عظمة السلطان

د. يونان لبيب رزق
نشر فى الأهرام الخميس 20 أغسطس 1998
هنيئا أيها الملك الأجل ...................... لك العرش الجديد وما يظل
تسنم عرش إسماعيل رحبا ................ فأنت لصولجان الملك أهل
وحصنه بإحسان وعدل ..................... فحصن الملك إحسان وعدل
كان هذا مطلع قصيدة طويلة نشرتها الأهرام مصحوبة بصورة كبيرة للسلطان حسين كامل المناسبة كانت اعتلاء الأمير عرش البلاد, التاريخ: الأحد19 ديسمبر عام1914 وهى تصحح بذلك خطأ وقع فيه الأستاذ أحمد أمين وآخرين ممن قاموا على نشر ديوان حافظ إبراهيم, صاحب القصيدة, فأرخوا لها بيوم أول يناير عام 1915 المكان الصفحة الأولى من جريدتنا التى أعلنت أنها تستأثر بنشر القصيدة فيما جاء فى تقديمها بأنها "للشاعر الصداح الذى تهتز الكنانة لشعره طربا فى كل أمر خطير, ولما كان غرض الأهرام أن تتحف قراءها بكل غال نفيس اختصتهم بهذه التحفة التى أهدى إليهم دون سواهم"!
وكان لخطأ القائمين على نشر ديوان شاعر النيل ما يبرره, فقد كان غريبا أن يعلن خلع الخديوى عباس الثانى وتولى حسين كامل عرش البلاد يوم 18 ديسمبر وينشر الأهرام قصيدة حافظ إبراهيم فى اليوم التالى, مما يكشف عن أن الأخبار كانت تملأ أنحاء المحروسة بالتغيير المنتظر بعد أن علم الجميع بنية تركيا على دخول الحرب إلى جانب أعداء بريطانيا, والتوقعات التى سادت من جراء ذلك بتغيير شخص الجالس على العرش, وهو الأمر الذى كان قد استعد له شاعرنا بأحد قصائد المديح التى اشتهر بها!
ونترك حافظ إبراهيم ونعود لمطالعة الأهرام فى اليوم السابق على نشر القصيدة, فتحت عنوان "التغيير العظيم فى مركز القطر المصرى" نشرت جريدتنا نص الإعلان الصادر عن وزير الخارجية البريطانى والذى جاء فيه: "بالنظر لإقدام سمو عباس حلمى باشا خديو مصر السابق على الانضمام لأعداء ملك بريطانيا العظمى قد رأت حكومة جلالته خلعه عن منصب الخديوية وقد عرض هذا المنصب السامى مع لقب سلطان على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد على فقبله".
ونظن أنه قد استلفت نظر قارئ الأهرام فى ذلك اليوم البعيد ما حدث من تغيير.. ليس فقط فى شخص الجالس على عرش مصر وإنما أيضا فى لقبه.. السلطان بدلا من الخديوي.
وكان يمكن لهذا القارئ أن يتفهم أسباب التخلص من شخص عباس, فقد ظل الرجل أغلب سنى حكمه الاثنتين والعشرين مناوئا للوجود البريطانى, باستثناء السنوات الأربعة التى تولى خلالها السير جورست منصب المعتمد البريطانى فى العاصمة المصرية بين عامي1907 و1911 وقد وفر إعلان الحماية البريطانية على البلاد الفرصة للتخلص من الخديوى المشاغب.
ما لم يفهمه قارئ هذا الزمان الأسباب وراء تغيير لقب الحاكم من أبناء أسرة محمد على من سمو الخديوى إلى عظمة السلطان, وهو لقب كان قد اختفى من مصر فى أعقاب الغزو العثمانى للبلاد عام 1517 وتعليق آخر سلاطين المماليك, طومان باى على عود المشنقة عند باب زويلة.. وهى الأسباب التى كشفت عنها الوثائق البريطانية.
أما إلغاء لقب الخديوى فقد كان باعثه أنه لقب عثمانى منحه سلطان الأستانة لحكام مصر, ولما كان إعلان الحماية قد استهدف تقطيع بقية العلاقات التى تربط مصر بالدولة العلية, فلم يكن منتظرا الإبقاء على هذا اللقب الذى كان يحصل عليه الحاكم من أبناء أسرة محمد على بمقتضى فرمان شاهانى, وأما استبداله بلقب السلطان فقد كان وراءه التأكيد على القطيعة بين مصر وتركيا التى ظل حاكمها يتمتع بنفس اللقب, فلم يكن معقولا أن تحتمل دولة واحدة سلطانين فى آن واحد, يبقى توصيف السلطان بصاحب العظمة الأمر الذى فسرته لنا تلك الوثائق بأنه كان من الصعب أن يسمى سلطان مصر بصاحب الجلالة, فيحظى بنفس اللقب الذى يتمتع به ملك بريطانيا, كما لم يكن مطلوبا فى نفس الوقت أن يبقى صاحب السمو, خاصة وأن سائر الأمراء من أبناء أسرة محمد على كانوا يحملون بهذا اللقب!
وقد رحبت الأهرام بهذا التغيير ورأت أن ما حدث من بسط الإنجليز حمايتهم على مصر "ثم تولى عرشها حسين الأول تحت اللقب السلطانى وصارت خديويتها سلطنة لها ما للممالك من الأمانى والآمال.. لساغ لنا أن نقول أن سلطنة حسين الأول الذى ملك عرش النيل فى هذا الشهر إنما هى الدولة المصرية المحضة التى أتت عقب الدولة السمنودية آخر الدول المصرية المستقلة والتى انتهت على أيدى الفرس عام 328 قبل الميلاد, فكأنها وصلت ما انقطع منذ ثلاثة وعشرين جيلا, ثم إذا فاخرت مصر بمحمد على رأس البيت العلوى لأنه رد إلى مصر استقلالها الإدارى فكم لها أن تفاخر بحسين الأول الذى استبقى لها بحكمته ذلك الاستقلال وبنى عليه حتى صيره سلطنة وصير منصبه عرشا سلطانيا"! غير أن هذا الترحيب الحار لم يخف الحقيقة التى لم تلبث الأهرام أن كشفت عنها..
فى البداية قدمت جريدتنا ترجمة وافية عن حياة السلطان حسين كامل.. من مواليد20 ديسمبر عام 1853 أى أنه كان قد بلغ الواحدة والستين عند اعتلائه عرش مصر, بدأ دراسته فى مصر ثم استكملها فى فرنسا "ولما حصل من العلوم والمعارف القسط الوافى الوافر عاد إلى القطر المصرى", حياته العامة بدأها مفتشا عاما لأقاليم الوجهين البحرى والقبلى ثم ولى مناصب وزارية متوالية, الأوقاف, المعارف, الأشغال, الحربية, البحرية.. كل هذا فى عهد والده إسماعيل باشا, الذى اصطحبه بعد ذلك إلى منفاه إلى أن عاد بعد بضع سنوات ليتولى أعمال دائرته ودائرة والده.
لعل ذلك ما أعطاه مكانة بارزة فى رعاية الأعمال ذات الصلة بالريف, كان أهمها إنشاء الجمعية الزراعية الخديوية عام1898 والتى أصبحت على حد تعبير الأهرام "أما لوزارة الزراعة", فضلا عن نشاطه فى العمل الخيرى والذى تعددت وجوهه; رئيسا للجمعية الخيرية الإسلامية منذ عام 1906 بعد وفاة مؤسسها, الشيخ محمد عبده "وسار بها شوطا بعيدا نحو الترقى والتقدم ولا يزال يرأسها إلى اليوم", رئيسا لجمعية الإسعاف الخيرية منذ عام 1912 "فلم شعثها وأيد مركزها وسعى سعيه الحميد وعاونها بماله وخبرته حتى ابتنت لها محلا خاصا", أما فى المجالات الرسمية فقد تولى رئاسة مجلس الشورى خلال عامى 1909 و1910 "وتوصل بأن يجعل له كرامة وهيبة ورأيا نافذا لم يكونا له من قبل"!
نشرت الأهرام بعد يومين من إعلان السلطنة نص "التبليغ الوارد إلى الحضرة السلطانية من قبل الحكومة البريطانية", وهو تبليغ طويل استعرض فيه المستر ملن شيتهام, القائم بأعمال المندوب السامى البريطانى فى العاصمة المصرية الظروف التى أدت إلى إعلان الحماية على البلاد, ثم خلص إلى الأسباب التى دعت حكومة لندن إلى اختيار حسين كامل لاعتلاء عرش البلاد "فبالنظر لسن سموكم وخبرتكم قد رؤى فى سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد على أهلية لتقلد منصب الخديوية مع لقب( سلطان مصر) وانى مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة عند عرضى على سموكم قبول عبئ هذا المنصب أن بريطانيا العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسئولية فى دفع أى تعد على الأراضى التى تحت حكم سموكم مهما كان مصدره".
فى موقع آخر من التبليغ يسجل البريطانيون ما استتبع إسقاط السيادة العثمانية من زيادة صلاحيات السلطان الجديد "فتزول القيود التى كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم وللحق الذى لسموكم فى الإنعام بالرتب والنياشين", غير أنها على الجانب الآخر تعلن مسئوليتها عن العلاقات الخارجية لمصر مما يستدعى أن "تكون المخابرات منذ الآن بين حكومة سموكم وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته فى مصر".
رأى حسين كامل فى التبليغ عبر عنه فى "الأمر الكريم السلطانى الصادر لصاحب العطوفة حسين رشدى باشا" رئيس الوزراء, وقد أثبت فيه توليه للعرش بلقب سلطان وأن السلطة ستكون "وراثية فى بيت محمد على طبقا لنظام يقرر فيما بعد", ثم تبع ذلك بتقديم برنامجه, وكان توجيه العناية "على الدوام إلى تأييد السلطة الحسية لجميع أهاليه.. لذلك ستكون همة حكومتنا منصرفة إلى تعميم التعليم وإتقانه بجميع درجاته وإلى نشر العدل وتنظيم القضاء بما يلائم أحوال القطر فى هذا العصر.. أما الهيئات النيابية فى القطر فسيكون من أقصى أمانينا أن نزيد اشتراك المحكومين فى حكومة البلاد زيادة متوالية".
بدأت فى ذات الوقت الاحتفالات باعتلاء حسين كامل عرش مصر, وقبل معاينة تلك الاحتفالات نسجل ملاحظة مؤداها أن الرجل ظل أشهر سلاطين مصر فى العصور الحديثة, ولسببين فى تقديرنا, أولهما: أنه كان الوحيد الذى تولى الحكم سلطانا, وغادره إلى الدار الآخرة بنفس اللقب, على عكس خلفه فؤاد الأول الذى لقب بالسلطان خلال ما يزيد قليلا عن السنوات الأربع الأولى من حكمه, ثم صار ملكا خلال ما يناهز العقد والنصف المتبقية من هذا الحكم, وثانيهما: أنه كان أول حاكم مصرى تسك العملة باسمه بعد أن كانت العملة العثمانية هى المتداولة من قبل, ولا زال البعض يحتفظون بالقرش المخروم الذى ضرب فى عهد الرجل, وكانت له قيمة كبيرة فى عصره!
نعود بعدئذ إلى متابعة الاحتفالات كما قدمتها لنا الأهرام..
فى يوم الأحد 20 ديسمبر تم تعطيل "وزارات الحكومة وجميع المصالح الأميرية بالقاهرة وبسائر أنحاء القطر المصرى", وفى ظهر نفس اليوم أطلق21 مدفعا من الخرطوم ومصر والإسكندرية وبورسعيد إعلانا بتنصيب الأمير حسين كامل سلطانا على القطر المصرى, تبعها فى اليوم التالى إطلاق نفس العدد من المدافع فى ذات المدن.
فى الساعة العاشرة من صباح الأحد خرج موكب السلطان الجديد.. من قصر إبنه إلى قصر عابدين "مجتازا شارع سليمان باشا فشارع قصر النيل فشارع عماد الدين فشارع المغربى بين صفين من الجند البريطانى فى جانبى طريقه راكبا مركبة سلطانية يجرها أربعة جياد ومحفوف بكوكبة عظيمة من الحرس السلطانى المصرى وأخرى من فرسان الجيش البريطانى ومن خلفه مركبات أخرى سلطانية تقل أصحاب السعادة الوزراء وكبار موظفى القصر السلطانى".
يمين الطاعة للسلطان الجديد كان الفقرة التالية من برنامج الاحتفال, فبعد أن أدى الضباط المصريون والإنجليز العاملين فى الجيش المصرى واجب التبريك انتقلوا إلى ثكنة قصر عابدين فحلف الأولون منهم اليمين وكان نصه: "أقسم بالله ثلاثا وبكتبه وبرسله وذمتى وشرفى واعتقادى أن أكون صادقا مخلصا أمينا لصاحب العظمة حسين كامل سلطان مصر ولحكومته السنية مطيعا لجميع أوامره الكريمة ولجميع الأوامر الحقة التى تصدر إلى من رؤسائى منفذا لإرادة عظمته فى البر والبحر داخل وخارج القطر".
اختلف بالطبع يمين الضباط البريطانيين, وكان قصيرا ونصه: "أعلن بشرفى باعتبارى ضابطا وذا شرف اننى فى خدمتى لصاحب العظمة حسين كامل سلطان مصر فى مدة شروط خدمتى الحالية أو التالية أقوم بأداء الواجبات التى تعهد إلى بإخلاص وأمانة".
ثمة ملاحظة لا ينتبه إليها إلا من قرأ الوثائق البريطانية وعقد مقارنة بين ما أثبتته وما جاء فى الأهرام, فقد بدأت جريدتنا بتوصيف حسين كامل "بسلطان مصر والسودان", ففى عددها الصادر يوم18 ديسمبر زفت الأهرام خبر تولى الرجل عرش السلطنة تحت عنوان "السلطان الكامل حسين الأول سلطان مصر والسودان", وهو ما ظلت تفعله لأربعة أيام تالية, لكنها لم تلبث أن توقفت عن استخدام هذا التوصيف واكتفت بتلقيبه بسلطان مصر فيما نلاحظه ابتداء من الخبر الذى نشرته يوم22 ديسمبر تحت عنوان "التغيير القضائى الشرعى فى القطر المصري- سلطان مصر يولى القضاة".
أسباب هذا التغيير تكشف عنها الوثائق البريطانية, ففى التعليمات التى بعثت بها الخارجية البريطانية لممثلها فى العاصمة المصرية في27 نوفمبر علقت موافقتها على منح لقب السلطان أن يحذف تماما منه أية إشارة إلى السودان, وهو ما لم يكن قد نمى إلى علم الأهرام وغيرها من الصحف المصرية إلا بعد وقت.
من جانب آخر حرص البريطانيون على إظهار كونهم قد استأثروا تماما بالسلطة فى البلاد فلم يتم تبادل "رسائل التهانى والولاء" سوى بين ملك إنكلترا والسلطان, ثم بينه وبين اللورد كتشنر, هذا فضلا عن أن حسين كامل لم يزر إلا ممثل بريطانيا فى القاهرة, فيما نشرته الأهرام فى خبر جاء فيه: "يركب عظمة السلطان من قصر عابدين الساعة السادسة مساء إلى الوكالة البريطانية فى موكب فاخر مهيب ويقابل بما يقتضيه مقامه السلطانى العالى من التجلة والإكرام ثم يعود إلى القصر"!
تبع ذلك استبدال الراية العثمانية ذات الهلال والنجمة التى تتوسطه إلى الراية المصرية ذات الثلاثة أهلة التى يتوسط كل منها نجمة.. يصف مراسل الأهرام فى الإسكندرية المظاهرة التى صاحبت هذا التغيير فى رسالة بعث بها إلى الصحيفة يوم19 ديسمبر كان مما جاء فيها: "اتشحت المدينة منذ البارحة حلة قشيبة من الرايات المختلفة الأشكال والألوان ما عدا الراية العثمانية فكان طى هذه الراية اليوم أكبر علائم هذا التغيير الخطير".
ويستطرد مراسل جريدتنا فى الثغر فى رصد هذا التغيير فيقول أنه قد ورد على المحافظة "أمر من نظارة الداخلية بأن تصنع لمصالح الحكومة فى الثغر رايات جديدة بقدر عددها من طراز الراية المثلثة الأهلة والنجوم وأن تطوى الراية العثمانية اليوم الظهر تماما عند إطلاق المدافع إجلالا لإلقاء مقاليد السلطنة المصرية إلى السلطان الجديد وتنشر الراية الجديدة بدلا منها".
بقى بعد كل ذلك الدعاء باسم السلطان المصرى فى المساجد فى خطب الجمعة بعد أن ظل هذا الدعاء باسم السلطان العثمانى لما يناهز الأربعة قرون, ثم بعد ذلك فى صلوات الكنائس الأمر الذى تابعته الأهرام فى أكثر من خبر.. كان منها: "أقيمت فى كنيسة اللاتين بالموسكى صلاة حافلة ابتهالا إلى الله بتأييد عظمة السلطان وتوفيقه فى خدمة السلطنة المصرية حضرها حضرات الوزراء المصريين والجنرال مكسويل قائد القوات البريطانية العام فى القطر المصرى والأمين العام فى الديوان العالى السلطاني.. وأقيمت لهذا الغرض نفسه فى كنيسة الأقباط الكاثوليك بملوى صلاة حافلة كذلك حضرها جمهور من الموظفين والعمد والأعيان دعوا فيها لعظمة السلطان بالنصر والتأييد والعمر المديد"!
وكان على أشهر سلاطين مصر فى التاريخ الحديث أن يشرع فى مزاولة مهامه, وكانت صعبة..
انصرف بعض هذه المهام إلى ترتيب البيت من الداخل مما نكتشفه من مجموعة التغييرات التى أحدثها الرجل فى الهيئة العاملة فى قصر عابدين, وكان مما ساعد حسين كامل على إنجاز هذه المهمة أن عددا من رجال الخديوى السابق كانوا بصحبته خلال رحلته الأخيرة إلى الخارج, الأمر الذى مكن السلطان من وضع عدد من خلصائه فى الأماكن الشاغرة.
تنبئنا الأهرام أنه فى نفس يوم اعتلاء السلطان حسين للعرش عين "حضرة الناظم والناثر المشهور ولى الدين يكن بك الكاتب فى نظارة الحقانية كاتبا لأسرار سعادة الشيخ الجليل محمود شكرى باشا رئيس ديوان الحضرة السلطانية", ثم تخبرنا بعد أيام قليلة بصدور الإرادة السلطانية "بتعيين حضرة عزتلو إبراهيم رمزى بك رئيسا لقلم الترجمة فى الديوان السلطانى وحضرة مراد وهبة بك نجل سعادة يوسف وهبة باشا وزير المالية تشريفاتيا وحضرة اليوزباشى مصطفى أنور أفندى كجوك أحد ضباط بوليس مصر قومندانا لبوليس القصر السلطانى", وتتالت التعيينات فى المعية السلطانية بعد ذلك حتى أنه يمكن القول أن الطاقم الذى كان يعمل فى سراى عابدين فى ظل الخديوية قد تغير بالكامل.
جانب آخر من تلك المهام انصرف إلى تقطيع الرابطة الأخيرة التى ظلت تربط مصر بالدولة العثمانية.. والمعلوم أنه بعد الاحتلال البريطانى لمصر عام1882 بقيت أربع من تلك الروابط.. المندوب السامى التركى الذى تم ترحيله من البلاد بعد قيام الحرب, الجزية التى كانت تدفعها المالية المصرية للخزينة العثمانية والتى توقفت عن دفعها بعد أن ضمنت مصر أحد الديون العثمانية فى مقابل هذه الجزية, الفرمان الشاهانى الذى كان يصدر بتسمية الحاكم الجديد من أبناء أسرة محمد على لدى انتقال الحكم إلى أحد أبنائها.
بقيت من كل تلك الروابط التى لم ينجح المحتلون فى الاقتراب منها تلك الخاصة بتعيين قاضى مصر المسئول عن القضاء الشرعى فى مصر المحروسة, وقد تهيب الإنجليز من الاقتراب من تلك الرابطة لطبيعتها الدينية, ولما يمكن أن يترتب على هذا الاقتراب من إثارة المشاعر الدينية لدى جموع المصريين.
إعلان الحماية وتولى السلطان الجديد وفر الفرصة لتقطيع تلك الرابطة, الأمر الذى بشرت به الأهرام المصريين فى عددها الصادر يوم22 ديسمبر فى خبر طويل تحت عنوان "التغيير القضائى الشرعى فى القطر المصري- سلطان مصر يولى القضاة".
ففى اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة السلطان انعقد فى قصر عابدين تقرر "أولا: إلغاء وظيفة قاضى مصر وبعبارة أخرى قطع كل علاقة لسلطان تركيا بالقضاء الشرعى فى الديار المصرية, ثانيا: مشروع قانون معدل لمواد فى لائحة ترتيب المحاكم الشرعية ومبطل لأخرى فيها بمناسبة إلغاء وظيفة قاضى مصر, ثالثا: مشروع مرسوم بتعيين رئيس ونائب مصريين كذلك لمحكمة مصر الشرعية الابتدائية".
الجانب الأخير من تلك المهام انصرف إلى محاولة تهدئة الجبهة الداخلية, وكان معلوما أن طلاب المدارس ظلوا بامتداد الفترة السابقة على قيام الحرب قوام الحركة الوطنية, ومن ثم فقد بدأ السلطان الجديد بزيارات متعددة لتلك المدارس, خاصة العليا منها, وحث طلابها على الانصراف إلى دروسهم والالتزام بالهدوء, ولم يكن يمضى يوم دون أن تقدم الأهرام خبرا لإحدى تلك الزيارات.
فى زيارته لمدرسة المعلمين بالناصرية تحدث إلى أبنائها بقوله: "أود أن أراكم جميعا نابغين فى العلوم وأود أن تذكروا للأمة فضلها على تعليمكم, وتذكروا أنكم مدينون لها فتخدموها خدمة الأوفياء العارفين بالجميل", وخاطب طلاب مدرسة الطب والصيدلة فى قصر العينى داعيا إياهم بالحرص على "أن تكونوا مستقيمين وأمناء فى واجباتكم واعتصموا بالمروءة والشفقة فى حرفتكم فإن الطبيب مكلف بتطبيب الفقراء والمساكين قبل سواهم وأنتم طلبة الآن فاحرصوا على أن تتعلموا العلوم فقط واتركوا السياسية لأربابها", وفى مدرسة الهندسة المصرية حرض أبناءها على الانصراف جميعا إلى التعليم دون سواه, غير أن الواقعة حدثت فى مدرسة الحقوق السلطانية التى قام بزيارتها يوم 19 فبراير عام1915.
حسب التقرير الذى نشرته الأهرام عن هذه الزيارة لم يكن ثمة ما يشير إلى أى أزمة وإن كانت لغة السلطان فى مخاطبة طلابها أكثر حدة من سواها, فقد جاء فى جانب من كلمته قوله "أوصيكم بالتفرغ للنظر فى أشغالكم فقط وهى التى تعود عليكم بالفائدة", ونصحهم فى جانب آخر "بشكر من هو أكبر منكم ومن علموكم وجعلوكم رجالا تميزون بين الضار والنافع" وحذرهم فى الجانب الأخير من الانغماس فى المسائل التى لا تعنيهم "ودعوا التطرف فالتجارب هى التى ستفيدكم".
لم تسجل الأهرام رد فعل طلاب الحقوق, غير أنه فيما يبدو كان عنيفا, فقد تقرر طرد سبعة عشر من تلاميذ المدرسة بعد الزيارة السلطانية, الأمر الذى دعا الصحف المصرية ومنها جريدتنا إلى المطالبة بالعفو عنهم "فقد عملوا بغير قصد والذى نظنه أن بعضهم ألف مثل هذا مرارا وتكرارا وكانت الحكومة تغتفره بحلم واسع فظن هذا الفريق أن الظروف كلها واحدة.. فما فعلوه اليوم ليس من بنات اليوم بل هو ثمرة الأمس, وهو ليس ببعيد", غير أن الاسترحام لم يلق أذنا صاغية عند السلطان, باعتبار أن هؤلاء الطلاب قاموا بدور تحريضى لسائر زملائهم, ونبهت عليهم المحافظة بالعودة إلى بلادهم, غير أن ما قام به هؤلاء لم يكن نهاية لأعمال الاحتجاج ضد السلطان حسين كامل, فقد ارتآه الوطنيون لعبة فى أيدى الإنجليز مما عرضه لمخاطر بالغة خلال الثلاث سنوات التى قضاها فى قصر عابدين.