ads

Bookmark and Share

الخميس، 1 يوليو 2010

257 ديوان الحياة المعاصرة

فن العمارة العربية


د. يونان لبيب رزق


نشرت فى الأهرام    الخميس 1 أكتوبر 1998


محمود فؤاد المهندس بالأوقاف كتب فى خريف عام 1915‏ سلسلة من المقالات نشرتها له الأهرام تحت عنوان فن العمارة العربية لم نملك بعد قراءتها سوى أن نعيد نشر أهم ما جاء فيها بعد أكثر من ثمانين عاما‏..‏ الأسباب‏:‏ أن قارئ اليوم ربما يكون أشد حاجة من قارئ أوائل القرن للتعرف على هذا الفن وتاريخه‏,‏ أن المقالات كتبت بلغة سهلة وكان كاتبها واعيا أنه يضعها لجمهور القراء غير المتخصصين فجاءت خلوا من التعبيرات الفنية التى قد يصعب على غير المهندسين استيعابها‏,‏ فضلا عن ذلك فإن الرجل قد تعرض بالضرورة إلى فنون أخرى متصلة بالعمارة مثل فن الزخرفة وفن الكتابة مما أضفى على المقالات كثيرا من أسباب المتعة‏!‏
استهل محمود فؤاد سلسلة مقالاته فيما نشرته له الأهرام فى 19‏ أكتوبر عام 1915‏ برصد أسباب الصعوبة فى تناول مثل هذا الموضوع‏,‏ وكانت‏;‏ عدم وجود كتب عربية قديمة من تأليف العرب سوى المحفوظة فى مكتبات أوربا‏,‏ اضمحلال الفنون والعلوم العربية بالموت الأدبى للأمم الشرقية على وجه العموم حتى لم يبق لديهم أساس علمى يمكنهم من فهمها‏.‏
تحول بعدئذ ليسجل مفارقة غير طريفة مؤداها أنه فى الوقت الذى تقوم أوربا فيه بتأليف المؤلفات الضخمة بالفنون العربية المعمارية وغيرها نرى انتشار الطروز الأجنبية فى البلاد الإسلامية‏,‏ خصوصا فى مصر‏,‏ الأمر الذى لا يوافقنا حسا ولا معنى,‏ وهذه خاصية الأمم المتأخرة تقلد سواها ولا تفهم للتقليد معنى!‏
يعزو بعد ذلك الفضل للفرنسيين فى الحفاظ على آثار العمارة العربية‏,‏ فبعد قدومهم إلى مصر فى حملتهم الشهيرة عام 1798‏ أخذوا كثيرا من الكتب النفيسة التى كان أجدادنا قد أخفوها بعد الفتح العثماني‏.‏ ومما عملوه أنهم رسموا كل الآثار العربية على اختلاف أنواعها وعملوا لها أطالس عظيمة وهذه الرسومات ملونة بالألوان الطبيعية وأنه لعمرى عمل عظيم جدا‏,‏ ومما يدل على فخامة هذا العمل الجليل أن وزارة الأوقاف بمصر اشترت نسخة من هذه الأطالس من مدة قريبة‏..‏ كذلك كانت فرنسا السبب فى إنشاء لجنة حفظ الآثار العربية المصرية التى لها فضل عظيم فى حفظ الآثار المصرية جزاها الله عنا خيرا‏!‏
المقال الثانى أعطاه عنوانا فرعيا‏..‏ منبع فنون العمارة العربية‏,‏ وكان بمثابة استعراض تاريخى لتطور هذه العمارة‏..‏ البداية‏:‏ أن العرب فى مبدأ فتوحاتهم كانوا يستعملون بعض أعمدة الكنائس المتهدمة فى بناء المساجد ولأنها كانت قصيرة كانوا يصنعون فوقها عقودات فى غاية الإتقان والإبداع‏,‏ واستعمالهم لهذه الأعمدة فى مبدأ الأمر ما كان إلا لسرعة البناء لإقامة الشعائر الدينية فى المساجد التى يبنونها‏.‏
بعد استكمال الفتوحات واستقرار الدولة العربية الإسلامية انتبهوا لكافة العلوم والفنون والصنائع فأخذوا عن غيرهم فى أول الأمر ثم بعد ذلك صححوا ما أخذوه واكتشفوا من أنفسهم علوما وفنونا لم يسبقهم إليها أحد لأن الدرجة التى وصلوا إليها كانت تحتم عليهم الاختراع وعدم التقليد‏.‏
ويتحول مهندس الأوقاف عند هذه النقطة للرد على ما كرره البعض من أن العرب لم يكن لهم فن أصلى لأنهم استلفوا العناصر الأصلية من عماراتهم من الأمم التى تقدمتهم بأنه من البديهى أن قبل الوصول للاستنباطات الشخصية تستفيد كل أمة من الأمم التى تقدمتها بالأعمال وفى العصور المتوالية لتاريخ التصميم البنائى نرى نفوذ الماضى موجود دائما ومن ذلك نستنتج أنه لم يكن لأى عصر منها فن أصلى,‏ ولم يرد أحد أن يحافظ على فن من تقدمه كما هو‏.‏
الأصل الحقيقى فى رأى محمود فؤاد هو السرعة التى تعرف بها الأمة تغيير الأدوات الموجودة بأخرى مناسبة لاحتياجاتها ثم بعد ذلك تخترع فنا جديدا‏.‏ ولا توجد دولة فاقت العرب فى هذه النظرية‏..‏ فعقلهم المخترع ظاهر من ابتداء آثارهم الأولى كجامع قرطبة مثلا فهم الذين علموا الأجانب كيفية استعمال الاختلاطات الجديدة الأكثر أهمية‏,‏ وقد اخترعوا بذلك فنا جديدا منبعه ذكاؤهم‏.‏
ويستشهد صاحبنا فى هذه المناسبة بالنص الذى جاء فى كتاب مدنية العرب الذى وضعه جوستاف لوبون وكان يكفى إلقاء نظرة على أى أثر من آثار العرب كسراى أو جامع أو أى شئ بسيط لمعرفة أن هذه الأعمال الفنية مبينة لعدم وجود خطأ فى أصلها‏.‏ فمهما كانت كبيرة أو صغيرة فإن المخترعات المختلفة للشغل العربى ليس لها قرابة حقيقية عند مصنوعات أمة أخرى فمنبع فنونهم المعمارية وخلافها هو صريح وواضح‏.‏
فى المقال الثالث يشخص محمود فؤاد القيمة الفنية لفنون العمارة العربية‏,‏ وهو ينكر أن يكون عمل الفنان مجرد النقل من الطبيعة لأنه إذا انحصر الفن فى ذلك فيكفى وجود آلة الفوتوغرافيا ولا حاجة إذن لرجال فنيين يبحثون فى ترقية الفنون بل ترقية أفكار الأمة‏.‏
ويدلف من ذلك إلى تحديد العلاقة بين العمارة العربية والطبيعة‏,‏ فيرى أنها لم تنقل شيئا عنها كالإنسان والنبات والحيوان بل أن الطروز التى اخترعوها كانت ترمى إلى تجميل الطبيعة وكان إذا ما اقتضى الأمر بأخذ شئ من الطبيعة جملوه وجعلوه مفرحا للناظرين‏,‏ فمن ذلك الأسد الذى كان موجودا بقصر الحمراء بالأندلس فقد كان يعوم فى فسقية على شكل مركب وكان هذا الأسد عظيم الصورة لم يصنع أبهى منه وهو مطلى بذهب إبريز وعيناه جوهرتان‏.‏
ويأخذ الحماس الكاتب عندما يخلص إلى القول أن الفنون العربية هى الفنون الوحيدة التى حازت لشروط الجمال لا فى أمة واحدة بل فى الأمم كافة‏,‏ ويعود مرة أخرى لكتاب جوستاف لوبون لتدعيم هذا القول‏,‏ ويقتطف بعض ما جاء فيه من أن العرب كانوا ميالين فى جميع فنونهم خصوصا المعمارية إلى تجميل الطبيعة فهم رجال فنون بمعنى الكلمة‏.‏ وإنها أمة شعراء‏,‏ والشعر ما هو إلا فن‏,‏ صارت غنية جدا وانتشرت فى جميع الأقطار ونالت مدنية لم تنلها أمة أخرى لا يبعد عليها تحقيق أحلامها الخيالية الموجودة فى شعرها وهذا هو ما حصل تشهد به كل آثارهم من قصور شاهقة ومساجد فاخرة متناهية فى الجلالة والفخامة‏.‏
ويبرهن محمود فؤاد على ما حازته فنون العمارة العربية من شروط الجمال بما كانت تقوم به الشركات الأجنبية وقتئذ بعمل العمارات على الطروز العربية والدليل قريب جدا وهى بعض مبانى مصر الجديدة الحديثة‏.‏ فلولا استحسانهم لها وتفضيلهم إياها على غيرها ما قاموا بهذا العمل الجليل‏.‏
قبل أن يستعرض صاحب مقالات ما جاء به فن العمارة العربية من أشكال مبتكرة سعى للربط بين التقدم الذى أحرزه العرب فى هذا الميدان وبين تقدمهم فى سائر الميادين‏..‏
فهو يربط بين تقدم علم الجيولوجيا وبين طبيعة مواد البناء التى استخدموها‏,‏ والسبب الذى دفعهم إلى التوسع فى هذا العلم هو اتساع ملكهم ودراستهم جغرافيته الطبيعية والسياسية والتاريخية والرياضية والدينية والاقتصادية‏,‏ وأنهم لما درسوا جيولوجية الكرة الأرضية جلبوا المهمات المعمارية من بلدان مختلفة متباعدة‏..‏ ومرة أخرى يعود بنا الرجل إلى غرناطة للتدليل على صحة كلامه‏,‏ فيقول أنه لما شرع الملك الناصر فى بناء قصر الحمراء جلب الرخام الوردى والأخضر من أفريقيا والأبيض المجزع من إيطاليا وغير ذلك كثير‏.‏
ينبه أيضا إلى التطور الذى أصاب العمارة العربية فى طبيعة مواد البناء التى استخدموها‏,‏ فهم قد استعملوا أولا الطوب فيما يكشف عنه جامع طولون فى مصر‏,‏ ثم عرفوا بعد ذلك استخدام الأحجار فيما تنم عنه قصور مدينة كوبا فى جزيرة صقلية وبوابات مصر وجامع الحاكم بأمر الله ومسجد السلطان حسن‏,‏ واستعملوا فى أسبانيا نوعا من الأسمنت المسلح مكونا من مزيج الجير والرمل والطفل والحجار الصغيرة التى تصير صلبة كالحجر المنحوت‏.‏
أما الأشكال المبتكرة التى جاء بها فن العمارة العربية فيراها محمود فؤاد خمسة‏..‏ الأعمدة والتيجان‏,‏ العقود‏,‏ المنائر والمآذن‏,‏ القباب‏,‏ ثم الدلايات أو المقرنصات‏,‏ وقد أفرد لكل منها مساحة معقولة فى مقالاته‏..‏
الأعمدة والتيجان‏:‏ ويعترف أن العرب نقلوها أولا عن الآثار اليونانية والرومانية والبيزنطية والتى استخدموا أعمدتها فى مساجدهم وعماراتهم مثال ذلك جامع عمرو فى مصر‏,‏ غير أنه ما أن فرغ هذا المعين حتى بنوا أعمدتهم وكانت ذات طابع خاص‏.‏
والمعلوم أن العمود يتركب من ثلاثة أجزاء‏,‏ القاعدة والبدن والتاج‏,‏ وتتشابه الأعمدة اليونانية والرومانية والقوطية‏,‏ والتى لم تزد حلياتها عن أشكال نباتية تحفر فى التيجان فقط‏,‏ أما الأعمدة العربية فلم تأخذ عن غيرها بل كانت ابتكارا عربيا محض وهى فى الغالب محلاة فى أجزائها الثلاثة بالنقوشات المحفورة ومطعمة بالسن والعاج وتيجانها مزينة بالكرانيش والمقرنصات والنقوش البلدية‏,‏ ويعود مرة أخرى ليستشهد بأعمدة قصر الحمراء الموجودة فى حوش السباع‏.‏
العقود‏:‏ فلم يكن معروفا قبل العرب سوى العقد النصف أسطوانى,‏ وجاء هؤلاء ليقدموا أشكالا منها‏..‏ العقد الستينى,‏ العقد المخموس‏,‏ العقود ذات الثلاثة مراكز‏,‏ والعقود المكونة من أقواس ممزوجة بخطوط مماسة لها‏.‏
ويلاحظ صاحبنا أن أشكال العقود اختلفت باختلاف البلاد التى دخلها العرب فالعقود فى مصر كانت تبتدئ من القمة وتنتهى عند وترها ولم يكن نزول القوس أسفل الوتر ناطقا‏.‏ أما فى أسبانيا وأفريقيا فقد كان الأمر بالعكس فإن نزول القوس أسفل الوتر ناطقا مبالغ فيه يعطى للعقد شكلا خاصا يمكن تشبيهه بشكل نعل الجواد‏.‏ وصار ذلك من مميزات الفن العربى فى أسبانيا وأفريقيا‏,‏ ويخلص فى عرضه لهذا الشكل المبتكر من فنون العمارة العربية إلى القول أن أغلب العقود المستعملة الآن فى الطراز الأجنبى مأخوذة من العقود العربية بفضل بحث رجالهم واجتهادهم الذى عاد على فنونهم بالتقدم والنجاح‏.‏
المنائر والمآذن‏:‏ والتى أقيمت لمناداة المصلين وقت حلول الصلاة‏,‏ وقد اختلف شكلها من بلد إلى آخر‏,‏ فهى مخروطية أحيانا‏,‏ ومربعة أحيانا أخرى وأسطوانية أحيانا أخيرة‏,‏ وكان من الطبيعى أن يتوقف محمود فؤاد طويلا عند القاهرة باعتبارها مدينة الألف مئذنة‏,‏ إذ يجد الإنسان فيها أشكالا مختلفة وكثير من المنائر فى مصر أذكر منها منارة قايد بك والسلطان حسن تدهش العقول وتأخذ بالألباب لأنها جمعت بين البراعة الفنية فى نصبها والبراعة العلمية فى طرق قطع أحجارها وحساب مقاومتها وأخيرا البراعة الصناعية فى بنائها وترتيبها‏.‏
ويضيف أن المنائر فى مصر تتكون من دورين أو ثلاثة وأحيانا أربعة‏..‏ مربعة فى الدور الأول‏,‏ مثمنة فى الدور الثانى,‏ أسطوانية فى الدور الثالث وباجتماع هذه الأشكال المختلفة بطرق متناهية فى الدقة والجمال تتكون المنارة بشكلها البديع يقر بها الناظر وتشهد بما كان للعمارة العربية من التقدم فى قديم الزمان‏.‏
القباب‏:‏ ويقول محمود فؤاد أنها كانت معروفة من قبل عند ملوك الساسانيين‏,‏ وبدرجة أقل عند البيزنطيين‏,‏ وكانت أشكالها نصف كروية أى ذات مركز واحد‏,‏ أما فى العمارة العربية فقد اختلف الأمر‏,‏ فقد ابتكر هؤلاء القباب ذات القمم العالية والمنحنيات النازلة أسفل المراكز‏,‏ وهذا الابتكار شأنه فى ذلك شأن الابتكارات الأخرى يتناول أمرين‏..‏
الأول‏:‏ أن القباب العربية اختلفت باختلاف البلاد التى فتحها العرب ففى أفريقيا وفى القيروان منخفضة القمة وكانت تنشأ فى المساجد على العموم‏.‏ أما فى مصر فأشكالها ذات عظمة وأبهة محلاة من الخارج والداخل ولم تعمل إلا فى المساجد التى فيها مقابر أو على المقابر الخالية من المساجد كضريح الغورى مثلا‏.‏ وفى سوريا يوجد تشابه بين قبابها وقباب مصر إلا أنها ليست مكسية بالحليات‏.‏
الثاني‏:‏ أن أغلب القباب التى يتم تشييدها فى العصور الحديثة فى الطرازات الأجنبية وغيرها مأخوذة من القباب العربية ذات الأشكال المختلفة‏.‏
الدلايات أو المقرنصات‏:‏ وهى شبيهة بخلايا النحل وسميت بذلك لأنها تتدلى فى الفراغ فى طبقات مصفوفة ببراعة فنية‏,‏ وكانت وظيفتها أن تملأ الفراغ عند الانتقال من سطح مربع إلى سطح دائرى,‏ ومثل بقية ابتكارات العمارة العربية فقد اختلف شكل المقرنصات من بلد عربى إلى بلد عربى آخر‏,‏ غير أنها خاصة بالعرب ولم يعرف قبلهم شئ عنها فى أمة من الأمم‏.‏
ويتوقف محمود فؤاد عند استخدام هذا الابتكار فى مصر ويقول أن ذلك حدث فى عصر الدولة الفاطمية التى استقلت بحكم الديار المصرية مائتى سنة وثمانيا وستين كانت القاهرة تتسع فى مدة خلافة كل خليفة بما يستجد داخلها وخارجها من المبانى الفاخرة‏,‏ فهم أول من استعمل الأحجار فى المبانى المصرية وكانت القاهرة فى أيامهم مقرا للعلوم والفنون والصنائع ومقصدا للتجارة من جميع أطراف المملكة‏..‏ وأول مسجد استعملت فيه المقرنصات هو مسجد الأقمر بالنحاسين ومن بعده استعملت عند من أتوا من بعدهم كما يرى فى مسجد السلطان حسن بالقلعة ذلك المسجد النادر المثال لكونه عمل فى أكبر قالب وأضخم شكل وأحسن هندام‏!‏
المجموعة الثالثة من مقالات محمود فؤاد عن فن العمارة العربية خصصها للزخرفة أو ما يسميه الإفرنج‏(‏ أرابسك‏)‏ وقد حرفت قليلا عند الصناع الوطنيين وسموها‏(‏ عربسك‏),‏ وقد أسماها الرجل روح فن العمارة وإن كانت فرعا مستقلا بذاته أساسها النظام والأشكال الهندسية ومنبعها ذكاء العرب المدهش وما جبلوا عليه من قوة الإلهام والبراعة فى الخيال والميل إلى تجميل الطبيعة‏.‏
ويعتذر الكاتب فى مستهل هذه المجموعة الأخيرة أن شرحه سوف يبقى ناقصا للافتقار للرسوم والأشكال‏,‏ فلم تكن الصحف حتى ذلك الوقت‏,‏ بما فيها الأهرام‏,‏ تملك من الإمكانات الفنية ما تقدر معه أن تدرج مثل تلك الرسوم‏,‏ وإن كان قد أحال القارئ إلى المجلدين الكبيرين اللذين أصدرهما المسيو برجوان عن أشكال الزخرفة العربية‏,‏ ويضم كل منهما نحو ثلاثمائة لوحة‏.‏
بعض هذه اللوحات خاصة بالنجارة‏;‏ أبواب‏,‏ شبابيك‏,‏ مشربيات وغيرها‏,‏ ومنها ما هو خاص بأشغال الرخام والبلاط والموزاييك‏,‏ ومنها ما هو متصل بالأسقف وأشكالها‏,‏ وما هو متعلق بالتذهيب والتوريق‏,‏ وأخيرا ما هو مرتبط بأعمال الزجاج‏.‏
ويتوقف صاحب المقالات عند فن النقش الذى يدخل فى جميع أنواع الزخرفة العربية الناشئة من المضلعات والهندسة أو الناشئة عن الزركشة والكتابة العربية‏,‏ ويتوقف عند تصوير الكائنات الحية ويعترف أنها كانت موجودة فى فن العمارة العربية غير أنها اقتصرت على سرايات الملوك والأمراء وخلافهم‏,‏ أما المساجد فلا يصح تصوير الكائنات الحية فيها‏.‏ ويؤكد فى هذه المناسبة أن المسلمين تمسكوا فى بادئ الأمر بتحريم تصوير الإنسان غير أنهم بعد ذلك لم يلتفتوا إليها كثيرا كما يثبت ذلك من الآثار العربية الباقية‏.‏
يتوقف أيضا عند تلوين النقوش والصور ودهانها ويقرر أن العرب أحبوا تلوين نقوشهم بألوان مختلفة بطرق علمية وفنية وذلك فى جميع آثارهم فى المساجد والقصور والمحلات غير المقدسة وكانوا يرسمون الكائنات الحية كما هى بل كانوا يلونونها بألوان ذهبية وفضية وخلافها حسب الأصول الفنية‏..‏ ومع ذلك فإن زخارفهم ليست هى التى كانت ملونة فقط بل كثيرا ما نرى جميع أجزاء العمارة من حيطان وأعمدة وخلاف ذلك ملونة‏.‏ فسطح حائط الحمراء كان ملونا بألوان فاتحة كما هى ملونة جدران المسجد الداخلية‏.‏
كعادة محمود فؤاد فى رصد الاختلافات بين فن العمارة العربية فى سائر البلدان‏,‏ فقد تناول تلك الاختلافات فى هذا الجانب المتصل بالتلوين‏,‏ فالألوان المستخدمة فى تلوين النقوش فى مصر كانت متعددة‏;‏ الأحمر‏,‏ الأزرق‏,‏ الأصفر‏,‏ الأخضر‏,‏ الذهبى والفضى,‏ أما فى الأندلس‏,‏ وفى الحمراء على وجه التحديد‏,‏ فقد اقتصرت الألوان على أربعة‏;‏ الأزرق‏,‏ الأحمر‏,‏ الأصفر والذهبى وكان اللون الأكثر رونقا وظهورا وهو الأحمر يوضع فى الأجزاء الداخلية من الأشكال‏,‏ والأزرق يوضع فى المحيطات الخارجية بكيفية تجعله يشغل أكبر سطح لإظهار مزية اللون الأحمر واللون الذهبى,‏ وهذه الألوان مفصولة عن بعضها بخطوط بيضاء أو بالظل الحادث عادة من بروز الحليات أو منهما معا‏.‏
ويؤكد الرجل فى نهاية حديثه عن هذا الجانب فى فن العمارة العربية على ما اتصفت به تلك الألوان من ثبات وعدم تأثرها بالعوامل الجوية مع أنه مضى على بعضها أكثر من ألف عام وإذا قارنا ذلك بما يحصل للألوان الحالية عرفنا أن هناك سرا لا يزال غامضا عنا فى تكوين مواد الألوان‏.‏
ولا ينتهى الرجل من مقالاته قبل أن يخصص مكانة معتبرة للكتابة العربية لما كانت تحتله من مساحة أساسية فى فن العمارة العربية‏..‏
فى البداية خصص لها جانبا من موضوعه عن الزخرفة‏,‏ وكيف أنها موجودة فى كل الآثار تقريبا‏,‏ وأن الكتابة الكوفية استعملت فى مبدأ الأمر ثم الكتابة البغدادية والتى تخالف الكتابة الكوفية فى الميل إلى إجادة الشكل وحسن الرسم وبعد ذلك فى عصر المأمون استعملت الكتابة التى نعرفها اليوم وهى الثلث والنسخ والرقعة‏.‏
وقد لاحظ أن الكتابة التى تزخرف بها العمارة كانت فى الغالب آيات قرآنية والبسملة وقاعدة الإيمان عند المسلمين وهي‏(‏ لا اله إلا الله محمد رسول الله‏)‏ وخلاف ذلك مما يذكر المسلم بواجباته الدينية والدنيوية‏.‏
ويبدو أن محمود فؤاد قد لاحظ أن الكتابة العربية تستحق قسما خاصا‏,‏ الأمر الذى دعاه فى النهاية إلى أن يخصص لها أكثر من مقال قدم فيها بحثا فى تاريخ الكتابة‏..‏
المقال الأول خصصه للكتابة الهيروغليفية تأسيسا على أن المصريين القدماء كانوا أول من ابتكروا الكتابة الصورية وقد وجد الأثريون طرقا عديدة للوصول إلى فهم الكتابة الهيروغليفية والمدار فهمها على الرسم إذ لا يمكن قراءة كلمة منها إلا بعد حفظ الإشارات‏.‏
يصنف بعدئذ اللغات فى العالم فى ثلاث مجموعات‏;‏ السامية‏:‏ وأشهر مستخدميها المتكلمون بالعربية والعبرانية والسريانية والكلدانية والحبشية‏,‏ والآرية‏:‏ وهى جنوبية وشمالية أما الجنوبية فهى المنتشرة فى الهند وفارس‏,‏ وأما الشمالية فهى اللغات المعروفة بالهندية الأوربية وتشمل لغات أوربا وأمريكا وتكتب بالحروف اللاتينية أو اليونانية أو السلافية‏,‏ أخيرا اللغة التورانية التى يتحدث بها الأتراك‏.‏
وقد لاحظ محمود فؤاد فى نهاية تلك المقالات أن الحروف العربية‏,‏ ونتيجة لانتشار الإسلام‏,‏ قد دخلت فى الكتابة فى مجموعتين أخريين غير المجموعة السامية التى تنتمى إليها‏,‏ فهى قد دخلت فى المجموعة الآرية بعد أن اتخذها الفرس كأداة لكتاباتهم‏,‏ ودخلت فى المجموعة التورانية بعد أن كتب بها الأتراك‏,‏ وهى بالتالى فرضت نفسها على فنون الزخرفة المعمارية التى عرفتها تلك البلاد‏.‏
صحيح أن الأتراك قد تخلوا عن الكتابة العربية واستخدموا الحروف اللاتينية خلال العشرينات فى عهد كمال أتاتورك غير أنهم لم يتمكنوا أبدا من تغيير تلك الكتابة التى حفلت بها القصور والمساجد‏,‏ والتى بقيت جزءا أصيلا من التراث المعمارى التركى!‏