ads

Bookmark and Share

الجمعة، 2 يوليو 2010

260 ديوان الحياة المعاصرة

الغارة الجوية على المحروسة‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام   الخميس 22 أكتوبر 1998



لأول مرة تشير الأهرام إلى استخدام هذا الاكتشاف الجديد‏,‏ الآلة الطائرة العجيبة‏,‏ فى الحروب‏,‏ كان فى تغطيتها لأحداث الهجوم الإيطالى على طرابلس الغرب‏,‏ وما تبعه من اشتباكات بين القوات الإيطالية والتركية‏,‏ إذ تخبرنا فى ‏3‏ نوفمبر عام 1912‏ بما نصه‏''‏ إن القنبلة التى ألقتها الطيارة الإيطالية على معسكر تركى أحدثت اضطرابا لا يكاد يوصف فالجنود كانوا يفرون فى كل وجه والمواشى تركض مذعورة‏,‏ ويريد الطيارون العودة إلى هذا الاختبار‏'',‏ وهو ما حدث خلال الأيام التالية فيما نم عنه مزيد من الأخبار حول تطورات الحرب والتى كتبت شهادة ميلاد هذا السلاح الفاعل فى الحروب الحديثة‏.‏
لم يكن عمر هذا الاختراع المدهش وقتئذ قد جاوز العشر سنوات منذ أن نجح أورفيل رايت‏,‏ فى صناعة آلة قادرة على التحليق صباح يوم 17 ديسمبر عام 1903,‏ وترصد لنا الأهرام بعض العلامات الرئيسية فى التطور السريع نحو ركوب متن الهواء كان أهمها ما جرى فى يناير عام 1908‏ حين‏''‏ امتلأت أرجاء الكون بخبر خطير وهو أن هنرى فارمان طار مسافة كيلومتر واحد‏,‏ وفى يونيو من العام التالى اهتزت تلك الأرجاء بخبر آخر وهو خبر اجتياز بلريو المانش بطيارته إلى إنكلترا‏,‏ وعد ذلك اليوم‏..‏ يوم 25 يوليو عام 1909,‏ يوم الفوز والنصر للفرنساويين‏''!‏
تعرفنا الأهرام أيضا بأن أول طائرة حلقت فى سماء المحروسة في18 ديسمبر عام1913,‏ أى قبل قيام الحرب العظمى بشهور قليلة‏,‏ ولم يكن المصريون حتى ذلك الوقت‏,‏ وبعد احتفائهم البالغ بهذا التحليق‏,‏ يتوقعون أن تصل إلى عقر دارهم بعد نحو عامين تلك الطائرات بمخاطرها‏.‏
كان أقصى ما توقعوه أن يقتصر استخدام هذا السلاح الجديد على ميادين القتال فى أوربا مما ظلت الأهرام وغيرها من الصحف تسوق أخباره منذ الأيام الأولى لقيام الحرب خلال صيف عام 1914.‏
نقل الجنود جوا إلى ميادين القتال كان موضوع الخبر الطويل الذى نشرته الجريدة فى 20‏ نوفمبر عام 1914‏ ففى إحدى المعارك تحصن الألمان على خط دفاعى طويل أصبح من المستحيل معه على الفرنسيين الالتفاف على أى من أجنحتهم وضن القواد الفرنسيون برجالهم فجمعوا عددا كبيرا من الطيارين الذين طاروا فى النهار واستطلعوا حالة الجيش الألمانى,‏ وفى الليل طار كل طيار ومعه اثنان من الجنود‏..‏ وكانوا ينزلون الركاب فى سهل فسيح وراء الشباك الحديدية التى أحكم الألمان ربطها ومدها حتى تم لهم نقل فصيلة كاملة من الرماة إلى مسافة‏3‏ كيلومترات من خنادق الألمان‏,‏ وفى الصباح أخذت تلك الفصيلة تصلى الألمان بنيرانها الحامية‏.‏
المعارك الجوية كانت موضوع خبر طويل آخر نشرته الأهرام تحت عنوان القتال فى الهواء جاء فيه أن طيارا فرنسيا أبصر طائرة ألمانية تحلق فوق سان أومر فطاردها وأطلق النار عليها فأصاب الطيار والسائق الذى معه فسقطا قتيلين وسقطت الطيارة معهما‏,‏ ثم خبر عن معركة أخرى بدأت عندما ظهرت طيارتان ألمانيتان بين أنفرس وأوستند فنهض ثلاث طيارات من جانب الحلفاء وطاردتهما حتى كولونيا‏,‏ وتعلق جريدتنا على ذلك بالقول أنه قد جاءت هذه المطاردة بفائدة عظيمة للحلفاء بالنظر إلى المعلومات التى وقف عليها طياروهم‏,‏ وقد أطلق الألمانيون المدافع الضخمة على هؤلاء الطيارين فلم يصيبوهم بأذى!‏
الغارات الجوية كانت بدورها محل اهتمام جريدتنا‏,‏ ففى أكتوبر عام 1914‏ تسوق خبرا مؤداه أن الطائرات الألمانية حلقت فوق العاصمة الفرنسية وألقت ست قنابل أصابت إحداها محطة السكة الحديدية الشمالية مما أيد القول أن الطيارين الألمان يقصدون تدمير محطات السكة الحديدية‏,‏ وتهتم الحكومة الفرنسية بإنشاء أسطول هوائى لحماية باريس يتكون من فرقتين من الطيارات‏.‏
ولم يكن ضرب طرق المواصلات جوا هدفا للألمان وحدهم ففى مناسبات كثيرة كان الحلفاء يستخدمون كثيرا من الطيارات فى مهاجمة خطوط المواصلات الألمانية‏,‏ الأمر الذى كان ينتهى عادة بتأخير نقل النجدات والذخائر إلى تلك الخطوط‏,‏ على حسب روايات الأهرام فى أكثر من مناسبة‏.‏
ومما يثير الدهشة أن ما تعرضت له العاصمة البريطانية خلال الحرب الثانية من غارات جوية مكثفة‏,‏ والتى عرفت بمعركة لندن‏,‏ كان لها تجربة سابقة خلال الحرب العالمية الأولى فيما ترويه لنا الأهرام فى عددها الصادر يوم‏4‏ إبريل عام 1916..‏
تحت عنوان الغزوة الجوية نشرت الصحيفة برقية عن رويتر كان مما جاء فيها بلغ مجموع الخسائر الناجمة عن غزوة يوم الجمعة الجوية 43‏ قتيلا و ‏66‏ جريحا‏,‏ وقد ألقت الطيارات مائتى قنبلة مفجرة وملتهبة فهدمت كنيسة وثلاثة منازل وكوخان وأصيبت أربعة بيوت و 35 كوخا وقاطرة ترامواى بعطل خفيف‏.‏
ويستطرد الخبر الذى طيرته رويتر بأن عدة طائرات مائية بريطانية هبت لمهاجمة بالون كان فى سماء المدينة فطار اللفتنانت برانوف إلى ارتفاع‏6‏ آلاف قدم‏,‏ وفى الساعة التاسعة والدقيقة45‏ مساء شاهد بالونا مسيرا على بعد‏3‏ آلاف قدم فوقه‏.‏ فطار حتى ارتفع عليه ورماه ببضع قنابل والمظنون أن ثلاث قنابل أصابته‏.‏ وفى الساعة العاشرة كان الطيار براندن لا يزال جاثما فوق البالون فألقى عليه قنبلتين أخريين أصابتا طرف مقدمه‏.‏ وقد أصيبت الطيارة أيضا بعدة طلقات من مدفع البالون‏.‏
انتهزت الأهرام الفرصة لتقدم لقارئها بعض المعلومات عن تلك البالونات والتى عرفت باسم المناطيد وقد نسبت إلى مخترعها الكونت فرديناند زبلين (‏Zeppelin‏) الذى طير أولها عام 1900,‏ ومع قيام الحرب طورها لتقوم بالأعمال العسكرية فى خدمة القوات الألمانية‏.‏ ومن مزاياها أن حمولتها كانت أكبر من حمولة الطائرات الأمر الذى كان يمكنها من إلقاء عدد وافر من القنابل الحارقة والخانقة‏.‏
فى مجال المفاضلة بين الطائرة والمنطاد تنبئنا جريدتنا بأن الأولى أسرع كثيرا من الثانى وأسلس قيادا وبهذه الميزة ترتفع الطيارة فوق المنطاد إلا أن الطيار لا يستطيع تكرار ذلك تفاديا من خطر ضغط الهيدروجين من وراء قلة الضغط الخارجى,‏ فإذا توصلت طيارة إلى الارتفاع فوق المنطاد أو إلى الدنو والاقتراب منه كان دفاعه عن نفسه صعبا جدا ولو بالمتراليوز‏.‏ وإذا كان راكب الطيارة بارعا بالرماية أهلك المنطاد بلا شك ولا ريب‏!‏
بالمقابل فإن المنطاد يتميز عن الطائرة أن الأخيرة لا تتمكن من القيام بمهمتها فى مهاجمة المنطاد إلا إذا رأته قبل فوات الوقت‏,‏ وهى ميزة متوفرة للطائرة نهارا على العكس من الليل حين تكون للمنطاد ميزة عليها لأنه يظل غائبا عن نظر الطيارة لأنه يكون منها على شكل عمودى.‏ أما إذا رأت الطيارة المنطاد ليلا فإنه يكون قريبا منها جدا فلا تستطيع أن تقوم بعمل يضر به ولا يمكن أن يعرف المنطاد من صوت مرجله لأن هذا الصوت يمتزج بصوت مرجل الطيارة فالمنطاد لا يرى إلا إذا دخل منطقة فى الجو منارة بأشعة محولة إليه‏.‏
وتخلص الأهرام من هذه المفاضلة إلى التقليل من مخاطر زبلين ومناطيده‏,‏ فغزوها للمدن وإلقاء القنابل المحرقة أو الخانقة قد تكون نتائجها محزنة أحيانا‏,‏ ولكن هذه النتائج مهما كبرت لا تعوض الجهد والمال الذى ينفق على إنشاء أسطول جوى.‏ ولا يمكن أن يكون لهذه الغزوات تأثير على مصير الحرب وتطورها‏.‏ وحتى ذلك الوقت لم يكن فى حسبان المصريين أنهم سوف يتعرضون لما تعرضت له باريس ولندن‏,‏ وكانوا فى هذا متفائلين أكثر مما يجب‏!‏
فى صيف عام 1916,‏ وعلى ضوء الأخبار التى تدافعت عن الحرب فى برية سيناء‏,‏ لا بد وأن يكون قد ساور المصريين مشاعر القلق من اقتراب الخطر الجوى منهم‏..‏
البداية جاءت على شكل غارات متبادلة بين الطيران التركى يدعمه الألمان والطيران البريطانى,‏ والمسرح كان جبهة القتال التى شملت فضلا عن قناة السويس شبه جزيرة سيناء‏..‏
يشير إلى هذا البلاغ الصادر عن مركز القيادة العسكرية البريطانية فى مصر فى منتصف يوليو والذى جاء فيه أن طائرة من طائرات العداء حامت فى ‏11‏ من هذا الشهر فوق منطقة قناة السويس وألقت بضع قنابل وقد طردتها طياراتنا‏.‏
بعد يومين ردت الطائرات البريطانية بهجوم مضاد على مراكز الأتراك والألمان فى بئر المزار ومعسكراتهم ومستودعات طياراتهم فى العريش‏,‏ ولم تكتف الأهرام بالبلاغ العسكرى حول هذا الهجوم وإنما قدمت وصفا تفصيليا له كان أقرب إلى الرواية المثيرة‏..‏
وضعت الجريدة عنوانا لهذا الوصف غزوة الطيارات فى شبه جزيرة سيناء استهلته بتوضيح غرض الغارة الحقيقى وكان الحصول على أخبار تمكن من غزو قاعدة الطيارات الأمامية المنشأة حديثا فى العريش‏,‏ تبعت ذلك بأن أشارت إلى الاحتياطات التى اتخذت لتحقيق مبدأ المفاجأة‏,‏ أو المباغتة‏,‏ وتقدم فى جانب آخر من الرواية كيف نجحت فى ذلك إذ أنه لما بلغت أول طيارة إنكليزية مستودع طيارات العدو‏(‏ تقصد المطار الحربي‏)‏ لم يخرج من المستودع إلا طيارة واحدة فأعدت للطيران بوجه السرعة ثم جلس الربان والمراقب فى موضعهما وأخذا بتحريك الطيارة بينما كان سبعة أو ثمانية من العمال الميكانيكيين منهمكين بتهيئة المحرك والجناحين‏.‏ وقد تمكنت الطيارة الإنكليزية من طريدتها فنزلت إلى علو مائة قدم وألقت عليها قنبلة نسفتها هى وجميع الذين حولها‏.‏
ويتضح من هذه الرواية المثيرة أن هدف الغارة البريطانية كان ضرب عنابر الطائرات والذخائر بغرض إفساد فاعلية هذه القاعدة الجوية التى كان قد أنشأها الألمان وشوهدت النار تضطرم بقرب بعض العنابر المصابة‏..‏ واستمرت هجمات الطيارات الإنكليزية المتواصلة مدة خمس وخمسين دقيقة كانت تندفع فى خلالها وتحوم حول مراكز العدو على ارتفاع قليل‏.‏
وتقدم الأهرام فى نهاية الرواية حصاد هذه الغزوة الجوية‏:‏
بالنسبة للخسائر الألمانية‏:‏ نسف طائرة بقائدها ومساعده وثمانية من عمالها‏,‏ إتلاف طائرة فى الفضاء‏,‏ نسف عنبر فى داخله طائرة‏,‏ إصابة خمسة عنابر أخرى بالقنابل شوهد أحدها يحترق وقد خسر العدو على الأقل ثمانى طيارات أو أكثر‏.‏
بالنسبة لخسائر القوة المغيرة فقد فقدت طائرتين من الطائرات التى تسع راكبا واحدا أجبرت أولاهما على النزول بقرب معسكر للعدو الأمر الذى دعا قائدها إلى إحراقها قبل أن تقع فى أيدى رجال هذا المعسكر‏,‏ أما الثانية فقد أصيبت بقنبلة مما اضطر معه قائدها إلى الهبوط على ساحل البحر‏,‏ ولما فشلت محاولة إصلاحها تم تدميرها ونقل قائدها على متن طائرة أخرى نجحت فى التقاطه‏.‏
وتقدم الأهرام أخيرا تقييما لهذه الغارة التى أسمتها أحيانا بالغزوة وأحيانا أخرى بالحملة‏,‏ وقد جاء فيه أنها تمتاز بكونها أول غارة ناجحة على قاعدة طيارات للعدو‏.‏ كما أن الغارة هى أول مرة أتلفت فيها طيارات العدو على الأرض بمهاجمتها فى الهواء‏.‏ ولم تستطع طيارة من طيارات العدو فى أثناء هذه الغارة أن ترتفع عن الأرض‏.‏ وقد تعلم العدو الآن أنه لا يستطيع أن ينشئ قاعدة لطياراته على بعد مائة ميل من قناة السويس بدون أن يعرض طياراته للدمار‏.‏
ونعتقد أن مشاعر المصريين بالقلق الناتج عن اقتراب مخاطر الحرب الهوائية منهم قد ازدادت بعد الغارة الجوية‏,‏ التى شنها الألمان على بورسعيد فى أوائل سبتمبر عام 1916‏ والتى قدم مكاتب الأهرام فى المدينة وصفا تفصيليا لها‏..‏
إحدى القنابل سقطت على مدرسة الليسيه الفرنسية ولحسن الحظ لم يكن أحد من تلاميذها أو غيرهم واقفا‏,‏ قنبلة أخرى أطلقت على مدرسة الفرير ولكنها أصابت غصون شجرة ثم سقطت إلى الأرض ولم تنفجر فجاء رجال السلطة والتقطوها‏,‏ أما الثالثة فقد سقطت على مقهى البوسفور فى حى العرب وقتلت أو جرحت جميع الأهالى الذين كانوا هنالك يتناولون القهوة صباحا‏,‏ فضلا عن قنابل أخرى أطلقت على نفس الحى.‏
ضحايا الغارة من الأهالى كما يشير مراسل الأهرام إلى بعضهم‏:‏ بائع لبن وكان يتجول فى ذلك الصباح مع بقرته وقد قتل هو والبقرة‏.‏ خادم فى قهوة البوسفور كان يقدم القهوة لأحد الزبائن فمرت شظية بين ساقيه اخترقت الجلابية وأصابت الزبون فقتلته ونجا الخادم‏.‏ وقد كان منظر الشارع حين حدوث الغارة مما يفتت الأكباد‏.‏
وقد أخذ المكاتب الأهرامى على الألمان قتل السكان المدنيين من نساء وأطفال بينما يكون هدف الطائرات الإنكليزية إتلاف المعسكرات وإنزال الخسائر بالأفراد والمعدات‏,‏ كما أنه نبه إلى أن قهوة البوسفور تقع إلى جوار جامع‏,‏ واتهم الألمان أنهم كانوا يقصدون ضربه بقنابلهم رغم أنهم يتظاهرون فى تركيا بصداقة الإسلام‏.‏
ولم يكن غريبا مع ذلك أن يستبد القلق بسائر سكان القطر‏,‏ خاصة أبناء القاهرة‏,‏ وبالفعل لم يمض سوى أكثر قليلا من شهرين على غارة بورسعيد حتى كانت الطائرات الألمانية تحلق فوق المحروسة وتسقط عليها قنابلها‏,‏ الحدث الذى يشكل آخر فصول هذه القصة وأهمها‏..‏
فى الساعة الثانية عشرة من صباح يوم الاثنين 13 نوفمبر عام 1916‏ قذفت طائرة للأعداء تسع قنابل على القاهرة فى الأحياء المأهولة بالسكان ومحال العمل وقد سقطت قنبلة واحدة من هذه القنابل على بناء يحتوى على مطحنة معطلة والخسائر والأبنية لا تستحق الذكر بسبب ذلك‏.‏ أما القنابل الثمانى الأخرى فسقطت فى الشوارع وقتلت14‏ نفسا منهم‏4‏ أوربيون وجرحت25‏ نفسا آخرين منهم‏4‏ أوربيون أيضا‏.‏ وبين القتلى ثلاث نساء منهم اثنتان أوربيتان وجندى بريطانى.‏ وقتل من الخيل أربعة جياد‏.‏ هذا والقتلى والجرحى جميعا بلا استثناء كانوا من عابرى الطريق‏!‏
كان هذا نص البلاغ الذى أصدرته السلطة العسكرية مساء نفس اليوم ونشرته الأهرام صباح اليوم التالى بعد أن خصصت مقالها الافتتاحى الذى شغل مساحة كبيرة من الصفحة الأولى للحادثة‏..‏
المقال جاء تحت عنوان طيارة العدو‏-‏احتجاج مصر على الألمان والترك يصف كاتبه فى بدايته التجربة الجديدة على أبناء المحروسة فيتحدث عن الدوى الذى صم آذان هؤلاء فظنوا أنه مدفع الظهر ولكن ساعاتهم نفت ما علق بأذهانهم فتساءلوا وقبل أن يتم تساؤلهم وقع بآذانهم دوى ثم ثان ثم ثالث ورابع وخامس الخ فأدركوا قبل أن يروا أن طيارة ألقت القنابل على عاصمتهم الهادئة تحت ظلال السلام الساكنة خارج مناطق القتال‏!‏
رد الفعل الأول لإلقاء القنابل كما سجله صاحب المقال أن الناس تراكضوا إلى أماكن سقوطها فإذا ببعض الخدم والحوذية المساكين الفقراء المجدين فى الشوارع وراء رزقهم وقوت عيالهم أصابتهم قنابل الألمان فقتلت البعض وجرحت البعض الآخر‏,‏ وانتهزت الجريدة الفرصة لتعبر عن استهجانها لتعرض سكان العاصمة الآمنين لهذا الاعتداء وليس بينهم من يحمل بندقية لقتل العدو أو مطواة لجرح الخصم‏.‏ فلا قتل بعضهم ينيل الألمان النصر ولا جرح البعض يوقع الوهن والخور فى عزم الذين يثأرون منهم للإنسانية‏.‏
وتنهى جريدتنا مقالها بتقديم احتجاج على هذا الجرم الفظيع الذى لا يبرره مبرر ولا يجيزه شرع ولا قانون‏.‏ وفوق هذا فإن فعل قنابلهم وقد رأيناه لا يعود عليهم بنفع ولا ينال هذا الشعب الأمين منه ضر‏.‏ ولكن القطرات القليلة التى تسفك بقنابلهم من دماء المصريين هى قطرات عزيزة غالية لأنها سفكت بلا سبب ولا علة فقاتل الله المعتدين بل شلت يد السفاحين‏!‏
فى اليوم التالى صدرت الأهرام وقد خصصت جانبا كبيرا من صفحتها الثانية لأسماء ضحايا الغارة الألمانية من قتلى وجرحى,‏ وبينما بلغ عدد الأولين عشرين بلغ عدد الأخيرين سبعة عشرة‏,‏ ومن خلال قراءة متأنية للقائمة يمكن الخروج بمجموعة من الملاحظات‏:‏
أن القنابل قد أسقطت على عدة أحياء من المحروسة‏;‏ كلوت بك‏,‏ السيدة زينب‏,‏ القللى بالأزبكية‏,‏ الموسكى,‏ بولاق‏,‏ العباسية‏,‏ عابدين‏,‏ الجمالية والدرب الأحمر‏,‏ والملاحظ أن أغلبها من الأحياء الشعبية‏,‏ فلم تسقط قنبلة واحدة على الزمالك أو جاردن سيتى مثلا‏!‏
كان من الطبيعى مع ذلك أن يكون أغلب ضحايا الغارة من فقراء المصريين‏;‏ بائع مأكولات اسمه محمد عبد الرحمن‏,‏ هو أول ضحايا الغارة‏,‏ صانع أحذية اسمه محمد حسين‏,‏ ونال الحوذية نصيبا كبيرا بين القتلى,‏ سليمان مصطفى وسليم عبد الرحمن وغيرهما‏,‏ الأمر مما يفهم منه أن عربات النقل والركاب ظلت الغالبة على استخدام سكان القاهرة حتى ذلك الوقت‏,‏ الأمر الذى يتأكد أكثر من أن أربعة خيول ذهبت ضحية للغارة‏,‏ ولم تكن طبعا خيول امتطاها أصحابها للنزهة فى عز الظهر‏!‏
بين القتلى والجرحى كان هناك ثمانية من الأجانب‏,‏ والملاحظ من مطالعة أسماء هؤلاء أنهم كانوا ينتمون إلى بعض الجنسيات التى اختلطت بالمصريين وعاشت فى أحيائهم الشعبية من الأرمن مثل كرابيت ماتوسيان قومسيونجى متوطن فى شارع كلوت بك‏,‏ ومن اليونانيين مثل استافرو أجابيتو من سكان حارة النصارى وغيرهما‏..‏ الاستثناء الوحيد كان مدام مرزباخ بك المحامى المشهور وهى عروس لم يمض على زفافها سوى ثلاثة أشهر‏!‏
أربعة نساء كن من ضحايا الغارة‏..‏ اثنتان لقيتا حتفيهما‏;‏ مدام مرزباخ ومريم كليرو‏,‏ وإثنتان كانتا من بين الجرحي‏;‏ زينب محمد من سكان الجودرية بالدرب الأحمر‏,‏ وبانولوبى ماييلى امرأة إفرنجية من العابرات بالقاهرة‏,‏ وإذا كان ثمة دلالة أن يكون غالبية الضحايا من النساء من غير المصريات‏,‏ فهى أن بنات البلد قليلا ما كن يغادرن بيوتهن على عكس الأخريات العابرات فى الشوارع‏!‏
ولأن الغارة الجوية على المحروسة لم تكن مجرد حادثة عابرة فقد تتالت ردود الفعل عليها‏..‏
رد الفعل رقم ‏(1)‏ وكان من جانب السلطة العسكرية البريطانية التى تخوفت من غضب المصريين أن ينالهم كل هذا الأذى من حرب لا ناقة فيها لهم ولا جمل‏,‏ هذا من جانب‏,‏ ومن جانب آخر فإن تلك الغارة قد جعلت هذه السلطة فى موقف حرج بعد أن أكدت فى بيانها لإعلان الحماية أن مصر لن تدفع أى ثمن فى الحرب القائمة‏,‏ ومن ثم يمكن فهم الرسالة التى حاولت هذه السلطة أن تبعثها للمصريين حين قامت بجملة غارات متوالية على الأهداف التركية والألمانية فى كل من سيناء‏,‏ فى مغارة والعوجة والقسيمة‏,‏ وفلسطين حيث ألقيت خمسون قنبلة على كل من بئر السبع وبئر المجدبة‏,‏ وحلقت إحدى الطائرات الأسترالية فوق القدس‏,‏ وكانت هذه السلطة حريصة على أن تسوق تلك الأخبار فى الصحافة المصرية فى أماكن بارزة‏,‏ وكانت الأهرام تضعها تحت عنوان معبر‏..‏ الجزاء الحق من جنس العمل‏!‏
رد الفعل رقم ‏(2)‏ باتخاذ جملة من الإجراءات الوقائية‏..‏ أولها ما جاء فى البلاغ العسكرى الخاص بالغارة من ملاحظة أن أغلب الضحايا كانوا من عابرى الطريق الأمر الذى دعا إلى لفت نظر الجمهور أن الأدعى إلى السلامة فى الغارات الجوية هو الاعتصام بالمنازل فعند أول إشارة إلى غارة جوية يجدر بالجمهور أن يسرعوا فى الحال على قدر استطاعتهم إلى المنازل أو الدور المسقوفة ويبقوا فيها إلى أن يزول الخطر‏.‏
إجراء آخر بتخفيض نور فوانيس الأوتومبيلات والموتوسيكلات الساطعة‏..‏ ومن الوسائل الموصلة لهذه الغاية أن يدهن زجاج الفوانيس بدهان أبيض مع ترك جزء صغير فى وسط الزجاجة بحجم الريال بدون دهان‏.‏ ويستمر استعمال الفوانيس بهذه الحالة ما استمر تنوير المدينة على الكيفية الحاضرة‏!‏
إجراء أخير بالبحث عن آلة صفير فعالة تنبه أبناء المحروسة إلى حدوث الغارة‏,‏ فقد طلبت السلطة العسكرية من مصلحة السكك الحديدية أن تدبر لها هذا المطلب فقامت بصناعة صفارة بخارية كبيرة فى ورشتها ببولاق على أمل أن تستعمل فى ذلك وتسمع صفيرها سكان القاهرة وضواحيها فيفروا من الشوارع إلى المنازل‏,‏ غير أن الأهرام رأت أن صفارة واحدة لا تكفى مع سعة القاهرة وضواحيها ونصحت بصناعة عدة صفارات من طرازها توزع على عدة مناطق وتستعمل كلها دفعة واحدة فى ساعة الخطر‏,‏ وهى النصيحة التى أخذت بها السلطات العسكرية خلال الحرب الثانية حين استعملت الصفارات الكهربائية والتى ارتبط دويها فى وجدان المصريين بإحداق الخطر حتى أنهم أسموها بصفارة الإنذار‏!‏