ads

Bookmark and Share

الجمعة، 2 يوليو 2010

258 ديوان الحياة المعاصرة


طاس صلاح الدين‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشر فى الأهرام الخميس 8 أكتوبر 1998


يشفى من لذع الحية والعقرب والحمى ويرجع الرجل إلى إمرأته المطلقة أو المهجورة ويشفى من نهشة الكلب العقور وآلام الأمعاء والمغص ووجع الرأس‏..‏ ويزيل فعل السحر ويوقف نزف الدم ويزيل إصابة العين ويخفف الأحزان ويزيل الهم وجميع الأمراض ما عدا الموت‏.‏ وإذا أريد طرد الروح الخبيثة من الأطفال يوضع فوق رؤوسهم‏.‏ وإذا أريد إبطال السحر يغسل به المسحور وإذا حملته العانس تزوجت‏..‏ الخ‏..‏ الخ‏
كان هذا بعض ما جاء فى محاضرة ألقاها صاحب السعادة البحاثة المحقق أحمد زكى باشا فى المجمع المصرى..‏ الموضوع عن طاس صلاح الدين أو طاس الخضة‏,‏ التاريخ‏:3‏ إبريل عام 1916,‏ القاعة‏:‏ غصت بالحاضرين من العلماء والأدباء يتقدمهم صاحب الدولة كبير الوزراء رشدى باشا‏,‏ أما المناسبة فقد كانت عثور العلامة المحقق على هذا الطاس فى الكنيسة القبطية المعلقة بمصر العتيقة وهذه الكنيسة يقصدها السياح لرؤية ما فيها من القديم‏,‏ ولكن الأثريين يقصدونها لرؤية الآثار كما يقصدها المؤمنون للتبرك‏,‏ ولهذه الكنيسة كما لغيرها من المعابد كنوزها وآثارها‏.‏
وإذا كان هذا الجانب من محاضرة شيخ العروبة يتعامل مع ما اتصل بالمعتقدات الشعبية فيما كان يسمى طاس الخضة‏,‏ فإن جانبها الأهم تناول هذا الطاس من الناحية الأثرية‏,‏ فقد طرح الباشا المحاضر رؤية خاصة لأصل الطاس كانت محل مناقشات واسعة وصلت إلى حد المعركة بين أحمد زكى من ناحية وبين على بك بهجت أحد كبار المعنيين بالدراسات الأثرية الإسلامية وأمين المتحف العربى,‏ كما كان يسمى وقتئذ‏,‏ من ناحية أخرى,‏ وهى معركة احتلت مساحة كبيرة‏,‏ ولأعداد متتالية فى جريدتنا خلال ربيع عام 1916,‏ ونبدأ بعرض أهم ما جاء فى هذه المحاضرة الخلافية‏.‏
طاس الخضة كان موضوع الجانب الأول من المحاضرة وهى من الآنية التى تحفظها العائلات القديمة فى منازلها بكل حرص‏,‏ وقد قدم المحاضر بعد ذلك للمشاهدين نموذجا منها‏..‏ طاسا من النحاس مثقوب الجوانب وداخله طاس آخر أصغر حجما ومربوط بالأكبر بخيوط من الثقوب‏,‏ ويتحدث زكى باشا عن هذا النوع من الطاسات وكيف أن الذين تتوفر عندهم يتكرمون بها على الناس تخفيفا لآلامهم شفقة وإحسانا لكن هناك شرطا لا بد من استيفائه وهو تقديم ضمان لصاحبه‏..‏ أما استخدام طاس الخضة فالطريقة فيه أن يملأ الطاس عند الذهاب لصلاة الفجر ماء ثم يغطسون بعض المفاتيح العادية بالماء الذى يظل معرضا لبرودة الجو طول الليل ليشربه المريض فى اليوم التالى وإذا كرر ذلك ثلاث ليال أو سبع ليال أو40‏ ليلة يشفى من أصابه المرض‏!‏
ويبدو أن أحمد زكى باشا كان حريصا على ألا يغضب الحضور من المؤمنين بفاعلية طاس الخضة‏,‏ ونظن أنهم كانوا كثيرين وقتئذ‏,‏ الأمر الذى دعاه إلى أن يتقدم بتفسير علمى مؤداه أن أكسيد المعدن الناتج عن صدأ المفاتيح الذى يتشبع به الماء هو الذى يؤثر على المرضى المتعاطين لهذا الدواء العجيب‏,‏ وهو على أى الأحوال دواء لم يصمد لتطورات الزمن‏,‏ حتى أننا لا نجد طاس الخضة الآن إلا فى المتاحف‏.‏
الموضوع الثانى,‏ وهو الأهم فى المحاضرة دار حول نوع آخر من الطاسات ذات القيمة الأثرية واختار واحدة منها على وجه التحديد هى طاس صلاح الدين الأيوبى.‏
يعرف الباحثون فى علم التاريخ تعدد مصادره بين وثائق ومخطوطات‏,‏ ونقوش على المبانى,‏ وبقايا آثار الأسلاف الغابرين‏,‏ فضلا عن المسكوكات والنميات‏,‏ وإن كان الملاحظ أن الطاسات لم يرد لها ذكر فى المراجع التاريخية التى عنيت بحصر تلك المصادر‏,‏ الأمر الذى أضفى على محاضرة الدكتور أحمد زكى أهمية كبيرة‏.‏
عرف الرجل الطاسات ذات القيمة الأثرية بأنها مدبجة فى الداخل والخارج بالآيات القرآنية والأدبية‏,‏ وعليها صور وحوش ضارية وحيات سامة وأسلحة قاطعة وفى قاع الطاس صورة الكعبة وفى ظاهر الطاس اسم صانعه وأسماء الأمراض التى يشفيها‏,‏ وعلى بعضها أسماء الكواكب التى رصدت يوم صنع الطاس‏.‏
تحدث عن أكثر من طاس من تلك الطاسات‏,‏ وقد لاحظ أنه كان يكتب عليها فى العادة اسم الحاكم الذى كانت تصنع فى عهده‏,‏ ثم عرض الطاس موضوع المحاضرة والذى استعاره من المسئولين عن الكنيسة المعلقة وأطلق عليه اسم صلاح الدين‏,‏ وكان مؤلفا من طاسين متداخلين‏,‏ أبيض من الداخل ونحاسى من الخارج وقد وفق فى صنعهما حتى أنهما ألفا طاسا واحدا‏.‏
وبكل الوسائل حاول الباشا المحاضر أن يدلل على أن الطاس المذكور قد صنع فى عصر صلاح الدين الأيوبى وأهدى إليه‏..‏
ومع أنه اعترف أن كثرة استخدام هذا الطاس بالذات قد محا كثيرا من الكتابات المحفورة عليه غير أنه استطاع أن يفك بعض رموزها‏..‏ عبارة بسم الله الرحمن الرحيم مكررة خمس مرات على رؤوس الآيات القرآنية الثمانى أما فى الآيات الثلاثة الأخرى فإنها ظاهرة ظهورا تاما‏,‏ وأنه يمكن قراءة هذه الآيات‏.‏
على الجانب الآخر كان عليه أن يفسر الأسباب التى جعلت هذا الطاس ضمن المقتنيات الأثرية لإحدى الكنائس‏,‏ وقد سعى لدى تقديمه هذا التفسير أن يكون متسقا مع فكرته أن الأثر الذى يعرضه ينتمى إلى عصر صلاح الدين‏..‏ قال‏:‏إذا عدنا إلى سيرة صلاح الدين عرفنا ما أظهره نحو الأوربيين من العطف ونحو رعاياه جميعا دون أن يميز بين مذهب ودين فى حسن المعاملة ومساواة الجميع‏,‏ لأنه كان عارفا بأصول دينه متبعا أحكامه يحمى جميع الذين يخالفونه بالعقيدة فلم يكن لسعة عقله ومداركه وصحة دينه يتخذ اختلاف العقائد سببا لاضطهاد الذين لا يؤمنون بالله فهو كان يحكم بالعدل بين جميع الناس دون ميل أو انحراف‏.‏
لهذا السبب‏,‏ يقول المحاضر أحب القبط هذا الملك العظيم الذى حماهم ورعاهم وعرفوا بظله أيام السعادة والهناء وأى دليل على ذلك أكثر من وضع صورته إلى جانب الآنية المقدسة‏,‏ وحتى لا يبدو وكأنه يلقى الكلام على عواهنه ذكر أن أحد أصدقائه جاء بصورة صلاح الدين من كتاب روسى,‏ وأن مؤلف هذا الكتاب اعترف بأنه أتى بها من أحد الأديرة القبطية والصورة التى نقلها صديقى هى الآن فى مكتبتى أعدها من أثمن الأشياء عندى,‏ وليس ذلك غريبا فإن صلاح الدين ترك لنا نقودا عليها صورته وفى المتحف الإنكليزى نماذج من هذه النقود‏.‏
بعد ذلك دلل أحمد زكى باشا على نسبة الطاس إلى صلاح الدين بقوله أنه قد توصل إلى هذا الاستنتاج بعد بحث طويل فقد لقب الأمير المهدى إليه الطاس بلقب‏(‏ قسيم أمير المؤمنين‏),‏ وهذا اللقب خص به أمراء مصر دون سواهم من أمراء المسلمين‏,‏ لأن السلطة الإدارية كانت للخلفاء فى بغداد الذين انتقلوا بعد ذلك إلى مصر‏.‏ فأمير مصر إذن قسيم أمير المؤمنين لأنه كان يتولى السلطة التى يستمدها نظريا من الخليفة‏.‏
دليل آخر مؤداه أن الأوربيين كثيرا ما ذكروا أن صلاح الدين ذاته كان طبيبا وأنه كثيرا ما كان يداوى أعداءه‏,‏ ثم ما جاء فى كتب العرب أنه كثيرا ما كان يبعث بأطبائه لمعالجة أعدائه‏,‏ وأن نسبة الطاس لصلاح الدين تتسق مع مثل هذا النهج الذى اختطه‏.‏
أخيرا فقد اعتمد المحاضر على نسبة الطاس لعصر صلاح الدين على الاسم وهو يوسف والكنية وهى أبو المظفر واللقب وهو قسيم أمير المؤمنين‏.‏
ولما كان عدد من حضور مثل هذه الندوات الهامة من كبار المتخصصين‏,‏ فان استنتاجات المحاضر التى يبدو أنها قد أعوزها الدقة لم تمر مرور الكرام‏,‏ حيث تعرضت لانتقادات حادة خاصة من على بك بهجت‏,‏ وقد شككت هذه الانتقادات فى أكثر من مقولة من مقولات أحمد زكى..‏
فند الناقد نظرية المحاضر مرتكزا على ثلاثة أسباب‏:‏
‏1)‏ سبب فنى وهو نوع الكتابة لأن المنقوش على الطاس يقرب برسمه من كتابة عصر المماليك أكثر من قربه من كتابة عصر الأيوبيين‏.‏
‏2)‏ إن التعبير بلفظ‏(‏ عز لمولانا السلطان‏)‏ الذى كان منقوشا على الطاس شاع استخدامه فى عصر دولة المماليك ويصعب قبول ذكره بجانب اسم صلاح الدين إذ أن أقدم أثر نقشت عليه هذه الجملة هو الطاس المحفوظ فى دار الآثار وهو المنسوب للمعز أيبك التركمانى وإن هذا التعبير ليس بالعربى الصحيح ولا تصح مقارنته بنصوص النقوش الكتابية الباقية من عهد صلاح الدين التى هى بدون ريب من قلم القاضى الفاضل وما أدراك من هو القاضى الفاضل؟‏!‏
‏3)‏ اعترض على بك بهجت على اللقب الذى خلعه صاحب المحاضرة على صلاح الدين‏..‏ لقب قسيم أمير المؤمنين مؤكدا أن أول من تلقب به من حكام مصر هم سلاطين المماليك وليس سلاطين الأيوبيين الذين سبقوهم فإن أول من تلقب به السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس لقبه به الخليفة المستنصر العباسى لما جاء مصر وفوض إليه السلطان أمر السياسة الدينية وحفظ لنفسه قيادة السياسة الدنيوية‏.‏
وقد دعم هذا الاعتراض بأن سائر النقوش التى وصلت من عصر صلاح الدين تؤكد أن اللقب الذى كان يستخدم للتعريف به هو لقب محيى دولة أمير المؤمنين‏,‏ وليس قسيمه‏,‏ فهذا نقش على قلعة الجبل جاء فيه‏:‏ أمر بإنشاء هذه القلعة الباهرة المجاورة لمحروسة القاهرة مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب محيى دولة أمير المؤمنين‏,‏ النص الثانى على أحد أبواب القلعة وجاء فيه أمر بإنشاء هذا الباب المبارك والسور المتصل به الملك الناصر جامع كلمة الإيمان سلطان الإسلام والمسلمين يوسف بن أيوب بن شادى محيى دولة أمير المؤمنين‏,‏ النص الثالث والأخير أورده على بهجت من جدران مدرسة بالقدس وجاء فيه‏:‏ هذه المدرسة المباركة وقفها مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شادى محيى دولة أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وجمع له بين خيرى الدنيا والآخرة‏!‏
لاحظ الحاضرون أن على بك بهجت كان يقرأ انتقاداته من ورقة أعدها سلفا مما كان محل استغرابهم غير أنه كان محل غضب المحاضر الذى كشف عن السبب‏..‏
فقد اعترف أحمد زكى أنه أطلع بهجت بك على المحاضرة قبل أن يلقيها ليأخذ رأيه فيها بصفته أحد كبار المعنيين بهذا الموضوع‏,‏ وأنه كان يتوقع أن يبدى ملاحظاته وقتئذ حتى يتداركها صاحب المحاضرة‏,‏ إذا كان فيها ما يستحق التدارك‏,‏ لا أن يفاجئه بها على رؤوس الأشهاد‏,‏ وعلى هذا النحو‏,‏ وهو فى ذلك رأى أن بهجت بك قد خالف حكم العرف والتقاليد المتبعة فى الجمعيات العلمية فى أمر المساجلات والردود‏.‏ ولو أنه ارتجل اعتراضه ارتجالا على البديهة دون استعداد سابق كما هو الحال فى أمثال هذه المواقف لما كنت شديدا فى حكمى على ما وقع فى اعتراضه من الخطأ‏.‏ أما وهو قد أنعم النظر وأطال البحث فقد كنت أتطلع أن يكون جوابه أسد مرمى وأن تكون نظريته مبنية على أسانيد صحيحة أو على الأقل على أقوال الثقاة ممن بحثوا فى هذا الموضوع‏.‏
ارتجالا‏,‏ وعلى غير ما فعله الناقد المتخصص‏,‏ وبشكل حفل بكل أسباب التحدى,‏ أخذ المحاضر فى تفنيد ما تقدم به على بهجت‏,‏ الأمر الذى أثبت به طول باعه وعمق خبرته فى الموضوع‏,‏ خاصة وأن المحاضرة والحوار قد جريا بالفرنسية‏.‏
نختار هذه اللقطة التى تؤكد على حدة المناقشة بين الرجلين‏,‏ ففى الخلاف حول تمتع صلاح الدين بلقب قسيم أمير المؤمنين‏,‏ والذى قال البك المناظر أن أول من تمتع به كان الظاهر بيبرس‏,‏ سلم الباشا أنه هو والبك مناظره قد استقيا معلوماتهما من مصدر واحد هو كتاب مجموعة الخطوط الذى وضعه فان برشم ولكن الفرق بينى وبين بهجت بك أنى لم أقصر بحثى مثله على هذا الكتاب بل عمدت إلى غيره من المؤلفات المعتمدة وإلى الآثار‏-‏ نعم عمدت إليها استنزل أسرارها واستجلى غوامضها حتى ألممت بموضوعى أيما إلمام‏,‏ فكان حديثى على علم تام‏.‏
وبعد معايرة زكى باشا لبهجت بك بنقص معلوماته سأله أن يقول فى هذه اللحظة إذا كان رأى وأين رأى التقليد الذى أصدره الخليفة لبيبرس وأعطاه فيه لقب‏(‏ قسيم أمير المؤمنين‏).‏ لست أظنه قادرا على الجواب فإن فان برشم لم يذكر هذا التقليد وهيهات أن يرى على بك شيئا فيما سوى كتاب فان برشم‏.‏
ويروى مكاتب الأهرام الذى كان حاضرا المناظرة أن زكى باشا توقف عندئذ عن الاستمرار فى الكلام منتظرا الرد فلم يجاوب على بك بهجت‏,‏ فقال أننى أفيدك الآن بأن ذلك موجود فى تاريخ الخلفاء للسيوطى المطبوع فى القاهرة‏,‏ والواضح أن صمت على بك بهجت عند هذه النقطة قد أفقده كثيرا من أسباب مصداقيته لدى الحضور‏,‏ الأمر الذى يمكن القول معه أن كفة الباشا قد رجحت فى وطيس هذا النقاش الحامى.‏
خرج الجميع بعد ذلك من المحاضرة يتحدثون عما جرى فيها‏,‏ وكيف أن طاس صلاح الدين قد أثار كل هذا النقاش بين عالمين من علماء الآثار الإسلامية‏,‏ وتصوروا أن المسألة قد انتهت عند هذا الحد‏,‏ غير أنه بعد أيام قليلة‏,‏ وبعد أن انتقلت المناظرة بين الرجلين إلى صفحات الأهرام علموا أنهم كانوا واهمين‏!‏
فى مقالين متتالين خلال الأسبوع الأخير من إبريل عام 1916‏ نقل على بك بهجت المعركة إلى الأهرام‏,‏ معللا بأن دافعه لذلك أن زكى باشا قد ذهب بهذا الخلاف إلى حد تجاوز حدود المناقشة العلمية المحض إلى الطعن الصرف‏,‏ ثم سخر من الأخير فى عرضه لفكرته لأنه خطب خطبته فى ذلك الجم الغفير بذلاقته المعروفة وضمنها الكثير من الحركات والإشارات‏,‏ واللطيف من النكات والحكايات‏,‏ مما أضحك الحضور وقضى له بالعجب بين الجمهور‏,‏ وما أوشك أن يتم كلامه حتى قام له هذا الضعيف وقال بعض كلمات شكك بها الحاضرين فى صحة نسبة الطاس إلى صلاح الدين‏.‏
بعد هذا التعريض اتهم بهجت بك إدارة الجلسة بأنها لم تتح له الوقت الكافى لشرح رأيه الأمر الذى دعاه إلى الكتابة للأهرام لتقديم وجهة نظره كاملة‏,‏ والتى لم تخرج عما قاله فى المحاضرة إلا فى بعض التفصيلات‏..‏ أسباب التشكيك فى صحة نسبة الطاس لصلاح الدين متصلة بنوع الكتابة وأن لفظ‏(‏ عز لمولانا السلطان‏)‏ لم يشع إلا فى عصر المماليك والتشكيك فى تلقيب صلاح الدين بقسيم أمير المؤمنين‏,‏ مما سبق له وأن تحدث به فى المحاضرة‏,‏ وانتهى إلى معاتبة زكى باشا على ما فرط منه فى حق صديقه وأذكره بصفتى أستاذه القديم بأن المناقشة لا تستدعى حتما المشاتمة وأختم كلامى بالصفح عنه وأسأله الصفح إن بدرت منى بادرة‏,‏ وهو ما لم ينزل منزلا حسنا عند الباشا‏,‏ الذى بادر إلى الرد فى ست مقالات متتالية‏!‏
المقالان الأولان وكانا تحت عنوان طاس صلاح الدين‏-‏كان طاسا فصار أثنين امتلأ أولهما بالطعن على أستاذى العتيق الذى ظن أنه يأخذنى على غرة من بعد استنامتى إليه ومن بعد استئمانى له‏..‏ فقط لأجل المعارضة أو لغرض آخر فى النفس يعلمه الله‏!‏
انتهز الفرصة ليشير إلى جهوده فى ضم الطاس موضع الخلاف إلى متحف الآثار العربية الذى يقوم على أمانته على بهجت بك‏,‏ وأنه ذهب مع مرقس سميكة باشا إلى المتحف القبطى فى الكنيسة المعلقة وبعد المفاوضات تكرم سعادته ووعد بأنه يحصل عليه ويدفع من ماله الخاص ثمنه بالغا ما بلغ ثم يقدمه هدية للمتحف العربى..‏ وفى المساء أخبرت بذلك حضرة صديقى القديم بهجت بك فأظهر لى مزيد الامتنان‏!‏
أخذ بعد ذلك على على بهجت أنه بعد أن أطلعه على المحاضرة فعل ما فعل يوم إلقائها حين انتصب واقفا وأخذ يتلو ردا مكتوبا بالحبر فى ورقة طويلة عريضة‏.‏ والعادة أن العلماء إذا اجتمعوا للمباحثة يأخذون تعليقات على ما يلقيه الخطيب فيكتبون رؤوس المسائل بالقلم الرصاص على ورق صغير موضوع أمامهم لذلك ثم يستأنسون به فى ردودهم وتعقيباتهم لئلا تخونهم ذاكرتهم أو يفوتهم شئ مما يريدون الكلام عليه‏.‏
رغم العنوان الذى يشير إلى أن زكى باشا قد عثر على طاس آخر يؤكد به وجهة نظره فإنه تناول ذلك فى سطور قليلة حين أشار إلى أن صديق جديد له اسمه محمد شافعى بك من رؤساء أقلام المالية سابقا جاءنى ومعه طاس آخر يشابه كل الشبه الطاس الأول حتى كأن صانعهما واحد‏.‏ ولكن الطاس الأخير لم يبله الزمان كما أبلى الأول فبقيت كل كتاباته مقروءة واضحة وكل نقوشه جلية ظاهرة‏.‏ أهم ما فى هذه الكتابات أنها كشفت بأن صناعة الطاس ونقشه قد حدث سنة‏085‏ هجرية‏,‏ أى فى عصر صلاح الدين وليس فى العصر المملوكى.‏
المقالات الأربعة التالية التى نشرتها الأهرام فى الفترة بين‏ 11‏ و 16‏ مايو عام 1916‏ وضعها أحمد زكى فى فصول وسماها تسمية غريبة‏..‏ طاس صلاح الدين‏-‏ ياغارة الله‏!‏
الفصل الأول عنوانه فى إثبات صحة الكتابة المنقوشة على الطاس‏,‏ بينما جاء عنوان الثانى فى شرح صيغة عز لمولانا السلطان‏,‏ والثالث تحت عنوان إيضاح على لقب‏(‏ محيى دولة أمير المؤمنين‏)‏ و‏(‏قسيم أمير المؤمنين‏),‏ أما عنوان المقال الأخير فقد كان كلمة إجمالية فى الألقاب الإسلامية التى نحن بصددها‏,‏ وقد ضم ثلاثة فصول‏.‏
حفلت هذه الفصول بتفاصيل علمية دقيقة قد يشق على غير المتخصص متابعتها‏,‏ ورغم أنها نشرت لقارئ الأهرام العادى فى ذلك الوقت البعيد‏,‏ غير أن الزمن غير الزمن‏,‏ الأمر الذى يدعونا إلى أن ننتقى منها ما يناسب قارئ العصر الحالى,‏ ويصرف عنه أسباب الملل‏!‏
أهم ما جاء فى الفصل الأول أن أنكر زكى باشا على بهجت بك قوله أن جميع الخطوط التى فى عصر واحد ينبغى أن تكون متشابهة متماثلة فكيف تريد ياسيدى أن تكون الخطوط المجودة التى تنقشها الدولة بصفة رسمية على آثارها الفخمة ومبانيها المشيدة مثل الخطوط التى يكتبها الأفراد على مصنوعاتهم الخزفية والمعدنية ونحوها كما هو الشأن فى طاس برسم صلاح الدين؟‏.‏
دار الفصل الثانى حول صيغة عز لمولانا السلطان التى أكد بهجت بك أنها لم تستعمل إلا فى عصر المماليك‏,‏ وقد طلب زكى باشا من أمين دار الآثار العربية أن يأتيه بمستند أو بقول رجل واحد قبله على أن هذه الصيغة لا يصح ذكرها بجانب اسم صلاح الدين وحينئذ ننزل على حكمه ونسلم بقوله‏,‏ غير أن أغلب هذا الفصل كان حول قول على بك أن بعض ما هو مكتوب على حوائط القلعة وأبوابها من وضع القاضى الفاضل‏,‏ وقد نجح من خلال عقد المقارنات ورصد حركة تنقلات هذا القاضى بين مصر والشام أن يقنع القارئ أن مثل تلك الكتابات بعيدة أن تكون من وضع هذا الأديب‏,‏ والحقيقة أن هذه القضية وإن شككت كثيرا فى مصداقية بهجت بك وعلمه غير أنها كانت قضية هامشية بالنسبة لموضوع الطاس‏.‏
فى الفصل الثالث ومع أن أحمد زكى أبدى فهمه بأن أكثر الألقاب استخداما فى توصيف صلاح الدين كان فعلا محيى دولة أمير المؤمنين إلا أنه رأى أن ذلك لا يمنع من استخدام اللقب الذى وجد على الطاس‏..‏ قسيم أمير المؤمنين‏..‏ فمحمد على الكبير كان لقبه الرسمى الوالى ومع ذلك فإن الكتب المطبوعة فى مطبعة بولاق فى عهده تسميه بالخديو مع أن هذا اللقب لم يعط بصفة رسمية إلا لحفيده إسماعيل‏,‏ فضلا عن ذلك فإن لقب القسيم لم يأت فى مدونة رسمية‏,‏ بمعنى أن صلاح الدين لم يطلقه على نفسه وإنما أطلقه عليه صانع الطاس‏,‏ وكان من رأيه أن استخدام الظاهر بيبرس السلطان المملوكى لهذا اللقب لم يحدث بشكل فجائى وأنه كان مستخدما من قبل‏.‏
المقال الرابع ضم ثلاثة فصول يعنينا منها ما جاء فى الفصل الخامس الذى أكد فيه على حقيقتين‏;‏ أولاهما‏:‏ أن استعمال هذه الأوانى واستعمال الرقية كان شائعا فى أيام صلاح الدين‏,‏ هذا من جانب‏,‏ وثانيتهما‏:‏ قبول الناصر هذا الطاس هدية له من جانب آخر‏,‏ وهو فى ذلك كان يرد على بعض ما جاء فى مقال بهجت بك من استنكار أن يقبل سلطان يحمل صفات مثل تلك التى تمتع بها مثل هذه الهدية‏!‏
وإذا كان ثمة ملاحظة أخيرة على طاس صلاح الدين فإنها تكشف عن حجم الاهتمام الذى كانت تحظى به مثل هذه المناظرات العلمية فى ذلك العصر‏,‏ وهو ما نفتقر إليه بعد أكثر من ثمانين عاما حيث تجرى تلك المناظرات فى القاعات المغلقة‏,‏ هذا إن جرت أصلا‏!‏