ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 7 يوليو 2010

261 ديوان الحياة المعاصرة

حملة الرديف المصرى


 د. يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام   الخميس 29 أكتوبر 1998م


نظن أن حدثا تاريخيا لم يكتسب سمعة سيئة بالقدر الذى اكتسبه الدعم البشرى المصرى للمجهود العسكرى البريطانى خلال الحرب العالمية الأولى,‏ فقد ارتبط هذا الدعم فى الوجدان الوطنى العام‏,‏ وفى الذاكرة التاريخية لجموع المصريين‏,‏ بقيامه على القهر والإجبار‏,‏ إذ عمدت السلطة العسكرية البريطانية إلى مداهمة القرى بمعونة من رجال الإدارة‏,‏ على رأسهم المآمير والعمد‏,‏ من حيث ساقوا الفلاحين إلى ميادين القتال على نحو غلبت عليه السخرة‏,‏ حتى انتشر فى الريف هذا الموال الحزين الذى يشكو فيه أهلوه من السلطة اللى خدت ولدى‏!‏
ومع أن لهذه السمعة السيئة ما يبررها فإن القليلين الذين تنبهوا إلى أن قصة فيالق العمال المصريين التى أسهمت بجهد واضح فى حروب الحلفاء فى سيناء والعراق ووصلوا حتى فرنسا‏,‏ قد مرت بثلاثة فصول حتى وصلت إلى الشكل المأسوى الذى استقر فى الوجدان الوطنى للمصريين‏.‏ 
الفصل الأول‏:‏ امتد لنحو عام ونصف‏,‏ منذ قيام الحرب فى صيف عام 1914‏ وحتى أوائل عام 1916,‏ وغلب على العلاقة فيه بين العمال المصريين الذين قدموا جهدهم لصالح الآلة الحربية للحلفاء‏,‏ وبين السلطة العسكرية البريطانية‏,‏ قدر من التراضى,‏ وهو ما عبرت عنه الأهرام بقولها‏:‏ وجد العمال العاطلون وغيرهم من الأشخاص الذين ألفوا العمل الفرصة سانحة للالتحاق بخدمة السلطة العسكرية التى تعطى الفاعل أجرة فى اليوم لا تقل عن سبعة قروش‏.‏ فقدموا طلباتهم وقبلتها السلطة وكشف عليهم طبيا فى قسم الخليفة‏.‏ وبلغ عدد الذين كشف عليهم طبيا نحو 600‏ شخص وصرفت لهم المرتبات مقدما على يد ضابط وسيسافرون إلى الجهة التى تعينها لهم السلطة العسكرية‏.‏
وقد تم تشكيل أورطة من الأشغال من هؤلاء مؤلفة من ستة بلوكات للخدمة فى حملة الحلفاء على الدردنيل خلال شهر مايو عام 1915,‏ ومع أن الحملة فشلت إلا أن العمال المصريين المستقدمين أساسا من بين صفوف الفلاحين‏,‏ قد نجحوا فى القيام بواجباتهم غير القتالية على نحو دفع قواد الجيوش البريطانية إلى المطالبة بهم بإلحاح‏,‏ الأمر الذى دفع إلى التوسع فى التجربة لتغطية الاحتياجات إليهم فى سائر ميادين القتال‏.‏
وشرع فى تنظيم هؤلاء على شكل مجموعات تضم فى أدناها خمسين فردا يرأسها واحد منهم‏,‏ وتصل فى مستواها الأعلى إلى شكل الفيالق التى تعددت نوعياتها‏..‏ أهمها فيالق العمال التى كانت تقوم بالأعمال المعاونة فى ميادين القتال‏,‏ بعدها النقل بالجمال‏,‏ يليها النقل الإمبراطورى ووحدات النقل بالدواب‏,‏ الحمير والبغال‏,‏ فضلا عن وحدات أخرى أقل أهمية‏:‏ الخدمات الطبية والبيطرية‏,‏ الخدمات الراكبة والشرطة‏,‏ وقد بلغ عدد هؤلاء 19537‏ فردا فى أواخر عام 1915‏ وبدايات العام التالى.‏
الفصل الثالث كان الأكثر شهرة‏,‏ وقد غلب خلال العامين الأخيرين من الحرب ‏1917‏ و1918,‏ وهو الذى أضفى على فيالق العمال سمعتها السيئة حيث غلب عليها أسلوب التطوع الإجبارى,‏ الذى عمدت السلطات العسكرية البريطانية إلى إتباعه لسببين رئيسيين‏..‏ أولهما‏:‏ عزوف الفلاحين المصريين عن التطوع الاختيارى فى فيالق العمال سواء بسبب تزايد المخاطر بعد زيادة أوار الحرب واستخدام الطيران على نطاق واسع فى عملياتها‏,‏ حتى أنه لم يعد هناك ثمة فرق كبير فى التعرض للخطر بين العاملين فى الخطوط الخلفية‏,‏ وبين المحاربين فى الصفوف الأمامية‏,‏ وثانيهما‏:‏ أن تلك الفيالق بعد اتساع استخدامها وزيادة عدد أبنائها قد أصبحت تشكل عبئا على ميزانية الجيش البريطانى,‏ وقد تفتق ذهن المنوط بهم قيادة هذا الجيش عن فكرة مؤداها إمكانية توفير جانب من هذه الميزانية من خلال تحويل العلاقة التطوعية القائمة على التراضى إلى علاقة جبرية قائمة على السخرة‏.‏
وبين الفصلين الأول والثالث هناك الفصل الأقل شهرة والذى كشفت الأهرام عن تفاصيله فى أعدادها فى بدايات عام 1916..‏ تكوين فيالق العمال المصريين من احتياطى الجيش المصرى,‏ أو الرديف كما كان يسمى بلغة العصر‏,‏ وهى كلمة عربية يقول قاموس مختار الصحاح فى تعريفها رديف مفردها ردف بكسر الراء والدال‏:‏وهو الذى يركب خلف الراكب‏,‏ وكل شئ تبع شيئا فهو ردفه‏!‏
وهناك أكثر من ملاحظة قبل أن نتابع فى الأهرام ذلك الفصل المتروك من قضية فيالق العمال المصريين خلال الحرب العالمية الأولي‏..‏ منها أن فترات الفصول الثلاثة عرفت تداخلا ملحوظا الأمر الذى يصعب معه تحديد تاريخ قطعى يفصل بين كل فترة والفترة التى تليها‏,‏ ومنها أن الفترة الثانية كانت بمثابة الجسر الذى ربط بين الفترتين السابقة واللاحقة‏,‏ ذلك أن تجنيد الرديف الذى يخضع هؤلاء لشروط الخدمة العسكرية يؤدى من ناحية ألا يحصل هؤلاء إلا على المكافأة الزهيدة التى يحصل عليها العاملون فى هذه الخدمة‏,‏ كما يؤدى من ناحية أخرى أن يحصلوا على تلك المكافأة من خزينة الحكومة المصرية مما يعفى الجيش البريطانى من تحمل عبء مثل هذه النفقات‏,‏ من ناحية ثالثة فقد مهد ذلك العمل إلى إحلال فكرة الإجبار محل فكرة التطوع التى غلبت على المرحلة الأولى,‏ وهو إجبار صادر عن قانون قائم فعلا وليس بدعة بريطانية كانت ستلقى مقاومة شديدة لو بدئ بها‏.‏
تحت عنوان الخدمة العسكرية فى القطر المصري‏-‏ كلمة تاريخية وفى عددها الصادر يوم الجمعة21‏ يناير عام 1916‏ افتتحت الأهرام هذا الفصل بدراسة طويلة عن تطور الخدمة العسكرية منذ أن بدأت فى عصر محمد على عام 1816,‏ أى قبل قرن كامل‏,‏ وقد سعى كاتب المقال فى إطاره أن يرصد تاريخ فكرة الرديف‏.‏
بدأ بالخدمة العسكرية مع نشوء الجيش المصرى الحديث وكانت فترة الخدمة وقتئذ غير محددة‏,‏ حتى أنه كان يمكن أن يقضى الجندى طيلة حياته فى هذا الجيش‏,‏ من ثم لم تك فكرة الاحتياط محل تطبيق‏,‏ فهذه الفكرة ترتبط بفترة زمنية محددة يقضيها النفر فى الجيش ليخرج منه وهو لا زال قادرا على الخدمة‏,‏ وهو الأمر الذى انصرف أيضا على النظام العسكرى على عهد الحاكمين اللذين توليا بعد محمد علي‏..‏ عباس وسعيد‏.‏
ظهرت الفكرة لأول مرة فى عصر الخديوى المشهور إسماعيل حين حددت مدد معينة للخدمة‏..‏ فى سلاح المشاة خمس سنوات وفى سلاح الفرسان ست سنوات‏,‏ وفى سلاح المدفعية سبع سنوات‏,‏ أما مدة الاحتياط أو الرديف والتى كانت تسمى بالإمدادية فهى سبع سنين وفى خلالها لا يدعون مطلقا للتمرين أو التدريب ولكن للتعبئة والتجنيد فقط‏.‏
أول استخدام للفظة الرديف حدث فى عهد توفيق‏,‏ وفى عام 1880‏ على وجه التحديد حين صدر أول قانون للقرعة العسكرية قنن فترات خدمة المجندين فى الجيش المصرى,‏ وكانت على الوجه التالي‏:‏
تحت السلاح أربع سنوات للبيادة‏ (المشاة‏)‏ والطوبجية‏ (المدفعية‏)‏ والسوارى ‏(الفرسان‏)‏ و‏4‏ سنوات للبحرية والصنايعية‏.‏
رديف خمس سنوات للبيادة والطوبجية والسوارى و‏4‏ سنوات للبحرية والصنايعية‏.‏
احتياطية ست سنوات للبيادة والطوبجية والسوارى وخمس سنوات للبحرية والصنايعية فمجموع المدة لا يزيد عن 15‏ سنة وبعد انتهائها تعطى لهم تذاكر بإخلاء سبيلهم وتشطب أسماؤهم من الدفاتر‏!‏
تم أيضا بمقتضى المادة الخامسة من هذا القانون تنظيم عملية استدعاء الأنفار من الرديف بالبدء بالنمرة الأصغر سنا ولا تطلب نمرة لدخولها تحت السلاح إلا بعد استيفاء النمرة التى قبلها‏.‏ وعند الاضطرار بعد استيفاء دخول نمر الرديف الاحتياطية للحضرة الخديوية أن تأمر بطلب كافة الأشخاص السليمى البنية تحت السلاح لأداء الخدمة العسكرية بدون مراعاة سنهم‏.‏
ويضيف كاتب هذا المقال المطول معلومة أخيرة وهى أن ما دخل على قانون القرعة من تعديل فى يوليو عام 1888‏ أكد على جعل مدة الخدمة 15‏ سنة ولكن بتقسيم جديد‏;‏ خمس فى الجيش وخمس فى البوليس وخمس فى الرديف‏.‏
فى مناسبة لاحقة‏,‏ وفى ‏4‏ نوفمبر عام 1902‏ على وجه التحديد‏,‏ صدر أمر عالى يحدد نظام الرديف بشكل أكثر تفصيلا‏,‏ والذى تضمنته ست مواد من هذا الأمر‏..‏
مادة تقول أن كل عسكرى مقترع يرفت من الجيش يحال على الرديف حالا‏,‏ تليها المادة التى تحتم على أى من هؤلاء أن يعلن جهة الاختصاص كلما غير محل إقامته‏,‏ وأجازت المواد التالية لوزارة الحربية أن تطلب جميع رجال الرديف أو بعضهم لإجراء التمرينات العسكرية مدة لا تزيد عن ثلاثين يوما فى السنة وأن تطلبهم فى أى وقت من الأوقات للمساعدة على حفظ الأمن مدة القلاقل العمومية أو لإجراء الاحتياطات الصحية اللازمة وقت الوباء‏,‏ ثم أن تطلبهم أخيرا للخدمة العسكرية فى وقت الحرب أو الطوارئ الأهلية وذلك بإذن من مجلس الوزراء‏.‏
السبب الذى دفع الأهرام إلى معالجة هذا الموضوع بذلك التوسع كان الطلب الذى تقدم به قائد عموم القوة البريطانية فى مصر إلى وزير الحربية‏,‏ إسماعيل سرى,‏ يبلغه فيه أنه لما كان يشتغل بتنظيم فروع للتشهيلات اللازمة للدفاع عن القنال‏,‏ ولما كان قد نال معونة كبيرة من فروع الإدارة المدنية المصرية‏,‏ فإن الضرورة أصبحت تقتضى الحاجة إلى طائفة من العمال المتعودين على النظام العسكرى مثل الذين يمكن الحصول عليهم من أفراد رديف الجيش‏.‏
يقول سرى باشا أنه حمل اقتراح القائد البريطانى لسردار الجيش المصرى,‏ وكان بريطانيا بدوره‏,‏ وبالطبع لم يكن مفاجأة له‏,‏ إذ تشير الوثائق البريطانية أن قضية استدعاء الرديف المصرى للخدمة فى فيالق العمال كانت محل مداولة بين المسئولين العسكريين البريطانيين فى مصر‏,‏ كذا بين هؤلاء وبين دار المندوب السامى,‏ وأخيرا بينهم جميعا وبين المسئولين فى كل من وزارتى الخارجية والحرب فى لندن‏.‏
المهم أن وزير الحربية المصرى يقرر أن القضية كانت محل اتفاق كامل بينه وبين السردار‏,‏ وكان الأحرى به أن يقول محل موافقة من الجانب المصرى للمطلب البريطانى,‏ وإن لم تكن كاملة‏,‏ فوفقا لما تضمنته الوثائق البريطانية أيضا فقد عبر كل من السلطان حسين كامل فضلا عن رئيس الوزراء حسين باشا رشدى عن مخاوفهما من رد فعل ذلك على المصريين‏,‏ خصوصا وأن قائد عموم القوة البريطانية كان قد تعهد مع قيام الحرب وإعلان الحماية ألا يتحملوا آى أعباء إضافية بسببها‏.‏
تضيف الأهرام أن سرى باشا حمل طلب القائد البريطانى إلى رئيس الوزراء الذى عقد جلسة طارئة للمجلس فى منزله للنظر فيه على وجه السرعة تبعه أن صدر قرار قصير نصه‏:‏ جميع الأنفار الموجودين بالرديف ما عدا المستخدمين منهم بمصالح الحكومة مطلوبون للخدمة العسكرية بمقتضى هذا القرار‏,‏ وأن الوزراء بعد أن وافقوا على القرار تفرقوا عائدين إلى وزاراتهم وأبلغ هذا القرار عقيب انفضاض مجلسهم إلى المحافظات والمديريات‏,‏ ولا تنسى جريدتنا فى هذه المناسبة أن تذكر قارئها بأن عدد الجيش المصرى وقتئذ كان يبلغ 17500‏ موزعين على الأسلحة المختلفة‏.‏
أصبح القرار الوزارى الشغل الشاغل للمصريين بعد صدوره‏,‏ وهو ما عبرت عنه الأهرام بقولها كثرت التقولات والظنون فى القرار الوزارى الخاص بطلب الرديف المصرى للخدمة العسكرية‏,‏ وفى تقدير العدد الذى يجمع منه والغرض من جمعه‏.‏
والواضح أن تلك التقولات والظنون قد وصلت إلى علم السلطات التى سارعت على التأكيد بأنه ليس ثمة مقصد سوى الرغبة فى جمع طائفة من العمال متعودين النظام العسكرى مثل الذين يمكن جمعهم من أفراد رديف الجيش‏,‏ أما العدد المزمع جمعه فتقدره الأهرام بنحو 12‏ ألفا‏,‏ بعد استبعاد ألفين من العاملين فى خدمة الحكومة وألف آخر من غير اللائقين بسبب ظروفهم الصحية‏.‏
ولم يبق بعد كل ذلك سوى إعلام المصريين بالطريقة التى سوف تتبع لجمع أفراد الرديف والمهام التى سوف يناط لهم تنفيذها‏..‏
طريقة الجمع تقوم على أساس استدعاء هؤلاء للخدمة طبقة فطبقة حسب ترتيب رفتهم من الجيش‏,‏ وتبدأ بالذين رفتوا فى آخر الكل‏,‏ أما المهام فقد كانت لا تتناول سوى أعمال النقل وإنشاء السكك الحديدية ولمثلها استدعى الرديف المصرى فى خلال فتح السودان فى سنة 1896‏ فأتمها على أحسن ما يرام‏!‏
وبدأ فى أعقاب ذلك وضع القرار موضع التنفيذ‏..‏
تحت عنوان حملة الرديف المصرى بدأت الأهرام فى متابعة عملية استدعاء الاحتياط فى الجيش المصرى لخدمة المجهود الحربى لبريطانيا العظمى,‏ وبدت الحكمة من اللجوء لهؤلاء منذ الأيام الأولى لهذه العملية فى الفروق الواضحة بين ما كان يحصلون عليه بمقتضى نظام التطوع وما أصبحوا يحصلون عليه وهم من أفراد الرديف‏.‏
فى ظل النظام الأول كان الفرد من فيالق العمل يحصل على خمسة قروش يوميا إذا خدم داخل القطر المصرى ترتفع إلى ثمانية إذا خدم خارجه‏,‏ هذا فضلا عن الحصول على تعيينات وملابس تصل قيمتها إلى خمسة قروش أخرى,‏ أما أفراد فيالق النقل بالجمال فقد كان أجر كل منهم ستة قروش يوميا بالإضافة إلى خمسة قروش أخرى قيمة التعيينات والملابس‏.‏
بالمقابل‏,‏ وكما أشارت الأهرام فى عددها الصادر يوم 24 يناير عام 1916,‏ تقرر أن يحصل كل عسكرى من أفراد الرديف المطلوبين للخدمة على ستين قرشا شهريا‏,‏ بما يوازى قرشين فحسب فى اليوم‏,‏ وتقرر إلباسهم الملابس العسكرية‏.‏
مع بداية وضع القرار موضع التنفيذ بدا وكأن الارتباك يحوطه من كل جانب‏,‏ فمن ناحية كشف الواقع عن قلة عدد الرديف فى المدن الكبرى فيما أشار إليه مراسل الأهرام فى الإسكندرية فى أحد تقاريره من أن أهالى الثغر كانوا يتوقعون أنه سوف تتألف من المجندين الجدد مواكب يراها الجمهور ولكن ظهر أن المسألة بسيطة لا تتطلب شيئا من ذلك وأن دعوة الرديف لم تكد تبدأ حتى انتهت وأن الذين طلبوا من محافظة الإسكندرية لم يزد علي46‏ رجلا‏!‏
السبب فيما جاء فى نفس التقرير أن بقية المطلوبين بعضهم موجود فى الأقاليم‏,‏ وقد استشيرت وزارة الحربية فى كيفية استحضارهم‏,‏ والبعض الآخر يستوجب النظر فى أمره ضمن دائرة القانون الذى كان قد قرر أن جنود الرديف الذين يندمجون فى سلك البوليس أو خفر السواحل بعد خروجهم من الجيش يسمح لهم بالبقاء فى خدمتهم الجديدة لأنها خدمة عسكرية أميرية‏,‏ والبعض الثالث اختلف على أمره‏,‏ وكان منه على وجه التحديد رجال المطافئ وهى مصلحة فنية تابعة للمجلس البلدى وليس لها سلك خاص فى دوائر الحكومة‏!‏
فى يوم السبت 29‏ يناير عام 1916‏ وقعت الواقعة التى لا نرى أفضل من أن نسوق البلاغ الرسمى الخاص بها بكل ما له من دلالات‏,‏ وجاء فيه أنه فى ذلك اليوم‏:‏
توجه فريق من رجال الرديف المقيمين بثكنات عين شمس إلى ميدان عابدين ليرفعوا إلى الأعتاب السلطانية شكواهم من التأخير فى دفع المكافأة المستحقة لهم وعدم كفاية الأجور التى تقرر دفعها إليهم وعدم موافقة الغذاء‏.‏
وكان صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء موجودا وقتئذ بسراى عابدين العامرة فأعلم الشاكين بأن الحكومة ستنظر فى شكواهم وأن الواجب عليهم أن يعودوا إلى ثكناتهم فأذعنوا لهذا الأمر وانصرفوا فى الحال بنظام تام‏.‏
وفى اليوم التالى عادوا إلى ميدان عابدين لتجديد شكواهم التى قدموها بالأمس فأبلغهم من جانب السلطان حضرة صاحب السعادة سر ياور سعادته أن شكاواهم تحت النظر الآن وأنه يأمرهم بالعودة فى الحال إلى معسكرهم فأطاعوا وعادوا جميعا إلى ثكناتهم‏.‏
وكانت الاحتياطات العسكرية قد اتخذت فى خلال ذلك للمحافظة على النظام ولكن حصل وقت وصول رجال البوليس الراكب ما يؤسف عليه وهو أن ثمانية من الرديف وبعض المارة أصيبوا بجراح وجميع الإصابات خفيفة إلا إصابة أحد المارة‏.‏
إلى هنا ينتهى نص البلاغ والذى تشير دلالاته إلى أن حملة الرديف التى بدأت السلطات الإمبراطورية فى إعدادها مع دوائر الحكومة المصرية كانت تلقى مقاومة وصلت إلى حد التظاهر العسكرى,‏ وهو ما لم تعرفه مصر منذ المظاهرة التى عرفها ميدان عابدين أيضا فى ‏9‏ سبتمبر عام ‏1881,‏ أى قبل خمسة وثلاثين عاما‏,‏ الأمر الذى نرى معه أن الحكومة المصرية قد توجست كثيرا‏,‏ وهرولت لاحتواء الموقف‏.‏
لم ينقض أسبوعان على مظاهرة عابدين الثانية إلا وكانت وزارة الحربية المصرية قد وضعت نظاما جديدا للرديف المطلوب للخدمة والعمل فى التشهيلات العسكرية اللازمة للدفاع عن قناة السويس‏,‏ فقد تم تقسيمه إلى خمس حملات وفقا للسنوات الخمس السابقة التى تم الحصول على الرديف من دفعاتها‏,‏ وقسمت كل حملة إلى خمسة أصناف وأقسام كل منها مؤلفا من 220‏ صف ضابط وعسكرى وأن تكون مصر أساس الرديف العام أو مركزه‏.‏
فى إطار نفس التنظيم تقرر وضع حملة الرديف تحت قيادة اللواء هربرت باشا قومندان مصر المحروسة الذى اختار عددا من الضباط المصريين المتقاعدين ممن كانوا يعاونونه فى المدرسة الحربية أيام أن كان قومندانا لها‏;‏ اللواء عبد الرحيم فهمى باشا واللواء أحمد فطين باشا واللواء موسى فؤاد باشا‏.‏
الأهم من كل ذلك نظام المعاملة المالية التى وضعها قرار وزارة الحربية للرديف‏,‏ فقد دفعت لكل جندى من الذين لم يتناولوا المكافأة التى تمنح لهم عادة عند انتهاء مدة الخدمة الإلزامية خمسة جنيهات من أصل مكافأته ووعدته بدفع الخمسة عشر جنيها الباقية بعد تسريحه من الخدمة وزادت المكافأة المعينة لكل جندى منهم 15‏ قرشا صاغا فأصبحت الآن 75‏ قرشا صاغا فى كل شهر‏.‏ على أنه لم يكن يطمع فى أكثر من 40‏ قرشا صاغا بمقتضى القانون‏!‏
ولمزيد من حض أنفار الرديف على أن ينضموا إلى صفوفه صدر أمر آخر من وزارة الحربية بمضاعفة التعيينات التى تصرف لهم بحيث أصبحت بطانيتان من بطانيات الخدمة العمومية‏,‏ جزمة بيادة‏,‏ قميص بفته من قمصان الخدمة العمومية‏,‏ زوج جرابات أزرق‏,‏ جوارب من الصوف‏,‏ طربوش وزر‏,‏ كبود بياده بالزنط‏,‏ فانيلة صوف‏,‏ شنطة جراية‏,‏ زمزمية‏,‏ جلابية زرقاء‏,‏ حزام أحمر وشرائط حسب الدرجة‏,‏ وتصرف كل هذه الملبوسات من مخازن مهمات الجيش المصرى.‏
وتم تقسيم أنفار الرديف الذين يخدمون فى المجهود العسكرى,‏ أو ما أسمته القرارات بالتشهيلات الحربية‏,‏ إلى مجموعتين‏;‏ تخدم أولاهما فى الأراضى المصرية‏,‏ وفى منطقة قناة السويس على وجه الخصوص‏,‏ بينما تخدم الثانية فى صفوف القوات البريطانية وفى ميادين خارج مصر‏,‏ وكان من الطبيعى أن يحصل أفراد المجموعة الثانية على مزيد من أسباب الإغراءات‏.‏
جاء هذا فى أمر آخر من أوامر وزارة الحربية بأن تصرف رواتب هؤلاء بواسطة صراف الخزانة الإنكليزية ويستولون على ضعف ماهياتهم المقررة لهم بالجيش المصرى وتصرف لهم العلاوات كالمقررة لجنود الجيش المصرى الذين يؤدون الخدمة بالجيش الآن‏.‏
رغم كل ذلك فقد تزايدت أعداد الفارين من الرديف حتى أن وزارة الداخلية أرسلت فى 19‏ مايو عام 1916‏ منشورا إلى المآمير والضباط ورجال البوليس والعمد والمشايخ للبحث عنهم ومن يوجد منهم يضبط ويرسل فى أقرب وقت إلى حضرة قومندان قسم المحروسة بالعباسية تحت التحفظ الكافى,‏ وإذا كان هذا المنشور بمثابة الاعتراف بفشل حملة الرديف فإنه كان فى نفس الوقت بداية للفصل الثالث من فصول تجنيد المصريين للعمل فى ميادين القتال‏,‏ وكان أسوأ الفصول بحكم ما اعتوره من أسباب القهر والسخرة‏,‏ وله قصة أخرى ربما تكون أهم من القصة التى رويناها فى التو واللحظة‏!‏‏