ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 28 أبريل 2010

248 ديوان الحياة المعاصرة

تزويج الفتيات المصريات‏!‏


د. يونان لبيب رزق


نشر فى جريدة الأهرام الخميس 30 يوليو 1998


فى أوائل مارس عام 1914‏ تقدم زكريا بك نامق المحامى عضو الجمعية التشريعية بمشروع قانون بشأن تزويج الفتيات المصريات‏,‏ وهو المشروع الذى أثار جدلا واسعا‏,‏ وشكل فصلا من فصول رواية ممتدة‏..‏ رواية حماية المرأة والاهتمام بشئونها‏,‏ وهى الفصول التى تتالت منذ أن أصدر قاسم أمين كتابه المشهور‏"‏ تحرير المرأة‏"‏ عام 1899‏ أى قبل عقد ونصف‏.‏
مشروع القانون خصصت له الأهرام فى عددها الصادر يوم‏2‏ من ذلك الشهر ما يقرب من صفحة كاملة تقدم قراءتها صورة ممتعة لأوضاع مرأة هذا الزمان‏,‏ خاصة ما اتصل منها بقضايا الزواج وتكوين الأسرة‏,‏ وهى قضية كانت محل اهتمام الرأى العام المصرى خلال الشهور السابقة‏..‏
فقد تبنت الأهرام خلال تلك الشهور حملة صحفية نشرتها تحت عنوان‏"‏ الشبان وإعراضهم عن الزواج‏",‏ وكعادة جريدتنا فى مثل تلك الحملات فقد فتحت صفحاتها للقراء ليقدموا آراءهم فى هذا الشأن‏..‏ شأن أزمة الزواج التى يبدو أنها كانت قد استحكمت وقتذاك‏.‏
فى عدد الأهرام الصادر يوم 10‏ ديسمبر عام 1913‏ كتب القارئ محمد البرديسى مقالا ممتعا حول هذه الأزمة عرف الزواج فى مستهله بأنه‏"‏ رباط دينى,‏ طبيعى,‏ فطرى,‏ مدنى وإن شئت أن تعبر عنه بعبارة أوضح فقل سنة الله فى خلقه حفظا لهم من الاضمحلال والتلف‏".‏
ويتوقف صاحبنا عند أقوال طائفة من الفلاسفة القدماء‏,‏ أسماها طائفة المركونين‏,‏ ارتأت أن‏"‏ الزواج بدعة سيئة من شأنها استعباد الأرواح والأنفس وسجنها فى سجن مادي‏",‏ ومع أنه يعترف أن هذه الفكرة دخلت أذواق بعض الناس‏"‏ فقد أبطلتها أبحاث الباحثين ومزقتها نتائج التجارب ولم يبق لها أثر‏".‏
ويضرب مثلا يدلل به على أن الزواج كان دائما أداة عمران الأمم‏..‏ المثل من التاريخ الرومانى,‏ استقاه من الفترة التى أعقبت حروبا أهلية طويلة بين الرومانيين بعضهم وبعض‏,‏ حتى امتلك زمامهم إمبراطور قوى فرأى أن‏"‏ سنن الزواج قد عبثت بها الأغراض والشهوات فبدأ النقص ينخر فى عظام مجتمعهم‏"‏ فسن قوانين جديدة وخص المتزوجين فيها بمكافآت كثيرة وهبات جزيلة وضرب على غير المتزوجين ضرائب ثقيلة فأخذ الناس يتسابقون إلى الزواج ليوفروا على نفسهم دفع الضرائب وليفوزوا بأخذ الهبات‏",‏ وخلص من ذلك إلى القول أن‏"‏ الزواج لازم لحفظ سلامة البشر وراحة ضمائرهم‏"!‏
من العام إلى الخاص حيث يرصد البرديسى ظاهرة إعراض الشبان عن الزواج‏"‏ حتى صار لكثرة البنات غير المتزوجات سماسرة يحسنون فيهن أمام الشبان كما للبهائم والعقارات وما ذلك إلا لإعراضهم عن الزواج وعدم الرغبة فيه‏,‏ ويخرج من ذلك إلى محاولة تحديد أسباب ذلك الإعراض فشخصها فى أربعة‏:‏
ما لاحظه من التقدم فى مدارك وأذواق الشبان المصريين‏"‏ وهذا بفضل اختلاطنا بالأجانب ونشر مدنيتهم بيننا‏,‏ لذلك ترى الشاب المتعلم منا لا يريد إلا الزواج بفتاة متعلمة يراها قبل عقد زواجه بها خوفا من الشقاء العائلى وحرصا من جراثيم الفساد الذى يؤدى إلى هدم دعائم الوفاق وتقويض صروح المحبة بينهما وهذا أمر غير متوفر فى هذا العصر فإن تعليم البنات لا يزال فى أول أمره‏..‏ ومن جهة أخرى فإن عدم التصريح برؤية العروس قبل الزواج يجعل فى قلوب الشبان إحجاما عن الإقدام على الزواج خوفا من الشقاق والطلاق‏"!‏
ما أرتاه من أن تربية البنات فى مصر وقتذاك كانت‏"‏ ناقصة مختلة‏"‏ على حد تعبيره‏,"‏ فلا تراعى حالة زوجها الأخلاقية ولا المالية فلا تعمل إلا ما توحيه إليها خلاقها التى شبت عليها فى منزل أبيها وناهيك بطلباتها الباهظات التى ربما أثقلت كاهل زوجها بالديون‏".‏
ما رصده من محدودية إيراد أغلب الشبان‏"‏ فالشاب الذى يتقاضى مرتبا شهريا قدره خمسة جنيهات أو الذى لا يزيد دخله عن ذلك لا يستطيع أن يقتصد من هذا المبلغ الزهيد مهر زواجه وقيمة تكاليفه إلا بعد مدة طويلة‏,‏ ولو فرضنا جدلا أن قيمة المهر وتكاليف الزواج توفرت لديه فمرتبه لا يساعده على تربية أبنائه‏".‏
ما سمع عنه من أن طرق الكسب فى مصر‏"‏ أصبحت ضيقة على أهلها حتى أنك لا تحادث تاجرا أو زارعا أو موظفا أو صانعا إلا ويشكو كساد سوقه وقلة نتاجه وغلاء الحالة وقلة الدخل وبوار الصناعة وغير ذلك من الأشياء التى تزهد الإنسان فى حياته وتجعله يفضل أن يعيش فريدا لا يهمه إلا أمر نفسه دون غيره‏",‏ وما أشبه الليلة بالبارحة‏!‏
إبراهيم أحمد فتحى قارئ آخر أدلى بدلوه فى الموضع فكتب مقالا تحت نفس العنوان فى عدد الأهرام الصادر يوم 19‏ ديسمبر عام 1913‏ استهله بقوله‏"‏ لا شك أن إعراض الشبان عن الزواج ميكروب سرى إلى العالم والمتعلم وأصحاب الجلاليب الزرق‏",‏ وقد غلبت عليه رنـة الاحتجاج علـى الذرائع التى انتحلها البعض لتبرير هـذا الإعراض‏..‏
فقد احتج على ما تذرع به من تصدى لهذا الموضوع من أن سبب الإعراض هو عدم وجود بنات متعلمات‏,‏ أو قلة المرتبات‏,‏ أو التعميم الذى لجأ إليه عدد ممن كتبوا عن هذا الموضوع بقولهم أن‏"‏ الحالة موجبة لليأس‏"!‏
رد على الذريعة الأولى بقوله‏:"‏ليس السبب ما ذكره البعض أن عندنا عددا لا يذكر من البنات المتعلمات‏,‏ فمن ينظر إلى حالاتنا الاجتماعية يجدها مع الأسف متزعزعة الأركان فالمصرى يحب الزى الجميل حبا جما لذلك لا يريد أن يشتغل إلا فيما يوافق زيه البديع‏"!‏
بالنسبة للذريعة الثانية‏..‏ قلة مرتبات الشبان أو بطالتهم رفضها بقوله‏"‏ إن لدى المصرى من المشروعات والأشغال ما يشغل آلاف الألوف من الرجال لأن من ينظر إلى الشركات والمحلات التجارية يجدها بيد الأجنبى,‏ فلو أن الوطنى جد واجتهد وزاحم لوجد المجال واسعا فإنه يكون له شأن يذكر وثروة طائلة‏".‏
وانتهز إبراهيم فتحى الفرصة لينزل تقريعا فى شبان تلك الأيام الذين‏"‏ ينتشرون فى القهوات يقضون أوقاتهم فى اللهو واللعب ولا يذهب واحد إلى بيته إلا بعد انقضاء أكثر الليل وبعد أن يبدد ما لديه من النقود فلو اقتصد لتوفرت لديه مبالغ طائلة من ثمن قهوة وشيشة وشرب ولعب‏"!‏
بالنسبة للحالة الموجبة لليأس يرى قارئ الأهرام صاحب هذا المقال أن الشبان هم الذين صنعوا بأيديهم تلك الحالة لأن أغلبهم‏"‏ مسرفون ولا يعرفون طريق الاقتصاد يذهبون لمحلات اللهو والفجور ولهم عند ينى وبنايوتى حساب‏."‏ وينهى الرجل مقاله بقوله‏"‏ لو حبسنا هذا التيار لانتفعنا وكنا من السعداء وعندى أن ما من شاب يبغض الزواج بآى حال من الأحوال فالتمسك بقواعد الدين وإعطاء كل ذى حق حقه أس النجاح‏".‏
وفى غمار هذا الاهتمام العام بشأن الزواج تقدم زكريا نامق بمشروعه مما شكل الفصل الثانى من قضية تزويج الفتيات المصريات‏,‏ وقدم جانبا آخر منها‏..‏
الجانب الجديد الذى طرحه عضو الجمعية التشريعية متصل بظاهرة قديمة فى مصر‏..‏ ظاهرة زواج الفتيات الصغيرات والتى انتشرت بين مختلف طبقات الأمة‏;"‏ الطبقة الفقيرة خصوصا إذا امتازت الصغيرة بشيء من الحسن‏,‏ كما يحصل فى الطبقة الوسطى كأن تكون الصغيرة ذات مال ويخطبها زوج بينه وبين وصيها صلة قرابة أو نسب‏,‏ ويشاهد أيضا فى الطبقة الغنية كأن تكون أم الصغيرة جاهلة وذات سلطان على زوجها فتعجل بزفاف بنتها شوقا إلى الإسراف وإقامة الولائم والأفراح‏"!‏
مشروع القانون الذى قدمه نامق بك للجمعية دعمه بشهادة عدد من كبار أطباء المحروسة فى ذلك العصر‏;‏ سعد الخادم‏,‏ علوى باشا‏,‏ موريسون‏,‏ محمود كامل‏,‏ عبد العزيز نظمى,‏ على شوقى الذين كان عليهم أن يجيبوا على عدد من الأسئلة وضعها مقدم المشروع‏..‏ السن المناسبة لتمام نمو جسم الفتاة‏,‏ أثر الزواج فى هذا النمو‏,‏ تأثير الزواج على صحة الفتاة التى لم تتجاوز الثانية أو الثالثة عشر‏,‏ وتأثير الحمل على صحتها ونسلها‏,‏ والسؤال الأخير عن السن المناسبة للزواج؟
الإجابة‏:‏ عدد من هؤلاء رأى أن السن المناسبة بين 18‏ و 20 ‏ سنة‏,‏ آخرون رأوها ست عشرة سنة‏,‏ وأقلية رأت أنه يجوز زواج بنت الخمس عشرة‏,‏وبعد أن نبه صاحب المشروع إلى الجنايات التى تصل إلى المحكمة من جراء وفاة البنت فى ليلة زفافها بسبب صغر سنها‏,‏ علق على هذه الإجابات بالقول‏"‏ وعندى أن نختار السادسة عشرة لأن هذا هو الرأى الأوسط المعتدل‏,‏ ومن أراد الكمال فهو حر فى ذلك‏"!‏
ولما يعلمه نامق بك من رفض المصريين لمثل هذا المشروع إذا ما ارتأوه مناقضا للشريعة‏,‏ فقد حاول أن يدعمه بعدد من الأسانيد الشرعية واستعان فى هذا بآراء أستاذ الشريعة فى مدرسة الحقوق‏,‏ الشيخ محمد زيد بك‏,‏ الذى تلقى بعض دروسه على يديه‏,‏ والتى جاء فيها‏:‏
رأى الحنفية وإن صح أن الولى يزوج البنت فإنها لا تسلم إلى الزوج إلا إذا كانت تطيق الزواج حتى أنهم قالوا إذا اختلف الولى والزوج فى الإطاقة يحكم بينهم أرباب الخبرة‏"!‏
دلف من ذلك إلى قاعدة شرعية أخرى وهى أن‏"‏ الحاكم متى حكم فى غير معصية وجب امتثال أمره وليس من المعصية أن لا يتزوج الرجل إلا بفتاة عمرها ست عشرة سنة أو أكثر‏..‏ وإذا أمر الحاكم فى الديار المصرية بأنه لا يجوز زفاف البنت إلى زوجها إلا إذا بلغت ست عشرة سنة من عمرها وجب إتباع أمره شرعا لأن هذا الأمر لم يصادف معصية وتصبح مخالفته حراما وتستوجب التعذير شرعا‏".‏
خلص عضو الجمعية التشريعية من كل ذلك إلى ضرورة إصدار قانون يحدد عمر البنت المصرية لإتمام لزواج بستة عشر عاما على الأقل‏,‏ على أن يتم ذلك بإحدى طريقتين‏;‏ إما معاقبة من يخالف ذلك‏,‏ وإما منع المأذون من مباشرة العقود على الفتيات اللاتى لم يبلغن السادسة عشرة ومعاقبة من يخالف ذلك من المأذونين‏.‏
وإذا ما تبنت الجمعية الطريقة الأولى فعليها أن تكيف الجريمة‏,‏ مخالفة أم جنحة واعتبارها‏"‏ مخالفة بسيطة أمر غير مقبول لأنها لا تترك أثرا سيئا خلفها‏..‏ وعقوبة المخالفة غرامة قليلة أو الحبس مدة لا تتجاوز أسبوعا وبناء على ذلك أرى وجوب عد هذه الجريمة جنحة على الأقل‏".‏
كعادة الأهرام فى مثل هذه القضايا التى تمس الرأى العام فتحت صفحاتها لمداخلات القراء‏,‏ خاصة أولئك الذين يتقدمون بوجهة نظر مخالفة‏,‏ والتى نختار منها مقالين طويلين‏..‏ أولهما لطبيب هو الدكتور محمد توفيق صدقى,‏ والآخر لقارئ اسمه الياس الغضبان‏..‏
تحت عنوان‏"‏ سن الزواج للفتيات‏-‏بحث علمى دينى قانوني‏"‏ نبه الدكتور توفيق إلى ما لم يتنبه إليه نامق بك وهو أن‏"‏ سن البلوغ يختلف باختلاف حرارة الجو والبيئة والوراثة ففى الهند مثلا كثيرا ما تبلغ الفتاة فى السنة التاسعة من عمرها‏..‏ أما فى مصر فالغالب فيها أن يكون فى السنة الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة‏..‏ وقد اتفقت كلمة علماء التشريح على أن نمو عظام الحوض الذى من شأنه أن يؤثر فى سعة أقطاره يتم فى زمن البلوغ أو بعده بقليل‏".‏
بعدئذ فند الدكتور محمد توفيق ما جاء به نامق بك من معلومات طبية عن التأثيرات الصحية الخطيرة للزواج المبكر على البنت المصرية‏"‏ فالحمل لا شك يسرع فى تمام نمو الجسم كله ولذلك تجد أن الفتاة بعد الولادة يكبر جسمها بأسرع من الفتاة التى لم تتزوج‏".‏
غير أن أطرف حجج هذا القارئ كان ما اتصل منها بتأثير زواج كبار السن من الفتيات الصغيرات فيما جاء فى قوله نقلا عن أحد الكتب القديمة‏"‏ إن مساكنة البنات الفتيات ذوات الدم الوافر والصحة الجيدة يتطاير منها نشأة منعشة تخترق جسم الشيخ الجاف وتسخن دمه الضعيف الفاتر وتحرك فيه الأعضاء الذابلة‏",‏ ويدلى برأيه فى هذا القول فيسوق ما جاء فى كتابات بعض العلماء أن‏"‏ من الشيوخ من اسود شعره ونبتت أسنانه مرة ثالثة بعد سقوطها بسبب معاشرة الفتيات الصغيرات‏..‏ ولا شك أن صحة البنات فى وقت البلوغ تكون أحسن منها فى جميع الأوقات الأخرى فيؤثرون على الرجل تأثيرا قويا فينتفع هو وينتفعن هن بماله أو جاهه خصوصا إذا كان من أصحاب الملايين أو الملوك‏"!‏
وبغض النظر عن رأى الدكتور توفيق الأخير فى الدفاع عن حق المسنين فى الزواج بالصبايا الصغيرات فإنه اعترض على تحديد سن البنت بستة عشر عاما كشرط للزواج‏,‏ وتمسك بما كان يقرره القانون المصرى وقتئذ فى عقوبة الفسق بأن يجعلوا سن الزواج 14 سنة فما فوق‏.‏
الياس الغضبان قارئ آخر قدم نفسه بأنه من المشتغلين فى هذه المباحث‏"‏ ولى مؤلفات مطولة شرحت فيها شرحا وافيا جميع الأضرار التى تنتج عن الزواج الغير القانوني‏",‏ الأمر الذى بدت معه قدرته على أن يدلى برأيه سواء فيما ذهب إليه زكريا نامق وأيده فى بعضه أو ما ذهب إليه محمد توفيق وأيده أيضا فى بعضه‏,‏ غير أنه خلص إلى الأخذ برأى الثانى فيما أنهى به مقاله من قول‏"‏ إنى أرى نظير ما يراه الدكتور محمد توفيق صدقى وهى تحديد سن زواج الفتيات بالسن التى حددها القانون المصرى الحالى للفسق آى أربع عشرة سنة فما فوق وذلك بتقديم سنة على القانون الفرنساوى لما يقتضيه فرق مناخ البلاد‏"!‏
دفع ذلك الأهرام إلى أن تخصص مقالها الافتتاحى فى عددها الصادر يوم 18 مارس عام 1914‏ لهذا الموضوع تحت عنوان‏"‏ زواج البنات الصغيرات‏"‏ انحازت فيه لرأى نامق بك‏"‏ لأنه لا يطلب من الزواج النسل فقط‏,‏ ولا يطلب من النسل الوجود فقط بل يطلب من ذلك النسل أن يكون راقيا قويا نشيطا مهذبا فهل يمكن الوصول إلى هذه الغاية من تزويج الصغار؟؟ انا نقول لا وألف لا‏".‏
وتنهى جريدتنا مقالها بأن تعلن صراحة تأييدها لنامق بك وأنه‏"‏ لا يكون البناء صحيحا متينا إلا إذا كانت مواده صحيحة سليمة ولا تكون أمة إلا بكثرة النسل الصالح المهذب العارف المربى ولا تصل إلى هذا النسل إلا من الأم فنحن بحاجة إلى المرأة لا إلى الأنثي‏",‏ غير أن ذلك التأييد لم يمنع من استمرار هجوم الصحف الأخرى على الرجل الأمر الذى دعاه فى النهاية إلى سحب مشروعه‏,‏ ولكن بعد أن فتح الباب للحديث فى موضوع لا ينتهى,‏ وكانت صفحات الأهرام محلا لبعض أطراف هذا الحديث‏.‏
بعض من هذا الحديث دار حول زواج المرضى,‏ بينما دار البعض الآخر حول زواج الفقراء‏,‏ والبعض الأخير حول زواج الموظفين‏!‏
زواج المرضى أو المعتلين حسب تسمية الياس الغضبان الذى كتب مقالا طويلا فى هذا الشأن‏,‏ يحدث بالخديعة‏"‏ فالأهل يسعون فى تزويج بنيهم مع إخفائهم الأمراض الوبيلة التى يكونون بها‏,‏ وذلك أنهم يزفون الفتاة المبتلاة بالداء الخنازيرى أو السوائل البيضاء أو بالداء العصبى إلى الشاب وهو يظنها سليمة‏.‏ وكذلك يزوجون الشاب المصروع أو العنين أو المبتلى بالسفلس بفتاة كانت ترفض الاقتران به لو علمت بالعلة الخفية‏".‏
ويطلب الغضبان من الأهالى الذين يلاحظون نقصا موروثا أو مكتسبا فى تركيب بنيهم أو بناتهم‏"‏ أن يشاوروا طبيبا حاذقا قبل تزويجهم ليوضح لهم النتائج التى ربما تحصل لهم من جراء زواجهم‏,‏ وهذا خير لهم ولنسلهم من بعدهم واجتناب لجملة مكاره مؤلمة سوف تنتابهم وتحل بهم‏".‏
وينتهى بعد عرض طويل إلى مطالبة الجمعية التشريعية أن تسن قانونا مقتضاه‏"‏ ألا يسوغ إعطاء رخصة لأى شخص يريد الزواج إلا إذا قدم كل من الطالبين‏,‏ الخاطب والمخطوبة‏,‏ إلى السلطة المنوط بها عقد الزواج شهادة من طبيب معتمد يشهد بها ويعترف بأقصى تحرياته بأن الطالبين غير مصابين بداء السل الرئوى أو الصرع أو الجنون أو البلاهة أو نحوها من الأمراض الوراثية‏",‏ ويلفت النظر أن هذا المطلب ظل قائما حتى الآن‏,‏ ولكنه بقى دون تنفيذ رغم مرور تسعين عاما من مطالبة الغضبان به‏!‏
زواج الفقراء طرحه القارئ مصطفى بهجت هدايت‏"‏ الخبير بالمنصورة‏",‏ وكان له اقتراح غريب‏,‏ فقد ساق قصة صانع بسيط له زوجتان‏,‏ يكسب الكاد ما يكفى أوده وأود أولاده‏"‏ أصيب بمرض أعدمه البصر وأصبح يتسول وقد رزق أربع بنات يتراوح سنهن بين السادسة والثامنة وولدان يناهز كل منهما الخمس سنين‏..‏ فمن أين لهذا الفقير الأعمى أن يربى جميع هؤلاء الأولاد إلا أن يقودهم إلى الشحاذة ويتركهم وشأنهم يشبون على الرذيلة وفساد الطبع والخلق‏".‏
وينتهى من ذلك إلى تقديم اقتراحه على شكل التماس إلى ولى الأمر والشرع‏"‏ بسن لائحة توجب تحذير زواج الفقراء سعيا وراء إماتة الشرور واستتباب الأمن العام‏"!‏
ومع أن الأهرام نشرت مقال‏"‏ الخبير بالمنصورة‏"‏ بعددها الصادر في‏7‏ يوليو عام‏4191‏ غير أنها علقت على طلبه بأنه مستحيل التنفيذ‏"‏ ولكن المغفور له الشيخ محمد عبده كان يرتأى أن يبحث المأذون عن طالب الزواج فإذا كان فقيرا ولا يستطيع أن يكفى زوجين لا يعقد له للزوج الثانية‏"!‏
زواج الموظفين شكل موضوع عريضة قدمها أحد المواطنين إلى الجمعية التشريعية واقترح فيها أن‏"‏ تكره الحكومة موظفيها على الزواج فلا تقبل فى خدمتها شخصا غير متزوج‏",‏ وتعترف الأهرام أن بعض الصحف قد قابلت هذا الاقتراح بالهزء والسخرية والمزاح غير أنها قررت أن تقابله‏"‏ بإنعام النظر مليا طويلا متسائلين أولا لماذا اقترح هذا الاقتراح؟؟ وثانيا‏:‏ هل للاقتراح وجه وجيه أم لا؟؟‏".‏
السبب فى رأى الأهرام الذى دفع صاحب الاقتراح إلى تقديمه أنه رأى أن‏"‏ الموظفين الذين لا يعولون عائلة قد يندفع فريق منهم وراء شهوته فيفسد على الناس أخلاقهم لأنهم يحذون حذوه‏.‏ وقد يفسد أمره على نفسه فيطلق جماحها ويفلتها من كل قيد‏".‏
سبب آخر ساقته جريدتنا أن الموظف غير المتزوج‏"‏ إذا أتم عمله فى ديوانه أو فى مصلحته أصبح حرا يفعل ما يشاء فهو يجلس فى القهوات ويكرع الكؤوس ويسكر ويثمل‏,‏ وهو قد يتورط إلى أكثر من ذلك غير حاسب لحق منصبه ووظيفته حسابا عليه‏,‏ ولطالما سمعنا بتهتك كثيرين من الموظفين ولم نسمع بأن الحكومة شددت عليهم ليكونوا مثال التأدب وحسن الأخلاق‏".‏
خرجت الأهرام من كل ذلك إلى أن الاقتراح المقدم إلى الجمعية التشريعية ليس عبثا ولا مزاحا بل أنه نعم الاقتراح وتحث جريدتنا الجمعية على الأخذ به لأن على الحكومة أن تسهر‏"‏ على آداب موظفيها ومنعتهم عن الأمور الشائنة المخجلة التى يرتكبونها‏.‏ فليس المحرم ما نص على العقاب عنه فى قانون العقوبات فقط بل المحرم على الناس أجمعين وعلى الموظفين على وجه التخصيص ما لا يقبله الأدب وما لا ترضاه الحشمة ولا تسمح به الكرامة‏",‏ وكأن جريدتنا كانت تؤكد بذلك فكرة أن‏"‏ الزواج تهذيب وإصلاح‏",‏ وهى فكرة نعتقد أن الكثيرين لا زالوا يأخذون بها حتى يومنا هذا‏!‏