عباس يركب رأسه ويصمم على تغيير الوزارة
د. يونان لبيب رزق
مصطفى فهمى: رئيس وزراء من منازلهم!
الوزارة المصرية التى ألفها "صاحب العطوفة حسين رشدى باشا" فى 5 إبريل عام 1914 تحتل مكانة خاصة فى تاريخ تلك المؤسسة الهامة, وهى مكانة تتعدد روافدها
1) فقد كانت آخر وزارات العهد الخديوى التى بدأت بوزارة نوبار باشا قبل نحو أربعين عاما, حيث جاء بعدها, وفى ديسمبر من نفس العام وزارات العهد السلطانى, وذلك بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية الحماية على البلاد وخلعت الخديو عباس الثانى وولت محله عمه السلطان حسين كامل.
2) ثم أن رئيسها صاحب العطوفة كان هو بعينه الذى تولى مع سلطات الاحتلال إتمام تلك النقلة الدستورية فى التاريخ المصري.. من عصر الخديويين الذين يعينون بفرمان عال صادر عن الأستانة, إلى عصر السلاطين الذين يعتلون العرش بناء على قرار من وزارة الخارجية البريطانية فى لندن, وقد تجسدت هذه النقلة فى أمرين, أن حسين رشدى نفسه الذى رأس تلك الوزارة المرقمة برقم 21 فى تاريخ الوزارات المصرية, كان هو الذى تولى الوزارة رقم22 بعد خلع عباس, وبينما تولى وزارته الأولي" بأمر عال خديوي", فقد تولى الثانية" بأمر كريم سلطاني", والأمر الثانى: أن الوزارة المصرية عرفت نقلة نوعية إذ بينما ظلت تتسمى باسم" النظارة" من قبل حتى لا تطاول فى الاسم الوزارة الموجودة فى الأستانة, فإنها تسمت مع هذا التغيير باسم" الوزارة" بعد أن سقطت سيادة الدولة العثمانية على البلاد, ولو بفعل فاعل!
3) أن هذه الوزارة كانت الأولى فى سلسلة من الوزارات الرشدية بلغ عددها أربع, عاصرت الوزارتان الأخيرتان منهما ثورة 1919, وكان للرجل موقف مشرف منها.. فالبداية المتخاذلة التى ظهرت فى مساعدة المحتلين على إعلان الحماية تحولت إلى نهاية بطولية عندما قدم الرجل استقالته من وزارته الأخيرة في22 إبريل عام 1919 وهى الاستقالة التى صدرت عن موقف مشرف من الوزارة فى تأييد الوفد المصري.
4) آخر روافد أهمية الوزارة رقم 21 أنها قد تشكلت بعد أزمة وزارية كبيرة, وهى الأزمات التى كانت قد هدأت بامتداد ما يزيد عن عشرين عاما بعد الصدام الكبير الذى تفجر بين الخديوى عباس واللورد كرومر حين حاول الأول أن يمارس حقه الدستورى فى تأليف الوزارات, وهو الصدام المعروف بأزمة وزارة فخرى باشا فى يناير عام 1893 والتى لم تعمر أكثر من 72 ساعة!
الأزمة الجديدة كانت محل اهتمام أطراف متعددة.. سراى عابدين والتى كشف عن مواقفها أحمد شفيق باشا فى مذكراته, دار المعتمد البريطانى فى قصر الدوبارة والتى تم التعرف على دورها من خلال المذكرات السرية المتبادلة بينها وبين وزارة الخارجية فى لندن, والتى أصبحت متاحة للباحثين خلال السنوات الأخيرة, وفوق هذا وذاك الصحافة المصرية التى ظلت تلهث وراء تفاصيل الأزمة بكل أبعادها الدقيقة, والتى تبين موقف طرف ثالث لم يعن المؤرخون كثيرا بمتابعته.. موقف الرأى العام المصرى, فلم يكن المصريون غائبين عن الأزمة بكل أحداثها وتفاصيلها, الأمر الذى يتكشف مع متابعة الأهرام خلال فترة الاحتدام, والتى امتدت لنحو أسبوعين إبان شهرى مارس وإبريل عام 1914.
لم تكن الأهرام ولا غيرها يعلمون شيئا عن بدايات الأزمة.. الوثائق البريطانية وحدها هى التى تكشف عن تلك البدايات, ففى عصر يوم الاثنين23 مارس عام 1914, وفى لقاء بين اللورد كتشنر والخديو عباس الثانى أعرب الأخير عن رغبته فى التخلص من وزارة سعيد باشا, وقد رجا المعتمد البريطانى أن يحصل على موافقة لندن فى هذا الشأن بأسرع ما يمكن, وأعرب عن استعداده لقبول أن يقوم مصطفى باشا فهمى, رجل الإنجليز الأثير, بتأليف الوزارة الجديدة, وأنه ليست له شروط سوى التخلص من رئيس النظار ولو بقيت النظارة على تشكيلها القائم.
إجابة اللورد كتشنر لم تكن مشجعة, فهو فيما جاء فى رسالته إلى لندن قد حاول التخفيف من حدة الخلافات بين الخديوى ورئيس النظار, أيضا نبه عباس إلى أن الوقت غير مناسب لهذا التغيير, خاصة وقت انعقاد دورة الجمعية التشريعية, ويقول أنه استمهل الخديو فى اتخاذ إجراء فى هذا الشأن إلى أن يعود من رحلة كان مزمعا أن يقوم بها إلى الخارج, غير أن عباسا ركب رأسه!
لم ترتح وزارة الخارجية البريطانية لفحوى المقابلة السابقة التى أرسل كتشنر وقائعها بالبرق, وطالبت مندوبها فى العاصمة المصرية أن يبعث لها برسالة وافية عن أسباب الصدام بين عباس ورئيس وزرائه, ثم نبهته إلى أنه بينما تسير العلاقات بين بريطانيا والدولة العثمانية فى طريق التحسن, فليس مطلوبا الدخول فى صدام مع الخديوى, غير أن السير إدوارد جراى, وزير الخارجية البريطانى, أبدى استعداد حكومته لتلبية رغبة ممثلها فى القاهرة إذا ما اقتنعت أن عباسا فى الجانب الخطأ!
يوم 28 مارس بعث اللورد كتشنر بالرسالة الوافية المطلوبة والتى عبرت عن تغير واضح فى موقفه, الأمر الذى يبدو انه قد صدر عن تأثير اجتماع عقده مع المستشارين البريطانيين لوزارتى الداخلية والمالية, هذا من جانب, والإغراء الذى قدمه عباس باستعداده لقبول مصطفى فهمى باشا رئيسا للنظار من جانب آخر..
بدا هذا التغير فى اللهجة الانتقادية التى حفلت بها الرسالة عن محمد سعيد باشا.. فهو يتبع طرق ملتوية لتحقيق أهدافه, وأنه قد سمح لنفسه بأن يدخل فى صراعات مع زملائه فى الوزارة الأمر الذى أثر على تماسكها, خاصة وأنه لم يكن دائما فى الجانب الصحيح, ثم أنه لم يبد حنكة كافية فى التعامل مع الجمعية التشريعية التى كانت قد نشأت قبل قليل, فضلا عن كل ذلك فهو لا يتمتع بشعبية تذكر, وأنه نتيجة لصراعاته كثيرا ما يستنجد بالوكالة البريطانية والتى لم تتأخر عن نجدته, غير أنه, آى كتشنر, ليس متحمسا للاستمرار فى هذا الدور, خاصة فى صراع جديد يخوضه الرجل مع الخديوى!
فى الجانب الآخر من الرسالة الوافية تحدث كتشنر عن العلاقة الودية التى ظلت قائمة بين سعيد باشا ودار المعتمد البريطانى, وأنه كثيرا ما كان يستجيب لنصائح تلك الدار فى اتخاذ مواقف متشددة من سيد قصر عابدين, وأعطى مثالين على ذلك; أولهما المساندة آلتى قدمها لتنفيذ رغبة الدار فى إنشاء وزارة الأوقاف على عكس إرادة الخديوى, وثانيهما قضية سكة حديد مريوط والتى كان يمتلكها الخديو واشترتها الحكومة المصرية بثمن لم يرض عنه عباس.
بيد أنه يبدو أن كفة السلبيات قد رجحت على كفة الإيجابيات عند ممثلى الاحتلال البريطانى فى البلاد, الأمر الذى رأت معه أنه ليس ثمة ما يمنع من التخلص من سعيد باشا واستبداله بمصطفى فهمى على أن يقوم كتشنر بإفهام الخديوى أن تغيير الوزارات لا ينبغى أن يتم لنوازع شخصية وإنما لأسباب عامة, خاصة وأن طلبه للتخلص من وزارة سعيد يعتمد على قصص مرسلة دون دليل دامغ, ولو أنه, كما قال كتشنر فى رسالته الوافية, من الصعب الرد على حجة عباس بأن الوزارة تعانى من الانقسام من جراء تصرفات رئيسها!
لم يكن قد مضى يومان على كتابة هذه الرسالة الوافية فى دار المعتمد البريطانى حين تسربت الأنباء عن أن هناك أزمة وزارية مكتومة, الأمر الذى نتبينه من أن الأهرام, خصصت مقالتها الافتتاحية التى نشرتها فى الصفحة الأولى من عددها الصادر يوم الثلاثاء 31 مارس لموضع" سقوط الوزارات المصرية وقيامها"!
اعترفت جريدتنا بأن هناك جدلا فى الشارع السياسى المصرى حول أزمة وزارية حالة" فمن قائل يقول لك وماذا عملت الوزارة حتى تسقط؟؟ فإذا قلت له: وهل إذا حوسبت الوزارة على عملها ولم يكن هذا العمل رائقا للأمة تسقط؟؟ سكت.. ثم قال لا, فحساب الوزارة إذن ليس بين الأمة والوزارة مباشرة بل هو بين الوزارة وولى أمر الأمة فإذا رأى ولى الأمر أن وزارة من الوزارات قد استنفدت كل ما عندها وكل ما لديها عد من واجبه تغييرها حتى تأتى وزارة جديدة بقوة جديدة لأعمال ربما تكون جديدة وفى خطة تكون جديدة"!
صحيح أنه قد غلب على هذا المقال الأهرامى رنة أسى بدت فى قولها أن الوزارة السعيدية عملت كثيرا فى أربع سنين وسجلت لها الأمة أعمالا مختلفة, إلا أنها سلمت بأنه ليس هناك ما يدعو إلى العجب فى تغيير الوزارة" بل الذى يدعو إلى العجب أن نتصور أو يخطر لنا أن كل وزارة إذا تربعت فى كراسى الحكم باقية إلى الأبد ونزولها من على تلك الكراسى أمر لا ينتظر"!
ولأن الأهرام كانت تحجم أحيانا فى بعض المسائل ذات الصلة" بالمقامات العليا" أن تدلى بدلوها إلى الأعماق بحكم أن الصحافة على عهد الوزارة السعيدية أصبحت" ملجومة فوقفت منها موقف الصامت على الحياد لأنها أخافتها ووضعت فى نفوسها الرهبة بالإقفال والإنذار", غير أنها كانت تعالج ذلك بالنقل عن بعض الصحف الأجنبية الصادرة فى البلاد, الأمر الذى نتبينه من هذا المقال الطويل الذى نقلته جريدتنا عن البورص اجبسيان, بعد يومين من المقال السابق, وبعد أن كان القاصى والدانى قد علم بأخبار الأزمة, وبعد أن عرف فى كل مكان أن مصطفى فهمى هو المرشح لخلافة سعيد باشا!
احتجت البورص على أن ولى الأمر, تقصد الخديو طبعا, فكر فى رجل اللورد كرومر, كما أسمت مصطفى باشا, "الرجل الذى يمثل لنا إطاعة مصر لحكم الإنجليز.. ولو كنا فى بلاد دستورية لجربوا فى مثل هذه الظروف والأحوال سعد باشا زغلول مثلا لأنه يجب أن يؤخذ رجال جدد فى كل موقف جديد".
نقلت الأهرام بعد ذلك عن الصحيفة الفرنسية رأيها فى كلا الرجلين, سعيد وفهمى, فليس" لهذا الرجل أو ذاك سياسة شخصية خصوصية فلم يظهرا يوما من الأيام رأيا بل كانت هذه الآراء تجيئهم حاضرة مطبوخة من قصر الدوبارة.. وكان محمد سعيد باشا رجلا يصح أن يقال عنه أنه صلة الوصل فى دور انتقال بين زمنى اللورد كرومر واللورد كتشنر. فلما قتل بطرس باشا غالى استقبلته الصحافة العربية استقبالا حسنا.. واليوم ما الذى بقى من ذلك الثناء ؟ اشمئزاز عام وشكوى من ضياع الأمن وسرور بذهاب الرجل", الأمر الذى يكشف عن حب التغيير من أجل التغيير, وهو أمر لعله يلازم المصريين حتى يومنا هذا!
وبينما كانت الآراء حول التغيير الوزارى تتدافع على هذا النحو التزمت الجهات الرسمية الصمت, الأمر الذى كان محل ملاحظة الأهرام" فقد كثر تحدث الصحف والأندية بأمر الوزارة واستعفائها وبقائها ولم تنشر الوزارة مذكرة ولا بلاغا عن ذلك مع أن قلم المطبوعات عودنا فى كثير من الحوادث التافهة نشر البلاغات الرسمية".
ولم يكن أمام جريدتنا مع ذلك التعتيم سوى أن تعتمد على مكاتبيها فى كل مكان.. اعتمدت على مكاتبها فى الصعيد لمتابعة الرحلة التى كان يقوم بها مصطفى باشا فهمى فى أرجائه, وأن الرجل غادره مستقلا الوابور النهرى حيث كان صهره سعد باشا زغلول فى انتظاره فى المنيا, وكان مما لاحظه المكاتب الأهرامى أن صحة الرجل وشيخوخته قد لا تسمحان له بتحمل عبء القيام بالمنصب.
لعل هذه الملاحظة كانت وراء انتشار شائعة مؤداها أن تظل الوزارة على حالها" إذا منعت مصطفى فهمى باشا صحته عن تأليف وزارة جديدة", وهى الشائعة التى نفتها الأهرام بعد أن اتفق" عطوفتلو محمد سعيد باشا مع زملائه على أن يقدم استعفاءه وبعد أن عرض صورة كتاب الاستعفاء على الوكالة لتوافق عليه فوافقت, وبعد أن استأذن سمو الخديوى أن يتشرف بمقابلته ليقدم استعفاءه فلم يرفض سموه الاستعفاء ولكن أمر بأن لا حاجة الآن للمقابلة.. وعند ولاة الأمور فى جميع الأمم والممالك أن موقف الوزارة بعد عن أن يكون موقف استعفاء وتحول إلى موقف إقالة"!
الطريف أن القضية عند سعيد باشا بعد أن أيقن من خروجه لم تكن كيف يخرج, ولكن قضية التعويض المالى المناسب لخروجه, فيما نتبينه من خبر نشرته الأهرام جاء فيه" من المعروف المشهور أن عطوفتلو مصطفى باشا فهمى لما اعتزل الوزارة أعطى فوق معاشه مبلغ عشرة آلاف جنيه, وقد شاع فى بعض الأندية أن عطوفتلو محمد باشا سعيد يميل إلى أن يعامل عند اعتزاله منصبه بما عومل به مصطفى فهمى من حيث المكافأة"!
فى تمام الساعة السادسة من مساء يوم الخميس2 إبريل وصل الوابور الذى يقل مصطفى فهمى إلى كوبرى عباس بالروضة حيث كان ينتظره المندوب الخديوى, وكان قد سبقه إلى الوابور المستر ستورز السكرتير الشرقى بدار المعتمد البريطانى والذى صحب الرجل من الواسطى إلى العياط حيث حاول ممثل الاحتلال أن يتبين موقف مصطفى باشا من قبوله الوزارة الجديدة, واتضح له أن مصطفى باشا رئيس الوزراء المصرى حتى عام 1908 لم يكن هو بعينه مصطفى باشا عام 1914, مما شكل مفاجأة لجميع الأطراف, على رأسها اللورد كتشنر!
يبدو حجم المفاجأة من أن جميع الأطراف قد اعتبروا تأليف مصطفى فهمى للوزارة أمرا مفروغا منه, وعبرت الأهرام عن ذلك فى استقبالها للرجل, فقد قالت" لقد رأيناه ينزل من الباخرة نحيلا ضعيفا يخفق بين جوانحه قلب كبير يود أن يخدم وطنه وأميره فوقفنا وقفة الاحترام أمام هذا المشهد. فالأمة اليوم تضع فيه آمالها. قواه الله لتحقيق هذه الآمال لأن الموقف صعب حرج"!
بدا الأمر مفروغا منه أيضا على ضوء متابعة الأهرام لتحركات مصطفى فهمى يوم الجمعة3 إبريل.. فى الساعة الحادية عشر صباحا قابل الخديو فى قصر عابدين" ورفع إلى سموه شكره لتلطفه بإيفاد أحد رجال التشريفات لمقابلته وأظهر سموه نحوه كل انعطاف وحدثه بأمر إسناد الوزارة إليه فشكر سموه على ثقته به وأجاب أنه مستعد لخدمة سموه ووطنه لكنه يستأذن حتى اليوم ليسأل طبيبه الخاص الدكتور ملتون هل صحته تسمح بتحمل عبء الوزارة أم لا فإذا رأى طبيبه أنه قادر على ذلك يتشرف بمقابلة سموه صباح السبت ليعرض على أعتابه الكريمة أسماء الزملاء الذين يشاركونه فى تولى مهام النظارات".
هذا الأمر المفروغ منه لم يعد كذلك بعد أن التقى مصطفى فهمى باللورد كتشنر قبل الميعاد المحدد لمقابلته للخديوى, وقد كتب الأخير فى تقرير له بعث به إلى الخارجية البريطانية أن انقلابا حدث فى شخصية مصطفى باشا وعزا ذلك إلى تأثير صهره, سعد باشا زغلول عليه, ففى اللقاء الذى تم بين الرجلين صباح يوم السبت4 إبريل اكتشف كتشنر أن عقبات تقف أمام تنفيذ ما اتفق عليه مع الخديوى باستبدال محمد سعيد بمصطفى فهمي..
أولى تلك العقبات متصلة بما لاحظه من تدهور حقيقى فى صحة الرجل, صحيح أن طبيبه الخاص قد وافق على أن يقوم برئاسة الوزارة الجديدة على شروط.. أحدها بألا يتولى مع منصب الرئاسة آى منصب وزارى آخر, وهو أمر ظل تقليدا فى الوزارات المصرية السابقة, والآخر بأن يقوم مصطفى باشا بتصريف شئون الوزارة من داره, غير أنه كان يصعب قبول رئيس وزراء من منازلهم!
على غير العادة فى الوزارات السابقة حين كان التغيير يلحق برئيس الوزراء فحسب, أما تغيير الوزراء فكان يتم فى أضيق نطاق, قدم مصطفى باشا مفاجأته الثانية إذ طالب هذه المرة أن يغير طاقم الوزارة بأكمله والمعروف بولائه للحكومة البريطانية, وقد زاد من مخاوف اللورد كتشنر ما لاحظه من أن أغلب الأسماء المقترحة من الرجال الوثيقى الصلة بسعد زغلول, ويقول كتشنر فى تقريره:" لقد استخدمت كل حجة لدفع الرجل على العدول عن رأيه غير أنى فشلت تماما فى ذلك مما يدفعنى إلى الاعتقاد أنه واقع تحت تأثير وعد قطعه على نفسه لصهره سعد"!
ويضيف المعتمد البريطانى حول هذه العقبة قوله أنه قد التقى بالخديوى فى أعقاب مقابلته لمصطفى فهمى وتبين له أن الوزراء المقترح تعيينهم من الأخير غير مقبولين منه بنفس الدرجة آلتى لا يقبلون بها من جانب كتشنر نفسه.
الجانب الآخر من الرواية عن اللقاء بين كتشنر ومصطفى فهمى قدمته الأهرام, وهو أكثر تفصيلا من لغة الوثائق التى قدم بها الجانب الأول من الرواية.. قالت جريدتنا:
إن عطوفة مصطفى فهمى باشا بدأ فعرض على جناب اللورد قائمة بأسماء الذين يريد أن تتألف منهم وكان بين هذه الأسماء اسم سعادة سعد زغلول باشا أمام نظارة الداخلية فلما مر به جنابه ظهرت عليه علامات الامتعاض فلمح عطوفة مصطفى فهمى باشا ذلك وقال فى الحال:
إن كان هذا الاسم لا يرضيكم فأنا أمحوه وإنما أتساهل فى محوه لأنه صهرى ولأنى لم استشره بعد, وذلك بالرغم من أننى فى الظروف الحالية محتاج لرجل أثق به كما أثق بنفسي. وعلى ذلك فلا أتردد فى تقديم هذه التضحية.
وبعد أن تم الاتفاق على محو اسم سعادة سعد زغلول باشا دار البحث عن غيره فتمسك جناب اللورد بوجود سعادة محب باشا فى الوزارة فلم يرض عطوفة مصطفى فهمى باشا. وتنازل اللورد عن إصراره ولكنه انتقل إلى التمسك بوجود وزير آخر وهو سعادة أحمد حلمى باشا ناظر المعارف وقال: اقبل حلمى باشا معك. يجب أن تقبله. من الضرورى أن تقبله, فأجاب مصطفى باشا: لا أستطيع إنى لا أعرفه وأنا فى احتياج لمعرفة الذين يشتركون معي. فقال اللورد: ضح هذه التضحية. فأجاب مصطفى باشا مرة أخرى: كلا كلا لا أستطيع.
بعد ذلك أخذ مصطفى فهمى باشا يشرح الأسباب التى تدعوه إلى هذا الإصرار الشديد فقال: إنك أيها اللورد رجل كريم وأنا أعرف أنك تحب بلادي. ولكن هل أنت واثق من أنه لم يوجد بينك وبين هذه البلاد عوامل سيئة هل أنت واثق أنهم لم يخدعوك"
وتنهى الأهرام روايتها عن هذا اللقاء بالقول أنه" بعد شرح طويل وأخذ ورد لم يرد جناب اللورد أن ينزل عن رأيه فكان هذا سبب تخلى مصطفى باشا عن تشكيل الوزارة"!
وترصد جريدتنا فى تلك الأثناء ظاهرة مصرية تحتدم مع مشاورات تأليف كل وزارة.. الظاهرة التى أسماها الكاتب الساخر أحمد رجب بظاهرة" عبده مشتاق", فتحت عنوان" هل تطلب الوزارات كما تطلب وظائف الكتاب", تعليقا على المتهافتين على دخول الوزارة والذين ذهبوا إلى الوكالة وفودا وفودا, قالت جريدتنا..
يجب أن ننزل منصب الوزير من نفسنا غير منزلة وظيفة الكاتب والحاسب والعامل فللوزارة شروط أولها اتفاق مبادئ الزملاء مع رئيسهم, وثانيها مركز الشخص فى الهيئة الاجتماعية, وثالثها إرادة ولى الأمر فى توزيره. وإلا لانطلق لطلب الوزارة ألوف من الناس بل ألوف الألوف كالذين ينطلقون فى طلب كل وظيفة فى كل مصلحة من مصالح الحكومة والبنوكة ومخازن التجار"!
وبعد الطريق المسدود الذى وصلت إليه المباحثات بين كتشنر ومصطفى فهمى بدأ قصرا عابدين والدوبارة فى البحث عن بديل يقبل شروطهما, ولم يجدا مناص من أن يكون من داخل الوزارة السعيدية, وكان هناك خياران; إما إسماعيل سرى باشا ناظر الأشغال العمومية, غير أنه فى رأى المعتمد البريطانى كان بحكم عمله كمهندس فنيا أكثر منه رجل سياسة, وإما القانونى الضليع حسين باشا رشدى ناظر الحقانية, واستقر الرأى على اختيار الأخير.
نشرت الأهرام فى عددها الصادر يوم6 إبريل وصدر الأمر العالى بتشكيل الوزارة الرشدية الأولى, ولنا عليها ملاحظتان; أولاهما: أنها قد ضمت عددا غير قليل من أعضاء الوزارة السابقة تطبيقا للمبدأ الذى ظل ساريا فى تشكيل الوزارات المصرية فى تلك الحقبة, والذى كان يرى أن تغييرا كبيرا يعنى حدوث انقلاب, وثانيتهما: استمرار كل من محب باشا وأحمد حلمى باشا وزيرى الأوقاف والمعارف العمومية فى منصبيهما تلبية لمطلب اللورد كتشنر الذى رآهما من أخلص العناصر لدار المعتمد البريطاني.
ولم تنس الأهرام طبعا أن تستقبل الوزارة الرشدية" بملء الارتياح ونقابل تعيين عطوفة الرئيس المشهور فى أمته بالعلم والعدل والنزاهة والاستقامة بما تستحقه هذه الصفات من الإجلال والتعظيم" ويبدو أنها عادة مصرية قديمة.. توديع الراحل بتكسير القلل واستقبال القادم بالورود والرياحين!