الخروج إلى مالطة!

د. يونان لبيب رزق
نشر فى جريدة الأهرام الخميس 13 أغسطس 1998
بينما تمتعت جزيرة مالطة ذات الموقع الحاكم فى البحر المتوسط بسمعة حسنة عند الإنجليز باعتبارها رمزا لهيمنة الأسطول البريطانى على هذا البحر, فإن العكس حدث بالنسبة للمصريين فقد اكتسبت الجزيرة الصغيرة(117ميل مربع) سمعة سيئة عند المصريين, ولم تأت هذه السمعة من فراغ!
البداية كانت خلال العصور الوسطى عندما استقرت فى الجزيرة إحدى فرق الصليبيين المنسحبة من الأراضى المقدسة, وهى جماعة فرسان القديس يوحنا, واتخذتها مقرا للهجوم على سفن المسلمين المبحرة فى المتوسط, وكان منها السفن المصرية بالطبع, وقد بدت هذه السمعة السيئة للجزيرة, فى عدائها للإسلام, فى الوجدان المصرى العام من توصيف من يطلب المستحيل بأنه كمن "يؤذن فى مالطة"(!).
عادت تلك السمعة تطفو مرة أخرى عند قدوم الحملة الفرنسية عام 1798, صحيح أن بونابرت استولى وهو فى طريقه إلى مصر على الجزيرة الشهيرة, وصحيح أنه حاول أن يتقرب إلى المصريين من خلال هذا العمل, فيما جاء فى منشوره الأول الذى بعث به إليهم بقوله أن الفرنسيس "قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية( الفرسان) الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين", غير أن الصحيح أيضا أنه اصطحب معه لدى قدومه عددا من المالطيين واستفاد بهم كبعض أدواته لحكم المصريين مما كان مثار نفور شديد من جانب أولاد البلد!
للمرة الثالثة تزداد سمعة الجزيرة الصغيرة سوءا بعد أن وقعت تحت الحكم الإنجليزى واكتسب أبناؤها الرعوية البريطانية, وكانوا من بين أفواج الأجانب الذين جاءوا إلى مصر خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر, فى عصر إسماعيل, ثم بعد ذلك فى عهد الاحتلال البريطاني, وقد قدم هؤلاء مع أقرانهم المهاجرين من جنوب إيطاليا أسوأ النماذج, حتى أن الصحف المصرية كثيرا ما كانت تصفهم "برعاع الأجانب", ولأنهم, شأنهم شأن بقية الأوربيين النازحين من سواحل وجزر البحر المتوسط, قد استقروا فى الإسكندرية وشكلوا نسبة كبيرة بين سكانها من الجانب, فكثيرا ما كانت تطفو نزاعاتهم مع المصريين من أبناء الميناء على السطح, خاصة عندما تتخذ تلك الصراعات طابع العنف, والمعلوم أن الأسطول البريطانى عندما قصف المدينة في11 يوليو عام 1882 قد تذرع بحالة الشغب الدموى التى عرفتها المدينة نتيجة للمشاجرة التى نشبت بين حمار مصرى وأحد الأوربيين, وكان مالطيا!
بلغت مالطة القمة فى سوء السمعة يوم8 مارس عام 1919 عندما اقتادت السلطة العسكرية البريطانية سعد زغلول وزملاؤه منفيين إليها, الأمر الذى أدى إلى تفجر الثورة الشعبية الشهيرة فى اليوم التالي, وإلى تداول اسم مالطة بين جموع المصريين بامتداد الشهر الذى بقى فيه الزعماء فى الجزيرة المنكودة.
ولقد عرف المصريون النفى إلى الخارج من قبل.. فى العصر العثمانى إلى الشام أو سائر ممتلكات الدولة العلية, وبعد بناء الدولة الحديثة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر, كان المنفى المفضل عند أبناء أسرة محمد على إرسال من يرغبون فى نفيهم لأسباب تتعلق بسلوكهم الإجرامى إلى السودان, وعلى وجه التحديد إلى مناطقه الشرقية فى طوكر حيث يكاد يستحيل على المنفى الهروب والعودة إلى مصر, أما المنفيون السياسيون فقد ظلوا يرسلون إلى الممتلكات العثمانية, خاصة فى الشام, الأمر الذى تعرض له عديد ممن شاركوا فى أعمال الثورة العرابية كان فى طليعتهم خطيبها الشهير.. السيد عبد الله النديم.
اختلف الأمر بعد قيام الحرب العظمى فى صيف عام 1914 و بعد تسلم "السلطة العسكرية" البريطانية زمام الأمور فى البلاد, وبدأ المصريون يعرفون منافى جديدة, وكانت فى أرجاء الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس هذه المرة, مما شكل فصلا هاما فى التاريخ المصرى تابعته الأهرام بتفصيل ملحوظ..
وضع مصر السياسى المعقد الناشئ عن سيادة اسمية عثمانية, وسيطرة فعلية بريطانية بدأ فى التعرض للاهتزاز بعد قيام الحرب, فقد تصورت الأهرام وصحف أخرى أن التجربة التى عرفتها البلاد خلال العامين السابقين أثناء الحرب الطرابلسية بين الدولة العثمانية وإيطاليا بالتزام مصر بلون من الحياد يمكن أن يتكرر هذه المرة, وقد دعم من هذا التصور التعليمات التى أصدرها مجلس النظار بجلسته المنعقدة يوم3 أغسطس عام1914 وجاء فيها أنه قد تقرر أن تلزم مصر الحياد التام لعدم وجود رابطة تربطها بدولة من الدول المتحاربة, وتأكيدا على طابع الحياد حذرت تلك التعليمات المصريين من تهريب السلاح أو قبول التجنيد فى جيش من الجيوش المتحاربة والقيام بعمل حربى فى الموانى المصرية.
بيد أن جريدتنا وجموع المصريين الذين تصوروا أن التاريخ يكرر نفسه كانوا واهمين هذه المرة, فقد اختلف الأمر بعد أن دخلت الدولة المحتلة الحرب, وإذا كانت بريطانيا هى التى صممت على إتباع مصر سياسة الحياد من الحرب الطرابلسية فهى التى جرجرت البلاد بعيدا عن دائرة الحياد خلال الحرب الجديدة.
بدأت نذر هذا الخروج عندما وافق مجلس النظار على ما انتحلته سلطات الاحتلال لنفسها من استخدام حقوق الحرب فى الموانى لمصرية بما فيها طبعا الموانى المطلة على القناة "ولا يخفى أن لقناة السويس أهمية عظمى وشأنا كبيرا فى نظر بريطانيا العظمى فحماية القناة من كل طارئ أو كل مفاجأة تعد فى مقدمة ما تنظر إليه وتهتم به".
نشرت الأهرام مقالا طويلا تعليقا على تلك الإجراءات ووصفتها بأنها فى مجملها تشكل انتهاكا واضحا لاتفاقية القسطنطينية عام 1888 التى قررت حياد الممر المائى الشهير, الأمر الذى دعا جريدتنا إلى القول بأن هذه الإجراءات "غير متفقة مع الحياد التام" وإلى التساؤل عما إذا كانت البلاد قد أصبحت حقيقة فى حالة حرب.
لم يمض وقت طويل حتى جاء الرد على المتسائلين عن كنه الوضع المصرى بعد قيام الحرب, وهو الرد الذى تقدم به مجلس النظار وساقته الأهرام تحت عنوان "ترك مصر الحياد- قرار وزارى عظيم الشأن", والذى جاء تحته نص القرار الذى أصدره المجلس "بشأن الدفاع عن القطر المصرى فى أثناء الحرب القائمة بين ألمانيا وبين بريطانيا العظمى "وقد تضمن عشرين مادة كان أهمها المادة الثالثة عشرة وكان نصها: "القوات الحربية التابعة لصاحب الجلالة البريطانية يجوز لها أن تباشر جميع حقوق الحرب فى الموانى المصرية أو فى أرض القطر المصري, وكل ما يجرى الاستحواذ عليه فى الموانى المصرية وفى أرض القطر المصرى من سفن حربية أو مراكب تجارية أو بضائع يجوز إحالة النظر فيه إلى إحدى محاكم الغنائم البريطانية".
فى يوم2 نوفمبر عام 1914, وبعد أن اتسع نطاق الحرب, وبدا أن الدولة العثمانية قاب قوسين أو أدنى من الاشتراك فيها أقدمت سلطات الاحتلال على خطوة أخري, فقد طلعت الوقائع المصرية على أبناء البلاد فى ذلك اليوم بإعلانين من الجنرال مكسويل "قائد الجيوش فى مصر".. الأول من سطور قليلة وجاء فيه: "ليكن معلوما أنى أمرت من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بأن آخذ على مراقبة القطر المصرى العسكرية لكى يتضمن حماؤه فبناء على ذلك قد صار القطر المصرى تحت الحكم العسكرى من تاريخه", الثانى: كان أكثر تفصيلا وجاء فى ثلاثة مواد كان أهمها التحذير الذى جاء فى المادة الثانية من أن "أحسن ما يمكن للأهالى عمله للصالح العام هو الامتناع عن كل عمل من شأنه تكدير صفو السلام العام أو التحريض على التنافر أو مساعدة أعداء ملك بريطانيا وحلفائه والمبادرة باتباع جميع الأوامر التى تعطى تحت إشرافى لحفظ السلام العام وحسن النظام عن طيب خاطر ومتى اتبعوا ذلك فلا يكونوا معرضين لأى تداخل فى شؤونهم من السلطة العسكرية".
تحت عنوان "بسط الأحكام العرفية فى القطر المصرى"علقت الأهرام فى عددها الصادر فى اليوم التالى بأن هذه الشروط "تعد خفيفة ومن الصعب جدا الحصول على أخف منها ونحن لا نشك فى أن الجمهور يقابلها بالرضا ويقبلها بطيبة خاطر ويساعد باحتفاظه بالسكينة على تسهيل المهمة الصعبة المنوطة بالسلطة العسكرية".
وكانت هذه القرارات بمثابة مولد "السلطة العسكرية" فى مصر والتى عانى منها أبناء البلاد معاناة شديدة لنحو ثمان سنوات (1914 ـ 1922), فهى التى جمعت المصريين خلال الحرب رغم أنوفهم وبعثت بهم إلى ميادين القتال الأمر الذى انعكس على الموال الحزين الذى تغنى به أبناء الريف.. "بلدى يا بلدى و(السلطة) خدت ولدى وياعزيز عينى أنا بدى أروح بلدي", وهى التى قامت بعملية القمع الواسعة ضد المصريين بعد قيام ثورة1919 والتى راح ضحيتها مئات منهم, وقبل ذلك كانت هى السلطة التى أمسكت بيد من حديد على زمام الأمور فى البلاد خلال سنوات الحرب الأولي, ولم تتورع فى سبيل ذلك عن استخدام أقسى الأساليب بما فيها النفى إلى مالطة!
وكالعادة فى مثل تلك الظروف فإن السلطة الجديدة كانت تنتهز الفرص لاستعراض عضلاتها, فيما نتبينه من ذلك الخبر الذى نشرته الأهرام تحت عنوان "عرض الحامية البريطانية فى مصر", وجاء فيه: "تعرض الحامية البريطانية على اختلاف أسلحتها فى أحياء مصر غدا بالشكل الذى عرضت به الجنود الهندية منذ أيام قصيرة ومن جملة الأسلحة التى تؤلف منها هذه الحامية القوات الأسترالية والقوات الهندية", باختصار أرادت السلطة أن تبلغ رسالة إلى المصريين مؤداها أنهم يواجهون الإمبراطورية وليس مجرد الحامية التى عرفوها من قبل, والتى لم يكن عدد أفرادها يتجاوز الستة آلاف.
لعل ذلك ما دعا الأهرام إلى أن تتخذ جانب الحذر فى مواجهة القوة الباطشة الجديدة, خاصة بعد أن بثت السلطة رجالها فى دور الصحف, الأمر الذى شعر به المصريون من أمرين:
أن عددا من أهم الجرائد العربية قد أوقفتها السلطة, وأحيانا لأسباب تافهة, فيما يبينه هذا القرار الصادر عن الجنرال مكسويل ونشرته الأهرام بشأن تعطيل "الجريدة" إحدى أهم الصحف المصرية التى كانت تصدر وقتذاك.. جاء فيه "جناب حضرة مدير جريدة( الجريدة)- بأمر جناب اللفتنانت جنرال ج.غ.مكسويل قائد جيوش جلالة ملك بريطانيا العظمى بالقطر المصري- أبلغكم أنه لما طلب منكم حذف الفصل الافتتاحى من عدد جريدتكم الصادر بتاريخ8 نوفمبر الجارى استبقيتم هذا العنوان وإمضاءة الكاتب له فقد تقرر توقيع الجزاء على جريدتكم بتعطيلها عن الصدور يوما واحدا" مما آثر معه البعض التوقف عن الصدور تجنبا لكتابة ما لا ترضى عنه السلطة العسكرية مما فعله الأستاذ أمين الرافعى أحد رجال الحزب الوطنى المعروفين, عندما توقف عن إصدار جريدة الشعب.
إن الصحف التى استمرت فى الصدور ظلت تعانى من عمليات شطب بعض موضوعاتها التى يقوم بها قلم الرقيب الإنجليزي, ولما كانت تقنية الطباعة لم تتقدم بعد إلى الحد الذى يسمح بتعويض المادة الصحفية المشطوبة بمادة أخرى فى وقت قصير, فقد ظلت الصحف تصدر وبها أنهر بيضاء من غير سوء, وكان على القراء أن يضربوا أخماسا فى أسداس عما تضمنته تلك الأنهر.
وقد عانت الأهرام مثل غيرها من الصحف من أعمال الشطب تلك, وإن كان الملاحظ أن تلك المعاناة بالنسبة لصحيفتنا قد جرت فى حدود ضيقة, فيما نرصده مرة فى العدد الصادر يوم 18 ديسمبر عام 1914 حيث حذف الرقيب أغلب ما جاء تحت عنوان "الاحتفال الرسمى العظيم الشأن" والذى تناول الاحتفالات التى قامت بها السلطة بعد إعلان الحماية على البلاد, والآخر يوم 31 من نفس الشهر فى مقال تحت عنوان "السيادة والحماية" حاول فيه كاتبه أن يكيف الحماية "من حيث النظريات القانونية عند علماء القانون والتشريع الدولي".
وهذا الحذر الذى التزمت به صحيفتنا اعترفت به صراحة فى عددها الصادر يوم2 نوفمبر تحت عنوان "مراقبة الصحف المصرية" فيما جاء فى قولها: "إن الأهرام التى ورثت منهج الاعتدال عن مؤسسيها. وورث صاحبها خطة الدفاع عن مصلحة مصر الحقيقية عن أبيه وعمه. لا تدخر ولا يدخر صاحبها وسعا فى مواصلة السير فى تلك الطريق القويمة التى انتهجت لها من يوم نشأتها فكانت أقوم السبل الموصلة إلى الخير والمبعدة عن الضير, وعلى هذا نسير وبهذا نعمل غير حائدين يمنة أو يسرة".
غير أن ذلك لم يكن يمنعها بين الحين والآخر من انتقاد شدة الرقابة, وكانت فى ذلك تعمد إلى النقل من الصحف الأجنبية, خاصة الإجبشيان جازيت والتى كان معلوما أنها تنطق باسم الجالية البريطانية فى البلاد, فيما جاء فى قولها "إن الانتقاد الصادر عن نية حسنة والمبنى على معلومات صحيحة لا يعد مضرا مهما بلغ من الشدة وأن الانتقاد الممنوع هو الانتقاد المضر".
غير أن الشدة لم تقتصر على الصحافة وإنما امتدت إلى الأشخاص الذين رأت "السلطة العسكرية" فى نشاطاتهم ما يعكر صفو الأمن العام, وهى شدة بدأت منذ الأيام الأولى من الحرب, وحتى قبل اشتراك بريطانيا فيها..
الجانب الأول من هذه الشدة تم توجيهه إلى رعايا دول الوسط, ألمانيا والنمسا, والملاحظ وفقا للإحصاءات السابقة على قيام الحرب أن أعداد النمسويين كانت تفوق كثيرا أعداد الألمان, فبينما بلغ الأولون فى آخر تلك الإحصاءات الذى تم عام1907 أكثر من 7700 نمسويا لم يزد عدد الألمان 185, والملاحظ ثانيا أنه خلال الأسابيع الأولى من الحرب بدأ نزوح أعداد كبيرة من هؤلاء إلى بلادهم, حتى لم يمض وقت طويل إلا وكانوا قد تناقصوا كثيرا, خاصة وأنه بعد دخول الإنجليز الحرب صدرت أوامر السلطة العسكرية بترحيل رعايا الدول المعادية, ولم يبق منهم إلا عدد قليل من أصحاب المصالح الحيوية, حتى أن عدد النمسويين أضحى أقل من 8200 بينما تناقص عدد الألمان إلى بضع عشرات على وجه التحديد 257 شخص
فى 4 أغسطس عام 1914 ترصد الأهرام حركة خروج هؤلاء فى يوم واحد, قالت: "قد غادر مصر أمس جمهور غفير من النزلاء الألمانيين والنمساويين ذاهبين إلى ألمانيا والنمسا للالتحاق بإخوانهم المقاتلين وبينهم المسيو شاده مدير المكتبة الخديوية الألمانى الجديد ووكيلا قنصلية النمسا فى مصر.
"وعدد النمسويين الذين غادروا مصر أمس لهذا الغرض 40 شخصا وقد أرسلت إليهم حكومتهم إلى الإسكندرية طرادة حربية لنقلهم اليوم إلى تريستا هم وإخوانهم المجندين من الإسكندرية".
كان معنى ذلك أن من بقى من النمسويين والألمان على أرض مصر, إما من أصحاب المصالح الاقتصادية الكبيرة التى لا يمكن التضحية بها بسهولة, خاصة وأن هؤلاء كانوا قد برزوا فى ميدان الفندقة, أو من كبار السن الذين قضوا أغلب حياتهم على أرض الكنانة, ولقد حرصت السلطة العسكرية على أن تضع هؤلاء تحت رقابة مشددة وترحيل من يبدو منه أية نشاطات معادية, وكان هذا الترحيل يتم فى العادة إلى إحدى الدول المحايدة ليعود منها إلى بلده, غير أنه فى بعض الحالات التى قد يترتب على إطلاق سراح أصحابها تهديد أمن الإمبراطورية, فقد أرسل هؤلاء إلى مالطة.
الجانب الثانى كان موجها للأتراك المقيمين فى مصر, وعلى الرغم من أن المصريين كانوا من الناحية الشكلية رعايا عثمانيين, إلا أن حامل الجنسية المصرية وبمقتضى حكم أصدرته محكمة الاستئناف فى القاهرة عام 1898 هو "كل من كان مستوطنا مصر حينما أعطيت لها الامتيازات والحقوق عام 1841من غير نظر إلى ديانته وجنسيته سواء كان من الأهالى الأصليين أو الذين أتوا إليها مع ساكن الجنان محمد على باشا لأن مصر لم تكن لها قبل منح هذه الامتيازات والحقوق جنسية خاصة بها غير الجنسية العثمانية".
وتؤكد الأهرام فى عددها الصادر يوم 12 نوفمبر أن الإشاعات قد سرت أن "السلطة العسكرية" اعتقلت جميع الأتراك, وهى وإن حاولت أن تنفى هذه الإشاعة إلا أنها أكدت أن المعتقلين من هؤلاء شكلوا أعدادا كبيرة وأنها تحقق معهم ومن تثبت براءته تطلق سراحه.
كان هذا قبل أن تقرر حكومة الأستانة دخول الحرب إلى جانب دول الحلفاء, غير أنه ما حدث ذلك حتى وضعت السلطة هؤلاء تحت الرقابة المشددة خشية أن يعمدوا إلى إثارة المصريين الذين ساء أغلبهم فرض الحماية على البلاد وتقطيع أواصر العلاقات مع دولة الخلافة.
وجهت السلطة الجانب الثالث من شدتها إلى المصريين, وقد تخوفت من ناحية من أنصار الخديوى عباس الثانى الذى منع من العودة إلى مصر ثم خلع عن العرش, كما تخوفت من ناحية أخرى من رجال الحزب الوطنى الذين استقر بعض زعمائهم فى الأستانة, وتحولت أغلب قواعده إلى العمل السري, بكل ما يصحب هذا العمل من انتهاج أسلوب العنف.
بالنسبة لأنصار الخديوى فقد وضعتهم السلطة العسكرية تحت الرقابة المشددة, أما من كان بصحبة عباس فى الخارج ورغب فى العودة إلى البلاد بعد خلع الرجل فقد كان عليه أن يتعرض لإجراءات تحقيق صارمة.
تروى لنا الأهرام فى هذا الصدد قصة مؤداها أن" أربعة من موظفى معية سمو الخديوى السابق وصلوا أمس إلى الإسكندرية قادمين من أوربا على الباخرة الإيطالية فاعتقلتهم السلطة العسكرية وأرسلتهم تحت الحفظ إلى القاهرة للنظر فى أمر قدومهم إلى القطر المصرى فى هذه الآونة وهم طبيب وثلاثة ضباط".
أما بالنسبة لأنصار الحزب الوطنى فقد تخوفت السلطة العسكرية من أعمال تخريب يمكن أن يقوموا بها فى داخل البلاد الأمر الذى دعاها إلى إصدار مجموعة من التحذيرات:
"1- كل شخص ارتكب فعلا يحدث ضررا بتلغراف أو تلفون أو واسطة من وسائط المواصلات أو بسكة حديد أو بمرفأ يكون عرضة للعقوبة.
2- كل شخص يذيع بلا تخويل قانونى أو ينقل أية معلومات عن تحركات القوات البريطانية أو أى مركب من مراكب تلك القوات أو أداة من أدواتها الحربية أو أية معلومات تختص بخطط أية حركات بحرية أو برية يكون عرضة للحبس.
3- كل شخص يثير عواطف الكراهة للحكومة يكون عرضة للعقوبة بالحبس."
حتى أوائل نوفمبر ظلت الأهرام تنفى ما تردد عن اتساع نطاق المعتقلين من المصريين, فقد كتبت يوم الخميس 12 من ذلك الشهر أن "السلطة العسكرية لم تعتقل من المصريين سوى نفر قليل لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع وقد دعاها إلى ذلك داع كبير".
وانتقدت مروجى إشاعات السوء الذين "يروون كل يوم خبرا للقبض على فلان ولطرد فلان فإن نية الحكومة أسمى من ذلك كله"!
غير أنه لم يمض وقت طويل حتى كانت جريدتنا تتابع عمليات الاعتقال مع سائر الصحف, ولعل ذلك الخبر الطويل الذى نشرته تحت عنوان "المعتقلون والمشتبه فيهم" يكشف عن طبيعة الحملة التى شنها رجال السلطة.. يقول الخبر: "قبض بوليس القاهرة على محمد أفندى رفعت وكان من كتاب الصحف فى القاهرة وسافر إلى الأستانة, والظاهر أنه جاء منذ عهد قريب إلى القاهرة واجتمع مع آخرين ويقال أنهم باحوا للمحققين بما يفيد الأمن العام"!
وقد أدى اتساع نطاق الاعتقالات إلى فتح باب مالطة.. التاريخ 27 نوفمبر عام 1914, الخبر تحت عنوان "المصريون بمالطة" أما محتوياته فقد جاء فيها "قررت السلطة العسكرية البريطانية بعد التحقيق والبحث فى الشبهات المسندة إلى المصريين المعتقلين فى القلعة "وبعد أن عددت أسماءهم انتهت إلى القول أنهم "سيسافرون إلى الإسكندرية اليوم الظهر ومنها ينزلون إلى الباخرة عثمانية فتبحر بهم وبالذين فيها من الألمان والنمسويين إلى مالطة غدا الفجر".
والمعلوم أن باب الجزيرة العتيدة ظل مفتوحا على مصراعيه يتلقى المصريين من ضحايا السلطة العسكرية حتى اضطر الإنجليز إلى إغلاقه بعد أن ارتكبوا خطأ العمر ودفعوا عبره سعد زغلول وعدد من الزعماء المصريين فى 8 مارس عام 1919, وأشعلوا بذلك ثورة المصريين.