ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 28 أبريل 2010

249 ديوان الحياة المعاصرة

الحــرب الضــروس‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشر فى جريدة الاهرام الخميس 6 أغسطس 1998


-‏ ارتفاع سعر شوال الدقيق 15 قرشا مع قيام الحرب‏.‏
‏-‏ البنك الأهلى يشتغل فى الليل والنهار بختم أوراق البنكنوت
الحرب العالمية الأولى لم تعرف بهذا الاسم إلا بعد ربع قرن 1914 ـ 1939 وذلك بعد أن أصبحت هناك حرب عالمية ثانية‏,‏ قبل ذلك كانت تسمى غالبا بالحرب الكبرى أو العظمي‏ وأحيانا بالحرب الكونية غير أنه كان للأهرام تسمية رابعة فيما وضعته فى عنوان لمقال لها مع ظهور نذر الحرب‏,‏ وكان‏"‏ مقدمات الحرب الضروس‏-‏ مفتاح الشر كلمة أو كلام‏"‏ والذى نشر فى عددها الصادر يوم 30 يوليو عام 1914.‏
ومع أن هناك دراسة قيمة لأوضاع‏"‏ مصر فى الحرب العالمية الأولي‏"‏ وضعتها الدكتورة لطيفة سالم قبل نحو عقد ونصف إلا أنه يبقى تلك‏"‏ الأشياء الصغيرة‏"‏ التى تحفل بها الصحف‏,‏ ومنها الأهرام‏,‏ والتى يصعب على واضعى الكتابات العلمية تسجيلها‏,‏ كما تبقى تلك الشهور الأربعة الغامضة فى موقف مصر من تلك الحرب‏..‏ بين قيامها فى أوائل أغسطس وإعلان الحماية البريطانية على البلاد فى أوائل ديسمبر‏.‏
مع احتمالات أن يتسع نطاق الحرب التى بدأت بين دولتى الوسط‏(‏ النمسا وألمانيا‏)‏ ودولتى الاتفاق الثنائي‏(‏ فرنسا وروسيا‏)‏ بأن تدخلها بريطانيا‏,‏ تعرب الأهرام عن توجسها من انعكاسات ذلك على مصر‏"‏ فسيكون لها دور غير قليل لأنها لا يمكنها أن تقف على الحياد لأن لإنكلترا صوالح مهمة تدعوها لأن تمكث فى البحر المتوسط وتدافع عن القنال لأجل مرور جيوشها ومراكبها فى الشرق الأقصي‏..‏ وأن مشكلة مصر السياسية ستتمم بشكل من الأشكال فإذا كان الفوز لدول الاتفاق تصبح مصر مستعمرة من مستعمرات إنكلترا وإذا انتصرت دول التحالف تبتعد إنكلترا عن البحر المتوسط وفى الوقت ذاته عن مصر أيضا‏,‏ أما إذا اشتركت الدولة العثمانية فى الحرب وساعدت دول التحالف فتبقى سيطرتها على مصر وإلا فستكون الحرب سببا للقضاء المبرم على المملكة العثمانية‏"‏ وهى النبوءة التى تحققت بالفعل‏!‏
تحسبا لاحتمالات قيام‏"‏ الحرب الضروس‏"‏ صدرت الأهرام يوم الأحد ‏2‏ أغسطس وقد حفلت ببحوث عديدة‏..‏
بحث منها تحت عنوان‏"‏ مصر فى الحرب الكبري‏-‏ التأهب لصد المغيرين‏-‏ ممن نخاف؟‏",‏ تناولت فيه شئونا شتي‏,‏ سياسية وعسكرية واقتصادية‏..‏
من الوجهة الأولي‏,‏ السياسية‏,‏ تساءلت أنه إذا كانت الدولة العثمانية قد أعلنت الحياد‏"‏ وهى صاحبة السيادة على مصر ومصر تتبعها فى ذلك بحكم القانون الدولي‏,‏ ولا تخشى أن تخرق الدول المتحاربة حرمة هذا الحياد فلماذا تخاف الدولة المحتلة الطوارئ على مصر؟؟‏".‏
عسكريا رصدت الأهرام خوف الدولة المحتلة على مصر‏"‏ من الطوارئ والغارات فى هذه الحرب الكبرى مما تنم عليه الحركة غير العادية فى الدوائر العسكرية البريطانية هنا‏..‏ ووجود بعض سفنها الحربية فى البحر الأبيض المتوسط‏..‏ زد على ذلك ما اتصل بنا من إنشائها فى الإسكندرية استحكامات فى المكس ونصبها المدافع فيها وفى حصن كوم الدكة وعزمها على جلب مدرعة وبضع نسافات من الأسطول البريطانى للإقامة فى الإسكندرية‏".‏
أما من الناحية الاقتصادية فتقرر الأهرام أن الحرب الوشيكة شمل تأثيرها كل شئ‏"‏ حتى حركة نقل الركاب والبضائع فقد علمنا من ثقة أن مصلحة السكك الحديدية والتلغرافات قررت أن تنقص من اليوم عدد قطارات الركاب والبضائع فى جميع سككها خشية أن يطول زمن الحرب وينفد الفحم فى مخازنها مع عدم استطاعتها جلب فحم من أوربا لتعذر نقله وغلاء ثمنه‏"!‏
فى اليوم التالى أصبحت الحرب الضروس واقعا قائما‏,‏ وصدر عدد الأهرام فى ذلك اليوم وهو يحمل عنوانا عريضا‏"‏ الحرب العمومية‏-‏ تأثيرها السياسى والمالى فى القطر‏"‏ أردفته بجملة من العناوين الفرعية‏:"‏ استدعاء ناظرى الأوقاف والزراعة‏-‏ إلغاء إجازات الموظفين واستدعاؤهم‏-‏ رفض مصلحة البوستة تصدير الحوالات إلى خارج القطر‏-‏ تحذير الدول شركات بواخرها من خطر الحرب‏-‏ فرار باخرة ألمانية إلى ألمانيا رأسا‏"!‏
ما جاء تحت هذه العناوين لا بد وأن يكون قد أشعر قارئ هذا الزمان بأن الحرب بالنسبة للمصريين تحولت من عناوين صحف إلى واقع معاش‏..‏
جاء فى موقع منها القول أن‏"‏ لورد كتشنر ارتأى من مدة قصيرة أن تقام فوق النيل وبعض فروعه فى الدلتا جسور قوية عريضة تصلح لمرور الجنود عليها فيما لو اقتضت الحال إرسال الجيش من الداخلية إلى ساحل البحر للوقوف فى وجه الأعداء إذا حاولوا النزول إلى البر بين مصبى النيل‏".‏
وجاء فى موقع آخر أن الناس‏"‏ يهاجمون البنك الألمانى بكل اهتمام لاسترداد مالهم من الأموال فيه‏.‏ ورأينا ساحة البنك الأهلى المصرى مزدحمة بالذين يطلبون صرف ما عندهم من أوراق البنك حتى تتحول إلى ذهب وفضة‏".‏
وتنبئنا الأهرام فى موقع ثالث أنه‏"‏ منذ أمس إلى هذا النهار ارتفع سعر شوال الدقيق 15‏ قرشا صاغا إذ كان يباع بقيمة 120‏ قرشا فصار بقيمة 135‏ وارتفع سعر الفحم الحجرى وسعر البترول وهذا كان حتى أمس على حاله ولا زال ارتفاعه قليلا ولكن يخشى كثيرا من شدة صعوده‏.‏ وقد كفت شركات السكورتاه‏(‏ التأمين‏)‏ عن ضمان ما يرسل إلى الخارج من مشحونات‏"!‏
الأيام الثلاثة التالية لم تترك تطورات الحرب المتلاحقة الفرصة للأهرام ولا غيرها أن تلتفت إلى الداخل‏..‏ عناوين جريدتنا فى اليوم الأول‏:"‏ ابتداء القتال بين فرنسا وألمانيا وروسيا‏-‏ جنود ألمانيا فى فرنسا‏-‏ جيش روسيا فى أرض ألمانيا‏-‏ استيلاء الألمان على لكسمبورج‏-‏ الطيارات الفرنسوية تلقى القذائف على الألمان‏",‏ أما عناوين اليوم التالى كانت‏:"‏ الحرب وحوادثها بين الدول الأوربية الكبري‏-‏ اشتراك إنكلترا فى الحرب‏-‏ الدولة العلية تحشد جيشها‏",‏ وكانت فى اليوم الثالث‏:"‏ الحرب بين إنكلترا وألمانيا‏-‏ فرنسا وألمانيا تخترقان بلجيكا وهولندا‏-‏ إنكلترا تحجز لنفسها المدرعات التى تبنيها لتركيا وشيلي‏".‏
وتفسح الأهرام صفحاتها فى هذه المناسبة النادرة لأقلام الكتاب المرموقين الذين أدانوا قيام الحرب إدانة شديدة‏..‏ الدكتور شبلى شميل يكتب بأنه‏"‏ ليس لهذه الحروب الفظيعة التى لا يروى التاريخ نظيرها نتيجة أخرى غير هذا الخراب ولو فاز محركوها خاصة وانتصروا على خصومهم الصابرين‏.‏ لأن خصومهم فى انكسارهم لا يذعنون بسهولة لقدر حائق أو قوة فائقة‏.‏ فتطول الحرب ويعم الخراب ويتقهقر العمران سنين إلى الوراء‏",‏ ويختم الرجل إدانته بقوله‏"‏ الويل اليوم ليس للمغلوب وحده بل للظافر أيضا وعلى نسبة واحدة لأن الخراب سيشملهما معا‏".‏
غير أن كل ذلك كان القطرة التى تسبق الغيث‏..‏
آثار الحرب الضروس على معيشة المصريين كانت أكثر ما جذب اهتمام الأهرام فى أعقاب قيامها‏,‏ ففى مقال طويل تحت عنوان‏"‏ ما لنا وما علينا‏"‏ حذرت جريدتنا من أنه لو اشتبكت أوربا كلها فى الحرب‏"‏ وهى سوق الحركة التجارية فى كل العالم‏..‏ فالتجارة المصرية من صادر ووارد تصبح فى جمود تام فيغلب أن تنقطع المواصلات التلغرافية والبريدية وتبطل خطوط الملاحة‏",‏ ثم تتبع تحذيرها بجملة من المقترحات‏;‏ منع تصدير مواد الطعام تحسبا من المجاعة‏,‏ الاشتغال بالتجارة لا للربح وإنما لتلافى الضيق‏,‏ وضع قانون موحد لتحديد الأسعار بحيث يبقى الربح الكافى لتجار المواد الغذائية‏,‏ تعديل القوانين التجارية تعديلا وقتيا بحيث تقى الأمناء والمستقيمين من الإفلاس القهري‏,‏ وأخيرا اتخاذ الإجراءات الصارمة لإشاعة احترام القانون لأن‏"‏ بعض الجهلة فى هذا القطر اعتادوا أن يتوهموا أن القانون أصبح حبرا على ورق‏"!‏
وحول هذين المحورين‏;‏ الاقتصادى والاجتماعي‏,‏ تركزت اهتمامات الأهرام خلال تلك الشهور الأربعة التى أعقبت قيام الحرب العظمي‏..‏
فتح‏"‏ الشيشيني‏-‏مدرس العلوم الاقتصادية‏",‏ كما عرف نفسه فى مقال طويل نشرته له الأهرام تحت عنوان‏"‏ واجب الحكومة حيال الأزمة الحاضرة‏"..‏ فتح باب مسألة‏"‏ سحب النقود من التداول وعدم قبول الأوراق المالية فى المعاملة‏"‏ ونصح الحكومة بسرعة إصدار نقود ورقية‏"‏ فإنها حائزة على الشروط اللازمة لاستعمالها وسيلة للاستبدال وستقوم بوظيفة النقود ما دامت الثقة موجودة بها وليست النقود مطلوبة لذاتها وإنما هى وسيلة لغاية هى المبادلة مهما كانت هذه الوسيلة‏;‏ ذهبا أو فضة أو نحاسا أو ورقا‏".‏
وحدثت الاستجابة الفورية لهذا المطلب وبدأ البنك الوطنى يشتغل‏"‏ فى الليل والنهار بختم أوراق البنكنوت الكبرى والصغرى التى حلت محل الذهب فى القطر وينتظر أن يكون منها لديه عدد يكفى حاجات الطالبين‏"!‏
من جانب آخر‏,‏ وبعد أسبوع من قيام الحرب وضع نقولا الحداد‏,‏ أحد كتاب الأهرام‏,‏ دراسة هامة رصد فى جانب منها زيادة أسعار الاحتياجات الضرورية لأبناء هذا الزمان‏,‏ وهى تختلف إلى حد كبير عن احتياجات مصريى أواخر القرن‏:‏ السكر بأنواعه‏;‏ الناعم والرؤوس‏,‏ الصابون بدرجتيه‏;‏ الأولى والثانية‏,‏ الدقيق بأنواعه‏;‏ البلدى والهندى والأسترالى والمسكوفي‏(‏ الروسي‏),‏ وأخيرا البترول والسبيرتو وفحم الكوك‏"‏ وقد كتبت بعض محلات البقالة الفرنجية والجزارة الأسترالية فوق أبوابها أن أسعارها ارتفعت والدفع نقدا‏,‏ وأعلنت مخازن الأدوية الكبيرة زبائنها أنها تضيف إلى الأسعار عشرة بالمائة والدفع نقدا أيضا‏"!‏
رصد فى الجانب الآخر تأثيرات ذلك على مختلف الطبقات الاجتماعية من المصريين‏,‏ وكانت متفاوتة‏"‏ فالطبقة العليا قد لا تتأثر من هذا الغلاء‏.‏ والطبقة الوسطى تتأثر منه تأثرا قد ينغص عيشها ولكن لا يضنكها‏,‏ وأما طبقة العامة فتصاب بالضنك لا سيما أن أعلى درجات الغلاء أصابت الحاجات الجوهرية كالخبز والدقيق والزيت والسمن والسكر والأرز والسبيرتو والفحم والحطب‏"‏ وناشد الرجل الحكومة أن تسرع بتنفيذ ما سبق وطالبت به الجريدة‏"‏ بوضع لائحة لأسعار المواد الحاجية بغية صد مطامع الطامعين‏".‏
أحد الفقراء الذين دافع عنهم محرر الأهرام‏,‏ واسمه فؤاد أبو السعود‏,‏ بعث برسالة طويلة نشرتها له الجريدة أنهاها بقوله‏:"‏ أين يذهب الفقير وماذا يعمل ليتمكن من المعيشة‏,‏ وهو فى حالة يأسف لها كل قلب شريف ونفس عالية وإنا نشكر الأهرام لدفاعها عنا نحن الفقراء ونشكر بلسانه حكومتنا آلتى أشفقت علينا ورأفت بحالنا وعساها تصدر الأمر بتحديد الأسعار‏.‏ نشكر الأهرام فقد طمأنت قلوبنا وأراحت نفوسنا بما أظهرته من بطلان دعوى هؤلاء المدعين بحرج الحالة فى مصر‏".‏
ولم يمض سوى أيام معدودة حتى أصدرت وزارة الداخلية قرارا بتعيين الأعضاء الذين تؤلف منهم لجان التثمين فى البلاد وراعت فى ذلك ألا تكون أكثريتهم من التجار خشية أن ينحازوا لزملائهم‏"‏ فتذهب الفائدة المقصودة من هذا القانون الجديد‏".‏
ولما كانت الإسكندرية أكثر بلاد القطر حساسية من تطورات الحرب‏,‏ سواء بحكم الوجود الأجنبى الكثيف بها‏,‏ أو بسبب قربها من أوربا حيث ميادين القتال المستعر‏,‏ أو لأنها ميناء الصادرات والواردات الأساسى فى البلاد‏,‏ فقد كانت بمثابة‏"‏ الترمومتر‏"‏ لمعاناة المصريين الاقتصادية‏.‏
ففى العاصمة الثانية‏,‏ كما كانت تسمى وقتذاك‏,‏ بدأت لجان التسعير فى عملها‏,‏ ولما كان وضع تعريفة عامة لضروريات الحياة ليس بالأمر الهين فقد استغرق بعض الوقت غير أنه كان قد تم وضعها قبل نهاية أغسطس‏,‏ وقد شملت أنواع القمح‏;‏ الصعيدى والبحيرى والذواتي‏,‏ الفول‏,‏ العدس أبو جبة والمدشوش‏,‏ الشعير بنوعيه‏,‏ الذرة بنوعيها‏,‏ الدقيق البلدى والفرنساوى والهندى والأميركانى والأسترالى والإنكليزي‏"‏ وسعر الأقة من الخبز الإفرنجى قرشان ومن البلدى نمرة‏1‏ قرش و‏03‏ ومن البلدى نمرة‏2‏ قرش وعشرين‏"!‏
شملت أيضا السمن المغربى والشامى والبلدى فضلا عن اللحوم‏;‏ الضأن البلدى والضأن الشامي‏,‏ ابقرى البلدي‏,‏ الجاموسى البلدي‏,‏ والعجالى الجاموسي‏.‏
وانتهت القائمة بأسعار الصابون البلدى النقى والكندية‏,‏ فضلا عن أنواع الوقود‏;‏ فحم نيو كاسل‏,‏ فحم كارديف‏,‏ فحم كوك‏,‏ البترول المسكوفي‏,‏ البترول الروماني‏"‏ وسعر الأقة الواحدة من السبيرتو‏3‏ قروش والصفيحتين من البنزين 7 "!‏
ومع أن اللجان التى تألفت فى القاهرة والإسكندرية وعواصم المديريات نشرت التعريفة الجديدة فى الصحف فضلا عن لصقها على جدران المنازل وفى الشوارع‏,‏ غير أن ما أقلق المصريين فى ذلك الوقت كان كيفية وضعها موضع التنفيذ والبحث عن الوسيلة المناسبة لدفع التجار إلى احترامها‏,‏ ومن ثم صدر القانون الذى يبيح الحكم على المخالفين بالحبس والغرامة‏"‏ وبإقفال محل المخالف أو بأن تسحب جهة الإدارة الصنف الذى وقعت بسببه المخالفة وتتولى بيعه‏..‏ غير أن الإقفال وما يترتب عليه من تعطيل البضائع فى مخازنها لا يجوز الأمر به إلا إذا كانت مقادير الصنف المتداولة من الكثرة بحيث لا يضر بالمستهلكين تعطيل جزء منها‏"!‏
ومع أن الشق الثانى من السياسة الاقتصادية بمنع تصدير المواد الغذائية كان الأيسر إلا أنه وقفت دونه أحيانا بعض العقبات منها الخلط الذى حدث فى تقدير أهمية بعض هذه المواد‏,‏ فقد بثت الأهرام فى أحد أعدادها شكوى أصحاب معامل بونتي‏,‏ وكانت متخصصة فى إنتاج البيرة من سلطات الجمارك التى منعت تصدير صفقة لها إلى سوريا‏"‏ بحجة أنها من المواد الغذائية دون النظر إلى الحكمة المقصودة من إصدار الأمر العالى الخاص بهذا المنع وهى منع تصدير ما يخشى انقطاعه فهل يخشى من انقطاع وجود البيرة مع كثرة وجود المواد التى تصنع منها؟؟‏"!‏
وكالعادة وفى مثل هذا الجو العام من اضطراب الأسواق تحدث بعض المفارقات الطريفة‏..‏
من هذه المفارقات محاولة بعض المحال التجارية أن تنتهز الفرصة لتروج لبضاعتها فيما يكشف عنه ذلك الإعلان الذى نشرته الأهرام وجاء فيه‏"‏ إن قطع طرق المواصلات بين أوربا والشرق جعل ورود بضائع جديدة متعذرا ومن حسن حظ محلات أوروزدى باك‏(‏ عمر أفندي‏)‏ أنها أرسلت رؤساء أقسامها لأوربا لانتقاء البضائع الجديدة قبل الميعاد المعتاد إرسالهم فيه سنويا ولذا اشتروا كميات عظيمة من عموم البضائع الحديثة وصدر أكثرها قبل تعطيل المواصلات وقد وصلت تلك البضائع وستعرضها بأثمانها الاعتيادية‏"!‏
منها أيضا ما أسمته الأهرام فى عددها الصادر في‏4‏ سبتمبر‏"‏ بالحرب العوان على الدجاج والفراخ‏"‏ إذ‏"‏ زعم زاعم أن الحكومة تصادر الدجاج والفراخ فهب الأهالى لذبحها‏,‏ وقد كنا نحسب أن المحلة الكبرى تفردت بهذه المذبحة ولكن المستفاد من رسائل مكاتبينا أن ذلك حدث فى كل جهة حتى قال مكاتبنا فى أشمون أن الفرخة التى كانت بعشرة قروش عرضت للبيع بأربعة قروش وكثيرون أكلوا الدجاج حتى لا يصادر‏,‏ وبما أن البيض من أعز المواد الغذائية كاللحم أو أفضل صار من الواجب على رجال الحكومة أن ينبهوا الأهالى إلى خطئهم حتى لا تحرم البلاد من الفراخ والبيض‏"!!‏
واستجابت السلطات فعلا للمطلب الأهرامى وكان من بين جدول أعمال بعض كبار رجال الداخلية الذين قاموا بجولة فى مديريات الوجه البحرى خلال شهر سبتمبر تكذيب الإشاعة عن مصادرة الحكومة للفراخ والأغنام‏!‏
غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية الأمر الذى عكسته حالة من التذمر التى سادت فى الأوساط الفقيرة بذلت الحكومة غاية جهدها لاحتوائها‏..‏
كما هو متوقع بدأت القلاقل من الإسكندرية وقدمت مظاهرة الخبز التى شهدتها المدينة يوم الأحد 30 أغسطس نموذجا لحالة التذمر التى انتشرت فى البلاد‏,‏ ونترك لمكاتب الأهرام فى الثغر وصف ما حدث فى ذلك اليوم‏..‏
يستهل هذا الوصف برصد خروج نحو ألف شخص من العمال والصناع ليتجمعوا أمام دار المحافظة‏"‏ يشكون من قلة الأشغال وانقطاع موارد الأرزاق ويطلبون بصريح العبارة خبزا‏..‏ كان ذلك سببا لتقاطر المارة إلى جهتهم من كل صوب فلم تمض ساعة من الوقت حتى صار عدد الجمهور المجتمع فى المنشية الصغرى وحول المحافظة يعد بالألوف وربما كان لا يقل عن سبعة بل ثمانية آلاف‏.‏ وكانت علائم البؤس والشقاء والحاجة تلوح على وجوه أكثرهم‏".‏
بعد التجمع بدأ التظاهر ويقول صاحبنا أنه كانت للمجتمعين‏"‏ ضجة عالية لأنهم جعلوا يتشاكون ويخبرون الغير بما أصابهم من ضيق‏,‏ فكان الواقف وهم فى تلك الحالة يسمع واحدا يقول ماذا نفعل إذا لم تنجدنا الحكومة هل نسرق أم نستعطى أم نموت جوعا؟ ويقول آخر أين نظارة الأوقاف تنظر لهؤلاء الناس ولآى وقت تدخر الأوقاف خيراتها؟ وقد تحمس بعضهم فجعلوا يصيحون بأعلى الأصوات‏(‏ عاوزين عيش‏..‏ عاوزين شغل‏)‏ وصار فريق من الشبان يكرر هذه الألفاظ بنسق واحد متناسب‏"!‏
فى نفس الوقت رفع مجلس نقابة عمال الصنائع اليدوية بالإسكندرية عريضة يشرح فيها‏"‏ الحالة السيئة التى وصل إليها العمال فى الظروف الحاضرة التى يشكون فيها من الضنك والفاقة ويطلبون الإعانة ومساعدتهم بتقديم ما يقتاتون بهم وعائلاتهم ويطالب بتأليف لجان عامة تجمع التبرعات من القادرين لإنفاقها على أولئك البائسين وهذه اللجان تعطى كل عامل ما يكفيه لسد بعض مطالبه الضرورية أو صرف جزء من أموال الأوقاف الخيرية‏".‏
فى محاولة من بلدية الإسكندرية لمواجهة الموقف سعت إلى تدبير عمل للعمال العاطلين‏"‏ يخفف ضنكهم ويفيدهم بعض الفائدة من الوجهة المادية‏..‏ تسوية أراضى البلدية فى الشاطبى والإبراهيمية‏",‏ وتقول الأهرام أن البلدية لم تكن فى حاجة إلى ذلك ولم يكن المشروع مطروحا على بساط البحث من قبل‏"‏ والغرض الأصلى من النظر فى هذه المسألة إيجاد عمل للعاملين من الوطنيين‏..‏ وقد لوحظ فى مسألة تعيين الأجور للنساء والأولاد إمكان اشتغال العامل وبعض أفراد عائلته فإذا كان لشخص ولدان وامرأة لا تأنف من العمل فيكون كسبهم اليومي‏7‏ قروش صاغ مع العلم أن عملهم ينتهى الساعة الواحدة بعد الظهر ويكون فى إمكان النشيط منهم أن يشتغل شغلا آخر مفيدا فيما يبقى من ساعات النهار‏"!‏
فى نفس الوقت أخذت الصحف تحث القادرين على مد يد المعونة لأبناء الطبقات الفقيرة الذين تضرروا من الحرب خاصة بعد‏"‏ جنوح بعض الرعاع واللصوص إلى الجنون وهجومهم على محال البقول‏",‏ وأن الحل أن يبادر الأغنياء‏"‏ الذين لا هم لهم سوى تكديس الأموال‏"‏ بتقديم ما يمكنهم لهذا الجيش من العمال والفقراء‏"‏ الذين بطش بهم الدهر على حين غرة فأوقعهم فى حظيرة البؤس وأحاطهم بسياج من الفاقة‏"!‏
لعل ذلك ما دفع محافظ العاصمة يوم ‏3‏ سبتمبر إلى دعوة أعيانها للتباحث فى طرق إعانة المحتاجين والبائسين‏"‏ الذين يستحيل عليهم تحصيل أقل رزق أو عيش فلا تمد يد الإعانة إلى شخص يستطيع العمل وتحصيل رزقه حتى إذا تقدم شخص معوز محتاج إلى لجنة الإعانة ورأته قادرا على العمل ترسله إلى لجنة تشغيل العاطلين‏".‏
وقد أدى الخوف من الاضطرابات إلى أن يقترح أحدهم‏,‏ محمد حسن فهمي‏,"‏ إغلاق المعاهد الدينية اتقاء للفتن أن يثير ثائرها‏..‏ وإن تعطيل الأزهر ما دامت الحرب قائمة فى أوربا من مصلحة الأزهر والأزهريين‏",‏ وهو ما لم توافق عليه الأهرام التى رأت أن‏"‏ الأزهر الشريف أكثر المدارس هدوءا وسكونا ولا سيما فى الأوقات الحاضرة فشيوخه كافة عاكفون على إلقاء دروسهم بجد ونشاط فائقين‏".‏
الأغرب من اقتراح إغلاق الأزهر المقال الذى كتبه قارئ آخر اسمه جليل صراف يعدد فيه منافع الحرب فيما جاء فى قوله‏"‏ للحروب بعض المنافع تلخص كلها فى جملة واحدة وهى انتصار القوة للحق فمنها تخليص المغلوب من سيطرة الغالب‏,‏ ومنها إنقاذ بعض الشعوب من حكم دولة مختلفة الأصل واللغة والعادات‏,‏ ومنها إنقاذ الضعيف من إغارة‏"‏ والرجل يرى أن القتال أفضل من حالة السلم المسلح التى كانت سائدة فى أوربا قبل قيام الحرب فهو قد أنزل‏"‏ ضررا عظيما بالتجارة وأوقف حركتها ولو قليلا ولولا ألمانيا لما صرفت الدول الأموال الطائلة والثروة الهائلة فى تعزيز حريتها بل كانت استعملتها لإصلاحات تفيد الأفراد والبلاد‏",‏ ويبدو أن جليل صراف كان من أنصار حزب‏"‏ وقوع البلاء ولا انتظاره‏",‏ وإن كنا لا ندرى رأيه بعد معاينة كل حجم البلاء الذى وقع بالبشرية من جراء الحرب الضروس‏.