ads

Bookmark and Share

الجمعة، 23 أبريل 2010

242 محاكمة عزيز المصرى!‏

محاكمة عزيز المصرى!‏


د. يونان لبيب رزق
نشر فى جريدة الأهرام يوم الخميس 16 يوليو 1998 - 22 ربيع الأول 1419هـ

من الشخصيات الأسطورية فى التاريخ المصرى عزيز على المصرى,‏ فقد ظل الرجل رمزا لهذا الشكل من التمرد النبيل‏..‏ التمرد الرافض للاستسلام للأمر الواقع مهما بلغ سوءه‏,‏ والساعى إلى التمسك بالكرامة الوطنية مهما كانت العواقب‏,‏ والمتطلع إلى مستقبل أفضل للوطن مهما كانت المصاعب‏!‏
رجل أسطورة مثل عزيز المصرى لا تصنعه أبواق الدعاية مهما كان إلحاحها‏,‏ وإنما تنسجه جملة من المواقف يعرف الناس أقلها ولا يعلمون أكثرها‏..‏ والملاحظ أن ما هو معروف ينحصر فى المرحلة الأخيرة من حياته‏..‏ المشرف المنضبط على تربية الأمير فاروق خلال الثلاثينات‏,‏ الضابط االكبير صاحب المحاولة الفاشلة بإعلان التمرد على الإنجليز بالهروب إلى الخطوط الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية‏,‏ لولا أن الطائرة التى استقلها لم تسعفه على ذلك‏,‏ العاطف على حركات الضباط المعادية للقصر حتى أن هؤلاء ظلوا يعتبرونه أباهم الروحي‏.‏
ما قبل ذلك ليس معلوما بدرجة كافية‏,‏ مع أن صناعة الأسطورة حدثت بالفعل خلال الفترة السابقة على قيام الحرب العالمية الأولي‏ (1914)
البداية عادية‏..‏ شاب مصرى تخرج من المدرسة الحربية فى الأستانة والتحق بخدمة الجيش العثمانى,‏ برزت مواهبه الأولى فى الدور الفاعل الذى قام به فى اليمن خلال عام1191‏ فقد ظلت تلك البلاد من أكثر مناطق الدولة استنزافا لقواها‏,‏ وعلى حد تعبير إحدى الصحف المصرية وقتئذ أنها استمرت‏" مصدر اضطراب ونقطة ضعف فى جسد الأمة العثمانية من حروب حافلة قامت بين الجنود الشاهانية واليمانيين وكم من الآلاف المؤلفة من زهرة الشبيبة العثمانية واليمانية ضاعت فى هذه المعارك المستمرة‏".‏
طبيعة هذا الدور تبدت فيما نجح فيه الرجل من عقد اتفاق بين الإمام يحيى وبين عزت باشا قائد الحملة العثمانية الأخيرة على البلاد‏,‏ والذى أدى إلى استقرار الأحوال فى هذه البلاد المضطربة‏..‏
يعترف عزت باشا بالدور الفاعل لعزيز المصرى فى الاتفاق بقوله‏:" إن عزيز بك هو بطل هذا الاتفاق‏,‏ وأؤكد لكم أن هذا البطل هو أصدق الرجال الذين خدموا الدولة والأمة معا‏,‏ فإن خوفه على دولته من الانقراض لانشغالها عن الأمور الخارجية بتجريد الحملات على أبنائها وحبه بقاء العرب ذخرا للدولة تستنصرهم عند الحاجة حملاه على عقد الاتفاق‏,‏ وقد تمكن بطلاقة لسانه من إقناع الإمام بأن القتال إذا استمر بينه وبين الدولة‏,‏ فإن الأجانب الذين يتربصون بنا الدوائر سوف يستولون على هذه البلاد‏".‏
الخطوة الثانية فى طريق صناعة الأسطورة حدثت خلال الحرب الطرابلسية‏(1911 ـ 1912) التى اشتعلت نتيجة للمحاولة الإيطالية للاستيلاء على طرابلس الغرب بعدها برقة‏,‏ فيما أصبح يشكل فيما بعد ليبيا‏,‏ وتصدى الحكومة العثمانية لهذه المحاولة انطلاقا من أن تلك البلاد تشكل جزءا من الدولة العلية‏.‏
وقد جاءت مشاركة عزيز المصرى فى التصدى للقوات الإيطالية‏,‏ ليس بالشكل الرسمى من خلال الجيش العثمانى الذى كان واحدا من كبار ضباطه‏,‏ وإنما من خلال حملة التطوع التى شجعت عليها الدولة‏,‏ فسافر متنكرا إلى جهة طرابلس الغرب وعين قائدا على منطقة بنغازى,‏ واتصل بالشيخ أحمد السنوسى لدعمه فى مقاومة الإيطاليين‏,‏ فيما ارتآه المصريون عملا بطوليا‏,‏ الأمر الذى عبرت عنه الأهرام بقولها‏" تأتينا الأخبار عن عزيز بك المصرى وهو فى ميدان القتال ناطقة بفضله شاهدة بمقدرته فى قيادة الجيوش تصلنا أنباء انتصاره على الطليان فنعجب به ونجله ونرفع من قدره‏".‏
فى أكتوبر عام 1912‏ وبعد معاهدة بين الحكومتين التركية والإيطالية فى لوزان تقرر أن تسحب الدولة العلية قواتها النظامية من البلاد‏,‏ غير أن جماعات المتطوعين تحت قيادة عزيز المصرى استمرت فى المقاومة لنحو تسعة شهور متعاونة فى ذلك مع السنوسيين حتى دب الخلاف بين الجانبين‏.‏
يكشف عن ذلك اللقاء الصحفى الطويل مع الرجل الذى نشرته الأهرام فى 23‏ يوليو عام 1913‏ بمناسبة وصول عزيز المصرى إلى وطنه‏..‏ تحت عنوان‏" بطل برقة وبنغازى" قالت جريدتنا على لسان الرجل‏:‏
كنت أود الإقامة فى برقة لأفعل كل ما باستطاعتى فعله من الضرر بالطليان لأنهم أعدائى,‏ ولكنى كنت بحاجة إلى الذخائر وإلى المؤن وإلى المال وهذه الحاجات اللازمة للمقاتلين لم تكن موجودة عندي‏.‏ أما العرب فإنهم لم يتخلفوا عنى ولم يخونوا عهدهم معى ولو أنى وجدت المنال الآن لعدت إلى برقة‏".‏
غير أن الرجل يكشف فى هذا الحديث الصحفى المطول الذى نشرته جريدتنا عن الخلاف الذى وقع بينه وبين السنوسيين فيما جاء فى قوله‏" أما السنوسيين فهم كقسيسى الروس يشتغلون ليأكلوا وكان قسم منهم على عهد أنور بك قد أمضى الصلح مع الطليان والقسم الآخر عدل عن القتال منذ زمن‏",‏ ويقول فى موقع آخر‏" إن سوء سياسة السنوسيين اضطرتنى أن أترك القيادة العامة للسنوسى الكبير ولكن فى موقعة 16‏ يونيو وهى آخر موقعة أطلقت فيها آخر رصاصة فى جعبتى وكان فوزى فيها عظيما لم يكن معى سوى ألف مقاتل ضد 12‏ ألفا‏".‏
وعلى الرغم من الجدل الذى دار حول هذا الحديث فى الصحف المصرية‏,‏ وما إذا كان الوقت مناسب للكشف عن تلك الاختلافات‏,‏ فإنه قد بقى لعزيز المصرى مكانته فى نفوس المصريين‏,‏ الأمر الذى نضحت به الاستقبالات التى حظى بها من عديد من الشخصيات‏..‏ قالت الأهرام عن إحداها‏" جمعت المأدبة التى أقيمت مساء أمس فى فندق الكونيتننتال إكراما لحضرة الهمام عزيز المصرى بك بطل برقة وبنغازى خمسين شخصا من الكبراء والأعيان والمحامين والأطباء ورجال الصحف‏.‏ وجلس أعضاء لجنة تكريمه إلى جانبيه من اليمين واليسار وبعد أن أكلوا وشربوا وقف حضرة حنفى ناجى بك فالدكتور عبد العزيز نظمى بك فالدكتور حافظ عفيفى أفندى فالأستاذ أحمد لطفى المحامى فألقى كل منهم كلمات فى المحتفل بتكريمه والثناء عليه لشجاعته وصبره فى الحرب الطرابلسية‏".‏
بعد أسابيع قليلة عاد الضابط المصرى إلى الأستانة وتصور المصريون أنهم سوف يسمعون عن المزيد من بطولاته فى حروب البلقان التى كانت تخوضها تركيا وقتئذ‏,‏ غير أن الأخبار التى جاءتهم فى أوائل فبراير عام 1914‏ نزلت عليهم نزول الصاعقة‏!‏
***
بينما كان عزيز بك على المصرى البطل العربى المشهور سائرا يوم الاثنين‏9‏ فبراير الساعة الثانية بعد الظهر أمام المكتب السلطانى فى بك أوغلى ومعه حضرة الدكتور إبراهيم بك ثابت تقدم منه أحد رجال الشرطة من البوليس المصرى بألبسة ملكية وقال له وهو يرتجف خوفا منه
إن مدير بوليس الأستانة يريد حضرتك فأرجو منك أن ترافقنى إليه فترك عزيز بك رفيق وقصد بدرى بك مدير بوليس الأستانة الذى استدعاه إليه يتبعه بعض رجال البوليس السري‏.‏ فلما وصل إليه قال له بدرى بك
إنك موقوف لمحاكمتك فى أمور تتعلق بحرب بنغازى,‏ ثم سيق عزيز بك إلى نظارة الحربية فأدخل غرفة دخل عليه فيها بعض البوليس والجنود المسلحين وربطوا يديه ربطا محكما ثم أخذوا مسدسه الذى كان يحمله كسائر الضباط‏".‏
السبب الظاهر فى القبض على عزيز المصرى فيما أعلنه مدير بوليس الأستانة لمحاكمته فى أمور تتعلق بحرب بنغازى,‏ أما الأسباب الحقيقية فقد أخذت تتكشف مع مرور الوقت‏..‏
منها العداء الشخصى الذى نشأ بين أنور باشا وزير الحربية وقتئذ والذى كان يقود القوات التركية خلال الحرب الطرابلسية‏,‏ وبين عزيز المصرى,‏ فالأخير بصفته التطوعية لم يخضع لأسباب الضبط والربط التى أراد أن يفرضها الأول‏,‏ خاصة وأن أنور باشا كثيرا ما كان يتوانى عن إمداد الضابط المصرى فى بنغازى بما يحتاجه من سلاح وذخيرة وأغذية‏,‏ الأمر الذى كثيرا ما كان يدفعه إلى الضغط على الباشا التركى حتى يستجيب لطلباته‏,‏ فضلا عن ذلك فقد اختلف الرجلان فيما يخص السياسة الواجب إتباعها حيال السيد السنوسى,‏ فبينما غلب على تحركات أنور باشا طابع المهادنة‏,‏ فقد كان عزيز على المصرى مستعدا للصدام مع آى طرف لا يرى أنه يقوم بواجبه كاملا تجاه مقاومة الغزو الإيطالي‏.‏
غير أن السبب الأهم ما عرف عن نشاط مارسه عزيز المصرى خلال الشهور التى انقضت بين عودته للأستانة وبين القبض عليه داخل نطاق الحركة العربية التى تعددت جمعياتها العلنية والسرية‏,‏ وكانت العهد التى ضمت عددا غير قليل من الضباط العرب العاملين فى الجيش التركى من أكبر الجمعيات الأخيرة‏,‏ وكان عزيز على المصرى من أهم ضباط العهد‏,‏ وهو ما يبدو أنه قد وصل لرجال الاتحاد والترقى,‏ وأصبح محل تعقب أنور باشا‏!‏
تكشف عن ذلك عملية التطهير الواسعة التى أجراها الاتحاديون للضباط العرب فى الجيش التركى بالتواكب مع القبض على عزيز المصرى,‏ فيما تضمنه تقرير طويل لمكاتب الأهرام فى الأستانة نشرته الجريدة فى 21‏ مارس كان مما جاء فيه‏:" أخذت الحكومة تخرج كبار الضباط العرب من صفوف الجيش‏.‏ فبعد أن أحالت على التقاعد هادى باشا وهو من أكبر فرقاء الدولة بلا جدال‏.‏ أخرجت عبد الفتاح باشا وشكرى باشا الأيوبى بحيث أنه لم يبق من أمراء الألوية من أبناء العرب غير رضا باشا ركاب فقط‏.‏ وهو معروف بميله الشديد إلى سياسة الحكومة الحاضرة‏.‏ أما صغار الضباط من الملازمين إلى البنباشيين فإنهم يرسلون إلى داخل البلاد‏".‏
ويعقب مكاتب الأهرام‏,‏ بالإعراب عن استياء الضباط‏" من أبناء العرب الذين يقدمون على قبول المناصب والرضى بالحالة الحاضرة قائلين أن إخواننا اليوم يضحوننا فى سبيل مصلحتهم الذاتية فهم يستثمرون تعبنا ويمشون فوقنا لبلوغ هذه الغاية‏..‏ فعسى أن تضع الحكومة الحاضرة حدا لهذه الحالة التى أخذت تؤثر تأثيرها السيئ‏"!‏
رغم ذلك فقد حرص الاتحاديون على الادعاء بأن محاكمة عزيز المصرى إنما تجرى لأسباب متعلقة بمخالفات ارتكبها أثناء وجوده فى بنغازى,‏ وهو الحرص الذى لم يصمد طويلا‏..‏
بعد خمسين يوما كاملة من القبض على الضابط المصرى دون أن تفصح الحكومة التركية عن التهم الموجهة للرجل مما سبب فى تململ واضح لدى الرأى العام المصرى والعربى,‏ انجلى الأمر ببرقية من مكاتب الأهرام فى عاصمة الدولة العلية فى 30‏ مارس جاء فيها أن التهم‏" محصورة فى أمور بنغازى فقط والحكومة استدعت ثمانية ضباط للشهادة ضد عزيز بك‏".‏
فى المراسلات التالية لم يفتأ مكاتب الأهرام من التلميح أحيانا والتصريح أحيانا أخرى بما يدبره أنور باشا لعزيز بك المصرى من تلفيق للتهم‏,‏ فيقول فى إحدى تلك المراسلات‏" اتصل بى أن الحكومة تعبت أتعابا كثيرة فى وجود شهود عليه من الضباط أبناء العرب لتبعد الشبهة عنها ولكنها لم توفق‏.‏ وغاية ما فى الأمر أنها توقفت لوجود شاهدين أو ثلاثة من ثمانية شهود‏.‏ ولما حضروا أمام المحكمة العرفية‏(‏ العسكرية‏)‏ رفض واحد منهم الشهادة فطرد من الجيش وأسقطوه من رتبته وهذا الضابط اسمه حسين أفندى".‏
في‏4‏ إبريل عام 1914‏ بدأت محاكمة عزيز المصري‏..‏ عدد أعضاء المحكمة عشرة وثلاثة من المعاونين‏" وكان بين الأعضاء رجل واحد عربى لم يجرؤ على أن يفتح فاه مخافة من أن يطردوه من الجندية كما جرى لغيره‏",‏ طريقة الشهادة اتسمت بالغرابة‏" فقد كان الشهود يفوهون بشهاداتهم أمام المحكمة بعد أن يخرجوا عزيزا منها وحينما يفرغون من ذلك يرجعون عزيزا إلى المحكمة‏.‏ أما إذا احتاجوا لإيضاح فكانوا يدخلون عزيزا لسماع أقوال الشاهد فإذا كذبه عزيز يقولون له‏:‏ قولك غير صحيح لأن هذا الشاهد قد حلف اليمين‏"!‏
تدخل وزير الحربية فى المحاكمة سجله مكاتبنا بقوله ان‏" أنور باشا كان يبلغ رئيس المحكمة العرفية رغائبه وقراراته ويستعلم منه بالتليفون عن سير المحاكمة وأقوال الشهود‏.‏ وكان إذا احتاج إلى حديث طويل يخرجون عزيز بك من الجلسة فيتكلم رئيس المحكمة بالتلفون مع أنور باشا ويتلقى أوامره ثم يرجعون عزيزا إلى قاعة المحكمة ويكملون محاكمته‏"!‏
كان ذلك ما دفع الضابط المصرى إلى أن يلقى خطابا طويلا ثانى أيام المحاكمة تساءل فيه عن‏" هذه المعاملات السافلة والغرض الأعمي‏!,‏ هل أنتم محكمة أم لجنة عينت للحكم علي؟ إذا كنتم تريدون أن تحكموا على بالإعدام فلم هذه المحاكمة ولم هذه الرواية‏..‏ يظهر لى من كلامكم أنكم تنوون الحكم على فأنا استنكف الحضور بعد الآن إلى هذه المحكمة فاحكموا بما تريدونه‏"!‏
ولم تخيب المحكمة ظن عزيز بك المصرى فأصدرت حكمها فى 14‏ إبريل على الرجل بالإعدام‏,‏ وجاء فى حيثيات الحكم‏" حيث أن عزيز بك المصرى أطلق سراح المدعو حسين بسكرى المتهم بالجاسوسية للإيطاليين فى بنغازى بلا سؤال ولا جواب وبلا محاكمة ولا عقاب‏,‏ وحيث أنه لم يسع للاتفاق مع السيد أحمد الشريف السنوسى قائد العرب العام بل سبب الشقاق والنزاع معه بلا داع ولا سبب‏,‏ وحيث أنه هاجم الإيطاليين فى واقعة شويمار بلا تدقيق ولا تبصر فكان ذلك الهجوم سببا فى استشهاد عدد كبير من الضباط والجنود العثمانيين والعربان‏,‏ وحيث أنه أخذ من أموال الدولة ثلاثة آلاف ليرة عثمانية بلا إذن ولا رخصة‏..‏ حكمت عليه المحكمة بالإعدام‏"!‏
غير أنه بعد رفع الحكم المذكور لمجلس الوكلاء للتصديق عليه قرر استبدال صورة الحكم بالإعدام بالأشغال الشاقة فى إحدى القلاع العثمانية مدة خمسة عشر عاما‏",‏ بيد أن الرجل ظل يوجه كلماته لأعضاء المحكمة منبها أن‏" آمتى المصرية والشعب العربى لا ينسيان أبدا هذه المظالم ولا يقعدان عن طلب الإنصاف مهما حالت دونه الحوائل‏",‏ وكان لهذا القول ما يبرره مما أثبتته مسيرة الأحداث‏!‏
***
منذ اللحظة الأولى للقبض على عزيز المصرى" تحركت أمته‏" فى شتى الاتجاهات لتخليصه من براثن أنور وأعوانه مما ظلت الأهرام تحفل بأنبائه طوال فترة المحاكمة‏..‏
ما أن وصلت أنباء القبض على الرجل إلى العاصمة المصرية حتى تألف‏" وفد من العظماء قابل ولاة الأمور وبسط لهم أمانى الأمة أن يطلق سراح ذلك الضابط الباسل ليعود إلى أهله وذويه بعد أن أتم جهاده وقضى حق الوطنية والدولة عليه فوعدوهم ببذل الوساطة لدى الباب العالى وأرسل دولة البرنس عمر طوسون باشا تلغرافا إلى الصدر الأعظم يبسط له فيه أمنية الأمة المصرية ولا شك عندنا بأن الوزارة العثمانية تصغى إلى طلب المصريين وتبشر غدا بإطلاق سراحه ويزول ما أحدثه خبر القبض عليه‏"!‏
امتدت هذه الحركة إلى الإسكندرية حيث‏" اجتمع لفيف من ذوى المكانة فى الثغر وقرروا تأليف وفد لمقابلة ذوى الشأن للتوسط فى الإفراج عن بطل مصر عزيز بك المصرى",‏ وإلى الأقاليم من حيث وصلت إلى الأهرام‏" تلغرافات من السنبلاوين وأسيوط والزقازيق وشبين القناطر وبلبيس وغيرها كلها رجاء إلى الحكومة العثمانية بأن تطلق سراح حضرة الضابط الباسل عزيز بك على المصرى المشهورة مكانته ولا شك عندنا بأن الباب العالى يقدر ميل المصريين حق قدره ويراعى عواطفهم وأمانيهم‏".‏


عدم الاستجابة لهذه المطالب الفورية دفع جهات عديدة إلى التحرك‏..‏
كان الأزهر أولى تلك الجهات فقد أعلن الشيخ سليم البشرى شيخ الجامع العتيد في‏22‏ مارس عام 1914‏ عن تأليف لجنة تحت رئاسته‏" للنظر فيما يجب عمله فى مسألة عزيز بك على المصرى,‏ وليس من الناس إلا من عرف اسم ذلك البطل وأتاه نبأ سجنه بالأستانة‏,‏ ورأينا أن نعقد لهذا الغرض اجتماعا فى محل إدارة اللواء القديم للتشاور فيما يجب اتخاذه من الطرق المؤدية لإنصاف هذا البطل‏".‏
وعقد فعلا الاجتماع الحاشد الذى دعا إليه الشيخ البشرى حيث تداول الحاضرون الكلمات كان أبرزها خطبة المناضل العربى رفيق بك العظم الذى أعرب عن مخاوفه‏" من السعايات والوشايات‏",‏ تبعه رشيد رضا‏,‏ لطفى جمعة‏,‏ أبو شادى بك وأخيرا إبراهيم الهلباوى بك‏,‏ وانتهى الاجتماع بقرار‏" بانتداب فضيلة الأستاذ الأكبر والشيخ حسونه النواوى وبعض الأعيان لمقابلة سمو الجناب العالى وسكرتير القوميسرية العثمانية وبعض قناصل الدول المتحابة لبذل الوساطة للعفو عنه ورفع تلغراف إلى الصدر الأعظم بطلب العفو‏".‏
التلغراف الذى أرسله الشيخ البشرى إلى أنور باشا مطالبا إياه بالنظر إلى خدمات عزيز بك للدولة والملة جاء رد الأخير عليه‏:" لا يمكننى أن أطلق سراحه قبل الحكم ببراءته وربما بعد براءته يسمح له بالسكن فى نقطة معينة غير القطر المصرى",‏ مما كشف عن نية حكومة الاتحاديين على إبعاد الرجل ونفيه عن وطنه‏.‏
طلبة المدارس العليا عقدوا بدورهم اجتماعا قصدوا بعده إلى قصر عابدين معهم عريضة كان مما جاء فيها‏" جئنا اليوم لنجود لأخينا عزيز بما نملك‏..‏ دمعة حزن وكلمة استرحام فطالما جاد لنا ولديننا ولأمتنا بما لا يملك‏,‏ حياته وسيفه‏,‏ ونتقدم صفا واحدا لسمو أميرنا المحبوب طالبين إلى سموه إجابة أصوات شباب أمته وتداخله فى أمر عزيز بما له من المكانة الكبيرة عند سلطاننا الأعظم‏"!‏
بعد ذلك جاء الدور على" رجال الماسونية‏" الذين اجتمعوا بباب الخلق وقرروا أن يوجهوا مجموعة من التلغرافات إلى السلطان ووزارتى الحربية والداخلية العثمانية وغيرهم من المسئولين‏..‏ نص التلغراف‏:" نلتمس من مراحمكم أن تشملوا عزيز على المصرى بعين عنايتكم الساهرة على راحة الرعية حتى تطمئن قلوب إخوانه من المسلمين والعثمانيين على اختلاف أشكالها‏"!‏
كانت هذه الحركة العامة فى مصر تأييدا لعزيز المصرى مثار دهشة من جانب الاتحاديين الذين عبروا عن سخطهم عليها ومحل مخاوف السلطات البريطانية التى تحسبت لاحتمالات الهياج بين المصريين إذا ما استمر بطلهم فى المحبس العثمانى,‏ عبرت التايمز عن ذلك فى مقالة افتتاحية لها بعد صدور الحكم بإعدام الرجل كان مما جاء فيها أن ارتكاب مثل هذه الجريمة القضائية‏" سوف يحدث تأثيرا شديدا فى العلاقات بين مصر وتركيا وقد لا ينحصر ذلك التأثير فى تلك العلاقات فقط‏"!‏
لم يكن غريبا مع ذلك أن تتدخل حكومة لندن فى هذه القضية فقد أرسلت وزارة الخارجية البريطانية‏" تعليمات صريحة وشديدة إلى سفيرها فى الأستانة بشأن عزيز بك على المصرى,‏ وقد قابل السير مالت فخامة الصدر الأعظم وأنور باشا وكلمهما بموضوع الحكم عليه طالبا العفو عنه‏",‏ وتضيف رويتر التى ساقت هذا الخبر الذى نشرته الأهرام فى 17‏ إبريل عام 1914‏ بأنه‏" يغلب على الظن هنا أن الحكومة العثمانية تصدر إرادة سنية بالعفو عنه وتطلق سراحه‏".‏
فى مجموعة من البرقيات التالية بعث بها مكاتب الأهرام فى الأستانة تروى الجريدة فى عددها الصادر يوم 23‏ إبريل قصة العفو عن عزيز على المصري‏..‏ برقية أولي‏:" صدرت الإرادة السنية بالعفو عن البكباشى عزيز بك المصري‏..‏ وقد أطلق اليوم سراحه‏",‏ تبعها ببرقية ثانية يتحدث فيها عن أن حل هذه المسألة قد نتج عن تدخل عدد من الرجال ذوى النفوذ والتأثير الذين‏" نصحوا حكومة الباب العالى بوجوب الاعتدال على هذا الشكل لما سيحدثه من تأثير حسن فى العالم الإسلامى وفى الرأى العام الأوربى",‏ أنهاها ببرقية أخيرة عن إبحار الرجل على الباخرة الرومانية الملك كارول قاصدا الإسكندرية‏" وقد شيعه إليها عدد كبير من الشبان أبناء العرب ومن الأصدقاء المخلصين فهتفوا له وهنأاه بإطلاق سراحه‏"!‏
استقبال الرجل فى وطنه أفردت له الأهرام فى عددها الصادر فى 27‏ إبريل مساحة كبيرة‏,‏ فقد ذهب المستقبلون فى قطار خاص إلى الثغر حيث كان ينتظر فى الميناء‏" جمهور عظيم من أهالى الإسكندرية وجميع مراسلى الصحف الأوروبية والمصرية وكان مصورو السينماتوغراف قد أعدوا عددهم لأخذ صور الموكب وصفق الحاضرون وعلت الأصوات بالهتاف فسار عزيز بك بين صفين من الجند واستقل القطار الخاص إلى القاهرة فوصلها فى الساعة الواحدة والنصف وكان على الرصيف لاستقباله جمهور غفير من الوجهاء والأعيان والأدباء والشيوخ‏".‏
كتبت الأهرام تعلق على ذلك الاستقبال فى اليوم التالى بأنه ‏"إذا لم يكن عزيز بك بطلا‏,‏ وهو بطل باعتراف خصومه فقد صيرته محاكمته ذلك البطل‏",‏ وكأنما كانت جريدتنا تتنبأ بذلك عن دور هذه المحاكمة فى صناعة الأسطورة‏!‏

صورة المقال: