بماذا نشتغل ؟؟؟
د. يونان لبيب رزق
نشرت فى الأهرام الخميس 3 سبتمبر 1998
المناسبة كانت ظهور نتيجة امتحان الشهادة الثانوية, أو البكالوريا كما كانت تسمى وقتذاك.. المتقدمون لهذا الامتحان بلغ عددهم 800 نجح منهم 150 طالبا ورسب ال 650 الآخرون, وكانت نتيجة اعتادها مجتمع الافندية, وعلى الرغم من ذلك صنع الناجحون مشكلة توظيفهم, الأمر الذى عالجته الأهرام فى مقالها الافتتاحى يوم الأربعاء30 يونيو عام 1915 فى مقال تحت عنوان بماذا نشتغل؟؟؟.
وكأنما ضغط داود بركات رئيس تحرير الجريدة على جرح فى جسد الأمة المصرية تفجر على شكل مقالات ساقها الأهرام كلها تحت نفس العنوان.. بماذا نشتغل؟؟؟ استمرت لنحو شهرين وبلغ مجموعها ثمانية وعشرين مقالا, شارك فيها عديدون, من حملة البكالوريا ومن غيرهم.
القضية التى عالجها الأستاذ بركات قديمة فى تاريخ مصر الحديثة, وهى قضية العلاقة بين الشهادة والوظيفة, وتؤكد متابعة أعداد الأهرام منذ صدورها أن تلك القضية كانت تفرض نفسها على صفحاتها بين الحين والآخر, ولكن ليس على شكل حملة صحفية فيما عرفه صيف عام 1915.
ويمكن أن يعزى هذا فى جانب منه إلى ما تمخض عن ظروف قيام الحرب العظمي, وما تحملته الخزينة الحكومية من أعباء, من ضيق فرص التوظيف أمام حملة الشهادات, حتى أن استخدام150 خريجا أصبح صنع مشكلة, ثم أنه يعزى فى جانب آخر إلى أن تلك السياسات التى طالما اتبعها الاحتلال البريطانى للبلاد منذ حدوثه عام 1882, والتى قامت على تضييق مجال الوظائف فى الأداة الحكومية, بهدف التوفير لسداد ديون الخزينة, قد ازدادت حدة بعد أن أمسك البريطانيون تماما بمصير البلاد بعد إعلان الحماية.
ذكر الأستاذ داود بركات بما درج عليه المتعلمون من السعى لنيل الوظيفة لما توفره لهم من الراحة ورخاء العيش وضمانة المعاش وعلو القدر معا. ولم تزل الأيام بكرورها وتصاريفها من أذهاننا إلا شيئا واحدا وهو أن فى الوظيفة معنى السيادة والحكم والسلطة على الآخرين, ثم دلف ليحث أصحاب الشهادات على طلب العمل فى التجارة والصناعة والزراعة وكل فرع من فروع الحياة وفى كل مورد من موارد الرزق بلا فرق ولا تمييز.. وأنه لا يجوز أن يقول أن هذا العمل دون قدرى وأحط من شأني.
محمد البرديسى قارئ للأهرام من أبناء جرجا, وقد تردد اسمه كثيرا على صفحاتها خلال تلك الحقبة, حيث ظل يداوم على الكتابة إلى الجريدة ويشارك فى شتى القضايا التى تطرحها.. هذا البرديسى كتب تحت نفس العنوان معلقا على مقال رئيس التحرير, وهو التعليق الذى فتح الباب واسعا لردود وكتابات متنوعة رسمت صورة دقيقة لأحوال الخريجين فى تلك الفترة.
يرصد البرديسى أولا ما أصاب النظرة إلى المتعلمين من اهتزاز فقد كنا ياسيدى المحرر منذ بضع سنوات ننظر إلى حملة الشهادات لقلتهم نظرات إكبار وتعظيم ولذلك كان حامل الشهادة يظن فى نفسه أنه من طبقة غير طبقة أهله وذويه.. ولكن الآن أصبحنا ننظر إليهم نظرة عادية لأنهم أصبحوا منتشرين فى الأمة!
يختلف القارئ الجرجاوى بعد ذلك مع رئيس تحرير الأهرام, ويرى أن للخريجين العذر فى التطلع إلى الوظائف لأن العلوم التى تعلموها فى المدارس والتى قضوا السنين الطويلة فى الحصول عليها وأنفقوا المال فى كسبها ناقصة الجهاز مختلة التركيب لا تساعد فى طرق أبواب شتى للرزق والكسب.
ويخلص من ذلك إلى القول أن حامل البكالوريا لا يستطيع أن يطلب العمل فى التجارة لأنه لم يتعلم شيئا فيها وليس لديه من الأموال ما يساعده. أما الصناعة فبالله أية صناعة يستطيع حامل البكالوريا مثلا أن يتعلمها بعد هذه السن؟ وهل فى مصر مصانع يمكن أن يتعلم فيها اللهم إلا النجارة المشوهة والحدادة القذرة والسروجية العتيقة, بمعنى آخر رفض البرديسى أن يتحول الحاصل على البكالوريا إلى الواد بلية!
تصور رئيس تحرير الأهرام أنه لم ينجح بدرجة كافية فى شرح وجهة نظره مما دفعه إلى أن يعجل بكتابة مقال آخر بعد أقل من أسبوع استشهد فيه بعدد من الأدلة على عقم النظام التعليمى فوزارة الأشغال احتاجت منذ سنتين إلى ستة متوظفين فتقد للامتحان116 طالبا يحملون الشهادات فلم ينجح فى هذا الامتحان أحد.. واحتاجت وزارة المالية منذ أربع سنين لبعض الحسابيين وإلى بعض المترجمين فامتحنت حاملى الشهادات فلم يفلحوا فاضطرت أن تجعل الامتحان عاما وأن تقبل فيه من يحمل الشهادة ومن لا يحملها, وخلص من ذلك إلى القول أن ما يتلقاه الطالب فى المدرسة ليس كل العلم بل هو مفتاح باب العلم.
تدخل فى الحوار قارئ من درشابة اسمه إبراهيم الصيحى الذى دعم موقف رئيس تحرير الأهرام.. فقد دافع الرجل عن الاشتغال بالتجارة وعقد مقارنات بينها وبين الوظيفة وخلص إلى نتيجة محددة بترجيحها فإن مبلغ المائة جنيه يربح فى العام ثلاثين جنيها إذا استعمل فى أحط أنواع التجارة والصناعة وهو قدر يفضله العارفون ألف مرة على وظيفة الخمسة جنيهات لأن الموظف لا يدور عليه الهلال دورته ويرجع للمحاق غالبا إلا وقد أخذ بتلابيبها فبددها وشردها إتباعا لسنة الظهور وانصياعا لسربعة الفخفخة(!), ثم أنه بدلا من أن يوافق على أن اشتغال المتعلم بالتجارة أو الصناعة فيه انتقاص من قدره كان رأيه أن مثل هذا الاشتغال فيه ترقية لتلك الأعمال فالتاجر المصرى بحالته الحاضرة هو علة العلل فى تقدم الأجنبى واستحواذه على كل مرافقنا التجارية والصانع المصرى مثل أخيه التاجر!
وإذا كان نشر مقالات البرديسى والصيحى يعبر عن تقليد قديم للأهرام الذى تتسع صفحاته للرأى والرأى الآخر, فإنه فى ذات الوقت فتح شهية آخرين على دخول الميدان, وهى الشهية التى أدت إلى معالجة جوانب أخرى من القضية ربما لم تكن فى ذهن داود بركات فى مقاله ولا البرديسى فى رده, مما أعطى لها حيوية ملحوظة كان المصريون فى حاجة إليها فى ظل ظروف الحرب الكئيبة!
أعادت هذه المقالات فتح الباب الذى ما كان ليغلق حتى ينفتح مرة أخري.. باب قضية التعليم, وهو الأمر الحادث حتى يومنا هذا..
مرة أخرى كان البرديسى صاحب المبادرة حيث كتب في 8 أغسطس يحدد الغرض من التعليم وهو تحضير الأفراد للحياة وجعلهم قوة ذات أثر خالد فى العالم بأن يكونوا قادرين على الدخول فى معترك الحياة المزدحم ودلف من ذلك إلى اتهام برامج التعليم القائمة بأنها وضعت لتخريج موظفين للحكومة فقط, وختم مقاله بنقد شديد لبرامج التعليم فى المدارس الصناعية التى طالب مشايعو رئيس التحرير أن يتحول إليها الخريجون فهى تعلم صنائع عقيمة لا تحسين فيها ولا تنسيق فهى كالتى يعلمها الصناع الجهلاء فى محالهم المعروفة بيننا, ولقد كنا نود أن تدخل فيها الصنائع غير الموجودة فى مصر كالغزل والنسيج وكدبغ الجلود وصناعة الزجاج وغير ذلك من الصنائع التى لا أثر لها فى البلاد فتكثر أبواب العمل فى وجوه الشبان.
فى مقال آخر يعقد نفس القارئ مقارنة بين برامج التعليم فى مصر وفى أمريكا, فيقول أن تلك البرامج فى الأخيرة عبارة عن كشكول واسع المادة متشعب المرامي.. حتى أنك ترى الطالب الصغير يخرج من المدرسة بعد أن يتم دروسه محيطا بشئون وآثار بلاده الواسعة المساحة الكثيرة السكان فهو يعلم كيف حرر واشنطون أمته وكيف جمع مورغان ثروته وكيف تتولد الكهرباء وكيف يستخدم الماء وكيف يزرع غلاله وكيف يقتصد ماله وكيف يصنع الورق ومما يكون الطبق. وبالجملة يخرج عالما بأمور متنوعة من شئون الحياة الكثيرة لذلك لا ترى أمريكيا عاطلا لا شغل له لأن أبواب الحياة أمامه كثيرة.. كثيرة بما تعلمه من العلوم الحية الصحيحة التى تجعله قوة عاملة ذات أثر خالد!
من دمنهور اعترض قارئ اسمه عبد العزيز دعيبس على المقارنات التى عمد البعض إلى عقدها بين التعليم فى مصر والتعليم فى الدول الأوربية فمن العبث أن نطبق على حياتنا أمثلة الحياة الأوربية ومن العبث أيضا أن نشبه الطالب الأوربى بالطالب المصري, وينطلق إلى تفسير أسباب هذا العبث بأن الطالب فى أوربا يخرج وهو على قسط كبير من العلوم الطبيعية تمكنه من اقتصاد رزقه واكتساب معيشته ويجد حياة مشحونة بضروب الأعمال وصنوف الأشغال.. أما هنا فالطالب فضلا عن أن نشأته أدبية أكثر منها علمية فمن العسير عليه أن يوفق إلى عمل يتناسب مع استعداده.
فى مواجهة ذلك يعود إبراهيم الصيحى الذى كان كثيرا ما يعقد هذه المقارنات إلى التذكير برأيه فى أثر اشتغال المتعلمين فى التجارة والصناعة, ويسوق فى هذه المناسبة كثيرا من الألفاظ التى كانت متداولة فى معاملات التجار والصناع المصريين وقتئذ تدليلا على تدنيها.. والله العظيم أن لا أبيع لغيرك بهذا الثمن. وحياة دينى أن هذا ليس ثمنه. والله العظيم ثلاثا أن هذا الصنف لا يوجد فى الدنيا. والله العظيم لو لم تكن بيعة استفتاح لا أبيع بهذا الثمن, ثم ينتقل بعد ذلك إلى ألفاظ يستخدمها تجار آخرون على االنقيض من الألفاظ السابقة.. عاجبك ولا لأ. يلعن دين البضاعة ودين أصحابها. كدرت مزاجنا. وجعت دماغنا. مانش بايع. يافتاح ياعليم.. والحل فى رأى الرجل أن يشتغل المتعلمون بتلك المهن فترقى تعاملاتها.
عقد الرجل فى نفس المقال مقارنات بين العمال والتجار المصريين والأجانب وخلص إلى نتائج مؤسفة, فقد لفت النظر إلى تفوق الأخيرين وأن التاجر والعامل المصرى هما علة تفوق الأجنبى إذ تنقصهما التربية والحنكة وهى خصال أنسناها فى المتعلمين منا, وفتح بذلك صفحة أخرى من القضية المطروحة.. صفحة منافسة الأجانب للمصريين فيما يشتغلون!
فتحت توقيع س.غ. طالب بالتجارة العليا-المنصورة فى مقال فى الأهرام الصادر يوم9 يوليو عام 1915 نبه صاحبه إلى أسباب تفوق الأجانب على المصريين فى مجالى التجارة والصناعة وكيف اتخذ هؤلاء من خمول المصريين سبيلا إلى استغلال أموالهم وها نحن نرى ذلك ممثلا بأجلى بيان فى قهواتهم ونزلهم ومطاعمهم وحاناتهم, وأخذ على أبناء وطنه النظر إلى الشركات الأجنبية فى مصر بعين يشوبها الحسد فإنما أصحاب رؤوس الأموال فى كل مكان يرون أن من واجباتهم استغلال أموالهم فيما يعود عليهم بجزيل النفع لذلك كان فى جمودنا المخجل دافع لأصحاب الأموال للانتفاع بما غفل المصريون عن الانتفاع به.
العكس من ذلك فعله البرديسى الذى نظر إلى الأجانب بعين مختلفة حيث أصبحت مصر فى رأيه مرتزق البؤساء من الأجانب الذين يفدون إليها أفواجا أفواجا. ولكن أليس من العجب أن نرى الأجانب واضعين أيديهم على كنوزها الثمينة ومواردها العذبة اللذيذة ونحن فى أشد الاحتياج إلى القليل منها؟.
ويعود س.غ. فى مقال مطول ليشرح وجهة نظره فى وجوب الاحتذاء بالأجانب وليس النظر إليهم بعين الحسد, وكان من أهم ما تطرق إليه فى هذا الشأن توضيحه لمفهوم الرأسمالية بأنها استثمار وتراكم, وليس مجرد توفير سبل العيش الرغد والحياة( المستورة) كما فهمها المصريون, فيما جاء فى قوله أن ملوك المال يظهرون للملأ أن الثراء على فرض أنه غاية ما تطمح إليه النفوس لا يعدو أن يقف بالهمة عن مواصلتها السعى إلى إدراك المزيد, وأن فى حلبة ذلك الجد وميدان ذلك الكد يظهر الرجال أمثال كارنيجى وروتشلد ومورغان وأضرابهم!
ويتمسك البرديسى بموقفه من الهجوم على الأجانب فينتقد الشركات العديدة التى أقامها هؤلاء فى مصر التى وإن كانت قد أنشئت فى الظاهر لمنفعة المصريين إلا أنها لا تستخدم فى أعمالها غير الأجانب اللهم إلا فى الوظائف الحقيرة كالخفارة والحراسة فالواجب على الحكومة وقد علمت بضرر العاطلين من أبناء شعبها على مصر أن تقضى على هذه الشركات باستخدام المصريين فى أغلب وظائفها وأعمالها, والشركة التى تخالف مرة فللحكومة الحق فى فسخ الشروط المعقودة بينهما.
ويتدخل إبراهيم الصيحى ابن درشابة مرة أخرى فى هذا الجانب من الحوار ليمارس هوايته فى عقد المقارنات بين المصريين والأجانب, ويرسم صورة قلمية بديعة لا نملك سوى تسجيلها كما جاءت فى الأهرام الصادر يوم 17 أغسطس عام 1915:
أنظر إلى الأجنبى بيننا وقد أخذ بتلابيب الأمة فاجتذبها برقته ودقته بلا فارق بين صغير وكبير بطباعه وأخلاقه وتفننه فى أساليب النظافة والإتقان فإذا أردت أن أجلس فلا أستطيع أن أترك مجلسه البديع وأذهب إلى حيث تتفشى الحميات والأدواء وإذا أردت أن آكل فلا يمكننى أن أترك مطعمه ولو كان غاليا لأشترى بمالى سما أتجرعه ولا أكاد أسيغه وإذا أردت أن أكتسى فإنى أفضل ملابسه الغالية لأن أثمانها محددة تباع بثمن واحد لى ولغيرى فضلا عن الجودة فى الصنف وحسن المعاملة.
ولا يرى الصيحى بأسا فى تقديمه لهذه الصورة القلمية أن يأتى بذكر مسائل شخصية, فأحد أصدقائه دخل متجرا إفرنجيا لقضاء مهمة فاضطر مدفوعا برقة الخطاب وحسن الاستقبال والمجالسة لأن يشترى بأكثر مما معه من النقود واغتنم من البائع لفتة ليخرج إلى الطريق ويقترض من أحد أصدقائه شيئا يدفعه ثمنا لبضائع كان فى غناء عنها!
ويستدعى فى هذه المناسبة بعض ذكرياته ومنها ما حدث حين اشترى مرة حذاء من محل أجنبى فلما دفعت الثمن وهممت بالخروج قال لى البائع( أجئ أحمله لك إلى البيت؟) فحرت فى هذا السؤال وقلت ما هذه الأوهام التى تسلطن علينا بها الأجانب. ثم أردت بعد هنيهة أن أسبر غوره وأنظر مبلغ إبهامه فقلت:(لو حملتها إلى البيت لشكرتك كثيرا) فما أن فرغت من كلامى حتى نادى غلاما كان نحو الباب وقال له( خذ هذا النصف قرش واحمل الحذاء مع البك إلى البيت!!) لكنى شكرته وانصرفت.
ومع التسليم بصحة كثير مما جاء فى هذه الصورة القلمية غير أننا نلاحظ أنه كان يحوطها بعض أسباب المبالغة, فلم يكن كل المصريين بالسوء الذى قدمته هذه الصورة, ولكن يبدو أنها عقدة الخواجة التى كانت قد تمكنت من صاحبنا ابن درشابة!
وفى إطار البحث عن حل طرح قراء الأهرام قضية ذات مضمون اجتماعي.. مسئولية الأغنياء المصريين, أو سراة القوم, على حد تعبير العصر, تجاه الفقراء فى توفير ما يشتغلون فيه..
موظف حديث كما أسمى نفسه كان أول من أثار هذه القضية فى عدد الأهرام الصادر فى 7 يوليو عام 1915, فقد وجه اللوم بشكل صريح لسراتنا الذين حبسوا أموالهم ولم يستثمروها ولو فعلوا لاشتغل كثير من العاطلين وراجت الصناعات المصرية وانتعشت الحركة فى البلاد فإذا قام نفر منهم وألفوا شركات مساهمة وأنشأوا مصنعا لصنع الورق وآخر للزجاج لأمكن استخدام كثيرين ممن لا عمل لهم. وهناك أمر آخر وهى صناعة النسيج وهذه موجودة بالمحلة وأخميم وكوم النور وهى تستحق الإعجاب مع أن القائمين بها أفراد فما بالك لو قامت بهذا العمل شركات منا وجمعت هؤلاء الصناع وأدخلت على صناعتهم التحسينات الضرورية.
انقسم المشتركون فى الحوار بعد ذلك إلى فريقين, أحدهما يدافع عن الأغنياء, أما الفريق الثانى فقد آل على نفسه قيادة الحملة ضد هؤلاء وتحميلهم الجانب الأكبر من مسئولية من لا يجدون شغلا!
فريق المدافعين تصدرهم رئيس تحرير الأهرام الذى كتب مقالا افتتاحيا فى العدد الصادر يوم السبت 17 يونية تحت عنوان يلومون الأغنياء واللوم على قدر المعرفة..
غياب روح الشركة فى رأى داود بركات كان أول أسباب فشل الأغنياء المصريين فى الدخول إلى مجال الصناعة والتجارة فالعمل الفردى هو المعول عليه فى حياتنا الاجتماعية العملية فثلاثة يشتركون فى عمل واحد ينجحون ولو كان رأس المال قليلا وعشرة يشتركون بعمل واحد يفشلون ولو كان رأس المال كبيرا, وهذا على عكس ما نرى عليه الأوربيين.
ويقدم رئيس تحرير الأهرام نماذج للمحاولات الفاشلة التى أقدم عليها هؤلاء.. الشركة التوفيقية للمراكب فى النيل, شركة أراضى الدراكنة وبسنديلة, وشركة سكة حديد الفيوم وغيرها وغيرها مما أقدم الوطنيون على إنشائه من الشركات فكان الفشل نصيبه.
ويتلمس محرر الأهرام العذر لسراة المصريين لأنهم يجهلون قواعد الأعمال المشترك فيها ولم تتشرب نفوسهم روح هذه الأعمال فمن المحال أن نطالبهم بما لا يعرفون وأن نطلب منهم أن يقدموا على ما يجهلون, ويخلص من كل ذلك إلى القول أن على المصريين ألا يتوقعوا من أغنيائهم أن يخرجوا أموالهم من صناديقهم وخزاناتهم ليخلقوا بها أعمالا يرتزق من العمل بها المئات والألوف!
وقد نجح قارئ اسمه خليل حمدى فى تشخيص أسباب عدم إقبال أغنياء المصريين على إقامة المشاريع وكان فى طليعتها الأسباب التاريخية, فهو قد ارتأى أن المصرى راضى بالقديم حتى أنه يعتبره مقدسا محترما, وساق الأمثلة العديدة على ذلك.. حامل الشهادة إذا ما سألته ما يقعدك عن العمل قال قلة رأس المال وهى حجة فى ذاتها ضعيفة لما تراه من الأجانب الوافدين على مصر خالى الوفاض وإذا سألت ذا مال عن قعوده صم آذانه وانصرف إلى الفخفخة الباطلة. التاجر فى رأى خليل حمدى لم يكن تاجرا إلا بالاسم إذا وضع بجانب أخيه الأجنبى وأكثر تجارنا لو سألتهم عن رأس مالهم وقيمة أرباحهم وحساباتهم لما أجابك واحد منهم بغير كلمة واحدة وهى كلمة(على الله). يبقى أرباب الأطيان من الذوات والعمد والمشايخ فحالهم كحال رابيل المؤلف الفرنساوى المشهور إذ قال فى وصيته: لا أملك شيئا وعلى ديون وأوصى ببقية ما أملك للفقراء!
فريق المهاجمين كان أهمهم قارئ من المنصورة س.غ. طالب بالتجارة العليا والذى شن حملة عنيفة ضد أغنياء المصريين وكال لهم التهم..
فى مقاله الأول حمل هؤلاء تبعة التقصير المخجل فثمار الشقاء يجنيها أبناؤهم فى الجنسية لأن أولئك الأغنياء ما كان يهمهم مما وصلنا إليه شيئا طالما أنهم من العيش فى رغد ومن الحياة فى نعيمها المقيم وفيضها العميم هم وذريتهم من قبل ومن بعد لكنا نلومهم على مغبة تقصيرهم تلك التى حاقت بعامة المصريين ونخص بالذكر منهم طائفة المتعلمين, وأنهى هذا المقال بنصح هؤلاء بالأخذ بأيدى الشبان بإنشاء معامل كمعامل النسيج والورش الصناعية وإنشاء المحال التجارية لبيع ثمرات هذه المعامل.
مقاله الثانى خصصه للرد على مقال رئيس تحرير الأهرام الذى لم يجد بأسا فى نشره ويعترف بأنه إذا كان قد تفرد بمهاجمة الأغنياء فلأننى أقول ما أعتقده صوابا وسأكتب ما يعن لى فى هذا الموضوع راجيا من الأهرام الغراء أن توالى إبداء سديد آرائها!
قارئ آخر اسمه أيوب صبرى انضم لفريق المهاجمين, فبعد أن نبه إلى ما امتاز به أغنياء أوربا وأميركا من استثمار أموالهم فى طرق مختلفة أهمها الشركات والمصارف والمناجم. وهذه الطرق من طبيعتها تحتاج إلى أيد كثيرة مختلفة, هاجم أغنياء المصريين الذين لا يعملون عمل أغنياء الغرب فليس قعودهم عن ذلك ناتجا عن كرههم للربح الذى ينتج عن تلك الأعمال ولا عن كرههم أن يرتزق الوطنيون بواسطة أموالهم ولا عن جهلهم منافع الأعمال التى تدر عليهم الربح الكثير ولكن السبب عدم وجود نفر منا يحسن إدارة تلك الأعمال واستثمار هاتيك الأموال.
ولم ينكر المدافعون عن الأغنياء أو مهاجموهم أنهم, فى تلك الحقبة التاريخية على الأقل, لم ينجحوا فى الإجابة على السؤال الذى ظلت الأهرام تطرحه طول الوقت.. بماذا نشتغل؟؟؟