ads

Bookmark and Share

الأحد، 30 مايو 2010

256 ديوان الحياة المعاصرة

جمعية أنصار التمثيل


د. يونان لبيب رزق


نشرت فى الأهرام    الخميس 24 سبتمبر 1998


عبد الرحمن رشدي‏,‏ سليمان نجيب‏,‏ محمد عبد القدوس‏,‏ محمد تيمور‏:‏ شخوص لمعوا فى سماء الفن والأدب وارتبطت أسماؤهم ربما بأشهر الجمعيات الفنية التى عرفها تاريخ المسرح المصري‏..‏ جمعية أنصار التمثيل‏,‏ والتى تضاربت الأقوال فى تحديد تاريخ مولدها‏..‏
قاموس المسرح الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب يحدد هذا التاريخ بأواخر عام 1912 حين أقدم لفيف من الشبان المثقفين على رأسهم محمود عبد الرحيم لاشين المدرس بالسعيدية الثانوية على إنشائها بهدف تقديم مسرحيات جيدة مترجمة تعالج الأفكار والموضوعات الاجتماعية من خلال أساليب فنية متقدمة عن الفن المسرحى الشائع حينئذ‏.‏
الأهرام فى عددها الصادر يوم ‏8‏ يناير عام 1915‏ كانت أكثر دقة فقد حددت تاريخ الميلاد بيوم الجمعة 20‏ مارس عام 1914,‏ وتؤكد أن الجمعية نشرت يومئذ قانونها الذى أوضحت فى مادتيه الثانية والثالثة الغرض من تأليفها‏,‏ وكان ترقية التمثيل فى مصر ليكون قوميا مستقلا بذاته‏,‏ أما وسائل تحقيق هذا الغرض فقد كانت ثمان‏;‏ ترجمة ونشر الكتب والمقالات وإلقاء المحاضرات التى تنبه الأمة إلى فوائد التمثيل وتوجه عنايتها إلى الأخذ بنصرته‏,‏ ترجمة وتأليف الكتب التى تشرح طرق التمثيل على اختلافها‏,‏ تأليف روايات تمثيلية مستنبطة موضوعها من حوادث هيئتنا الاجتماعية الحاضرة أو من حوادث تاريخ مصر أو الأمة العربية أو غيرها‏,‏ تمصير موضوعات الروايات الأجنبية التى يمكن تطبيقها على الأحوال المصرية‏,‏ ترجمة خير الروايات الأجنبية إلى اللغة العربية على شريطة أن يشمل ذلك كله مغازى ذات عبر وعظات تفيد المجتمع المصري‏,‏ تدريب الراغبين من أعضاء الجمعية على التمثيل وتأليف فرقة منهم تقوم بتمثيل ما تقرر الجمعية تمثيله من الروايات‏,‏ البحث فى الروايات التمثيلية وتشجيع وانتقاد المؤلفين والمترجمين والممثلين‏,‏ وأخيرا السعى إلى إنشاء مجمع تمثلى عام‏.‏
وتنتهز الأهرام الفرصة لتنقل عن الجزء الرابع من كتاب جرجى زيدان تاريخ آداب اللغة العربية بعضا مما سجله عن تاريخ جمعيات التمثيل العربية‏,‏ فذكر أنها نشأت مع التمثيل العربى فى سوريا لأن السوريين كانوا منذ ظهور هذا الفن عندهم يتألفون للتمثيل جماعات يعقدون الاجتماعات لدرس الرواية وتدبير ما تحتاج إليه من النقود ونحوها‏,‏ وهو ما لم يمض وقت طويل حتى كان قد انتقل إلى مصر‏.‏
يذكر زيدان أن أقدم تلك الجمعيات التى تألفت على أرض الكنانة كانت الجمعية التى ألفها عبد الله نديم من تلاميذ المدرسة الخيرية الإسلامية بالإسكندرية ومثلت روايتين وطنيتين فى مسرح زيزينيا الأولي‏:‏ الوطن والثانية‏:‏ العرب وكلاهما من تأليف عبد الله نديم وكان يرمى بهما إلى غرض سياسي‏.‏
تبع ذلك كما يقول صاحب كتاب تاريخ الآداب العربية تأليف خمس جمعيات كانت بترتيب ظهورها‏;‏ جمعية الابتهاج الأدبى التى ألفها سليم عطا الله فى الإسكندرية أيضا‏,‏ ثم جمعية الترقى الأدبى وشركة التمثيل الأدبى وجمعية المعارف الأدبية التى تألفت عام 1900‏ وأخيرا جمعية أنصار التمثيل‏,‏ أشهرها ذكرا وأطولها عمرا‏!‏
ويخصص جرجى زيدان مساحة متميزة للجمعية الأخيرة جاء فيها من ضمن ما قاله عنها‏:‏ آخر جمعية فى سبيل التمثيل أنشئت فى القاهرة فى أول هذا العام‏(1914)‏ غرضها إحياء هذا الفن بإلقاء الخطب والمحاضرات وتأليف الروايات فى مواضيع مستنبطة تلائم حياتنا الاجتماعية وترجمة ما يفيد الناشئة من الروايات الأجنبية وتدريب الراغبين فى هذا الفن وغير ذلك‏.‏
مصدر هذا الاهتمام الذى لقيته جمعية أنصار التمثيل يأتى فى تقديرنا من أمرين‏;‏ أولهما‏:‏ المركز الأدبى الذى يحتله منشئوها وليس أدل على ذلك من ذكر أسماء أعضاء لجنتها الإدارية‏;‏ محمد أفندى عبد الرحيم الأستاذ فى مدرسة السعيدية‏,‏ حسين أفندى فتوح الموظف فى نظارة المعارف‏,‏ أحمد نجيب ربيع المحامى بالأوقاف‏,‏ إبراهيم رمزى المترجم فى وزارة الزراعة‏,‏ أحمد حلمى الموظف بالمالية‏,‏ أحمد صادق عفيفى المترجم بقلم الترجمة والنشر‏,‏ إسماعيل عبد المنعم مراقب القسم الليلى فى مدرسة التجارة‏,‏ نقولا بيور المدرس بالمدارس الأهلية‏,‏ عبد المجيد محمد سكرتير مدرسة التجارة العليا‏.‏ الثاني‏:‏ أن مجمل هؤلاء كما يلاحظ وباستثناء حالة واحدة كانوا من المصريين‏,‏ ومن غير المشتغلين بالتشخيص‏,‏ ممن كان ينظر إليهم نظرة دونية وقتئذ‏,‏ على خلاف الحال مع الجمعيات السابقة التى غلب عليها السوريون فضلا عن المشخصاتية‏.‏
بدا ذلك الاهتمام فى متابعة الصحف لنشاطات الجمعية الجديدة منذ الشهور الأولى لظهورها‏,‏ ويقدم التقرير الذى نشرته الأهرام عن اجتماع أعضاء الجمعية31‏ يوليو عام 1914‏ فى النادى الأهلى للرياضة البدنية فى الجزيرة صورة لذلك‏..‏ الاجتماع قصده الأعضاء وغيرهم من أهل الفضل والأدب فلما انتظم عقدهم أديرت عليهم أطباق الجيلاته‏,‏ وأخذ فريق من الأعضاء يلقى قطعا أدبية منتخبة لإدراك مقدرتهم على التمثيل والإلقاء‏.‏
تقول الأهرام وصفا للحفل بأن الأعضاء أعجبوا بإجادة أحد هؤلاء فى تمثيل قطعة من رواية إنكليزية حتى كان يخيل إلى الواقفين على أسرار اللغة الإنكليزية والتمثيل الإنكليزى أنهم فى أحد مسارح لندن‏,‏ وختم حسين أفندى قدري‏,‏ الصيدلى الذى تلقى علومه فى أوربا‏,‏ الجلسة بتمثيل كيف يتزوج المصرى فأبدى من المهارة فى التقليد ما يعجز عنه أكبر الممثلين الهزليين‏.‏
وتتوقف جريدتنا عند حسين أفندى قدري‏,‏ فقد حضر مكاتب للأهرام إحدى السهرات التى أقامتها الجمعية فى أواخر يناير عام 1915‏ واستمع لمحاضرة له تكلم فيها عن الممثل والغرض من عمله وفائدته للمجتمع ثم عطف على تاريخ التمثيل فى مصر ووصف كيف كان الممثلون وكيف كان تمثليهم منذ عشرين سنة ثم طفر إلى الكلام عن التمثيل فى السنوات الأخيرة وأشار إلى موقف المرأة المصرية من حركة التمثيل وأبدى أسفه وحزنه لما يراه من تهتك‏(‏ بنات البلد‏)‏ فى المواخير وعلى مراسح القهوات الراقصة وحث الجمعية على إبراز المرأة المصرية إلى مرسح التمثيل الراقي‏..‏ وإنى أعلم أن هذا الطلب لا يقابل بالرضا ولذلك أقول أنه إذا تعذر إخراج بنات البيوتات وتلميذات المدارس إلى المراسح وجب جمع فريق من بنات الشوارع وتعليمهن كيف يكن ممثلات‏,‏ ولعل الدكتور قدرى كان يدرك بتلك الكمات الأخيرة ما يمكن أن تلقاه دعوته تلك من اعتراضات‏,‏ وهو ما لم يتأخر كثيرا‏.‏
ما أن انتهى حسين أفندى قدرى من كلمته حتى هرع أحد أعضاء نادى الموظفين الذى كان محل الاجتماع إلى المنصة وعلى محياه علامات الكدر والانزعاج على حد توصيف مكاتب الأهرام‏,‏ واعترض على ما قاله الخطيب عن خروج المرأة المصرية سافرة على المسرح تمثل بين الرجال فباسم النادى أحتج على اقتراح الخطيب وأطلب من الهيئة التصديق على أن وقوف المرأة المصرية على المرسح أمر مخالف للدين والآداب والعادات‏,‏ وفتح عضو نادى الموظفين‏,‏ الذى لم تذكر الأهرام اسمه‏,‏ الباب لمناقشة قضية اشتغال المرأة المصرية بالتمثيل‏.‏
جرت هذه المناقشة أولا على مستوى أعضاء الجمعية حتى أن رئيسها‏,‏ محمد أفندى عبد الرحيم‏,‏ اضطر إلى القول أن المسألة يصعب الحكم فيها وعليه يجب الاستعانة بالممثلات السوريات أو الإسرائيليات وترك ظهور المرأة المصرية على المرسح إلى الزمن وهو دون سواه الكفيل بتحقيقها‏.‏
الأهم أن المناقشة قد خرجت من قاعة نادى الموظفين لتجد طريقها إلى أعمدة الصحف التى ناصر بعضها الموظف المحافظ وانحاز البعض الآخر للصيدلى المتنور‏,‏ وكانت الأهرام من بين صفوف المنحازين‏,‏ الأمر الذى بدا فى أنها خصصت خلال صيف عام 1915 جانبا من مساحتها لسلسة من المقالات وضعتها ممثلة اسمها مريم سماط تحت عنوان مذكرات ممثلة‏-‏ التمثيل العربي‏.‏
استهلت السيدة سماط مذكراتها بأنى وقفت على المسارح العربية أمثل للشعب المصرى الكريم مختلف حوادث التاريخ منذ خمس وعشرين عاما كنت خلالها موضع احترام مديرى الأجواق والممثلين‏,‏ وقد أرادت من وراء ذلك الاستهلال أن تؤكد على أن التمثيل لا يخدش مكانة المرأة‏,‏ وأنه لا يزال مدرجة من مدارج الرقى ونهجا من مناهج العزة القومية لذلك خصصوا له فى أوربا المدارس الفنية لتخرج فيه أساتذة شادوا مجد هذا الفن وأقبل الكتاب يقصون القصص فأخرجوا من كنوز التاريخ والأدب والاجتماع والعظة والخيال ما ربوا به نفوس ناشئتهم وهذبوا أخلاق أبنائهم‏.‏
ولأن صاحبة المذكرات كانت أول من وقف على المسرح المصرى من النساء‏,‏ كما تقول‏,‏ بديلا عن الرجال الذين كانوا يقومون بتمثيل أدوار المرأة‏,‏ وكانوا من شبان الممثلين الذين لم تطل شواربهم‏,‏ فإنها حرصت على أن تروى تجربتها فى هذا الشأن كاملة‏..‏
التجربة بدأت قبل خمسة وعشرين عاما‏,‏ كما ذكرت‏,‏ حين جاءت من سوريا لترى والدها الذى كان يشتغل بتجارة الجواهر والأحجار الكريمة فى مصر وكانت تربطه صلة متينة مع اسكندر أفندى فرح‏,‏ صاحب الدور المميز فى نشأة المسرح فى مصر والذى كان قدكون فرقة مسرحية عام 1891,‏ وأن هذا الأخير حين جاء لزيارة الخواجة سماط ورأى مريم حبذ لوالدى التمثيل وأثنى عليه وحبب إلى الوقوف على المرسح وأفاض فى جلال الممثلة الغربية وما هى عليه من سمو المقام فمثلت لأول مرة دور بانيم فى رواية متريدلت مع أعضاء جماعة المعارف وكان لهذا الحادث رنة لا أزال أسمع دويها للآن‏.‏
وتحدثت مريم سماط فى هذه المناسبة عن جماعة المعارف وأنها رأت فى أعضائها ما يشرح الصدر ويقر العين فقد كان الاتحاد سائدا بينهم والثقة متوفرة ونكران الذات فى خدمة المصلحة العامة وتعلق على ذلك بالقول من الغريب أن يكون التمثيل فى عهده الأول أيام كان الشعب أقل قبولا للعلم منه الآن أرقى منه فى هذا العهد الذى انتشر فيه العلم وكثر المتعلمون‏!‏
لم يمض وقت طويل حتى انتقلت الممثلة صاحبة المذكرات إلى فرقة أبو خليل القباني‏,‏ وكان لديها عليها ملاحظتان‏;‏ أولاهما‏:‏ أن الممثلين كلهم سوريون وليس بينهم مصرى واحد لأن هواة هذا الفن منهم كانوا يندمجون فى سلك الجماعات ويكونون لهم مراسح خاصة‏.‏ وثانيتهما‏:‏ أن وجود هذه الفرق ذات الملكية الفردية كان مرهونا بصاحبها‏,‏ وتعلق صاحبتنا على هذه الظاهرة بقولها أن كل عمل لا يعتمد فيه إلا على الرأس فقط دون الحيطة إلى ما يصيب ذلك الرأس يوما حتى إذا فاجأه حادث شلت الأعضاء وأصبحت عاطلة لا تستطيع عملا‏,‏ أما سبب هذا التعليق فقد كان ما نتج عن اعتذار القبانى عن مواصلة التمثيل بحجة أن زوجته على خطر من مرض شديد فسافر وانحل الجوق‏!‏
فى سياق مذكراتها تروى لنا مريم سماط كيف أن أخريات قد بدأن فى الوقوف على المسرح وتذكر فى هذا الصدد السيدتين الشهيرتين مريم ولبيبة‏,‏ فهى بعد أن اشتغلت فى فرقة جديدة ألفها اسكندر أفندى فرح مع أبيها‏,‏ كان أغلب أعضائها من المصريين‏;‏ أحمد فهيم‏,‏ أحمد فهمي‏,‏ عمر فائق ومحمود حبيب وغيرهم‏,‏ دب الخلاف بين الرجلين خاصة بعد أن سعى فرح للاستقلال بالفرقة‏,‏ ويبدو أن صاحبتنا قد اتخذت موقفا عنيفا فى انحيازها لأبيها‏.‏
فى ليلة كان مفروضا أن تقدم الفرقة رواية عايدة‏,‏ وبعد أن ازدحم المسرح بالجمهور اختفى الممثلون بتحريض فيما يبدو من مريم سماط‏,‏ وخرج أحد الممثلين للحضور ليعتذر لهم عن تمثيل الرواية لإصابة إحدى الممثلات بمرض فجائى وهى صاحبة الدور الأكبر وهو عذر قبله الجمهور آسفا وخرجوا بعد أن أخذ كل منهم نقوده‏,‏ وإذا كانت صاحبة المذكرات لم تفصح عن ماهية هذه الممثلة إلا أن كل الأصابع تشير إلى أنها كانت هى ذاتها‏..‏ الممثلة صاحبة الدور الأكبر‏,‏ مما يوضح أن قلة النساء على خشبة المسرح قد أعطاهن وضعا متحكما‏!‏
أدى ذلك إلى حل الفرقة وإلى أن تتجه صاحبة المذكرات إلى العمل فى تياترو عبد العزيز حديث الإنشاء حيث اشتغلت مع الشيخ سلامة حجازى الذى ضمت فرقته السيدتين مريم ولبيبة‏,‏ غير أن الفرق المسرحية فى ذلك العصر فيما يبدو كانت لا تحتمل أكثر من ممثلة واحدة‏,‏ فيما روته مريم سماط فى تجربتها فى فرقة سلامة حجازي‏.‏
فهى من ناحية أخذت على الممثلين الرجال عدم استماعهم لنصائحها رغم رسوخ قدمها وطول خبرتها‏,‏ ليس لسبب سوى أنها امرأة‏,‏ وهى من ناحية أخرى قد دخلت فى صراعات مع سائر الممثلات‏,‏ مريم ولبيبة‏,‏ فهى تقول أن الغيرة دبت فى قلوبهن واشتعل لهيبها ولم تستطع حكمة الشيخ سلامه أن تخمد هذا اللهيب وتقمع تلك الثائرة لأن إحداهن كانت فى ذلك الوقت قد تمكنت من قلب الشيخ سلامه فضاعت المصلحة وأصبح الوفاق مستحيلا فأردت أن أخلى لهن الجو عملا بذلك المبدأ القويم‏(إن لم يكن وفاق ففراق‏)!‏
فى الحلقة الأخيرة من مذكرات مريم سماط تشير إلى التجربة التى أقدم عليها القرداحى لتفريخ الممثلات فتقول أنه كان يأتى بالفتيات الفقيرات إلى داره يعلمهن التمثيل‏,‏ وكانت السيدة المسز استاسى الممثلة الأولى بجوق جورج أبيض وحجازى إحدى هؤلاء اللواتى آواهن القرداحى وعلمهن التمثيل وهيأهن للمراسح العربية‏,‏ مما كان خطوة هامة نحو توفير العنصر الأنثوى للمسرح‏,‏ ولعل ما عمد إليه القرداحى فى هذا الشأن هو نفس ما كان نصح به الدكتور حسين قدرى عضو جمعية أنصار التمثيل من قبل‏.‏
وكما طرحت الجمعية مع مولدها قضية اشتغال المرأة بالتمثيل‏,‏ فقد أشعلت بعد تقديمها لأولى مسرحياتها تحت اسم الممثل قضية النقد الفني‏,‏ ولهذا قصة أخري‏..‏
فى أول يناير عام ‏1915‏ قدمت الجمعية رواية من تأليف رئيسها محمد عبد الرحيم عن حياة واحد من أشهر الممثلين البريطانيين واسمه دافيد جارك‏..‏
الرواية باختصار أن ثريا إنجليزيا شهيرا علم أن ابنته وقعت فى حب الممثل بعد أن شهدته يؤدى بعض أدواره‏,‏ ولما كان الرجل يخطط لتزويجها من أحد اللوردات فقد تقدم بعرض لجاريك أن يدفع له خمسة آلاف جنيه فى مقابل كل عام يقضيه خارج البلاد‏,‏ وبينما رفض الأخير العرض إلا أنه قبل دعوة من جانب الثرى لحضور حفل ليداوى الفتاة من حبها له‏!‏
ومع أن الممثل وقع فى غرام ابنة الثرى بعد أن رآها لأول مرة إلا أنه وفاء بوعده تظاهر بأنه من أكثر الناس إدمانا للخمر مما أدى إلى طرده من الحفل وإلى حرمانه من عضوية جمعية التمثيل‏,‏ وإلى قبول الفتاة للزواج بمن رشحه لها أبوها‏,‏ غير أنها اكتشفت الحقيقة بعد قليل فذهبت إلى جاريك وطلبت منه أن يفر بها إلى مكان قصى فأبي‏,‏ وأدى ذلك الموقف الشريف إلى أن يقبل والد الفتاة بتزويجها إياه بعد أن تنازل له اللورد عن خطيبته‏,‏ وعاد المستر جريك إلى النادى معززا مكرما‏,‏ وتوته توته خلصت الحدوته التى اقتبسها فيما بعد كثير من الأفلام المصرية‏!‏
هاجم عدد من الأقلام الرواية كان من أقساها ما جاء فى جريدة الأفكار من قول ناقدها سمعت بعضهم يقول أن الرواية ليست من وضع محمد افندى عبد الرحيم كما ادعى بل هى رواية إنكليزية الأصل عربها حضرته فكان تعريبها سيئا فرفضتها الجمعية واضطر أن يبدل فى أجزائها حتى جاءت كما رأيناها فى تلك العشية من النقص والفتور‏!‏
تصدت الأهرام لهذه التهمة وفندتها بقولها أن سيرة جارك معروفة مشهورة وأسراره فى صفحات الكتب مهتوكة ولم يكن من الصعب على أديب مثل محمد عبد الرحيم أن ينشئ لنا منها رواية‏,‏ الأهم من ذلك أن النقاد عابوا على الرواية لغتها ووصفوها بالركاكة والخطأ‏,‏ وهو ما لم يعجب الناقد الفنى لجريدتنا‏.‏
كتب يقول‏:‏ لغة رواية الممثل سلسة بسيطة أقرب إلى لغة الصحف‏.‏ وإن كان فيها شئ من الخطأ فهو الذى يقع فيه القائمون بالكتابة فى أكثر جرائدنا‏,‏ وهو ينتهز الفرصة لينحى باللائمة على المتصدين للكتابة فى التمثيل ونقد الروايات من أن أحدا منهم لم يقل ما هى اللغة الصالحة للمسارح الجاهلية المحضة التى لا يفهمها أحد؟ أم العربية المزدحمة بالألفاظ المهجورة التى تتجلى فيها صناعة البديع ومحسناته؟‏.‏
ويسوق الكاتب الأهرامى فى هذه المناسبة فقرات من الرواية يستشهد بها على حسن لغتها‏,‏ منها قول الممثل لوالد الفتاة الذى حاول أن يحقر من مهنته إننى ممثل ياسيدى ولى الشرف بأن أكون كذلك وفى مهنتى هذه منتهى سعادتي‏,‏ وفى قولته للفتاة عندما عرضت عليه أن يهرب بها من بيت أبيها إن الحياة بقربك هى الحياة السعيدة ولكن إن أنا أقدمت على هذا العمل أصبحت مهانا أمام نفسى إذ فى اعتقادى أن الرجل الذى يسترق الفتيات لهو لنذل الجبان‏.‏ كلا كلا لست من هؤلاء‏.‏ أفضل أن يقتلنى غرامى عن أن أنزل إلى هذا الدرك السحيق وهنالك شئ آخر هو سمعتك‏.‏ إن سمعة الفتاة رأسمالها فإذا خسرتها خسرت كل شئ‏,‏ وفقرات عديدة أخرى تثبت حسن لغة رواية الممثل‏.‏
وقد فتحت المناظرة حول رواية الممثل شهية آخرين للولوج إلى ميدان النقد الفني‏,‏ كان منهم قارئ اسمه سهيل والذى نزل قدحا فى فرقة جديدة كانت قد تشكلت وقتئذ تحت اسم جوق الكوميدى العربي‏,‏ الذى اختار أن يمثل روايات من نوع الفودفيل بدأها برواية معربة هى خلى بالك من إميلي‏,‏ وكان عنوان مقالة سهيل عنيفا‏..‏ حركة التمثيل العربي‏-‏ منعطف خطر‏,‏ والتى انتقد فيها الرواية ووصفها بأنها أشد الروايات احتواء للفسق يظهر فيها الفساد بلا حياء‏,‏ وقرن بذلك رأيه أن روايات الفودفيل مصنوعة لجمهور خاص من أهل اللهو السهارين وأنها لا تمثل فى باريس إلا فى ثلاثة مراسح من ستين‏,‏ وانتهى إلى القول أن الجوق الجديد قد وصل بالتمثيل العربى إلي‏(‏منعطف خطر‏)‏ ونحن لا نزال نعذره ونعتقد حسن نيته فإذا عجز كتابه عن وضع الروايات للمصريين خاصة فلا أقل من أن يحسنوا الاختيار وأمامهم ما لا يحصى من الروايات‏.‏
فتحت الأهرام صفحاتها لأمين صدقى معرب رواية خلى بالك من اميلى فدافع عن الروايات من نوع الفودفيل وأنه شائع فى البلاد الغربية وأن الكتاب فى العالم المتمدن يرون أنه أبلغ فى إصابة الغرض من غيره إذ يعرض به نقائص المجتمع على المشاهدين فى الغالب للضحك الذى يبلغ إلى قرارة النفس أكثر من سواه‏,‏ ويرى أمين صدقى الذى اكتسب فيما بعد مكانة مرموقة فى تاريخ التأليف للمسرح المصري‏,‏ أن الغرض من الفرق التمثيلية ليس مجرد الحث بالطريق المباشر وإنما يجوز لها أن تدعو إليها بالطريق غير المباشر كضرب الأمثال والاستعارة والكناية‏,‏ ثم أنه دافع عن تبنى اللغة العامية فى ترجمة الرواية بأن النكتة للضحكة لا تكون نكتة حتى يفهمها الإنسان تمام الفهم واللغة العربية التى فى يدنا الآن لا تساعد على إبراز النكتة‏.‏
ويبدو أن قضية اللغة التى تستخدم فى المسرح وقتئذ كانت مصدر قلق لبعض المعنيين بالأمور اللغوية حتى أن أحد قراء الأهرام واسمه إسماعيل عبد المنعم كتب لها في27 ديسمبر عام 1915‏ يطلب استبعاد بعض الكلمات الدخيلة فى تلك اللغة واستبدالها بكلمات عربية صحيحة‏;‏ ملهى بدلا من تياترو‏,‏ شعبة بدلا من جوق‏,‏ مسرح بدلا من مرسح‏,‏متكأ بدلا من فوتيل‏,‏ شرفة بدلا من لوج‏,‏ خدر بدلا من لوج حريمي‏,‏ طنف بدلا من فوتيل بلكون‏,‏ مأساة بدلا من تراجيدي‏,‏ مجانة بدلا من كوميدي‏,‏ ملحنة بدلا من أوبريت‏,‏ ونظن أنه لو عاش إسماعيل عبد المنعم حتى يومنا هذا لحزن كثيرا لأن أغلب ما طالب بتغييره لم يتغير‏,‏ بالعكس فإن التغيير الذى حدث فى لغة المسرح انحدر إلى الأسوأ‏,‏ ولو قدر وحضر صاحبنا إحدى تلك المسرحيات ذات العناوين المسفة لربما فضل أن يموت مرة أخرى!‏