المحاكم والأحكام
د. يونان لبيب رزق
نشرت فى الأهرام الخميس 10 سبتمبر 1998
ابتداء من يوم 4 يناير عام 1915 طلع الأهرام على قارئه بباب يومى تحت أسم المحاكم والحكام, ولا بد أن قارئ ذلك الزمن البعيد قد لاحظ خلال الأيام التالية أن الباب الجديد أصبح من أكثر الأبواب انتظاما فى الجريدة, الأمر الذى يتطلب تفسيرا وتحليلا..
التفسير عرضنا له فى مناسبة سابقة, وهو أن الجريدة فى ظل ظروف الحرب وإحكام الرقابة على الصحف كانت تلجأ لتجنب قرارات المصادرة أو التعطيل أو أعمال الحذف, التى كثيرا ما كانت تطول الصحف وقتئذ, إلى إثارة القضايا الاجتماعية الساخنة, كما فعلت فى ذات العام بفتح صفحاتها لأنصار سفور المرأة فى مواجهة المطالبين بالإبقاء على حجابها فى معركة استغرقت بضعة أسابيع, وكما فعلت فى مناسبات عديدة أخرى بامتداد الحرب مما سوف يكون موضوع جلسات وجلسات من لديوان!
غير أن ثمة ملاحظة هنا, وهى أن الباب الجديد اختلف عن معركة السفور والحجاب فى أنه بينما اعتمدت تلك المعركة على مقالات القراء, مما كان يتطلب جهدا محدودا فى الانتقاء من تلك المقالات, اقتضى المحاكم والحكام جهدا مضاعفا من محررى الأهرام فى متابعة ما يجرى داخل قاعاتها, سواء فى القاهرة أو فى الإسكندرية أو فى عواصم المديريات مما كلفهم عنتا ملحوظا!
تقدم شكوى مكاتب الأهرام فى بنى سويف في4 أغسطس عام 1915 صورة من هذا العنت.. يقول الرجل أنه لم ينجح فى حضور جلسة محكمة الجنايات التى كانت مخصصة للنظر فى جناية قتل السيدة نفيسة هانم كريمة الشيخ الطيب لأن البوليس لم يمكن رجال الصحافة من تأدية وظيفتهم, وهذا أمر نأسف له كل الأسف لأن جميع المحاكم خصصت المقاعد لمراسلى الصحف وإذا منع الناس جميعا فرجال الصحافة لا يمنعون ولكن بوليس بنى سويف لا يحب الصحافة لأنها تقول كل شئ وهو لا يحب أن يقال عنه كل شئ!
أما التحليل فإن الباب الجديد قدم صورة لتأثير ظروف الحرب التى أحدقت بالبلاد من جانب, ولطبيعة التطورات التى ألمت بالمجتمع المصري, من جانب آخر, ثم أثر تلك التطورات على العلاقات بين المقيمين فى أرض الكنانة, سواء كانوا من المصريين أو من غيرهم, من جانب أخير.
الجاسوسية من الجرائم التى لم تكن تعرفها المحاكم المصرية من قبل, غير أن القضية التى نظرتها محكمة جنايات مصر فى إبريل عام 1915 والتى قدمتها الأهرام تحت عنوان هل هو جاسوس؟, تشير إلى أن تلك الجريمة قد عرفت طريقها إلى المحاكم المصرية.. القضية باختصار أن مصريا اسمه عبد الرحمن على اتهم أرمينيا مقيما فى البلاد بأنه يمالئ أعداء الحكومة الإنكليزية فى مصر وأنه على علاقة سرية بجمعية الاتحاد والترقى بالأستانة, غير أنه لما لم تثبت التهمة تم تغريم المصرى عشرين جنيها, وكان مبلغا جسيما بمقاييس العصر.
سرقة جنود الإمبراطورية من الجرائم الأخرى التى نظرتها المحاكم المصرية والتى صنعتها ظروف الحرب.. تشير إلى ذلك قضايا عديدة نختار منها تلك القضية التى نشرتها الأهرام تحت عنوان سرقة ورقة مالية من جندى أسترالى جاء فيها خلاصتها وهى اتهام مصطفى بدوى أنه وضع يده فى جيب بنطلون أحد الجنود الأسترالية وانتشل ورقة مالية قيمتها خمسون قرشا وأحس به رفيق الجندى فنبهه وتجمهر عدد من زملائهما فأمسكوا بالسارق بعد أن كاد يلوذ بالفرار وقد تبين للمحكمة أن السارق ذو سوابق عديدة فى السرقات فحكمت عليه بالنفى لأنه معتاد إجرام.
ويبدو أن نسبة كبيرة من القوات البريطانية فى مصر خلال الحرب العالمية الأولى كانت تتشكل من الأستراليين, وأن هؤلاء لم يخضعوا لقواعد الضبط والربط العسكرى شأن غيرهم, الأمر الذى كانوا يتبدى فى اختلاطهم بالمصريين, وما يترتب على ذلك من نتائج.. هذا الاستنتاج نخلص إليه من كثرة ما كانت تنشره الأهرام من تحذيرات القائد العام للقوات البريطانية فى مصر للأستراليين حتى أن أحد تلك التحذيرات جاء فى استهلاله الجندى الذى لا يحترم نفسه ولا يحافظ على كرامته وواجبه لا يبقى فى الجيش البريطاني, وجاء فى خاتمته القرار بإخراج فصيلة من الجنود الأستراليين من البلاد.
نلاحظ بعد ذلك أثر التطورات التى ألمت بالمجتمع المصرى على ما أصبح يجرى فى قاعات المحاكم التى شهدت لونا من القضايا لم تكن تعرفها حتى أواخر القرن التاسع عشر نختار هنا بعضها..
في22 مايو تنبئنا الأهرام بقضية غريبة عرضت على محكمة الجنايات بالإسكندرية تدل على دخول أنماط جديدة من المنازعات لم تك معروفة من قبل.. فحوى القضية أن أحد اليونانيين أمن على حياة شقيقته عند إحدى شركات التأمين بمبلغ10 آلاف فرنك وبعد التأمين بقليل توفيت شقيقته فطلب العشرة آلاف فرنك فدفعتها الشركة, ثم اتصل بها أنه خدعها ذلك أن شقيقته كانت مريضة, فلما اشتد عليها المرض ودنت منيتها جاء بفتاة أخرى وزعم أنها شقيقته التى يريد التأمين على حياتها!
الأغرب منها قضايا النزاع على الملكية الفنية, فقد ظلت الصحيفة تتابع لفترة غير قصيرة النزاع بين شركتين من أكبر شركات الاسطوانات فى مصر وقتئذ.. جراموفون وبيضافون, والتى أسمتها الأهرام بالقضية الفونوغرافية(!), ففى 20 مارس رفعت الشركة الأولى قضية على الثانية ذكرت فيها أنها احتكرت أصوات بعض المغنين, غير أن الشركة الثانية أخذت تبيع هذه الأصوات, وطالبتها بتعويض قدره20 ألف جنيه.
دفع محامى بيضافون أن احتكار الفنون الجميلة غير معروف فى القطر المصري, غير أن محامى جراموفون قال أن المسألة تدخل فى دائرة الحق العام وأن الشركة المنافسة قلدت44 أسطوانة من 50 سجلتها للشيخ يوسف المنيلاوى وكلفتها عشرة آلاف جنيه.. ستة آلاف للشيخ واثنين للتخت الذى غنى معه, ومثلهما أجر المهندسين الذين جاءوا خصيصا من إنجلترا لأخذ الأصوات ومعهم عددهم وآلاتهم مع النفقة عليهم أثناء إقامتهم.
بعد شهرين من تداول القضية, وبعد الاستعانة بعدد من الخبراء.. حفنى بك ناصف مفتش اللغة العربية بوزارة المعارف, محمد أفندى الجمركى وقسطندى أفندى منسى مدرسى الموسيقي, أصدرت المحكمة حكمها والذى قبلت فيه بمبادئ حماية الملكية الفنية.
هذا المبدأ أخذت به محكمة مصر الابتدائية الأهلية بعد نحو شهرين فى قضية رفعها أصحاب فابريقة الصابون بنابلس المعروفة بماركة مسجلة ضد الحاج محمد شكعة الذى صنع نوعا من الصابون مختوما بختم مقلد مبصوما عليه( نابلسى حسن شكعه), وصدر الحكم بإلزام شكعه بدفع خمسين جنيها مصريا تعويضا لأصحاب نابلسى الأصليين, ومنعه من استعمال الختم المستدير الشكل المبصومة عليه كلمات( نابلسى حسن الشكعه).
من بين تلك التطورات أيضا ما نتج عن استقرار طبقة أصحاب المهن لحرة من قضايا تتعلق بممارستهم لمهنتهم, مما تتعدد أمثلته..
ففى 16 يناير عام 1915 أصدرت محكمة الاستئناف الأهلية بالإسكندرية حكما على مدام خليل باشا بأن تدفع مبلغ 60 ألف فرنك إلى المحامى مقصود باشا, وهو المبلغ الذى تنازل له عنه محامى إيطالى اسمه مانوزادى مقابل قيامه لمدة أثنى عشر عاما بتصفية نصيب المدام من الإرث, وحصوله على نتائج حسنة فى هذا الشأن!
على الجانب الآخر تعددت القضايا التى رفعها أبناء شريحة أخرى من أصحاب المهن الحرة, هى الأطباء, على آخرين للحصول على أتعابهم; فهذه دعوى رفعها الدكتور على بك إبراهيم أمام محكمة السيدة الجزئية على أحمد بك رامى يطالبه فيها بخمسين جنيها فى مقابل ما كلفه به الأخير من كتابة تقرير طبى عن حادثة جنائية أشرك فيها طبيبان آخران, وهذه دعوى أخرى رفعها الدكتور جاليو على الخاصة الخديوية والحكومة لمصرية, التى كلفته خلال صيف عام 1914 وبعد وقوع حادث اعتداء على الخديوى فى الأستانة, أن يذهب إلى هناك ويشترك مع الأطباء المعالجين فى تطبيب الخديوى السابق, وأنه مكث هناك نحو شهر لأداء هذه المهمة تعطلت خلاله أعماله حتى عاد إلى القاهرة, وطالب بما قيمته أربعة آلاف جنيها, وقد حكمت له المحكمة بمبلغ 1500 جنيا فقط بعد أن ارتأت أنه قد بالغ فى تقدير قيمة أتعابه!
غير أن أغلب القضايا الأخرى التى دأب باب المحاكم والأحكام على نشرها دارت حول محورين أساسيين; علاقة الرجل بالمرأة, وقضايا المال..
أثبت كثير من القضايا التى كانت تنظرها المحاكم المصرية وقتئذ, بل وقبلئذ وبعدئذ, صحة المثل الفرنسى الشهير فتش عن المرأة
Cherchez La Femme
فلم يكد يخلو الباب اليومى الجديد للأهرام من قضية كانت المرأة فيها طرفا, بحكم كونها امرأة!
مع مطلع عام 1915 وظهور المحاكم والأحكام احتلت قضية قتيلة هليوبوليس ولأيام متتالية مساحات واسعة من الجريدة.. القضية باختصار أن زوجة يوسف أفندى حنا منصور, وهو شاب فى نحو الثامنة والعشرين, وجدت مخنوقة فى شقتها فى هليوبوليس ومعها طفلها الصغير, والد القتيلة واسمه إلياس مسابكى اتهم الزوج بأنه هو الذى قتل ابنته, والسبب على حد قول مسابكى سوء العلاقة بين منصور وزوجته.. بعد الاستماع لأكثر من عشر شهود أثبت الزوج من خلالهم أنه لم يكن بالمنزل وقت الجريمة, أصدرت محكمة جنايات مصر صباح يوم 6 يناير حكمها, وكان تبرئة المتهم لعدم قيام أدلة كافية تثبت إدانته, ويقول مندوب الأهرام الذى كان حاضرا النطق بالحكم أنه دوى على أثر الحكم تصفيق شديد فى قاعة الجلسة وأصوات تنادى ليحى العدل. ثم أخلى سبيل المتهم فذهب إلى داره محفوفا بالأهل والمهنئين من المعارف والأصدقاء!
لم يكن عكاشة عبد العزيز حسن الحظ مثل يوسف منصور, فقد حكمت عليه محكمة الجيزة بالأشغال الشاقة المؤبدة لأنه قتل عمدا زوجته خرمانه بنت عثمان بضربها عدة ضربات بفأس على أم رأسها وذلك مع سبق الإصرار. واعترف المتهم أنه إنما ضربها هذا الضرب القاتل لأنها أبت عليه عدة مرات الدنو منها فترصد لها حين ابتعدت عنه وضربها فأصابها فى مقتل!
الأسوأ حظا كان رجلا آخر من أهالى البلينا حكمت عليه محكمة جنايات أسيوط بالإعدام لسبب مشابه, وعلى حد رواية مندوب الأهرام أنه كان يعتقد أن زوجته غير راضية عن سوء سيره وسلوكه لأنه مدمن على تعاطى المسكرات وهى كانت تنصحه بأن يقلع عن خطته المذمومة ففى ذات ليلة دنا ذلك الشرير من زوجته فأقصته لأعذار شرعية فأفهمها أنه ساخط عليها وأقفل باب قاعته ورماها بالغاز والنار فاستغاثت ولكن الجيران لم ينجدوها إلا بعد أن أكلتها النار, وكان رئيس الجلسة محقا عندما وصف الرجل بأنه فظ غليظ القلب أقرب إلى الهمجية والوحشية منه إلى الإنسانية, وأصدر عليه حكما مستحقا.. بإرساله إلى العالم الآخر!
الرابع كان أفندى من مركز منوف اسمه محمود بسيوني, والقتل حدث بسبب الغيرة.. الرجل كان يحب زوجته, غير أنه طلقها فى ساعة غضب فتزوجت شيخ الخفر فأضمر له الشر وأخذ منذ عقد الزواج يناوئه العداء ثم سولت له نفسه أن يطفئ سراج حياته ويسفك دمه فأتى بأحد أشقياء بلدة جروان واتفق معه على أن يقتل شيخ الخفر فذهب هذا الشرير نحو دار القتيل وانتظر خروجه منها لمباشرة عمله فلما خرج إلى الباب فاجأه بطلق نارى أصابه فوقع على الأرض يتخبط بدمه. وكان محمود أفندى بسيونى فى بيت قريب من دار القتيل يحضر عقد قران حتى يقال أنه كان وقت إصابة خصمه بين جم من الناس, وبعد أن اطمأن إلى ابتعاد الشبهات عنه زار الجانى فى السجن فأوقع نفسه, ومثل الرجلان أمام محكمة جنايات طنطا حيث حكم على كل منهما بالحبس خمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة.
ولأننا كنا لا نزال فى عصر سى السيد فالملاحظ أن القتل قد انصرف إلى الزوجات, وليس العكس كما حدث بعد انقضاء هذا العصر, غير أن القتل لم يكن اللغة الوحيدة فى التخلص من الأزواج, الأمر الذى تكشف عنه الأهرام فى تلك القضية الطريفة التى نشرتها فى عددها الصادر يوم 16 مارس عام 1915.
تحت عنوان الطلاق الكاذب قالت الصحيفة أن جلسن بنت محمد كرهت أن تعايش زوجها وحدثتها النفس أن تنطلق منه فتمسى حرة فى أن تتزوج من غيره فاستعارت لها زوجا وقصدت محكمة الجيزة الشرعية يصحبها أبوها واثنان من مشايخ الحارات فمثلت رواية الشاكية من هذا الزوج الكاذب وهؤلاء شهود على عدم الوفاق فحكمت المحكمة بالطلاق. ولزيادة التمثيل راح الزوج الكاذب يستأنف الحكم فأيدته المحكمة غير أن الزوج الحقيقى أبلغ النيابة بذلك التزوير فأحيلت إلى محكمة الجنايات!
غير القضايا المتصلة بالعلاقات الزوجية ظل باب المحاكم والأحكام ينشر القضايا المتعلقة بهتك الأعراض.. فتحت عنوان مراودة امرأة روت الأهرام وقائع تلك القضية التى نظرتها محكمة جنايات مصر والتى اتهم فيها رجلان بأنهما دخلا بيت آمرا فى امبابة وراوداها عن نفسها واستعملا معها العنف والقوة حتى أغمى عليها فظناها قد ماتت بين يديهما فوليا الفرار فحكمت المحكمة على كليهما بسنتين مع الشغل.
وتحت عنوان اختطاف فتاة قاصر حدثتنا الجريدة عن الفتاة الجميلة بنت الرجل الثرى الذى يقيم فى أملاكه والتى أحبت أحد الفلاحين العاملين عند أبيها, وكانت له أكثر من زوجة, فهربت معه غير أن أباها نجح فى استعادتها وأبلغ النيابة التى حاكمت الفلاح, وصدر عليه الحكم بالسجن سنة مع الشغل بتهمة إغراء فتاة لم تبلغ سن الرشد على هجر دار أبويها, وكان اسمه مبروك غير أنه لم يعد مبروكا!
أخيرا فقد تابع الباب الجديد ما يمكن أن نسميه بلغة العصر قضايا الآداب, فهذا خبر عن رجل تزوج بفتاة لا تتجاوز السابعة عشرة من عمرها وكان يسلم امرأته بقيادة أخته للفجور قوة وقسرا حتى أبلغ أهل الفتاة الأمر للنيابة, فحكمت محكمة الجنايات على الزوج بثلاث سنوات مع الشغل, وعلى أخته بسنتين مع الشغل, وعلى صاحبة الماخور بثلاث أشهر لمساعدتها للزوج, وهذا خبر آخر عن راقصة اسمها منيرة كامل اتهمت رجلا بأنه ناولها مغيبا وفى حالة غيبوبتها استلب منها سوارين من الفضة, وبعد تحقيق النيابة وثبوت كيدية الاتهام حوكمت المرأة أمام محكمة الأزبكية فحكمت عليها بالحبس مدة ستة شهور.
تأتى بعد ذلك قضايا المال التى احتلت مكانة معتبرة من باب المحاكم والأحكام; اختلاس, رشوة, تزوير, تزييف نقود, تصرف فى ملك الغير, غش تجاري, مخالفة التسعيرة, وأخيرا الربا الفاحش المحرم بحكم القانون..
والمعلوم أن انتشار هذا النوع من الجريمة يصدر عن اعتبارين; أولهما: اتساع فكرة المال العام بما يستتبعه من توصيف الاعتداء عليه بالاختلاس, والثاني: انتشار العلاقات الرأسمالية على نحو يصبح المال معه ليس مجرد سلعة قابلة للتداول, وإنما قابلة فى نفس الوقت للسرقة والتنازع.
بالنسبة لجرائم الاختلاس التى تابعها باب المحاكم والأحكام فقد تبدو لقارئ اليوم مضحكة للغاية.. صراف مديرية الجيزة الذى اتهم باختلاس مبلغ ستة وتسعين جنيها بالتمام والكمال, ومع أن الرجل رد المال المختلس غير أنه صدر ضده الحكم بالحبس سنتين مع الشغل(!), غير أن الأطرف كانت القضية التى اتهم فيها ثلاثة أفندية من موظفى بلدية حلوان, على فهمى وإلهامى أفندى وعبد القادر أفندى باختلاس خمسة وعشرين جنيها كاملة, وبعد محاكمة استمرت يوما استمع خلاله القاضى لعدد من الشهود ولمرافعات المحامين عن المتهمين الثلاثة حكم على الأول بالحبس سنة والثانى ثلاثة شهور وبرأ الأخير.
قضايا الرشوة كان أهم ما نشرته الأهرام وقتئذ عنها اتهام أحد أعيان الغربية, مرسى باشا أبو جازية, بتقديم جنيهين على سبيل الرشوة لأحد ملاحظى البوليس, ولأن الرجل كان شريفا فقد أبلغ بالمحاولة التى كلفت أبو جازية باشا مبلغا طائلا; كأتعاب لأثنين من كبار المحامين كان أحدهما الهلباوى بك, فضلا عن عشرين جنيها غرامة حكمت بها المحكمة عليه!
التزوير الذى تعددت فنونه وعرف طريقه إلى ساحات القضاء.. فهذا كاتب محكمة الإسماعيلية الشرعية يقوم بتزوير كمبيالات على الست هدايت بالاشتراك مع وكيلها بمبلغ 500 جنيها فيحال الاثنان إلى المحاكمة, وهذا عطا بك حسنى الذى أقام قضية على إسماعيل أفندى عيسوى يتهمه بتزوير كمبيالتين عليه قيمتهما 150 جنيها فحكمت المحكمة عليه بالحبس ثلاثة شهور وبالتعويض المدنى وهو خمسة وعشرون جنيها مع المصاريف.
غير أن أطرف قضايا التزوير كانت تلك التى ارتكبها فلاح من بنها اسمه عبد النبى مصطفى هيكل, والذى أنقص عشرين سنتيمترا من طوله ليهرب من القرعة.. القصة كما روتها الأهرام أن الرجل قيس طوله عند طلبه للقرعة فكان 165 سنتيمترا, غير أنه تمكن من الدخول إلى غرفة رئيس مجلس القرعة فى غيابه واستبدل فى ورقة تحقيق الشخصية الرقم6 بالرقم4 فأصبح طوله 145 سنتيمترا حتى لا يكون صالحا للخدمة, ولم يفطن للإشارة فى المكان المعين من الدفتر أنه معفى من الخدمة, مما سهل عملية ضبطه ومحاكمته ليدخل السجن لمدة سنة مع الشغل بتهمة التزوير فى أوراق رسمية, بدلا من أن يدخل الجيش!
خيانة الأمانة ممثلة فى التصرف فى ملك الغير قدمت لونا آخر من قضايا جرائم المال منها ما نشره باب المحاكم والأحكام عن أخوين يملكان منزلين أحدهما فى بولاق والثانى فى عابدين, عهدا إلى ابنة عمهما بتحصيل إيجارهما لترسل به إليهما فى أوربا حيث يتممان علومهما.. زوج ابنة العم واجه أزمة مالية فما كان منه إلا أن رهن المنزلين وتوقف عن إرسال النقود للشقيقين اللذين تبينا الحقيقة عندما عجلا بالعودة إلى الوطن, وشهدت محكمة عابدين الجزئية ابنة العم وزوجها فى قفص الاتهام!
الغش التجارى من قضاياه تلك التى اتهم فيها السيد أفندى الاسكارى بأنه يبيع ملحا فى أوراق تشبه أوراق ملح شركة الملح تماما فى اللون والكتابة العربية ولا تختلف إلا فى الكتابة الإنكليزية.. فحكمت عليه المحكمة أن يدفع للشركة عشرين جنيها وبنشر الحكم فى ثلاث جرائد على حساب المتهم.
مخالفة التسعيرة, وهى جريمة نشأت بعد قيام الحرب وبعد الأخذ بنظام التسعير, وكان مرتكبو هذه الجريمة يقدمون بشكل يكاد يكون يوميا إلى المحاكم.. بقال من الإسكندرية يبيع بزيادة عن السعر المحدد, صاحب مخبز فى بولاق يقوم بمزج الدقيق الذى يصنع منه الخبز بالذرة ويبيعه للناس بأزيد مما هو مقدر له, وكانت العقوبة فى تلك الجرائم تصدر عادة بالغرامة.
أما الربا الفاحش فتقدم الأهرام على أربعة أعمدة فى عددها الصادر يوم 14 إبريل عام 1915 نموذجا صارخا له.. الشاب الذى اقترض مبلغ مائة وثلاثين جنيها على دفعتين ووقع كمبيالتين للدائن قيمة كل منهما ألف جنيه.. بعد وفاة والد المدين أراد الدائن أن يستوفى مبلغ الألفى جنيه من الأملاك التى ورثها, فلجأ الأول إلى محكمة مصر التجارية المختلطة التى حكمت لصالحه, وانتهزت الأهرام الفرصة لتلقى درسا على الشاب السفيه وأمثاله, وكما لم يكن هذا هو الدرس الأخير فلم تكن تلك هى القضية الأخيرة, فقد ظل باب المحاكم والأحكام يحتل مكانه البارز فى صحيفتنا لفترة طويلة بعدئذ.