ads

Bookmark and Share

الجمعة، 2 يوليو 2010

259 ديوان الحياة المعاصرة

الوثبة الغضنفرية


د. يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام الخميس 15 أكتوبر 1998


طقوس بيعة الشريف حسين ملكا على الأراضى المقدسة:
على الصفحة الأولى من عدد الأهرام يوم الجمعة13‏ أكتوبر عام1916‏ وصف أحد قراء الجريدة الثورة التى كانت قد نشبت فى الحجاز ضد الأتراك قبل أربعة شهور‏,‏ والتى قادها حسين شريف مكة بالوثبة الغضنفرية‏,‏ وأن مقصد هذا الأخير من تلك الوثبة لم يكن سوى تأييد الوحدة العربية ودفع الغدر عن أبنائها ولأنها إذا حصلت على الوجه الذى نعتقده من الصفاء وحسن النية كانت سببا قريبا فى زوال الإحن والعداوات وتآلف القلوب والأفكار فيقوى بها جانب العرب من الوجهة المعنوية ولا قوة لهم إلا من هذا الباب‏!‏
وقد دخلت هذه الثورة التاريخ من أبواب متعددة‏..‏ الباب العربى حيث نظر إليها القوميون على اعتبارها الشرارة التى عبرت عن عواطفهم المعادية للأتراك التى بلغت ذروتها خلال الحرب الأولى نتيجة لسياسات البطش التى اتبعوها فى سوريا إبان الحرب‏,‏ وهى السياسة التى دفعت القوميين إلى توصيف جمال باشا الحاكم التركى للشام بالسفاح‏.‏ باب الحرب‏;‏ فقد جاءت هذه الثورة فى إطار نجاح سياسات الحلفاء‏,‏ على وجه الخصوص بريطانيا‏,‏ فى إضعاف قوات دول الوسط‏,‏ ألمانيا والنمسا‏,‏ والتى كانت تركيا قد انضمت إليها وقتئذ‏.‏ وأخيرا باب تسويات ما بعد الحرب حيث أن الشريف لم يشرع فى إعلان الثورة على حكام استنبول إلا بعد أن اعتقد أن العرب الواقعين تحت الحكم التركى,‏ فى الجناح الآسيوى من الوطن العربى,‏ سوف يشكلون ما أسمى بالمملكة العربية تحت حكمه‏,‏ وهو الاعتقاد الذى أدخله البريطانيون فى روعه من خلال المراسلات التى كان قد تبادلها مع المندوب السامى فى القاهرة السير هنرى مكماهون‏.‏
كل تلك الحقائق‏,‏ وأكثر منها‏,‏ معروفة لدارسى التاريخ الذين استقوا معلوماتهم عنها من مظان عديدة أهمها الوثائق البريطانية‏,‏ غير أنه يبقى لصحافة العصر رؤيتها‏..‏ وهى رؤية لم تحظ بدرجة كافية من اهتمام هؤلاء الدارسين الذين وإن كانوا قد استعانوا بصحافة العصر إلا أن تلك الاستعانة قد تمت فى نطاق محدود لاستكمال معلومات حصلوا عليها من مصادر أخرى,‏ على عكس الحال فيما لو تابعنا مع قارئ العصر تغطية هذا الحدث الكبير‏,‏ ولعل الأهرام التى قدمت لنا خلال النصف الثانى من عام1916‏ صورة تفصيلية لهذه الوثبة الغضنفرية‏..‏ صورة يختلط فيها العام بالخاص‏,‏ والحرب بالسياسة‏,‏ والدين بالدنيا‏,‏ تبين المذاق الخاص لهذا الحدث‏,‏ والذى يصعب أن نعثر عليه فى الكتابات التاريخية‏,‏ خاصة لو كانت علمية‏!‏
بداية نتعرف على منصب شرافة مكة الذى قاد صاحبه الثورة‏..‏ فقد خضع الحجاز لنفوذ الأشراف منذ القرن الرابع الهجرى,‏ وأصبح لهم منذئذ المكانة الدينية الأولى فى الأراضى المقدسة‏,‏ وكان هؤلاء يقومون فى العصر العثمانى باختيار أحدهم وتنصيبه أميرا على مكة ثم يكتبون للسلطان الذى يصدر فرمان تثبيته فى الإمارة‏,‏ وكانت المهمة الأساسية لهذا الشريف تأمين قوافل الحج الوافدة من سائر أنحاء العالم الإسلامى إلى الحرمين الشريفين‏.‏
ونعود إلى الأهرام يوم 23‏ يونيو عام1916‏ والتى كانت أخبار القتال فى أوربا تشد كل اهتمامها‏,‏ فقد أفردت الجريدة فى ذلك اليوم مساحة لبرقية من رويتر جاء فيها‏:‏ وصلت الأخبار بأن سمو شريف مكة المكرمة تؤيده القبائل العربية غربى وأواسط شبه جزيرة العرب أعلن استقلاله عن الحكم التركى الذى تأخرت البلاد بسوء إدارته وعدم الإصلاح‏.‏
تضيف البرقية أن الأعمال الحربية التى كانت بدأت قبل أسبوعين قد انتهت إلى فوز باهر لقوات الشريف التى احتلت مكة وجدة والطائف‏,‏ وأنها تحاصر المدينة حصارا شديدا وبما أن جدة فى حيازة الشريف الآن حيازة متينة فمن الممكن إعادة المواصلات بحرا ولربما تكون المواصلات التجارية قد أحكمت الآن مع موانئ الحجاز‏.‏
ونظن أن الدنيا قامت ولم تقعد فى مصر بعد ورود تلك الأخبار‏,‏ ولأسباب عديدة‏;‏ منها‏:‏ ما للحرمين الشريفين من مكانة فى نفوس المصريين‏,‏ وتصورهم أن نيران الحرب يمكن أن تمس أى مكان فى العالم إلا مكة والمدينة‏,‏ ومنها أن الغالبية العظمى من المصريين حتى ذلك الوقت كانوا يحملون قدرا من مشاعر الولاء تجاه تركيا فى قتالها ضد الإنجليز‏,‏ وتؤكد كل الدلالات أن السلطات البريطانية فى القاهرة كانت محيطة بذلك ورسمت سياساتها على أساس تسويق الحادثة الجديدة عند المصريين‏,‏ الأمر الذى نتبينه من معالجة الأهرام لتطوراتها‏.‏
لأن دخول تركيا الحرب فى صف دول الوسط أواخر عام1914‏ أدى إلى تقطع سبل الاتصال بين الحجاز التى كانت تحكمها وبين البلدان الخاضعة للهيمنة البريطانية‏,‏ فإن أول ما لوحت به السلطات العسكرية فى مصر التبشير بعودة تلك السبل‏,‏ وهو ما تضمنته برقية رويتر السابقة‏,‏ والتى جاء فى آخرها أن هناك ما يحمل على الأمل أن الصعاب التى كان يتعرض لها الحجاج الذين يقصدون الأماكن المقدسة فى كل سنة لأداء فريضة الحج لا سيما السنتين الأخيرتين تزول وتضمحل‏.‏
ومن هذا المنطلق دارت تلك السياسة على محورين‏;‏ أولهما‏:‏ الترويج لانتصارات يحرزها الشريف حسين وسوق المبررات لحركته بهدف تجريدها من أى مظهر من مظاهر الخروج عن السلطة الدينية ممثلة فى الخلافة العثمانية‏,‏ وثانيهما‏:‏ بناء الجسور بين سائر المسلمين‏,‏ ومنهم المصريين‏,‏ وبين السلطة الجديدة التى أقامها الشريف فى الحجاز من خلال زيارات لها تم ترتيبها لبعض العناصر المنتقاة بعناية واضحة‏.‏


المحور الأول:
نتبينه من الأخبار التى نشرت عن أنه لم يبق للشك مجال أن جميع أمراء العرب أو كبارهم اتفقوا مع الأمير الشريف حسين على إعلان استقلال الحجاز واليمن‏,‏ وهى الأخبار التى أكدت أيضا على حرص الأخير على سلامة الأماكن المقدسة بعد أن أصدر أوامره إلى الأشراف الذين يقودون رجال القبائل ألا يريقوا نقطة دم وبأن يكتفوا بحصار الحاميات إلى أن تسلم‏,‏ فاتبع الأشراف القواد أوامره وساروا عليها بكل دقة وضبط حتى أنهم لما حصروا حامية جدة اكتفوا بالوقوف خارج أسوار المدينة إلى أن ذهب رئيس البلدية منتدبا من قائد الموقع لمفاوضة الشريف محسن فى التسليم‏,‏ وكانت الشروط بسيطة وهى أن يخرج الضباط والجند من الثكنات تاركين فيها سلاحهم‏,‏ ثم جاء الشريف زيد ابن الأمير واستلم المدينة والسلاح والذخائر والمؤن ومفاتيح المدينة والجمارك‏.‏
بالمقابل تم الترويج بأن الأتراك ارتكبوا جناية لم يجرؤ مسلم قبلهم على ارتكابها فقد اغتصبوا من الحرم النبوى الشريف الدرة اليتيمة المشهورة فى العالم الإسلامى باسم‏(‏ الكوكب الدري‏)‏ لعظم شأنها وتألق نورها وندرة وجود مثلها فى العالم‏..‏ وإن هذا الحادث لفظاعته يكاد يكون مستبعدا جدا إلا على هؤلاء الذين أصبحوا من أصحاب السوابق بارتكاب مثل هذه الجنايات فى البقاع المقدسة‏.‏ ففى الأمس ضربوا الكعبة المشرفة ومقام الخليل إبراهيم بقنابلهم قصدا وعمدا وتصيدوا الطائفين والعاكفين برصاص بنادقهم‏.‏
وحرص الشريف حسين فى منشور طويل مؤرخ فى 25‏ شعبان عام1334‏ هجرية الموافق26‏ يونيو عام1916‏ على أن يستنفر مشاعر المسلمين فى سائر أنحاء العالم ضد هذا العمل‏,‏ والذى جاء فيه بالتفصيل ما فعله الأتراك من رمى البيت العتيق بقنبلتين من قنابل مدافعهم التى بحصن جياد وقعت إحداها فوق الحجر الأسود بذراع ونصف والثانية تبعد عنه بمقدار ثلاثة أذرع التهبت بنيرانهما أستار البيت حتى هرع الألوف من المسلمين لإطفاء لهيبه‏.‏
ولتهدئة مخاوف المصريين على الأماكن المقدسة نشرت دار الحماية فى القاهرة بيانا كان مما جاء فيه أن بريطانيا ستظل محافظة على سياساتها الثابتة فى الابتعاد عن أى مداخلة فى الشؤون الدينية‏,‏ وعلى بذل جهدها فى بقاء الأماكن المقدسة أمينة من كل طارئ خارجى,‏ ثم تضيف فقرة حرصت الأهرام على أن تنشرها بالبنط العريض‏,‏ أنه ومن النقط التى لا تقبل التغيير والتبديل فى سياسة بريطانيا العظمى أن تبقى هذه الأماكن المقدسة فى أيدى حكومة إسلامية مستقلة‏.‏
فى نفس السياق بدا الحرص بالغا على التأكيد على أن الثورة إنما تستهدف سياسات حكومة الاتحاديين التى قادت تركيا إلى هذه الحرب الضروس‏,‏ وليس الدولة العثمانية‏,‏ هذا من جانب‏,‏ والوقوف أمام النفوذ الألمانى الذى كان قد استشرى وقتئذ فى الدولة‏,‏ من جانب آخر‏.‏
من منشور للشريف حسين‏,‏ أو من أسمته الأهرام شريف مكة الأكبر‏,‏ يتحدث عن الدولة العثمانية المترامية الأطراف الكثيرة السواحل وكيف أن السياسة التى سار عليها سلاطين آل عثمان العظام من قديم الزمان تحسين الصلات والعلاقات مع الدول التى يسكن ممالكها القسم الأعظم من المسلمين والتى لا تزال صاحبة الأرجحية فى البحار‏,‏ يقصد إنجلترا بالطبع‏,‏ ويندد بعدئذ بخروج الاتحاديين عن هذه السياسة وما جره ذلك على الدولة العلية من وبال وأنه وبقية الولايات العربية لو استسلموا لهؤلاء لأدى ذلك بنا وبهم إلى هوة الاضمحلال التى تسقط فيها الولايات الأخرى على مرأى ومسمع منا‏.‏
وتأكيدا على أن ثورته موجهة إلى الاتحاديين وليس الدولة العلية يخلص فى هذا المنشور إلى القول نعم أننا قمنا ولا يزال قيامنا ومجاهرتنا بالعداوة والبغضاء مقصودا بهما أنور وجمال وطلعت وشيعتهم‏.‏ وأنه ليشاركنا فى ذلك كل مسلم عاقل حتى أفراد البيت العثمانى!‏
أما التصدى لانتشار النفوذ الألمانى فى الدولة العلية فهو ما أكده منشور آخر للشريف جاء فيه أن تذمر المسلمين من سيطرة الألمان على تركيا ظل يزداد يوما فيوم فقد كانت معظم طوائف الإسلام راضية عن حراسة تركيا للأماكن لمقدسة وكان المسلمون يعتبرونها ممثلة للإسلام‏.‏ فلما استولى الألمان على الأستانة أصبح محتما أن يستولوا فيما بعد على الأراضى المقدسة فى الحجاز‏.‏ ولا يخفى أن آخر أثر من آثار استقلال تركيا تلاشى منذ اليوم الأول الذى فتح فيه الطريق بين برلين والأستانة وذلك فى الخريف الماضى,‏ وإذ ذاك رأى المسلمون أن تركيا قد فقدت حق حراسة مكة المكرمة والمدينة المنورة‏.‏
ولما كانت عين المسئولين البريطانيين فى مصر تتابع بقلق نبض الشارع المصرى تجاه الثورة العربية الكبرى,‏ فقد عمدوا وقتئذ إلى الترويج لكل ما يحبط أى مشاعر تأييد للأتراك مما يبدو من فيض الأخبار التى غذوا بها الأهرام وغيرها‏,‏ وكان منها ذلك الخبر حول أوضاع قواتهم فى المدينة المنورة بعد أن فرضت القبائل التى يقودها الأشراف حصارها عليها‏,‏ فقد قدرت تلك القوات بنحو تسعة آلاف جندى نصفهم من الجنود السوريين وهم فى خصام مع رفاقهم الترك من أجل الأخبار التى حملتها لهم جريدة الشرق التى يصدرها الشيخ شاويش وشكيب أرسلان فى دمشق وفيها أخبار شنق أعيان المسلمين فى دمشق وتحبيذ عمل جمال باشا‏,‏ وتردف الأهرام فى نفس الاتجاه‏,‏ وفى عدد آخر‏,‏ أن الثورة الجديدة أهم من كل ثورة تقدمتها بسبب ظروف المكان والزمان التى وقعت فيها وبسبب ما أوتيه رجال دولة الشريف من النجاح حتى الآن‏,‏ وليس فى وسع الأتراك أن يوجهوا الآن قوات كبيرة لمقاومة دولته ولا سيما أن عرب الغرب والوسط يؤيدونه كل التأييد‏!‏


المحور الثانى:
باستخدام كل الوسائل المتاحة للتأكيد على أن ما كان يجرى فى الحجاز وقتئذ كان محل تأييد عربى وإسلامى عام‏,‏ سواء لما ترتب عليه من التخلص من وجود الأتراك أو لما أدى إليه من إزاحة العوائق التى كانت تحول بين المسلمين وبين دخولهم إلى الأراضى المقدسة‏.‏
كان من الطبيعى أن يكون دعاة القومية العربية فى الشام أول المرحبين بثورة الشريف‏,‏ فقد كتب أحدهم فى الأهرام مقالا بليغا فى هذا المعنى كان مما جاء فيه بكينا وفى الشام بكاء وزفير وتعزينا وفى الجزيرة وثوب وزئير‏.‏ فهنالك الروح العربية هبت عواصف وانقضت قواصف وقد أضرم شريف مكة نارا تطهر الفساد وتنظف البلاد‏.‏ فإليه نرنو وله ندعو لعل لنا خلاصا بعد طول العذاب ولا أمل لنا بالحرية إلا مع من ملك الروح العربية‏.‏
من جانب آخر وبإيعاز من الفرنسيين جاءت الأخبار عن قيام وفد مغربى كبير بزيارة الأماكن المقدسة ومقابلة الحسين‏..‏ الوفد برئاسة أحد أقرباء سلطان المغرب ومن أعضائه ابن رئيس الوزراء واثنان من أعيان تونس ومثلهما من أعيان الجزائر وواحد أو اثنان من مسلمى غرب إفريقيا‏.‏ وفى ركاب الوفد أكثر من ستمائة من أهل الجزائر وتونس ومراكش أرسلتهم الحكومة الفرنسية لأداء فريضة الحج‏!‏
وقد كتبت جريدة الطان الفرنسية تذكر بتوقف أداء فريضة الحج عام1915‏ حيث امتنعت دول الحلفاء عن إرسال رعاياها المسلمين إلى الأراضى المقدسة لاضطراب الحال فى بلاد العرب ولسوء المعاملة التى عامل بها الترك الحجاج الجزائريين عام1914.‏
المهم أن الوفد المغربى لقى ترحيبا بالغا من جانب الشريف حسين مما كان موضع تقرير طويل نشرته الأهرام فى صدر الصفحة الأولى من العدد الصادر يوم الأربعاء أول نوفمبر عام1916‏ تحت عنوان بارز جاء فيه الوفد المغربى فى زيارة شريف مكة‏.‏
وفى نفس الصدد هللت الأهرام كثيرا لوفد العلماء المصرى برياسة الشيخ محمد الخضرى وكيل مدرسة القضاء الشرعى والشيخ محمد النجدى والشيخ محمد قنديل الهلالى,‏ وهو الوفد الذى سافر قاصدا الأراضى الحجازية ونزل ضيفا على بيت الشريف فى جدة ومنها إلى مكة على ظهور الجمال حيث قابل أعضاؤه صبيحة وصوله الشريف حسين مقابلة خاصة استغرقت نحو نصف ساعة كانوا فيها موضع احترامه ورعايته‏.‏ وخطب فيهم خطبة لطيفة شرح لهم فيها بصفتهم من علماء مصر وكبراؤها الأسباب التى دعته إلى الحركة التى قام بها بما لا يخرج عن المنشورات التى طبعت ووزعت‏.‏
الملاحظ أن الأهرام لم تكتف بتفاصيل الوثبة الغضنفرية وإنما خصصت مساحات كبيرة لما بعد الوثبة حين بدأت حكومة شريف مكة فى بناء دولة جديدة على أنقاض الحكم التركى,‏ الذى لم يكن قد زال تماما بعد من الحجاز‏.‏
لم يكن قد مضى وقت طويل على قيام الثورة حين بدت ملامح تلك الدولة‏..‏ بإصدار جريدة رسمية أسبوعية باسم القبلة اختير لتحريرها اثنان من أدباء العرب وهذه الجريدة المنتظر صدورها قريبا ستحمل على صدرها آراء الشريف الأمير وأغراضه فتذيعها فى العالم وحينئذ يزول التساؤل عما يريد وإلى أى غرض يرمى!,‏ كلف آخر بتنظيم البوليس‏,‏ كما كلف بعض الأطباء لمداواة جيش الشريف والسهر على الصحة فى بلاد الحجاز عموما‏,‏ كما ولى الشريف أمور جمرك جدة إلى أحد رعاياه الذى كان وكيلا للجمرك قبل قيام الثورة‏,‏ واختار هذا جماعة من الأرمن ممن كانوا معه فى خدمة الجمرك من قبل‏.‏
بعد صدور القبلة تتالت القرارات التى ظلت تنشرها مؤذنة ببناء الدولة الجديدة‏,‏ وهى القرارات التى كانت تنقلها عنها الأهرام أولا بأول‏..‏
قرار بقيام إدارة البريد والبرق وكان قد أصابهما ضرر شديد من جانب الثوار فى سعيهم لقطع أسباب الاتصال بين الحاميات التركية فى سائر المدن لحجازية وبين قيادات تلك الحاميات فقد جرت فيها الإصلاحات الكثيرة وعينت المرتبات الكافية لموظفيها وسارت الأعمال على محور الانتظام والسرعة‏,‏ ولا عجب فإن العامل لبلده وقومه إنما يعمل بهمة ونشاط بخلاف المتغلب المستأجر‏!‏
قرار آخر بتنظيم النقد‏,‏ خاصة بعد أن كانت قد انتشرت فى الحجاز فى عهد الحكومة السابقة النقود لزائفة والممحوة وكان الناس فى ذلك العهد يتضررون منها ويترددون فى قبولها على كثرتها وكانت الحكومة السابقة كلما اجتمع لديها شيء من ذلك فى صندوق الجمرك وغيره تعطيه لموظفيها من مرتباتهم فينتشر فى أيدى الناس‏,‏ الأمر الذى تقرر معه تكسير معادن هذه النقود وبيعه بثمن يوازى ثمنه كمعدن‏,‏ أما النقود الفضية فقد تقرر سبكها حتى تقل بالتدريج هذه النقود الزائفة والممحوة ويرتاح الناس‏!‏
قرار ثالث بتنظيم الشرطة من خلال تشكيل جهاز جديد يعتمد على العرب دون غيرهم التى اختير لقيادتها أحد المقربين من الشريف‏,‏ وهو الشيخ إبراهيم الرمل وقد استلم عمله وفق الله عمال جلالة سيدنا إلى خدمته على ما يحبه الله ويرضاه‏!‏
قرار آخر بإلغاء الألقاب المستحدثة التى لم تكن معروفة عند سلف الأمة مثل كلمات‏(‏ أفندي‏)‏ و‏(‏بك‏)‏ وستبقى الألقاب القديمة مثل‏(‏ الشريف‏)‏ لحضرات الأشراف و‏(‏السيد‏)‏ للسادة ذوى النساب المعروفة و‏(‏الشيخ‏)‏ لأهل الوجاهة والفضل متخلصا بذلك من السيئات الكبرى التى جرتها هذه الألقاب الأعجمية‏!‏
مع هذه القرارات الإدارية صدرت قرارات جديدة لإعادة تشكيل هيكل الدولة الوليدة فصدر الأمر بتأليف مجلسين‏;‏ أولهما تحت اسم هيئة الوكلاء والآخر باسم مجلس الشيوخ الأعلى..‏
المجلس الأول كان أشبه بمجلس الوزراء حيث تم تعيين عبدالله بن الحسين لوكالة الخارجية وعبد العزيز بن على رئيسا للأركان وعلى مالكى وكيلا للمعارف ويوسف بن سالم وكيلا للمنافع العمومية ومحمد أمين وكيلا للأوقاف مع بقائه فى نظارة أمور الحرم‏,‏ والشيخ أحمد بن عبد الرحمن باناجه وكيلا للمالية‏.‏
المجلس الثانى برئاسة الشيخ محمد صالح الشببى ويتكون من أثنى عشر عضوا ووظيفته النظر فى كل ما يتعلق بمنافع البلاد والمراقبة على أعمال الدواوين والدوائر الرسمية وإبداء الرأى فيما تعرضه الدوائر على مقام وكيل رئيس الوكلاء‏.‏
لم يبق بعد كل ذلك سوى إضفاء الشرعية على الشريف حسين بعقد البيعة العامة له فى حفل كبير نشرت القبلة تفاصيله‏,‏ ونقلتها عنها الأهرام كان مما جاء فيها شهدنا صباح أول أمس جموع العرب من سلال ومضر وربيعة وقضاعة وقحطان وإخوانهم من مختلف الأمم والأوطان يهرعون من باب الصفا وبيت الله الحرام‏,‏ ألوفا بعد ألوف‏..‏ ولما كانت الساعة الثانية عربية كان جلالة الملك المعظم قد جاء من القصر الملوكى إلى مدرسته الملاصقة لبيت الله الحرام فدخل إليه يحف به آل البيت الأطهار‏,‏ وعلماء الشرع الأبرار‏,‏ ووجوه الأمة الأخيار‏.‏
بعد ذلك وعلى دكة أقيمت أمام رواق الحرم الشريف وقف الشيخ عبد الملك الخطيب يتلو نص البيعة ليكون جمهور الأمة على بينة ثم أقبل حضرة قاضى القضاة على يد حضرة صاحب الجلالة الهاشمية ملك البلاد العربية فبايعه وتبعه حضرات الأشراف والسادة ورجال الدولة والعلماء والأعيان ووفود البلاد فجماهير الأمة على اختلاف طبقاتها‏.‏
مع الاعتلاء الشرعى للشريف حسين للعرش يبدو كأن الرواية قد اكتملت فصولها‏,‏ إلا أنه قبل إسدال الستار لا نملك إلا ملاحظة قارئ أهرامى,‏ اسمه حامد إبراهيم‏,‏ امتلأت نفسه حماسا للمملكة العربية الوليدة فكتب سلسلة من المقالات يروج لها ويدعو لنصرتها‏,‏ بحكم ما تنم عنه هذه المقالات من موقف شريحة من المصريين‏..‏
المقال الأول لحامد إبراهيم جاء تحت عنوان ما يقوله المسلمون فى بيان الشريف الأعظم عن أسباب استقلال بلاد العرب نشرته الأهرام في‏2‏ سبتمبر عام1916,‏ المقال الثانى تحت عنوان قد أقام البرهان على حكمته‏-‏ فليسدد الله خطاه على غايته‏,‏ مقال آخر عنوانه الدولة العربية الجديدة‏-‏ الماضى والحاضر‏,‏ وثالث عنونه بــ صفحة من الماضى والحاضر‏-‏ استقلال بلاد العرب بزعامة أمير مكة‏-‏ آراء المصريين فى الأمر‏-‏ فتح طريق الحج‏,‏ أما آخر هذه المقالات التى وضعها القارئ المصرى فقد كان معبرا أشد التعبير عن تأييد صاحبنا للشريف حسين‏..‏ قال أنصروه‏-‏ تنصروا الإسلام ومدنيته‏.‏
غير أن احتفالات البيعة بكل طقوسها ومهابتها‏,‏ ودعوة الكثيرين من العرب ومنهم حامد إبراهيم لتأييد المملكة الوليدة لم تكفل لها طول العمر‏,‏ فقد انتقلت إلى ذمة التاريخ تحت أقدام أنصار عبد العزيز بن سعود‏,‏ ولم تكن قد بلغت من العمر السنوات العشرة‏,‏ وتحولت الوثبة الغضنفرية إلى وثبة فى الظلام‏,‏ وهذه قصة أخرى!‏