت أولا فى وادى النيل‏,‏ مصر والسودان‏,‏ واستكملت بقية قسماتها فى جنوب أفريقيا‏..‏
لم يجد الكثيرون تفسيرا لوجود كتشنر فى الإسكندرية أثناء فترة الاضطرابات التى سبقت ضرب الأسطول البريطانى لها فى ‏11‏ يوليو عام ‏1882,‏ الأمر الذى يسهل تفسيره فى تقديرنا على ضوء مرحلة الإعداد السابقة للشخصية الاستعمارية‏,‏ الأمر الذى يكشف عنه ما جاءت به الأهرام فى ترجمتها لهذه الشخصية من القول أن الرجل كان أشد الناس تحمسا للاشتراك فى العمل إذا ما قررت الحكومة أن يكون لها يد فى إخماد الثورة‏(‏العرابية‏),‏ ورغم ما قيل عن انتهاء إجازته إلا أنه بقى فى المدينة وقت أن كان الأسطول البريطانى يطلق عليها قذائفه وينزل فرقة من رجاله إلى البر وكانت الحاجة ماسة إلى الضباط والجنود البريطانيين فى ساحة القتال‏,‏ ولم يكن غنى عن ضابط مثل كتشنر يعرف اللغة العربية جيدا‏,‏ وهكذا بدأ كتشنر حياته فى مصر‏!‏
وكالعادة بالنسبة لمثل هذه الشخصيات فإنها تصبح أحد مفاتيح فرض الهيمنة الاستعمارية‏,‏ وقد حرص البريطانيون بعد وقوع الاحتلال على حل الجيش المصرى وبناء جيش جديد تحت إدارتهم يشرف عليه عدد من ضباطهم‏,‏ وكان كتشنر أحد هؤلاء وكان قد تقرر أن يكون عدد الجيش المصرى الجديد ‏6050‏ رجل مؤلفا من ثمانى أورط فيها ‏26‏ ضابطا إنكليزيا فعين هربرت كتشنر قومندانا ثانيا للفرسان‏,‏ ولما أراد السر افلين وود‏ (‏قائد الجيش الجديد‏)‏ أن يختار ضابطين لمساعدته فى أعماله كان كتشنر أحدهما لأنه يعرف العربية‏.‏
حتى ذلك الوقت كانت هناك ملامح الأسطورة تتخلق إلا أن قسماتها الحقيقية تمت صناعتها فى السودان فيما ساعدت عليه الأحداث التى كانت تجرى على أرضه‏..‏ استفحال الثورة المهدية وتقرير سياسة إخلاء البلاد من القوات المصرية‏,‏ إرسال غوردن حكمدارا عاما للسودان للقيام على تنفيذ تلك السياسة‏,‏ وقوع الرجل تحت حصار الأنصار وما استتبع ذلك من إرسال حملة إنجليزية لإنقاذه‏,‏ إتمام الإخلاء والانسحاب إلى وادى حلفا فى الشمال واستبقاء سواكن‏,‏ أهم موانى السودان عندئذ المطلة على البحر الأحمر‏,‏ تحت السيطرة المصرية‏,‏ الدفاع عن الحدود المصرية ضد غارات الأنصار‏,‏ وأخيرا قرار استعادة السودان وما تبعه من إرسال حملة للقضاء على الدولة المهدية‏,‏ وقد أسهم كتشنر فى كل هذا‏,‏ وكان إسهامه بارزا‏!‏
كان كتشنر أحد رجال حملة الإنقاذ البارزين ونقرأ فى الأهرام جانبا من دوره فيها‏:‏ لما كان كتشنر ضابطا للمخابرات أفادته معرفة لغة البلاد كثيرا فاحتك بجميع قبائل العربان بين البحر الأحمر والنيل واكتسب صداقة البشاريين والعبابدة وغيرهم‏,‏ وبعد سقوط بربر والاشتباه فى ولاء مديرها تقدمت قوة صغيرة من العربان يقودها كتشنر فى عمل تغلب عليه روح المغامرة حيث التقى بالمدير الذى أراد أن ينفى التهمة فشن هجوما على الأنصار‏,‏ وبنفس الروح المغامرة تقدم الرجل نحو تسعين ميلا إلى الجنوب حيث التقى بالمراسل الحربى لجريدة الديلى تلغراف الذى نوه بذلك فى أحد تقاريره ولما قررت الوزارة البريطانية إيقاف القتال واستعادة الحملة كان الماجور كتشنر لا يزال فى دنقله‏!‏
فى عام ‏1886‏ عين مديرا لإقليم البحر الأحمر وقاعدته سواكن‏,‏ وقد وقع الميناء تحت التهديد المستمر لأمير المهدية فى المنطقة‏,‏ عثمان دقنة‏,‏ الذى اكتسب شهرة كبيرة باعتباره من أبرز قواد الثورة‏,‏ وقد اختلف كتشنر إبان تلك الفترة التى ولى فيها هذا المنصب مع كل من المعتمد البريطانى فى القاهرة والقيادة الإنجليزية للجيش المصرى, فبينما كان يرى أن الهجوم أحسن وسيلة للدفاع عن المدينة فقد رأى الآخرون أن يلتزم بخطة الدفاع فقط‏.‏ المهم أنه فى تنفيذه لسياسته كان يقوم بهجمات على قوات عثمان دقنة المحيطة بالمدينة ويقودها بنفسه‏,‏ وأنه قد جرح فى إحدى تلك الهجمات فى منطقة هندوب المجاورة‏,‏ الأمر الذى وفر الفرصة للآخرين لأن يسحبوه من المنطقة عام 1888.
كان الرجل قد حصل على رتبة اللواء فى الجيش المصرى, وأصبح كتشنر باشا‏,‏ عندما أرسل الخليفة عبد الله التعايشى عام ‏1889‏ الحملة التى قادها ود النجومى للحدود المصرية‏,‏ وكان له نصيب وافر فى معركة طوشكى حيث نزلت الهزيمة بالأنصار‏,‏ فقد كان يقود الفرسان فى المعركة‏,‏ وحصل على وسام من أرفع أوسمة الإمبراطورية لدوره فيها‏.‏
ما حدث عام ‏1898‏ تم معه تدشين الأسطورة‏,‏ فقد كان قائدا للجيش المصرى الذى تولى استعادة السودان فمد سكة حديد الصحراء وضرب الأمير محمود فى العطبره ثم الخليفة فى معركة أم درمان وأنعمت عليه جلالة الملكة بلقب لورد من طبقة بارون ولقب لورد كتشنر أوف خرطوم وأعطى مكافأة مالية قدرها ‏30‏ ألف جنيه‏.‏ وكانت معركة أم درمان التى قضى فيها كتشنر على دولة الدراويش يوم ‏2‏ سبتمبر‏.‏
فى أعقاب المعركة تقدم كتشنر جنوبا على طول النيل الأبيض حيث التقى بالكابتن مارشان قائد القوة الفرنسية التى كانت قد سبقت المصريين إلى نقطة فاشودة على هذا النيل‏,‏ ووقفت أوربا كلها على أطراف أصابعها وهى تتابع المواجهة بين الرجلين‏,‏ التى كانت تنذر بصدام عسكرى بين أكبر قوتين استعماريتين فى العالم وقتئذ‏..‏ صحيح أن المواجهة لم تؤد للحرب وانتهت بانسحاب الفرنسيين‏,‏ ولكن بعد أن كانت صور الرجل قد ملأت صحف أوربا والعالم‏,‏ ولم يعد أحد يجهل من هو كتشنر‏,‏ حتى أنه يمكن القول أنه فى تلك البقعة النائية من أفريقيا تم وضع الرتوش الأخيرة للأسطورة‏.‏
لم يكن غريبا مع ذلك أن تستنجد به الحكومة البريطانية فى حربها مع المستعمرين من أصل هولندى فى جنوب أفريقيا‏,‏ والمعروفين باسم البوير‏,‏ وذلك بعد اخفاقاتها المتتالية فى هذه الحرب‏,‏ ولم يخيب الرجل الآمال المعقودة عليه فقد قاد القوات الإنجليزية للنصر على البوير‏,‏ متبعا فى ذلك أقسى أساليب الحرب التى سميت بالأرض المحروقة‏,‏ وإن كان هذا النصر قد كلف غاليا‏.‏
الصفحة الأخيرة من ترسيخ صورة الأسطورة الاستعمارية كانت فى الهند درة التاج البريطانى, فقد عين عام ‏1902‏ قائدا عاما للهند وبقى فيها حتى عام ‏1906,‏ وكالعادة لم يدع الفرصة تمر دون أن يترك بصمة غائرة فيما تقرره سيرته التى نشرتها الأهرام وجاء فيها اصلح لورد كتشنر نظام الجيش فى الهند ووقع بينه وبين حاكم عام الهند اللورد كرزون خلاف انتهى بفوزه‏,‏ وفى يونيو سنة ‏1905‏ أعلنت الحكومة البريطانية موافقتها على رأى كتشنر فرفع اللورد كرزون استقالته للملك يوم ‏19‏ أغسطس فقبلت استقالته‏!‏
وبلغت الأسطورة ذروتها فى منصب وزير الحربية البريطانية‏,‏ قبل أن تغرق فى مياه بحر الشمال مما كان له أصداء واسعة فى العالم‏,‏ وفى مصر طبعا مما نتابعه فى الأهرام‏.‏
التعازى التى انهالت على دار الحماية البريطانية فى مصر كان شيئا متوقعا‏,‏ وإقامة الصلوات فى بعض الكنائس كانت شيئا طبيعيا‏,‏ وهو ما حدث من قبل عند وفاة الملكة فيكتوريا فى مطلع القرن‏,‏ غير أن الوفاة المأسوية لكتشنر صاحبها احتفال غير معهود‏.‏
فعلاقة الرجل بمصر من ناحية‏,‏ ودوره فى الجيش المصرى من ناحية أخرى, دفع المسئولين إلى التفكير فى اختيار مكان غير طبيعى لإقامة الصلاة على روحه‏,‏ ولم يكن سوى ثكنات قصر النيل‏..‏ الميعاد تحدد بالساعة السادسة مساء بيوم الثلاثاء ‏13‏ يونية‏,‏ والاحتفال تقرر أن يكون مهيبا فيحضره السير هنرى مكماهون المندوب السامى البريطانى فى مصر وقائد القوات البريطانية فى البلاد على أن ينوب عن السلطان الأمير أحمد فؤاد‏.‏
دخول الاحتفال بتذاكر حمراء وبيضاء وزرقاء توزع على طالبيها من موظفى الحكومة المصرية فى الوزارات ومن الأجانب غير الموظفين فى قنصلياتهم وعلى الضباط المصريين العاملين والمتقاعدين والمستودعين فى وزارة الحربية وعلى بقية المصريين فى محافظة مصر‏.‏
مندوب الأهرام الذى حضر الاحتفال قدم له وصفا تفصيليا كان مما جاء فيه رصدا للحضور‏..‏ فى المقدمة المندوب السامى ورجاله‏,‏ الأمير أحمد فؤاد وعدد من رجال القصر‏,‏ رئيس الوزراء وأعضاء الوزارة ثم القناصل وكبار رجال الإفرنج‏,‏ بعدهم كبار موظفى الحكومة المصرية والأعيان واصطفت من الجهة اليمنى الموسيقى العسكرية البريطانية فشاركت المصلين فى تلحين الصلوات‏.‏ واجتمع كذلك على سطح الثكنة المطل على هذا الفناء الداخلى الكبير جمهور آخر من الأهالى الوطنيين والإفرنج والجنود وقدر عدد المجتمعين كلهم بنحو خمسة آلاف نسمة رجالا ونساء‏.‏
ولم يقتصر توديع الأسطورة على مجرد الصلاة رغم كثرة الحضور‏,‏ فلم يكن قد انقضى سوى يوم على تلك الصلاة حين اجتمع مجلس بلدية الإسكندرية وتداول أعضاؤه فى مستهل الاجتماع فى كيفية تخليد ذكرى البطل الاستعمارى الغارق‏,‏ وقد اقترح الدكتور ديمتريادس أن يطلق اسم كتشنر على أحد المتنزهات البلدية الكبرى فى باب شرقى وأن يفتح فى الإسكندرية اكتتاب عام لأجل إقامة تمثال لكتشنر فى إحدى ساحات المدينة‏,‏ وقد وافق المجلس بالإجماع على الاقتراح عير أنه لم يعجب آخرون‏!‏
فقد تصدر عدد الأهرام يوم الخميس ‏6‏ يوليو حديث كان قد أدلى به حسين كامل لصحيفة المقطم وضعته جريدتنا تحت عنوان ذكرى اللورد كتشنر وتخليدها‏-‏ رأى عظمة السلطان فى الأثر الذى يقام سجل فى بدايته تلك العلاقة التى تربط بين الاستعمارى العتيد وبين مصر‏,‏ وكيف أنه جاء إلى البلاد ضابطا صغيرا وخرج منها مشيرا عظيما ولوردا جليلا بما وفق إليه من نصر وفوز على دراويش السودان‏..‏ ثم عاد إلى مصر معتمدا سياسيا فجعل من همه خدمتها بما تسمح به الحالة‏.‏
عرج بعد ذلك على اقتراح بلدية الإسكندرية بإقامة تمثال للرجل فى الثغر وبدا معارضا للفكرة فيما جاء فى قوله أنه لو كان اللورد كتشنر حيا واستشرناه فيما يريد أن يكون هذا التذكار الذى نقيمه لأشار بما أهم من ذلك أى بما تحتاج إليه البلاد‏,‏ والبلاد تحتاج إلى الضروريات قبل الكماليات أى إلى ما يصلح شئون الجمهور الأكبر‏,‏ وخلص من ذلك إلى تقديم اقتراح بديل مما جاء فى إشارته إلى أنه ليس عندنا مثلا مستشفى خاص بالنساء ولا سيما بالفقيرات المعوزات منهن ويعتنى بهم الاعتناء الواجب‏,‏ ومستشفى مثل هذا لا تكون فائدته مقصورة على تمريض النساء بل يكون بمثابة مدرسة تتعلم فيه الطبيبات أمراض النساء ويتمرن على معالجتهن وتمريضهن‏.‏
تبع ذلك أن انهالت المقالات على الأهرام منحازة لفكرة السلطان معارضة لقرار مجلس بلدى الإسكندرية‏,‏ كان أولها تعليق من مكاتب الأهرام فى الثغر كان مما جاء فيه إن مصر لم تصنع قبل الآن تمثالا لعظيم من غير أمرائها وكان من حسن الرأى أن لا يتسرع معضدو اقتراح الدكتور ديمتريادس من رجال البلدية فى الإقرار على تنفيذ الاقتراح مع علمهم بأن البلاد الإسلامية تكره إقامة التماثيل الصماء بالرغم من إجلالها لأقدار عظماء الرجال‏..‏ ولولا ذلك لكانت أقامت تماثيل عديدة لعظمائها وحكامها ولم تقتصر على تمثال محمد على وتمثال إبراهيم وواحد أو أثنين آخرين فى كل أرجائها‏.‏
وقضى الأمر عندما عبر السير هنرى مكماهون المندوب السامى البريطانى فى العاصمة المصرية عن انحيازه لفكرة المستشفى فيما جاء فى حديث آخر أدلى به لجريدة المقطم أيضا ونقلته الأهرام عنها وكان مما جاء فيه تحبيذ إنشاء مستشفى كبير للنساء فى القاهرة يسمى مستشفى كتشنر ويكون محتويا على مدرسة وقاعة لإلقاء الدروس الطبية وعمل العمليات الجراحية لأجل تعليم الطبيبات وتمرينهن حتى يصرن أهلا للتطبيب فى هذا القطر ويكون منهن طبيبات لمستشفيات النساء التى تنشأ فى المديريات فى المستقبل‏.‏
وعندما حاولت بلدية الإسكندرية أن تتلكأ فى الاستجابة للاتجاه العام باستبدال التمثال بمستشفى, على أساس أن الاقتراح قد وافق عليه أعضاؤها بالإجماع‏,‏ وجه رئيس الوزراء رسالة إلى رئيس البلدية رسالة أعرب فيه عن تقدير الحكومة لمبادرة المجلس البلدى, وعن موافقتها على القرار الصادر بإطلاق اسم اللورد كتشنر على الحديقة الجنوبية من المدينة غير أنه نبهه إلى أن هناك اقتراحا آخر لتكريم كتشنر لقى موافقة العدد الكبير وفى مقدمتهم العظماء‏..‏ ويرمى هذا الاقتراح إلى فتح اكتتاب عام فى القطر المصرى لجمع الأموال اللازمة لبناء أثر يكون مفيدا للبلاد كلها كبناء مستشفى أو بناء مدرسة طبية‏.‏
ولم يجد مجلس بلدى مندوحة أمام هذا الضغط من العدول عن رأيه والمشاركة فى حملة الاكتتابات لجمع‏250‏ ألف جنيه لبناء المستشفى, وكان هذا من حسن حظ كتشنر حيث لا تزال المستشفى التى أقيمت فى أحد شوارع حى شبرا تحتفظ باسمه حتى هذه اللحظة‏,‏ وهو ما لا نظن أنه كان سيتوفر لتمثال أحد أساطير الاستعمار البريطانى, الذى كان سوف يلحق فى الغالب بتمثال زميله فرديناند دلسبس مودعا فى أحد مخازن الحكومة‏,‏ فيما كان متوقعا أن يحدث فى نفس العام‏ 1956,‏ عام العدوان على مصر الذى اشتركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا‏!‏