ads

Bookmark and Share

الأحد، 30 مايو 2010

255 ديوان الحياة المعاصرة

الحرب فى برية سيناء‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشرت فى الأهرام     الخميس 17 سبتمبر 1998


مرابط دائمة وخنادق واسعة وملاجئ للمدافعين عن قناة السويس‏.‏
ظلت بوابة مصر الشرقية عبر سيناء‏,‏ تلك الصحراء المثلثة والمقدسة‏,‏ تشكل أخطر المنافذ فى التاريخ المصرى بكل عصوره‏,‏ القديمة والوسيطة والحديثة‏,‏ وهو خطر لا يقارن بحال بالمخاطر التى جاءت عبر البوابات الأخري‏..‏ الغربية والجنوبية‏,‏ فضلا عن البوابة البحر متوسطية العريضة‏!‏
فى التاريخ الحديث يقدم الغزو العثمانى لمصر عام 1517‏ أكثر الرياح التى قدمت من ذلك الباب خطورة‏,‏ فقد ترتب عليه وقوع البلاد تحت الحكم التركى المباشر لنحو ثلاثة قرون(1798)),‏ يضاف إليها قرن آخر(1914))‏ بقيت خلاله السيادة العثمانية على أرض الكنانة‏.‏
ما جرى خلال الحرب العالمية الأولى يقدم فصلا آخر من فصول ما جاء عبر هذه البوابة‏,‏ وهو فصل مختلف كثيرا عما حدث من قبل وعما جرى من بعد‏,‏ فيما ظلت ترويه الأهرام لنا بامتداد نحو عامين‏(‏ أكتوبر (1914‏ أغسطس 1961)‏ تحت عنوان الحرب فى سيناء‏,‏ والذى كشفت فيه الكثير من المعلومات عن تلك الجبهة فى تلك الحرب حتى أنه يصح القول عنها تاريخ ما أهمله التاريخ‏!‏
سبب الإهمال أن الأنظار ظلت شاخصة والدراسات بقيت مكرسة لمجريات الحرب على الجبهات الأوربية‏,‏ خاصة وأنها قد بدأت فى تلك القارة التى استمرت تموج بأسباب العداء‏,‏ وأن الاعتقاد ساد لبعض الوقت أنها مجرد حرب أوربية شأنها شأن حروب عديدة سبقتها‏,‏ إلى أن اتسع النطاق وسمع قصف المدافع فى ميادين خارج أوربا‏..‏ عندئذ فقط أسموها بالحرب العظمي‏,‏ أو بالحرب العالمية بعدئذ‏,‏ إلا أنه بالرغم من ذلك فإن تلك الميادين ظلت بالنسبة لكثيرين ممن أخضعوا تلك الحرب للدراسة بمثابة الأطراف‏,‏ أما القلب فقد بقى أوربيا‏!‏
نذر أن تطول الحرب الناشبة الأراضى المصرية بدت بعد أن أصبحت الدولتان اللتان ظلتا تتحكمان فى مصر خلال ثلث القرن السابق فى معسكرين متضادين بدءا من31‏ أكتوبر عام 1914..‏ الدولة العثمانية التى ظلت تحتفظ بالسيادة الاسمية على البلاد‏,‏ وبريطانيا العظمى التى وقعت مصر تحت سيطرتها بعد احتلالها إياها عام 1882,‏ ففى ذلك اليوم أعلنت دول الحلفاء‏,‏ بمن فيهم بريطانيا‏,‏ الحرب على الدولة العلية بعد أن قامت القوات التركية بهجوم مفاجئ على الموانئ الروسية فى البحر الأسود قبل ذلك بثلاثة أيام‏.‏
فى أعقاب ذلك سادت التوقعات فى العاصمة المصرية أن البلاد لن تبقى بعيدة عن مخاطر تلك الحرب الضروس‏,‏ فمن ناحية لم تقر الدولة العلية فى أى وقت‏,‏ ورغم كل الحقائق التى فرضت نفسها خلال الأعوام الاثنين والثلاثين السابقة‏,‏ بأن مصر ليست جزءا من أراضيها‏,‏ ومن ناحية أخرى كان يمكن لبريطانيا أن تسمح بأى شئ إلا أن يتعرض شريان الإمبراطورية الحيوي‏,‏ قناة السويس‏,‏ لأى خطر‏,‏ وفهم الجميع أن الصدام بين الطرفين أصبح وشيكا‏,‏ ورشحوا له منطقة التماس بين وجودهما العسكري‏..‏ التركى فى الشام والبريطانى فى مصر‏,‏ ولم تكن سوى برية سيناء‏.‏
عكست الأهرام هذه التوقعات فى مقال طويل احتل أغلب الصفحة الأولى من عددها الصادر يوم ‏22‏ نوفمبر عام 1914,‏ وجاء تحت عنوان مفاتيح مصر‏-‏كلمة فى شبه جزيرة سيناء‏,‏ وهو المقال الذى نقلت أغلب معلوماته عن صحيفة التايمز اللندنية‏,‏ تبعته فى اليوم التالى بخريطة لسيناء ومقال مطول آخر تحت عنوان سينا وأهاليها‏-‏ تقاليدهم وعاداتهم نقلته عن تقرير اللورد كرومر لعام1905‏ بمناسبة الأزمة التى كانت قد نشبت حول رأس خليج العقبة فى طابة‏.‏
ولم يمض وقت طويل حتى بدا وكأن التوقعات فى سبيلها لتصبح واقعا‏,‏ ففى 25‏ نوفمبر نشرت الأهرام خبرا عن أول اشتباكات تحصل فى البرية‏..‏ المكان بين بير النصف وقطية‏,‏ وتقع الأخيرة على بعد43‏ كيلومترا شرق القنطرة‏,‏ الواقعة حدثت بين قوة من الهجانة يقودها الكابتن تشوب والملازم أول محمد أفندى أنيس وبين جماعة من الهجانة التابعة للجيش التركى قضت عليها القوة المصرية‏,‏ غير أنها فوجئت عند التقدم إلى قطية بجماعة كبيرة من فرسان العدو اشتبكت معها ولم تجد مناص من الانسحاب‏,‏ بعد أن قتل الملازم المصرى و12‏ هجانا‏,‏ وفى اليوم التالى قدرت المصادر العسكرية البريطانية خسائر الطرف الآخر بنحو60‏ قتيلا منهم ثلاثة مشايخ يقال أن أحدهم شقيق صوفى باشا وللعدو مخيم صغير فى قطية‏.‏
تأهبت الأهرام للأحداث المتوقعة فطبعت على ورق جيد مصقول خريطة سيناء وطرحتها عند باعة الجرائد والثمن10‏ مليمات‏(‏ لاحظ أن ثمن الصحيفة حتى ذلك الوقت كان خمسة مليمات‏!),‏ وهى الخريطة التى شغلت الجانب الأكبر من الصفحة الأولى من العدد الصادر يوم أول ديسمبر‏,‏ وقد أرفقت بها الجريدة شرحا وافيا للطرق الرئيسية الثلاثة فى البرية‏,‏ والتى يحتمل أن يأتى الغزو العثمانى عبرها‏,‏ والملاحظ أن الصحيفة حرصت فى هذا الشرح أن تسمى الحد الفاصل الذى كان قد تم رسمه بين مصر والأملاك العثمانية عام 1906‏ بالحدود المصرية‏,‏ وكانت بذلك تؤكد على سقوط سيادة الباب العالى على البلاد‏.‏
في‏4‏ ديسمبر صدر عن إدارة المخابرات الملحقة بنظارة الحربية المصرية بيان مطمئن جاء فيه أن الطيارين البريطانيين واصلوا الطيران فوق شبه جزيرة سيناء فلم يروا أثرا للعدو الذى قوض خيامه فى قطية وبئر النصف وتقهقر شرقا‏,‏ غير أن ذلك لم يمنع من الاستعداد لاحتمال التقدم العثماني‏-‏الألمانى حيث قرر البريطانيون أن يكون خط الدفاع عند قناة السويس التى أصبحت تحميها مرابط شبه دائمة وخنادق واسعة وملاجئ للمدافعين من الطراز الأخير‏,‏ وكل هذا تحميه من الأمام متاريس متينة وأسلاك من الحديد على طول القناة من بورسعيد إلى بورتوفيق‏,‏ ومعلوم أن طول القناة 156‏ كيلومترا وعمقها ‏11‏ مترا وأقل عرض ‏54‏ مترا وأكبر عرض 100‏ متر وفيها 13‏ حوضا واسعة‏,‏ وقد أغرقت الأرض بمياه البحر قبالة بورسعيد على طول45‏ كيلومترا‏.‏
وبينما توالى الأهرام نشر مثل هذه الأخبار المطمئنة كانت على الجانب الآخر تقلل من قيمة الغزو التركي‏,‏ فتنقل عن الجريدة الإيطالية التى تصدر فى مصر‏,‏ المساجيرى اجيزيانو‏,‏ قولها إذا فرضنا أن الجيشين وقف أحدهما تجاه الآخر‏,‏ فإن الجيش الإنكليزى يقف فى مرابطه المعدة من قبل‏,‏ ووراءه السكك الحديدية وكل ما يحتاجه من زاد ومئونة وذخيرة ومستشفيات‏,‏ ووراءه الأساطيل تأتيه بالإمداد‏,‏ ووراءه الإمبراطورية الإنكليزية‏.‏ أما الجيش التركى الذى سيهلك قواه السير والتعب فلا يكون وراءه إلا الصحراء المترامية الأطراف والحرمان من كل مدد وذخيرة ومئونة‏!‏
غير أنه كان يضعف من ذلك الاطمئنان تعاطف بعض قطاعات المصريين مع القوات التركية‏,‏ سواء لأسباب دينية أو لما شاع وقتئذ أنها تصطحب معها الخديو عباس الثانى الذى كان الإنجليز قد خلعوه عن عرش البلاد بعد إعلان الحماية البريطانية‏,‏ حتى أنه قد شاع فى ذلك الوقت بين الأوساط الشعبية الأهزوجة القائلة الله حى‏*‏عباس جاى‏-‏ ضرب البمبة‏*‏وقال أنا جاى,‏ الأمر الذى دعا الأهرام إلى أن تكتب بأنه إذا كان صوت تركيا يدعو الناس إلى الجهاد نرى صوت إنكلترا يدعوهم إلى الاستقلال والحرية مؤيدا دعوته بقوات تدعمها فى البر والبحر‏.‏ وإذا قال الأول أن لديه فتوى يطلب العمل بها يبرز الثانى فتاوى علماء المسلمين فى مصر وغيرها فى تفنيد زعمه وبيان غرض دعوته السياسى لا الدينى ويحثهم على المطالبة بحقوقهم الدينية‏,‏ وكان لصحيفتنا ما يبرر هذا القول بعد أن فقدت الدعوة للجامعة الإسلامية كثيرا من زخمها منذ أن استولى الاتحاديون على السلطة فى استنبول عام 1908,‏ وخلعوا السلطان عبد الحميد الثانى فى العام التالي‏.‏
على أى الأحوال لم يمض وقت طويل حتى تحولت الاشتباكات إلى حرب فعلية فيما نتابع أخباره فى الأهرام منذ أواخر يناير عام 1915..‏
ظهرت طلائع القوة التركية شرقى القناة فى 27‏ يناير وحدث اشتباك محدود شرق القنطرة أصيب فيه ضابط وأربعة جنود بريطانيين حسب البلاغ الصادر من قلم المطبوعات المصري‏,‏ غير أن اليوم التالى شهد اتساع نطاق الاشتباكات كما أنبأنا بلاغ جديد حللته الأهرام بالقول أن المفهوم منه أن الترك تقدموا نحو القناة من ثلاث نقط‏:‏ طريق القطية الواقعة بالقرب من ساحل البحر الأبيض وهى طريق العريش المطروقة والمشهورة وتفضى إلى القنطرة وأكثر الجيوش التى زحفت على مصر من الشام سارت فى هذه الطريق‏,‏ النقطة الثانية فى مياه حراب وبئر مبايوك وهى فى الوسط‏,‏ والثالثة من جهة الطور عن الطريق المؤدية إلى جبل النخل فالعقبة فمعان‏.‏
يوم الأربعاء‏3‏ فبراير عام 1915‏ كان‏,‏ كما قالت الأهرام‏,‏ يوما خالدا فى تاريخ قناة السويس كيوم 15‏ أغسطس عام 1869‏ الذى وصلت فيه مياه البحر الأحمر إلى البحر المتوسط‏,‏ فقد قام صفير الرصاص مقام صفير البواخر وبكاء الجرحى وأنين القتلى مقام الموسيقات تشنف الأسماع والأغانى والأناشيد تطرب النفوس وتشرح الصدور‏,‏ فإذا كان ذلك اليوم قد خلد بين الأيام بأفراحه فإن هذا اليوم الذى تلاه بعد48‏ سنة يخلد بسيئاته وأكداره‏!‏
ما جرى فى ذلك اليوم روته لنا البلاغات البريطانية جنبا إلى جنب مع البيانات التركية‏,‏ وقامت الأهرام بتحليله سواء بمقالات كتابها أو نقلا عن كتابات الصحافة الأجنبية‏..‏
البلاغ الرسمى الطويل الصادر عن الجانب البريطانى نتبين منه أن مشاة الأتراك هاجموا نقطتى طوسون وسرابيوم فجرا سعيا إلى اجتياز قناة السويس على كبارى نقالة وأطواف تحت حماية نيران مدافع مكسيم‏.‏ واجهتها المدفعية فضلا عن بعض قطع الأسطول الراسية فى مياه القناة فانسحبت القوة المهاجمة فى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر وقد أسرنا‏8‏ ضباط و‏282‏ جنديا ووجدنا عددا عظيما من القتلى متروكين أمام مراكزنا‏.‏
البلاغ الرسمى التركى كان شديد الإيجاز على عكس الحال مع البلاغ البريطاني‏..‏ نصه‏:‏ أجرت مقدمة الجيش الزاحف على مصر استكشافا مهما فى صحراء سيناء وطاردت مقدمة الجيش الإنكليزى حتى القناة واجتازت بلوكات من مشاتنا قناة السويس بين طوسون وسرابيوم ودرست مواقع العدو ومستحكماته درسا دقيقا وحاربته النهار بطوله‏,‏ وبالطبع لم يتم العبور لمجرد الدراسة فيما حاول البيان التركى أن يخفى من خلاله فشل الهجوم‏.‏
اعترف بهذا الفشل أحد ضباط الأورطة74‏ التركية ممن وقعوا فى الأسر‏,‏ وهو الاعتراف الذى نشرته الأهرام يوم ‏7‏ فبراير وجاء فيه أن الاشتباكات بدأت قبل بزوغ الشمس وكنت عندئذ من ضباط الصف الثانى بين صفوف الهجوم‏,‏ فلما أوقف الصف الأول ومنع من موالاة الزحف تحركنا لنجدتهم وكنا كلما دنونا من القناة اشتد الضرب بالبنادق ولكنا تمكنا مع ذلك من طرح أحد لزوارق على الماء وجعلنا فيه نصف بلوك من العساكر‏.‏
وتبدو قيمة النجاح الذى أحرزه المصريون فى عبور القناة بعد ذلك بنحو ستين عاما‏(6‏ أكتوبر 1973)‏ بمقارنتها بذلك الفشل الذريع للمحاولة التركية المحدودة لهذا العبور يوم ‏3‏ فبراير‏,‏ فيما جاء فى اعترافات الضابط التركي‏..‏ قال‏:‏ كانت خسارتنا من جراء ذلك فادحة جدا فإن الزورق خرق من كل جانب فكان نصيبه الغرق بمن فيه‏.‏ وعندئذ كانت إصابتى بالجرح الذى أصبت به ولقد نزلت إلى الشاطئ مع أثنين من البحارة وجندى واحد هم الذين نجوا من الموت من رجال نصف البلوك ثم قتل جندى وبحرى فكنت أنا والبحرى الباقى اللذان نجونا من الموت وقد سلمنا أنفسنا إلى فصيلة من الجنود الهندية‏.‏
وكان من الطبيعى مع ذلك أن يسخر البلاغ البريطانى الذى صدر عن المعركة فيما جاء فى قوله‏:‏ قوة العدو التى قاتلتنا كانت12‏ ألف مقاتل على أقل تقدير تصحبها ست بطاريات من الطوبجية غير أن غزوة مصر تطورت بدخول الأتراك مصر ولكن كأسري‏!‏


ويقول بلاغ بريطانى آخر أن دورياته عثرت على خمسمائة قتيل من الأتراك‏,‏ فضلا عن ستة غرقى فى القناة‏,‏ أما عدد الأسرى فبلغ 652‏ منهم 100‏ أسير مجروح ولا يزال الفارون يأتون إلى صفوفنا‏,‏ وقد أرسل هؤلاء إلى القاهرة فى قطار خاص وحجزوا فى ثكنات قصر النيل‏,‏ وكان من بينهم ضابطان ألمانيان‏.‏
وتشير المعلومات التى أتت بها الأهرام إلى الدور الفاعل الذى قام به العسكريون الألمان فى القيادة والتخطيط‏,‏ وإلى أن الجنرال كريانستين الذى قاد طليعة الجيش التركى ألقى خطبة فى الجنود الأتراك قدم الأسرى نصها‏,‏ وقد جاء فيها قوله إذا وصلتم إلى القناة التى تدافع عنها الجنود البريطانية لا يبقى أمامكم سوى بضع ساعات لاجتيازها‏.‏ فلا تدعو أقل فكرة فى الارتداد تخطر بخاطركم‏.‏ أما إذا ارتددتم عن القناة فاعلموا أنكم تلاقون المنايا والموت الذى لا مفر منه‏,‏ إن لم يكن من الصحراء فمن يد الجيش الاحتياطى الذى يسير وراءكم‏.‏
وعندما نشرت السلطة العسكرية البريطانية بلاغا أن القوات المهاجمة انثنت جميعا إلى الوراء وأنها بعدت بعدا كبيرا عن القناة‏,‏ ردت عليها الشركة العثمانية التلغرافية ببرقية جاء فيها فازت جنودنا فعبرت قنال السويس بعد أن أغرقت سفينة حربية بريطانية ودمرت سفينة ثانية وأغرقت ثالثة بينما لاذت الرابعة بالفرار‏,‏ ولم تتجاوز خسارتنا أربعة قتلى أما خسائر العدو فلا تعد ولا تحصي‏,‏ الأمر الذى دعا البريطانيين إلى أن يرتبوا رحلة لعدد من الصحفيين الأجانب المقيمين فى مصر لمعاينة الموقف على الطبيعة‏.‏
اختارت الأهرام من هؤلاء صحفيا فرنسيا اسمه المسيو جورج فيسيه‏,‏ وقد ذكر الرجل فى جانب من تقريره عن التحصينات التى أقيمت على القناة أنه يصعب اجتيازها على جيش لا يكون عدده ضعفى عدد خصمه على الأقل‏,‏ وتحدث فى جانب آخر عن طليعة الجيش التركى فوصفها بأنها كانت قوية جدا وحصرت هجومها فى نقطة واحدة‏(‏ طوسون‏)‏ وقاتلت جهدها ومع ذلك تفرقت حتى كان تجمعها بعد المعركة صعبا جدا‏.‏ ولم يتم لها جمع شتاتها إلا فى مكان بعيد جدا ونار المعاقل والمرابط والمدافع البعيدة المدى تتناولها‏,‏ ووصف فى جانب ثالث الكوبرى الذى قيل أن العثمانيين قد أقاموه لعبور القناة وسخر منه بشدة لأن ما رآه‏,‏ على حد توصيفه‏,‏ لم يكن أكثر من سقالة رقيقة ضعيفة من الحديد لا يمكن أن تتحمل فوقها أكثر من بضعة أشخاص وقد رأيت بقاياها مطروحة على الرمل على الشط الآسيوى فهى لا تستحق الاسم الذى أطلقوه عليها‏.‏
غير أن ما شاهد المسيو فيسيه آثاره لم يكن أكثر من الجولة الأولى من حرب برية سيناء‏,‏ وانتظر الجميع الجولة الثانية التى حدثت بعد18‏ شهرا‏..‏
‏*‏
ما جرى فى فبراير عام 1915‏ أمن تماما قناة السويس‏,‏ فيما نلاحظه بعد ذلك حيث لم يعد العثمانيون والألمان يشكلون أى تهديد لها‏..‏ بالعكس فقد بدأ البريطانيون فى تطوير الهجوم المعاكس بالسعى إلى دفع أعدائهم إلى خارج برية سيناء‏,‏ الأمر الذى سجلته الأهرام يوما بيوم‏.‏
فى المرحلة الجديدة من المعركة والتى اتسمت باتساع ميدانها‏,‏ على عكس المرحلة الأولى التى اقتصرت على قناة السويس‏,‏ استخدم الطيران والبحرية على نحو لم يستخدم من قبل‏,‏ الأمر الذى نتبينه من ذلك البلاغ الرسمى الصادر يوم 17‏ إبريل وكان نصه‏:‏ طارت ثلاث طيارات من القنال إلى السر الواقعة جنوبى العريش وألقت تسع قنابل أثرت تأثيرا كبيرا‏.‏ وأطلق طراد فرنسوى فى اليوم عينه قنابله على معسكر العدو فى جوار العريش كما أطلق طراد فرنسوى آخر قنابله على معسكر العدو الواقع على مسافة غير قليلة جنوبى مدينة غزة وكانت الطيارات البحرية ترشد مدافعه فألحقت بجنود الأعداء ضررا كبيرا‏.‏
بلاغ آخر بعد نحو أسبوعين يوضح يكشف انتقال الميدان على المستوى البرى إلى سيناء‏,‏ فقد جاء فى جانب منه خبرا عن تعقب دورية من الهجانة قوة تركية تتألف من ثلاثمائة جندى على بعد12‏ ميلا شرقى القناة‏,‏ واستمرت عملية استنزاف الوجود التركى مستمرة خلال الشهور التالية حتى أوائل أغسطس عام 1916‏ حين حدث ما أسمته الأهرام أولا معركة رومانى الكبري‏,‏ ثم ما لبثت أن صححت الاسم إلى رمانة‏.‏
وقد سودت جريدتنا العديد من صفحاتها خلال ذلك الشهر بأخبار تلك المعركة‏,‏ سواء بنشر البلاغات الرسمية‏,‏ أو بالنقل عن كتابات الصحف الإنجليزية‏,‏ غير أن الأهم من كل ذلك أن القيادة العسكرية سمحت هذه المرة لمحررى الصحف المصرية بحضور تلك لمعركة‏,‏ وكان مكاتب الأهرام من بينهم‏,‏ مما كان مدعاة لتقريظ الصحيفة للمسئولين‏,‏ بتفنيدها لما شاع من اعتقاد أن الرقابة هى لمنع الناس من الإطلاع على الأخبار‏,‏ فالحقيقة فى رأى مكاتبها فى الجبهة أنها لمنع العدو من الإطلاع على الأخبار التى تفيده‏!‏
فى تقريره عن معركة‏3‏ أغسطس قال مندوب الأهرام أنها ابتدأت بعد منتصف الليل بقليل واستمرت اليوم التالى كله تقريبا وقد اغتر العدو باختراقه مواقعنا الأمامية وضربه بالمدافع خطوطنا فاندفع فى هجومه اندفاعا شديدا وابتدأت المعركة‏.‏ وفى الوقت الملائم بدأ القتال الهائل الشديد وبدأت الإمدادات ترد من كل ناحية فلم تأت الساعة الخامسة من ذلك اليوم حتى فخرت القوات البريطانية بأحسن الانتصارات ذلك أن هجوم العدو انقلب إلى هزيمة تامة وفر متقهقرا وانطلق الفرسان البريطانيون فى أثره‏.‏
وتحولت الحرب بعدئذ إلى لون من المطاردة من جانب القوات البريطانية للجيش العثمانى المنسحب‏,‏ وكالعادة فى مثل تلك الحالات يتخلى المنسحبون عن مهماتهم من ناحية‏,‏ ويفضلون الاستسلام على الموت من ناحية أخري‏,‏ الأمر الذى يقرره بلاغ بريطانى صادر يوم ‏7‏ أغسطس جاء فيه‏:‏ لا يزال جنودنا يأسرون من الأعداء أسرى جددا وقد بلغ مجموع الأسرى غير المجروحين 3100‏ مقاتل منهم 45‏ ضابطا‏,‏ ويتعذر أن نحصى بالضبط مقدار الغنائم التى غنمناها ولكن الموجود لدينا منها الآن من البنادق والأمتعة والذخيرة وصل محملا على 120‏ جملا‏!‏
ونعود مرة أخرى إلى تقارير مندوب الأهرام الخصوصى الذى يتحدث عن كيفية تحول تقهقر قوات العدو إلى انهزام تام وقد أصبحت قطية معسكرا إنكليزيا وأصبح الخط الحديدى على بعد بضعة أميال إلى شرقيها‏..‏ أما السكة الحديدية الحربية فتمتد الآن من القنطرة إلى رمانة والمسافة هى أربعون كيلومترا‏.‏ وهناك خط آخر يمتد من رمانة إلى حصن محمدية ومنها إلى بورسعيد والمسافة نحو خمسة وأربعين كيلومترا‏.‏
وقد انتهز البريطانيون فرصة الغارة الجوية التى قامت بها الطائرات التركية على بورسعيد وأسقطت خلالها قنبلتين على حى العرب فقتلت وجرحت عدة أنفس فوصفتها بالعمل الفظيع لأنها تمادى فى قتل المسلمين الأبرياء غير المحاربين‏,‏ وهى لا يمكن أن تفيد العثمانيين فائدة حربية مطلقا بعد انكسار جيشهم انكسارا تاما‏!‏
المركز الحصين الأخير للترك كان فى بير العبد والذى جرت حوله آخر المعارك الكبيرة فى حرب برية سيناء يوم الأربعاء‏9‏ أغسطس‏,‏ وقد شوهدت نتائج القتال عندما شرع الأتراك فى الانسحاب بعد تدمير مهماتهم أو طمروها فى الرمال‏.‏
يوم‏11‏ أغسطس صدر بلاغ عسكرى يعلن أن الحرب فى سيناء قد انتهت وأنه لن تنشر بلاغات أخرى فى الصحف بعد هذا البلاغ إلا إذا طرأ تغيير يذكر على الحالة فى سيناء‏,‏ وكالعادة فى مثل هذه البيانات الأخيرة‏,‏ فإنها تقدم حساب الخسائر‏,‏ وكانت بالنسبة للعثمانيين بين‏6‏ آلاف وسبعة آلاف من مجموع قواتهم البالغة 18‏ ألفا‏,‏ هذا فضلا عن 3534‏ أسيرا‏,‏ أما الخسائر على الجانب البريطانى فبلغت 900‏ بين قتلى وجرحى ومفقودين‏.‏
ولم يكن بإمكان الأهرام أن تنهى تغطيتها لحرب برية سيناء دون إشارة إلى دور المصريين فيها‏,‏ فيما جاء فى عددها الصادر يوم 13‏ أغسطس تحت عنوان نصيب المصريين فى الدفاع عن القناة‏,‏ حيث عددت الجريدة وجوه المساعدة التى قدمها هؤلاء فقد أنشأت فرقة الفعلة الطرقات ومدت الخطوط الحديدية وبنت المعاقل والحصون‏,‏ وتولت أمر النقل‏,‏ وأبلى الجنود المصريون بلاء حسنا فى معركة طوسون فى ‏3‏ فبراير 1915,‏ كما قاموا بحماية الطور‏,‏ ثم هناك الدور الذى قام به خفر السواحل والبوليس المصرى بجملته وهيأته كلها‏,‏ وحسنا فعلت الأهرام بذلك فهى أعطت للمصريين ذكرا يستحقونه وإن كان الآخرون قد أنكروه عليهم‏!‏