ads

Bookmark and Share
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديوان الحياة المعاصرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديوان الحياة المعاصرة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 31 يوليو 2021

157 حادثة الهماميل الدولية

حادثة الهماميل الدولية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 28 نوفمبر 1996م - 17 رجب 1417هـ


ظهر يوم الأربعاء 3 أغسطس عام 1901، وفى شارع صغير وراء شارع الهماميل بقسم المنشية بالإسكندرية كان أحد البلطجية ممن يحبون "بيوت الفسق والفجور" على حد توصيف الأهرام وهو إيطالى اسمه ستيفانو لاروزا يحتفل مع بعض أصحابه "بعيد مولده السعيد بتناول الغداء في بيت عاهرة فظلوا يأكلون ويقصفون حتى الساعة الرابعة فنزلت المرأة، واسمها ماريا فومى، تبتاع غازوزة من بائع ثلج قريب فاختلفت معه" فنزل إليه البلطجى الإيطالى وتحول الأمر إلى مشاجرة انتهت بقتل جاويش من رجال البوليس، اسمه أحمد موسى، كان قريبًا من أحداثها وحاول التدخل لفضها، وانفتحت بعد ذلك أبواب جهنم...

قبل أن نطل من هذه الأبواب نقدم تفاصيل هذه الحادثة التي بعث بها مكاتب الأهرام في الإسكندرية في تقرير طويل نقدم بعضه هنا..

وفى الساعة الرابعة بعد ظهر أمس طرأت حادثة كادت تكون فتنة متطايرة الشرار متعالية الأوار وامتدت من شارع مالطة حتى قهوة أوربا وأول شارع انسطاسى.

"أما تفصيلها فهو أن أربعة من الإيطاليين تنازعوا وتشاجروا على أمر تافه في شارع صغير وراء شارع الهماميل فخف جاويش من البوليس لتفريقهم فسبه أحدهم فقبض عليه الجاويش وأصر على سواقه "القره قول" فانقض الثلاثة الباقون وامرأتان إيطاليتان على الجاويش وجعلوا يضربونه ضربًا مبرحًا رجاء أن يخلصوا ابن وطنهم من يديه ثم استل أحدهم مدية وضرب بها الجاويش في بطنه واتبعا بعيار نارى فسقط قتيلا يتخبط بدمائه.

"فما دوى البارود حتى هرع جمع من الوطنيين مسلحين بالعصا والنبابيت وتعاظم عددهم وعلت جلبتهم وأردوا أن يثأروا للقتيل فاضطر أرباب المخازن إلى إقفال مخازنهم وتوارى الأوربيون عنهم تلافيًا للشر.

"أما الجانون فقد صعد واحد منهم إلى منزلة في الطبقة العليا وأخذ بندقيته وجعل يتهدد كل من يقترب منه ثم ذهب الآخرون إلى أحد المخازن للاعتصام به وفى تلك الأثناء هم البوليس بالقبض عليهم فلم يفلح لأنهم قاوموه مقاومة شديدة فطلب نجدة وبعث أولياء الأمر بتلغراف إلى قنصلية إيطاليا فخف جناب وكيل القنصلية إلى محل الحادث وإذ ذاك تمكن البوليس من القبض على الإيطاليين الأربعة وعلى المرأتين وسوقهم في عربة إلى "القره قول" فتبع الهائجون العربة على مسافة وهم يصرخون وفى إبان ذلك الهرج جرح بعض الأوروبيين وأوقع بفتى أرمنى.

"ولما وصلوا إلى قرب القره قول أخذوا يكسرون زجاج القهوة ولولا وصول كوكبة من الفرسان لهاجموا الأوروبيين الذين كانوا فيها، على أن البوليس كان يشتت الهائجين من جهة فلا يلبثون أن يجتمعوا من جهة أخرى وظلوا يطوفون الشوارع وهم يصيحون ويتهددون فاضطرت جنود الاحتلال إلى التدخل وذهبت شرذمة منها إلى شارع محمد على وسارت كوكبة من الفرسان لتوطيد الأمن في شارع الفرنج وشارع السبع بنات.

"وفى الساعة السابعة وضع الإيطاليون الأربعة في مركبة السجناء فسارت يحيط بهم رجال البوليس مشاة وفرسانًا وشرذمة من جنود الاحتلال ومع ذلك الاحتياط لم يرجع الهائجون بل ظلوا يشيعون المركبة صائحين متهددين حتى سجن الحضرة.

"أما جثة الجاويش فإنها نقلت في مركبة سوداء محفوفة بالجنود ولما كانت الساعة التاسعة تمكن رجال الأمن من تشتيت المتجمهرين.

وعد الجرحى فبلغوا اثنى عشر وكلهم من الأوروبيين وجراحهم خفيفة جدًا.

وانفتحت الأبواب بعد ذلك فيما نتابعه من الأهرام ومن غيرها...

***

الصحف الأوربية في مصر انبرت لتهاجم المصريين، وكان على رأسها المساجيرى الإيطالية والريفورم والبورص اجيسيان الفرنسيتين، وقد اتهمت الأخيرة المصريين "بالهمجية والتوحش والتعصب واللوم والخساسة إلخ إلخ، وهى النغمة التي عزفتها الصحيفتان الأخريان وإن كانت المساجيرى زادت على ذلك بأن اقترحت إلحاق عناصر إيطالية بقوة البوليس في الثغر.

وإذا كانت الأهرام لم تنقل ما كتبته الصحف اليونانية فمن المعتقد أنها قد شاركت في الحملة خاصة وأن خمسة من اليونانيين كانوا من الجرحى الاثنى عشر، فضلا عن إقفال المخازن اليونانية في المدينة.

وكان مفهومًا أن تنبرى تلك الصحف للهجوم على المصريين بحكم أن اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين شكلوا نحو 70% من مجموع الأجانب في الإسكندرية وفق إحصاء عام 1897.. المجموع 46.118 منهم 15.182 يونانيًا بما يعادل 32.9% و11.743 إيطاليًا بنسبة 25.4% و5221 فرنسيًا بنسبة 11.3%

وقد بالغت الصحف الأوروبية في حملتها حتى أنها ذكرت بحادثة المصرى والمالطى والتي كانت سببًا في اشتعال الأحداث في 11 يونيو عام 1882 مما كان مقدمة للاحتلال البريطاني لمصر بعد ثلاثة شهور فحسب وخطورة مثل هذه النغمة أنها وفرت للاحتلال البريطاني ذريعة للبقاء في البلاد.

ولم يكن متوقعًا أن تسكت الصحف الوطنية على ذلك فيما بدأ في الحملة المضادة التي شنتها اللواء والمؤيد والأهرام نختار منها ما أسهمت به صحيفتنا فيها.

فمع أن الأهرام في أول نقلها لأخبار الحادثة وصفتها في موقع بأنها حادثة كادت تكون فتنة متطايرة الشرارة متعالية الأوار، ووصفتها في موقع آخر بأنها حادثة مخيفة أرعبت كل قلب إلا أنها بعد أن تبينت عواقب المبالغة في الحادثة عمدت إلى التخفيف من آثارها فيما كشفت عنه جملة أخبارها وتعليقاتها خلال الأيام التالية منها....

سياسة الجريدة في مواجهة الهجوم على المتجمهرين المصريين بدت في التحذير من الانصراف عن الفعل إلى رد الفعل فيما جاء في أحد تعليقاتها: "نقول كلمة واحدة للحكومة وللصف وهذه الكلمة هي أن المهم الذى تشتغل به البلاد هو مقتل الأونباشى فتحويله إلى جمهرة الناس وغضبهم يعد لعبً بأحلامنا وكرامتنا"!

دلفت من ذلك إلى تقديم الأسباب التي أفضت إلى رد الفعل، والتي يمكن أن نعددها على النحو التالى..

إن التجمهر من جانب المصريين لم يحدث لذاته أو لرغبة كامنة عند هؤلاء للاعتداء على الأجانب وإنما لجسامة الأمر، "لأن في الحادثة خطرًا على الأمن ومصادمة لقوة الحكومة فاجتماعهم أمر بسيط لا يستحقون عليه تشنيعًا وتبكيتًا ورميًا بالتعصب الجنسى أو الدينى"!

إذا كان من صنعوا الحادثة من سفلة الإيطاليين فإن المتجمهرين كانوا من رعاع المصريين، على حد توصيف الجريدة مما لا يخرج عن حد المألوف في كل زحام، وقد عهدنا هؤلاء الرعاع يضرب بعضهم بعضًا. وإذا حدث أقل زحام حشروا أنفسهم فيه وسبوا أبناء جنسهم ودينهم فكيف بهم وقد كان أمس ما كان والأنباشى مقتول والقاتلون ممتنعون في منزلهم.. فما حدث لم يكن عن تعصب جنسى ولا تعصب دينى ولا انتقامًا ولا ولا بل فعل الأشقياء في كل زمان ومكان".

في نفس السياق.. سارعت الأهرام بنقل الخبر الذى نشرته الإجبشيان جازيت، الصحيفة الإنجليزية، والذى ذكرت فيه أن حملة النبابيت ممن اعتقدت بعض الصحف أنهم من عامة الوطنيين كانوا في الحقيقة من الخفراء "الذيم يقضى عليهم النظام بالحضور كل ليلة إلى أقسام البوليس التابعين لهم لتلقى الأوامر وأنهم بادروا بالحضور إلى مكان الحادثة اعتبارًا أنهم من البوليس".

ولما كان إغلاق اليونانيين لمحالهم، وكانوا يشكلون نسبة كبيرة من أصحاب تلك المحال.. مقاهى، حوانيت، مخازن وغيرها، وقد صنع مناخ الاضطراب مما ذكر بأعمال العنف الدموى التي جرت عام 1882، فقد كان على الصحف الوطنية أن تبحث عن أسباب ذلك وابتهجت عندما توصلت إليه وهو أن ذلك الإغلاق جاء بأمر من القنصل اليوناني في الثغر تخوفًا من تطور الموقف، وهو ما لم يحدث.. بمعنى آخر أنه قد حدث في إطار الإجراءات الوقائية وليس بسبب الحادثة ذاتها.

عمدت جريدتنا بعد ذلك على الدق على الوتر الإنسانى في الحادثة... الجاويش المصرى الذى قتل وعمره 30 سنة وقد رقى منذ أيام وهو رب عيلة وأولاد كثيرين.

بل سعت إلى ما هو أكثر من ذلك بالدعوة للاكتتاب للعيلة المنكوبة خاصة وأن الحكومة لم تعطها سوى مائة جنيه.. صحيح أن المبلغ كان معقولا بمقاييس ذلك الزمان، وصحيح أن الأهرام شكرت الحكومة على ذلك، غير أنها ناشدت النظار الاشتراك في الاكتتاب الذى افتتحته، وطالبت كل منهم أن يدفع ولو "جنيه واحد من 300 جنيه تعطيه إياها الحكومة.. ولا نظن بعد ذلك إلا أن كبارنا يحذون حذو حضرات النظار الفخام".

وقد ساهمت الأهرام في ذلك الاكتتاب بأربعة جنيهات بالتمام والكمال غير أنها احتفت احتفاء ظاهرًا بتبرع "البرنس الجواد السمح الكف محمد بك إبراهيم بخمسين جنيهًا لمساعدة هذه العيلة وتبرع صاحب اللواء (مصطفى كامل) بثلاث جنيهات وشقيقه بجنيه"!

بعد التحجيم من "رد الفعل"، وبعد استنفار المشاعر الإنسانية تعاطفًا مع الضحية، صرفت الأهرام همها إلى "الفعل".. أفعال سفلة الأوروبيين خاصة "ذعر الإيطاليين" الذين تعددت أعمالهم الاستفزازية للمواطنين، وهى في هذ وضعت ردودًا مطولة على المساجيرى والأطراف الأوروبية التي أخذت في استعداء السلطات والقوى الدولية على المصريين.

* فقد وجهت صحيفتنا سؤالا استنكاريًا للصحيفة الإيطالية عما كانت تنتظره بعد أن تحصن القتلة في منزلهم وقاموا برجم الناس بالحجارة ورشق المحافظ بالحصى وتوجيه الإهانات إلى رئيس النيابة مما "اعتبره الشعب محاربة للبلاد ولنظاماتها وقوانينها وإهانة كبيرة للشعب وآدابه فليس عجيبًا أن يجتمع الناس لمثل هذا الأمر ويضطربون ويغضبون بل العجيب أن يظلوا في استماتهم كالرمم البالية ومع ذلك فإنه لم يحدث أمر ذو بال بل فليقولوا لنا هل إذا قتل مصري بوليسًا طليانيًا في رومه وضرب الحاكم يبارك ويسجد له؟"

* ذكرت الأهرام بعد ذلك بالتعديات التي ظل الرعايا الإيطاليون يمارسونها على المصريين دونما عقوبة تذكر.. حادثة البطيخة التي قتل فيها أحدهم مصريًا فأرسل للمحاكمة في "أنكون" فبرأته المحكمة "وعاد إلى الإسكندرية يتخطر بين أهليها"، والأخرى التي حدثت قبل أيام في شوارع الأزبكية إذ وقف إيطاليان "يتبادلان إطلاق النار والناس ألوف تنفر من وجههما"!

* وفى النهاية تناشد جريدتنا الأوروبيين المقيمين في البلاد أن "كفوا عنا مداكم ومسدساتكم ونحن براحة من مثل هذا الشغب وهل نحن متوحشون إذا طالبنا بدمنا وأولئك القتلة السفاكون هم المتمدنون.. لقد آن لبعض أن يبقوا على كرامة الكرام من رعاياهم بطرد أشرارهم أو بالأحرى تأديبهم".

وقد تضمنت هذه المناشدات بيت القصيد في جانبين: تهمة التعصب التي ظلت تتذرع بها الدول لبقاء بريطانيا في البلاد، الحماية التي يستظل بها رعايا الدول المتمتعة بنظام الامتيازات Capitulations، وهو الباب الذى خرجت منه حادثة الهماميل بطابعها الدولى.

***

الصحف الوطنية بذلت غابة طاقتها خلال الأيام التالية لحادثة الهماميل لإفساد هذه التهمة الدولية فيما خصصت له الأهرام مقالها الافتتاحى في عددها الصادر يوم 17 أغسطس عام 1901 والذى جاء تحت عنوان "درس مفيد في صحيفة سوداء"!

"السلاح الذى نحارب به" فيما استهلت به الصحيفة مقالها هو "التعصب الدينى والجنسى فإذا اجتمع الشرقيون لأمر ولو تافهًا نادى نذير أوربا بالتعصب الدينى فكان هذا التعصب حجة علينا تدل على أكبر ذنوبنا.. فأوربا بأجمعها لا تتساند على أمر إلا على مناهضته فهو حجة الإنكليز علينا في مصر وهو حجة غيرهم في غيرها وهو قد كان أمس في الإسكندرية حجة الذين دافعوا عن القاتل"!

ويشخص المقال النظرة الموضوعية من جانب المصريين للأوربى وهى أن يتعلموا منه "فإذا أردنا الصناعة اكتسبناها من يديه وإذا أردنا التجارة تعلمناها منه.. فلابد لنا من ممازجته ومخالطته لتلتقى منه ما نجهله"، ولكن..

"لا نريد بهذا الأوربى جليس الحانة ولا سمير المقامرة ولا ابن السوق وأبا الشر وأخا الفساد بل الأوربي الذى كان دعامة بلاده بمدنيته وآدابه وعلمه"، وأعربت عن رأيها بأن رفض النوع الأخير من هؤلاء لا يمكن أن يترجم بحال على أنه شكل من أشكال التعصب.

بيت القصيد الثانى نظام الامتيازات، فالمعلوم أنه رغم نشأة نظام المحاكم المختلطة عام 1876 فقد بقيت المحاكم القنصلية تحكم في أغلب القضايا الجنائية التي يكون طرفاها أو إحداهما من رعايا الدولة التي يمثلها القنصل، وكانت تشكل في العادة من القنصل رئيسًا واثنين من أعيان الرعية التابعة لها أعضاء، وكان المتهم يحاكم أمام هذه المحاكم وفقًا لقانون دولته، وعندما كان يرفع القنصل بعض قضايا الجنايات إلى محكمة في بلده لم تكن لتقف على الحقيقة حيث تحكم من خلال المذكرات والأوراق، فلا شهود ولا دراسة، وبذلك تفقد القضية معالمها الأساسية، وحتى إذا عوقب المجرم يكون التأثير الأدبى الذى ينتج عن سرعة العقاب قد زال بسبب التأخير، وفى الغالب كان يحظى بالبراءة.

وإذا كانت الأهرام قد جسدت هذه الحقيقة عندما أشارت إلى الإيطالى قاتل بائع البطيخ فإن الوثائق قد اكتظت بأمثلة أخرى.. "جنسيب سكريا" المالطى المتمتع بالحماية البريطانية الذى ضبط خلال عامين فحسب في 13 جريمة تزييف عملة وسرقة واختلاس وتعدى وهجوم بالآلات الحادة.. "روبرتو برنو" المالطى أيضًا الذى اضطر القنصل البريطاني في الإسكندرية إلى ترحيله بعد أن تأكد أن "إقامته في الإمبراطورية العثمانية خطر على الأمن العام".. مهندس بريطاني في أسوان أطبق النار على الأهالى فأردى أحدهم مما أثار الأهالى، وحوادث عديدة أخرى.

لعل ذلك ما دعا خليل مطران، رئيس تحرير الأهرام بعد وفاة بشارة إلى أن يكتب في الصفحة الأولى من عدد الجريدة الصادرة يوم 10 أغسطس عام 1901 مقالا ضافيًا تحت عنوان "حادثة الإسكندرية - الامتيازات الأجنبية".

نبه في مطلعه إلى أن حادثة الهماميل "ستتجدد وتتعاظم حينًا بعد حين ما دام قناصل الدول يتوسعون إلى ما وراء حدود المعقول في تفسير الامتيازات والحكم بمقتضاها" ودلفت من ذلك إلى القول أن رأى الأهرام منذ نشأتها أن الامتيازات في أي بلد "كانت ظلمًا فادحًا لا مسوغ له في شرع ما فهى مؤسسة على القوة المميزة بين فريق وفريق وبالتالي بغيضة على كل ذي نفس تحب المساوة"!

رغم ذلك يتوقف كاتب المقال عند حقيقة غابت كثيرين ممن عالجوا هذا الموضوع في دراسة تاريخية فيما بعد، وهى أن دولة الاحتلال كانت متطلعة لإلغاء هذه الامتيازات والسبب لم تذكره تقارير اللورد كرومر خلال هذه السنوات التي أعقبت حادثة الهماميل..

في أحد هذه التقارير عرض القضية بشكل جدلى.. ان نظام الامتيازات خاصة ما كان متعلقًا منه بعدم محاكمة الجناة من الأوربيين أمام المحاكم يلقى رفضًا مصريًا عامًا، غير أنه عل الجانب الآخر فإن الخارجين على القانون من أبناء الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر يشكلون أقلية بينما تقوم الأغلبية من هؤلاء بدور هام في تطوير البلاد، وإن إخضاعهم للمحاكم الأهلية قد يدخل الخوف على قلوبهم مما ثد تفقد مصر معه وجود هذا العنصر النشيط "في صناعة رخائها" على حد تعبيره.

وبعد أن طرح اللورد العتيد المعضلة على هذا النحو تقدم بالحل السعيد.. لبريطانيا طبعًا، وكان: أن "تتنازل الدول صاحبة الامتيازات لبريطانيا العظمى عما لها من الوظائف التشريعية، وأن ذلك التنازل يحتم أن تكون إحدى نتائجه إيجاد أداة محلية تشارك في سن القوانين التي تنفذ على الأوربيين".

كان هذا ما تنبه إليه خليل مطران فيما قال به من الامتيازات "حالت إلى الآن دون ابتلاع المحتلين للقطر وأبقت له بقية أمل للاستقلال ولا جرم أن مصر تدعى إلى الآن ولاية ممتازة عثمانية بسبب هذه الامتيازات وأن فيها دوائر مستقلة ومحاكم لا تسيطر عليها الحكومة بسبب هذه الامتيازات إلى ما يماثل هذه الأسباب التي لا ينبغي أن تغرب عن فكر بصير"!

الحل في رأى مطران أن يشتد القناصل على الرعاع من أبناء بلادهم ومعاملتهم كما يفضى القانون ولو أنهم فعلوا ذلك "لامتنعت مفاسد وشرور كثيرة ولنجمت عن ذلك خيرات عظيمة لدولهم ولرعاياهم"!

حل آخر في يد الحكومة المصرية، ففضلا عن السلاح المخول لها ينفى المتشردين من رعاع الدول الأوربية هناك سلاح المعاملة بالمثل.. أي أن تعاقب المحاكم الأهلية المتهمين المصريين في قضايا طرفها الآخر أحد رعايا الدول صاحبة الامتيازات بنفس المعاملة التي يلقاها من المحكمة القنصلية "فلماذا تكون محاكم مصر أكلف بالإنصاف وأشد وطأة على الجناة الذين يقاضون لديها"!

الحل الإنجليزى كان مختلفًا، بتقديم مشروع متكامل لإصلاح القضاء للدول صاحبة الامتيازات بأن يمثل المتهمون من أبنائها أمام محاكم جديدة يتمتعون بمقتضاها بكافة الضمانات..

الحق في عرض أية قضية لأحد هؤلاء على قاض من رعايا دولته أو على محكمة ثلاثة أخماس أعضائها من هؤلاء الرعايا، إلا ينفذ الحكم بالسجن ما لم يكن المتهم قادرًا على تقديم كفيل، ألا يصدر إشعار بالضبط إلا من قاض من رعايا الدول صاحبة الامتيازات، ألا يصدر إشعار بالتفتيش بدون وساطة القنصلية، ألا ينفذ الحكم بالإعدام إلا بعد إعلان لوكيل الدولة بشهر على الأقل، وأخيرًا صرح القانون المقترح لرجال القنصلية بحق الدخول أي وقت للسجن لرعايته.. المهم في كل هذا أن تكون المحكمة المقترحة صناعة إنجليزية.

شرعت دوائر الاحتلال في التفاوض حول القانون الجديد مع الدول الأربعة عشر صاحبة الامتيازات والذى بدا بشكل جدى بعد عقد الوفاق الودى مع فرنسا بشأن مصر عام 1904 اعتقادًا من حكومة لندن بأنه قد أمكن بمقتضاه التخلص من معارضة الفرنسيين التي شكلت أهم العقبات في ذلك السبيل، ولكن كان على المتفاوضين أن ينظروا أكثر من ثلاثين عامًا للتوصل إلى اتفاق.. في مونترو عام 1937 على وجه التحديد كانت قد جرت خلالها مياه كثيرة، وكانت نقطة البداية حادثة الهماميل!


صورة من المقال:



156 صندوق التوفير

صندوق التوفير

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 21 نوفمبر 1996م - 10 رجب 1417هـ


"رأسمالية مصرية بدون رأسماليين وطنيين"، ذلكم هو التوصيف الذى انتهت إليه التطورات الاقتصادية إبان القرن التاسع عشر..

فباستثناء طبقة كبار ومتوسطى ملاك الأراضى الزراعية التي نمت خلال النصف الثانى من ذلك القرن، كان العمود الفقرى للرأسمالية العاملة في مصر من الأجانب.. سواء من البيوت المالية الأوروبية أو اليهود المنحدرين من أصول أجنبية، ثم تمصروا بعد أن استقروا في البلاد.

وقد استتبع هذا أن استمر "النظام المصرفي" الذى يجسد روح الرأسمالية ذا قسمات غير مصرية، فأغلب البيوت المالية التي نشأت خلال تلك الفترة كانت إما فروعًا لبيوت مالية أوربية، وإما يمتلكها الأجانب المقيمون في مصر مما تكشف عنه أسماؤها.. باستريه، أوبنهيم، ديرفيو، لافيسون وشركاه، لانداو وشركاه، فضلا عن آل سوارس الذين اكتسبوا شهرة عريضة في أعمال المال.

إذا كما لا نملك إحصاءات دقيقة عن مدى ضلوع كبار ملاك الأراضى الزراعيين في العمل المصرفي بدءًا من عصر سعيد باشا (1854 - 1863) وحتى نهاية القرن إلا أن ما يبدو من كتابات المؤرخين الاقتصاديين أنه كثيرًا ما وقع هؤلاء ضحية لألاعيب المصرفيين الأجانب، ولعل قصة خراب إلهامى باشا ابن عباس الأول الذى ورث عن أبيه 80 مليون فرنك فضلا عن مساحات واسعة من الأراضى الزراعية تقدم نموذجًا على ذلك، فقد حدث هذا الخراب من خلال تعاملاته مع ديرفيو وأوبنهايم فيما يرويه بالتفصيل ديفيد لاندز في كتابه الشهير بنوك وباشوات.

لعل ذلك كان وراء محدودية الإسهام المصرى في الرأسمالية الوطنية التي نشأت زراعية، وإن كانت الأمور قد تغيرت قرب نهاية القرن.. إذ تكشف كتابات الأهرام عن نشأة البنك الأهلى عام 1898 عن إقبال الوجهاء والأعيان، أي الارستقراطية الزراعية، على المساهمة في هذا البنك والتعامل معه.

رغم ذلك فقد بقيت الجمهرة العظمى من المصريين لا تطأ أقدامهم ذلك البنك أو غيره، ولأسباب عديدة.

في المدن استمر الأفندية في شرائحهم الوسطى والصغرى يتخوفون من مجرد دخول تلك البنوك ناهيك عن التعامل معها، وهو ما حدث في الريف بالنسبة لصغار ملاك الأراضى الزراعية.

فقد ظل يحكم هؤلاء الخوف على المدخرات القليلة التي ينجحون في توفيرها، وقد ترجموا هذا الحرص في إحدى صورتين:

الأولى بالاحتفاظ بأموالهم داخل بيوتهم بإخفائها في مكان أو آخر وينم تعبير وضع تلك المدخرات "تحت البلاطة" عن تلك الحقيقة، وقد شجع هؤلاء على السير على هذا النهج استمرار التعامل بالعملة الذهبية حتى عام 1899.

الثانية بترجمة هذه المدخرات إلى مصوغات ذهبية تضعها الزوجات في أيديهن وصدورهن، مما كان يمكن إعادة ترجمته إلى مال عندما تلح الحاجة، ولعل ذلك الحوار الذى يتكرر في الروايات والأفلام يكشف عن تلك الحقيقة.

الحوار في العادة بين الزوجة التي تقدم حليها لزوجها ليتصرف فيها وقت الحاجة، فيتمَنّع الأخير، فترد بقولها "انت إللى جايبهم وسوف تعوضنى عنهم بعد انصلاح الأحوال"، وينتهى التمنع وتحدث إعادة الترجمة!

وتشير التقارير الأولى في تاريخ البنك الأهلى المصرى إلى أن المشكلة الأساسية التي ظل يواجهها في ترويج أوراق البنكنوت التي بدأ إصدارها في أبريل عام 1899 قد نشأت عن حرص المصريين على الاحتفاظ بالنقود الذهبية والانصراف عن الأوراق المالية، مما كان يعنى أنه حتى أولئك الذين تعاملوا مع هذا البنك من "الوجهاء والأعيان" لم تكن لديهم الثقة في نظام الائتمان الذى يقوم عليه العمل المصرفي.

غير أن المشكلة كانت مع المدخرات الصغيرة لأفندية المدن ولكولاك الريف (صغار الملاك)، وكان مطلوبًا البحث عن وعاء ادخارى رأسمالى يسمح باستثمار تلك المدخرات.

وجاءت الفكرة من الهند إذ يسجل اللورد كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة في أحد تقاريره السنوية أن تلك البلاد تحت إدارة اللورد ريبون كانت أول من عرف نظام صندوق توفير البريد، وأنه في نهاية العام المالى 1901 - 1902 بلغ عدد المودعين في تلك الصناديق 866.693 ووصلت جملة إيداعاتهم 106.821.223 روبية.

وبدت الفكرة مناسبة لمصر بحكم ما اكتسبه نظام البريد من رسوخ في التربة المصرية، في الريف و المدينة، وبحكم التعاملات اليومية مع مكاتب البريد، ومن شتى فئات الشعب المصرى، خاصة أفندية المدن وصغار ملاك الأراضى في الريف، ممن سعى المشروع لجذب مدخراتهم.

فضلا عن ذلك فقد ارتأت سلطات الأمن أن انتشار فروع ذلك الصندوق في الريف سوف يؤدى إلى قلة الجرائم الناتجة عن سطو اللصوص على البيوت التي يحتفظ أصحابها بأموالهم فيها.

ومن هنا ولدت فكرة صندوق توفير البريد، وجاءت ولادتها مع مطلع القرن الجديد.. القرن العشرين، وكانت الأهرام شاهدة على هذه الولادة!

***

في فبراير عام 1901 وضع مدير عموم البوستة المصرية، سابا باشا، وبإيعاز من دار المعتمد البريطاني، فيما نعتقد، الخطوط الأولى لمشروع صندوق توفير البريد مما يكشف عنه الخبر الذى نشرته الأهرام في عددها الصادر في 23 من ذلك الشهر.. جاء فيه:

"لما تشرف سعادة سابا باشا مدير عموم البوستة المصرية بمقابلة سمو الجناب الخديوى أظهر له سموه ارتياحه إلى المشروع الجديد أي صندوق التوفير الذى أنشئ في مصلحة البريد وأبلغه أنه سيكون أول من يودع مالا في هذا الصندوق تنشيطًا للأهالى على هذا العمل المفيد. على ذلك فإن أول مبلغ يودع في هذا الصندوق يوم افتتاحه في أول مارس المقبل يكون باسم سموه فلا زال عضدًا ومساعدً لكل مشروع جديد"، وكان هذا الخبر بداية لحملة شنتها الصحف للترويج للصندوق.

شاركت الأهرام في تلك لحملة بسلسلة من المقالات نختار أهماه:

مقال في الصفحة الأولى من العدد الصادر يوم الأربعاء 27 من نفس الشهر تحت عنوان "صندوق التوفير" استهلته بمحاولة استخراج الدلالات من مقابلة الخديوى لمدير عموم البوستة المصرية، وأن عباسًا يقصد تحريض "أمته المنتشرة من لادو إلى البحر المتوسط" على الإقبال على هذا المشروع المفيد.

وجوه الإفادة في رأى كاتب المقالة تعددت..

1) عملا بحكمة "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، ترى الأهرام أن الصندوق هو الحل لـ "الشبان الذين يطلبون مستقبلا ضاحكًا وادخار شيء من أيام الشبيبة النضرة النشيطة لأيام الراحة والسكون"، وإن لم تصفها بأيام الشيخوخة!

2) صور الكاتب الصندوق على اعتبار أنه سوف يكون مدرسة لتعليم المصريين حكمة الاقتصاد ليصبحوا في ذلك مثل بقية الشعوب المتقدمة، خاصة الفرنسيين الذين ظلوا المثل الأعلى للعاملين بالأهرام.. قال:

"أقرب شاهد لنا على فائدة صندوق التوفير ما نعرفه عن ثروة الأمة الفرنساوية حتى كأنه ليس بينها فقير وهذا الغنى كله ثمرة الاقتصاد حتى عصت بالأموال الصناديق فنساؤهم يقتصدن من نفقة المنزل ورجالهم من نفقة الجيب فلا تمضى بضع سنوات حتى يجد فقيرهم مالا وافرًا فمن قرش وقرشين يجمعون الألوف"، ويتوقف الكاتب عند مسألة القرش والقرشين هذه.

3) يتساءل صاحب المقال "أليس بيننا واحد لا يستغنى في يومه عن قرش أو قرشين فإذ حسب المجموع في عشر سنوات كان مبلغًا طائلا يجده المقتصد إذا مرض والأعزب إذا تزوج والفاعل إذا لم يجد عملا والمستخدم إذا عزل".

4) يحمل صاحب المقال على المبذرين أنهم يعيشون حياتهم دون أن يضعوا في الاعتبار مستقبل أسرهم ويلفت النظر إلى "العيلة التي عاشت مع رب بيتها بترف ونعمة فلما توفى ماتت نعمتها وذهبت راحتها"!

يختم كاتب الأهرام مقالته التي افتتح بها حملته الصحفية بالتحفظ بأن الاقتصاد لا يعنى التقتير، فإن الأخير رذيلة بينما الأول فضيلة.

وفى أول مارس عام 1901 يولد صندوق توفير البريد، ويلاحظ أنه قد بدأ في مكاتب البريد في المدن الكبرى، القاهرة والإسكندرية ومدن القناة الثلاثة، ثم عواصم المديريات في الدلتا والصعيد.

في الوجه البحرى في دمنهور وكفر الزيات وطنطا وبنها والمحلة الكبرى وزفتى وشبين الكوم والمنصورة والزقازيق ودمياط، بمجموع عشرة مكاتب.

وفى الوجه القبلى في الجيزة والفيوم وبنى سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأسوان، بمجموع عشرة مكاتب أخرى.

تنشر الأهرام في نفس اليوم شروط التعامل مع الصندوق.. الفائدة 2.5%، أول دفعة لا تقل عن 200 مليم، كل دفعة بعدها لا تقل عن 50 مليمًا، لا تزيد إيداعات أي فرد عن 50 جنيهًا في السنة، وعن 200 جنيه في عدة سنوات ولا يقل المبلغ المسترد عن 50 مليمًا، وتختم الشروط بطمأنة المودعين بأن الحكومة "تضمن رأس المال وفوائده".

ومع انتشار هذه الفروع العشرين بدأت عدوى الاهتمام بصندوق توفير البريد تنتقل إلى مكاتبى الصحف في المدن التي تواجد بها..

عزا مكاتب الإسكندرية مصائب مصر إلى أنها تكاد تكون مجموعة في أمر واحد وهو "الإسراف والتبذير وعدم العناية بالمال اليسير واليأس من الغناء الوفير"، والسبب "أننا نزدرى بما نوفره ولا نعلم أنه بعد سنوات يكون مالا جسيمًا"!

وقد أخذ الحماس بالرجل إلى الحد الذى انتهى به إلى القول "هلموا إلى الاقتصاد والتوفير هلموا اقتدوا بسمو أميركم المعظم الذى صدر أول وصل من التوفير باسمه الشريف حفظه الله"!

مكاتب دمنهور كان أقل حماسًا وأكثر عقلانية فقد رأى أن الهدف من الصندوق خدمة الفقراء، فالأغنياء لهم بنوكهم، ومن ثم طالب بتعميم فروع الجهاز الجديد، خاصة في الريف، "فقلما يفيد هذا المشروع الجليل سكان المدائن لأنهم أقل خشية من نوازل الدهر وتعسر العيش من سكان القرى حيث العيش ضنك والحياة شقاء".

ولم ينس مكاتب عاصمة البحيرة أن يسخر من وجود فرع واحد في مدينة كبيرة مثل الإسكندرية بتساؤله عما يصنعه سكان المكس أو الرمل مثلا "إذا توفر عند أحدهم خمسة قروش وأراد إيداعها صندوق التوفير إلا يلزم لذلك نفقات للنقل توازى نصف ما يريد ادخاره"!

أكد مكاتب القرشية على فكرة المراسل الدمنهورى بضرورة نشر فروع توفير البريد في المناطق الريفية وطالب بألا تحرم البلدة التي يمثل الأهرام فيها من أحد هذه الفروع لأنها "أهلة بالسكان الكثيرين وطنيين وأجانب وقد كلفنى أهلها أن أطلب على لسان الأهرام من سعادة المدير الغيور أن يكلف وكيل بوسطة القرشية بقبول كلما يرد إليه من نقود من أي شخص".

في 22 أبريل عام 1901 وبعد أقل من شهرين من افتتاح صندوق توفير البريد تبشر الأهرام قراءها بأن إيداعات فرع القاهرة وحده قد بلغت 18 ألف جنيه "وهى نتيجة حسنة تدل على إقبال الناس على الاقتصاد".

وتتطوع الجريدة تشجيعًا للمشروع بأن تنشر "نتيجة أعمال صناديق التوفير في جميع الجهات أسبوعًا فأسبوعًا فإن الصحف لا تطلب عن ذلك أجرًا بل تكون مساعدة على تنشيط الناس بتذكيرهم في هذا العمل المفيد إذ المعروف أن كل حسنة لا تذكر تهمل"!

وبعد كل هذا الحماس انتظر الجميع النتيجة بروح التفاؤل، وثبت أن الأهرام وغيره من الصحف التي شاركت في الحملة قد تشبثت بتلك الروح أكثر مما يجب، خلال السنوات الأولى على الأقل!

***

رغم أن الأهرام وفت بوعدها بالنشر المنتظم لحركة الإيداع والسحب في الصندوق، إلا أنها لم تعمد إلى تحليل تلك الأرقام.. قام بذلك بدلا منها اللورد كرومر في أحد تقاريره السرية..

يكشف المعتمد البريطاني عن أن نظام الصندوق لم يحظ خلال السنوات الثلاثة الأولى عن عمره بالإقبال الشعبى الكافى وأنه بعد تلك الفترة الطويلة لم يزد عدد المودعين فيه عن 20.193، وكان أقل كثيرًا مما توقعه أصحاب المشروع، وكان لهم مبرراتهم في ذلك التوقع.

فتكشف الأهرام أن إدارة البريد قد افتتحت قرب أواخر عام 1901 44 فرعًا، ستة في البحيرة، خمسة في الغربية ومثلها في الشرقية، أربعة في المنوفية وثلاثة في القليوبية، أما في الصعيد فقد حظيت كل من الجيزة والفيوم وأسوان بفرع واحد بينما نالت المنيا خمسة فروع، وكل من أسيوط وجرجا بأربعة وقنا ثلاثة.

ويكشف تقرير اقتصادى خلال تلك الفترة عن تزايد الأموال المتداولة فقد بلغ ما استوردته مصر من العملة 12.416.600 جنيهًا ذهبيًا.

كان متوقعًا أن تترجم تلك الزيادات في الفروع وفى العملة الذهبية المستوردة إلى زيادة في الإيداعات، وهو ما لم يحدث مما أدى إلى انزعاج المسئولين في دار المعتمد البريطاني في القاهرة.

زاد انزاع اللورد كرومر عندما نما إلى علمه طبيعة المودعين وأن النسبة الأكبر منهم كانوا من الأجانب، خاصة اليونانيين والإيطاليين، فضلا عن أعداد كبيرة من المسيحيين المصريين، وكان معنى ذلك فيما استنتجه الرجل أن بقية المصريين لا يقبلون على الصندوق لأسباب دينية، خاصة تلك المتعلقة باتهام الصندوق بأنه يقبل المال بالربا، إلى الحد الذى دفع البعض لأن يضعوا إيداعاتهم دون تقاضى فائدة!

أواخر عام 1903 طرحت القضية على بساط البحث وتركز الاهتمام حول إصدار أمر عال يبدد شكوك المودعين حول طبيعة الفائدة التي يتقاضونها مما كان ميدانًا لمعركة بين القصرين.. عابدين والدوبارة.

فبينما ظل الخديو حريصًا على إبعاد التدخل الاحتلالى عن كل ما يمس الدين فإن اللورد كرومر كان معنيًا بهذه القضية لما كان له من دور فيها منذ البداية، ويروى رجل القصر أحمد شفيق باشا في مذكراته تفاصيل هذه المعركة.

البداية حدثت بإيعاز اللورد لمجلس النظار بوضع مشروع أوسع من المشروع الذى بدأ به الصندوق يتلافى بعض المآخذ التي أدت إلى عدم الإقبال عليه على النحو المأمول.

في جلسة لمجلس النظار رأسها عباس فوجئ بالمشروع الجديد يعرض عليه واعترض الخديو لأنه، كما رأى، لم يستوف صيغته الشرعية ولم تستبدل كلمة فائدة التي كانت حجر عثرة أمام نجاح الصندوق، وبدأت المعركة.

كرومر رفض تدخل الخديوى بينما رأى الأخير أن يدعم موقفه بآراء العلماء فاستدعى بعضهم ووضعوا مشروعًا جديدًا كان أهم ما فيه المادة الأولى التي استهدفت تخطى الحاجز الدينى.

وبينما يروى أحمد شفيق القصة الطويلة لتلك المادة فإن الأهرام قد نشرتها كاملة في عددها الصادر يوم 15 فبراير عام 1904، وقد بدأت بالقول أن تلك المادة أقرت بعد موافقة العلماء التي تضمنت ثلاثة شروط..

أن يستعمل مدير البريد ما دفعه المودع "في الطرق الجائزة شرعًا الخالية من معاملة الربا بوجه من الوجوه"، وأن يقبل المودع بخلط ماله بمال غيره من المودعين، كما يقبل بالاشتراك مع باقى "أرباب الأموال المدفوعة في الربح بقدر ما يقابل دفعه".

ويعترف المعتمد البريطاني أن الخديو قد نجح في الاستئثار بهذه القضية تحت ضغط التلويح بطابعها الدينى، أكثر من ذلك أنه قد نجح في إبعاد المفتى، الإمام محمد عبده، عنها لعدم رضائه عليه.

إضافات أخرى اتفق عليها الجانبان كان منها عدم إعطاء أية معلومات عن "المبالغ المودعة لغير ذوى الشأن" وإن استثنى من ذلك الطلبات التي تقدمها السلطة القضائية غير أنه لن يسمح لهذه السُلطة بالحجز على أموال المودعين.

ويقول كرومر أنه حتى يمرر هذا النص فقد اضطر للاتصال بالدول صاحبة الامتيازات الإحدى عشر للحصول على موافقتها مما أخر صدور الأمر العالى إلى منتصف مارس بعد وصول آخر موافقات تلك الدول، وكانت الموافقة الروسية.

فضلا عن ذلك فقد صدرت التعليمات لموظفى البريد بألا يمارسوا أي ضغط على الأهالى لإيداع أموالهم في الصندوق لما يترتب على ذلك من نتائج عكسية، ثم أن المصلحة أصدرت بطاقات توفر لأصحابها وضع عشرة طوابع عليها من فئة الخمسة قروش، كلما تيسر لهم ذلك، ويتم إيداعها بعدئذ في دفاترهم.

ويبدو أن تلك الإجراءات قد بدأت تؤتى ثمارها فيما كان محل تقرير اللورد كرومر عن عام 1904 فزاد عدد المودعين من نحو عشرين ألفًا خلال السنوات الثلاثة السابقة إلى تسعة وعشرين ألفًا، كما زادت قيمة الإيداعات من نحو 131 ألفًا في نفس الفترة إلى نحو 180 ألفًا الأمر الذى كان محل استبشار المعتمد العتيد، مما يمكن القول معه أنه قد تجاوز صعاب سنوات الميلاد الأولى وانطلق صندوق توفير البريد ليشكل إحدى التقاليد المرعية للأسرة المصرية المتوسطة.. تقليد أن يفتح رب الأسرة لكل وليد دفتره الخاص في التوفير في أعقاب ميلاده!


صورة من المقال:



الجمعة، 30 يوليو 2021

155 العودة من سرنديب!

العودة من سرنديب!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 14 نوفمبر 1996م - 3 رجب 1417هـ


"رجل بدين ضليع ضخم الجثة عريض الصدر طويل النجاد واسع الجبين ذو لحية كثيفة بيضاء ليس في عينيه حدة أو بريق ولا في ملامح وجهه ما ينبئ بالصفات التي يعرف بها رؤساء الأحزاب وذوو الغايات البعيدة ولكن في بعض لمحاته شدة وهيبة وفى وجهه شيء يعيد إليك صورة شيخ الترنسفال، وهو يحسن لفظ الثاء والذال ويقول الجيم تارة بلهجة مصر وتارة بلهجة الشام ولكنه يلثغ بالسين والصاد وهو اليوم يجتاز الواحد والستين من سنيه، وله 17 ولدًا بين ذكور وإناث ثمانية منهم ولدوا في مصر.. والباقون من مواليد المنفى ويعرفون العربية والإنكليزية والسنهالية وهى فرع من اللغة السنسكرية تكتب بحروفها ويتداولها أهل سيلان".

كان هذا بعضًا من وصف طويل قدمه مكاتب الأهرام، يوسف الخازن، الذى وقف في محطة العاصمة يوم الاثنين 30 سبتمبر عام 1901 مع من يستقبلون أحمد عرابى، زعيم الثورة الوطنية الشهير، بعد أن قضى تسعة عشر عامًا في المنفى البعيد.. جزيرة سيلان أو سرنديب كما كان يسميها البعض.

وكان عرابى الزعيم الوحيد في تاريخ الحركة الوطنية المصرية الذى ثار جدول حول نهاياته أكبر كثيرًا من الجدل الذى احتدم مع بداياته، مما تؤكده سيرة الزعامات التاريخية المصرية بعدئذ... مصطفى كامل، سعد زغلول، وجمال عبد الناصر..

أولهم حين رحل عن العالم عام 1908 في شرخ الشباب (34 عامًا) هبت مصر كلها تودعه، حتى خصومه السياسيين لم يملكوا سوى المشاركة في حملة التمجيد التي صحبت هذا الرحيل.

ثانيهم سعد زغلول الذى ترك الدنيا عام 1927 تحولت جنازته إلى مظاهرة شعبية كبرى، ومع أن الرجل كان قد جاوز السبعين فإن مكانته في قلوب المصريين بعد أن قاد أكبر ثورة جماهيرية، كانت لا تسمح إلا بمثل هذه المظاهرة الشعبية الكبرى.

بعد ذلك بأكثر من أربعين عامًا جاءت جنازة عبد الناصر عام 1970 بمثابة رفع رايات الحزن على كل بيت مصري، فلعله من المرات القليلة في التاريخ الوطنى يساور المصريين الشعور باليتم، نتيجة لرحيل أحد زعمائهم..

كلهم حظى بهذا التكريم إلا عرابى باشا الذى ثار لجاج شديد كان له صناعه كما كانت له مسبباته ومظاهره...

وبينما صنع المحتلون جانبه الأول فإن الزعيم المصرى كان مسئولا عن صناعة الجانب الآخر...

من استقراء تاريخ الحركة الإمبريالية التي نشطت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن التالى نخرج بنهجين اتبعتهما الدول الاستعمارية حيال زعماء الحركات الوطنية التي ناهضت التوغل الإمبريالى ممن وقعوا في أيدى القوات الاستعمارية...

1) صناعة الأمثولة يمثل النهج الأول، فيما كان يجرى بتعذيب هؤلاء الزعماء، ثم إعدامهم بشكل علنى لإدخال الخوف في قولب الآخرين فينكصوا على اعقابهم، ويؤثروا السلامة، ونرى أن اللاتين كانوا أقرب إلى اتباع هذا النهج... الفرنسيون وقبلهم الإيطاليون!

2) القتل خنقًا وببطء شديد، وكان أصحاب هذا النهج عازفين عن صناعة الشهداء الذين يلهمون روح المقاومة في شعوبهم ويلهبونها، ولم بعد زمن طويل أو قصير، وقد اتبع أصحاب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس... الإمبراطورية البريطانية، هذه السياسة، وكان زعماء الحركة الوطنية عام 1882 من أهم ضحاياها، على رأسهم أحمد عرابى نفسه.

بدأت هذه السياسة في أعقاب تسليم عرابى لقائد القوة البريطانية بعد سقوط القاهرة في 13 سبتمبر عام 1882، فبينما أراد معسكر الخديوى أن يمثل بعرابى وصحبه أسوأ فقد تدخل المحتلون الجدد لمنع ذلك وبذرائع إنسانية، وعقدوا صفقة انتهت بنفى الرجل وأهم زعامات الحركة الوطنية إلى إحدى جزر التاج البريطاني... سيلان "وإذا رجع عرابى إلى مصر لا يعامل بالعفو بل يقتل"! (الحلقة 21).

ورغم نشاطات الرجل في سرنديب فإن النفى الطويل فضلا عما يسببه من انشقاقات بين المنفيين، وفضلا عن تداعى صحة أغلبهم تحت ظروف مناخية لم تعودوا عليها، فمات البعض بينما أصاب العمى آخرين، فإن الحنين إلى الوطن يظل ممسكًا بتلابيب الجميع... خاصة بالنسبة لرجل مثل عرابى ذاق طعم الزعامة ونال من أبناء وطنه فوق ما يحلم، وقد عبر عن ذلك أحد الزعماء المنفيين في رسالة له إلى المحامى الإنجليزى الذى تولى مهمة الدفاع عنهم، المستر برودلى، بقوله: "أوكد لك أن الأربع سنوات التي مضت منذ رحيلنا من القاهرة مرت على وكأنها آلاف السنين"!

لعل ذلك ما جعل الرجل طرفًا في عملية خنق زعامته التاريخي وذلك من خلال مناشداته المتوالية لشخصيات بريطانية بالعفو عنه والتصريح له بالعودة إلى وطنه.

شجعه على ذلك رحيل الخديوى توفيق غير المتوقع عام 1891 وتولى ابنه الفتى عباس الثانى سدة الحكم وما فعله في مستهل عهده من إصدار العفو من عدد ممن شاركوا في الثورة، الندين والعقاد ومحمد عبيد، فى فبراير عام 1892، شجعه أيضًا اللقاءات المرحبة التي كان يلقاها من المسئولين البريطانيين الذين كانوا يزورون الجزيرة بين الحين والآخر، الأمر الذى دعاه إلى أن يبدأ حملة المناشدات منذ وقت مبكر، ومع أن إحداها قد نجح أخيرًا إلا أنه جاء على حساب مكانته التاريخية.

بدأت هذه الحملة بالالتماس الذى قدمه للملكة فيكتوريا في 20 يونية عام 1887 بمناسبة مرور خمسين عامًا على توليتها رجا فيه "بأتم بالخضوع شمولنا بحسن رأفتكم ونبتهل إلى الله من صميم القلب أن يطيل مدة سلطتكم العظيمة الشاملة"، ولم تأت أية استجابة لهذا الالتماس وغن كان قد ترك أسوأ الأثر بين المصريين.

الأهم من ذلك الالتماس الذى تقدم به إلى والى عهد بريطانيا لدى زيارته إلى الجزيرة في أبريل عام 1901 والذى بذل فعلا مساعيه التي نجحت في الشهر التالى من استصدار عفو خديوى عن الرجل والتصريح له بالعودة إلى مصر، وإن كان قد سبق صدور هذا العفو بعض من المؤشرات التي أشارت إلى اتجاه النية نحو العفو عن المنفيين العرابيين.

***

نرى أن هذه النية لم تأت من فرغ، فمن جانب المحتلين لم يعد هؤلاء يمثلون أى خطر على الوجود البريطاني الذى نجح على مد جذوره خلال السنوات السابقة في التربة المصرية، من جانب آخر كانت تلك الفترة قد شهدت ميلاد حركة وطنية جديدة يقودها أفندية الحقوق الخديوية، كامل وفريد ولطفى السيد وغيرهم بدلا من العسكريين الذين جسدوا قيادة الثورة العرابية، أضف إلى كل ذلك أن من بقى من قيادات العرابيين كان قد أنهكه النفى أو عمليات الهروب من هنا إلى هناك بامتداد ما يقرب من عقدين.

المهم أن القضية طرحت على نطاق واسع في منتصف التسعينات، وكانت المناسبة بحث الطلب الذى تقدم به 250 ضابطًا من متقاعدى الحركة العرابية بالحصول على معاشات، وجاء تعليق الأهرام على تلكؤ المسئولين في الاستجابة لهذا الطلب في عددها الصادر يوم 7 فبراير عام 1895 أنه "إذا كان ذلك لأنهم أطاعوا رؤساء الحركة فهو ذنب مصفوح عنه بعد الذى رأيناه من الامتيازات لكثيرين ولنا في العفو الخديوى عن الجريمة السياسية ما يبرئ هذه الجماعة ونحن نعتقد أن ذنب هؤلاء وذنب رؤسائهم مغتفران لا يذكران بإزاء ذنب الذين يخدمون الاحتلال الإنجليزى لأن هؤلاء يعملون علانية على ضياع بلادهم بينما أولئك لم يريدوا إلا معارضة السلطة الأجنبية والفرق بين الوجهتين ظاهر".

في يوليو 1896 بدأت الإشاعات تملأ القاهرة بأن دوائر يوثق بأخبارها "تتحدث بإمكان صدور العفو عن عرابى باشا المنفى في جزيرة سيلان والسماح له بالعودة إلى القطر فإن بعض أصدقائه يسعون في ذلك تعضدهم فيه الحكومة الإنجليزية.

وتطلب الأمر ثلاث سنوات أخرى حين صدر العفو عن محمود سامى باشا مما اعتبرته الأهرام مقدمة للإذن بالعودة لسائر المنفيين الذى تم فعلا بعد نحو عامين... في 25 مايو 1901 على وجه التحديد، وجاء على صورة أمر عال كان نصه:

"بعد الاطلاع على الأمرين الصادرين في 3 ، 7 ديسمبر سنة 1882 باستبدال حكم الإعدام على أحمد عرابى وعلى فهمى بالنفى المؤبد من القطر المصرى وملحقاته أمرنا بما هو آت:

المادة الأولى: رُخِص لأحمد عرابى وعلى فهمى بالعودة إلى القطر المصرى والإقامة فيه.

المادة الثانية: على ناظرى الحربية والداخلية تنفيذ أمرنا هذا"

وكان باديًا منذ الوهلة الأولى أن الأمر العالى صدر بناء على طلب انجليزى مما تأكد من أمرين.. تصريح لوزير الخارجية البريطانية في مجلس اللوردات كان مما جاء فيه أنه لا يعرف إذا كانت موافقة الخديو على عودة عرابى قد تمت قسرًا أو قهرًا!، الأمر الثانى بدا في عرائض الامتنان التي بعث بها عرابى بمناسبة العفو عنه، فقد كانت ثلاثة.. واحدة للخديو والثانية للملك إدوارد السابع والأخيرة للحكومة البريطانية، أكثر من ذلك أنه لما سأله أحد الصحفيين عن الكيفية التي حصل بها على العفو جاءت إجابته "لا أدرى بأى طريق نلت هذا العفو ولكنى لا أرى مندوحة عن إبداء الامتنان لما لقيته من تعطف الدوق دى كورنويل حين قابلته في كاندى"!

وبدأ بعد ذلك استعداد الزعيم المصرى للعودة إلى أرض الوطن، وكان من أول ما فعله في هذا الصدد أن شرع في إعادة تقديم نفسه للمصريين من خلال نشر مذكراته في مجلة الهلال ابتداء من العدد الصادر في منتصف أكتوبر عام 1901 والتي عرفت فيما بعد باسم "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المعروفة بالثورة العرابية".

وقد لاحظت الأهرام أن الرجل حاول في مستهل هذه المذكرات أن يمد جذوره إلى أصول شريفة فيما جاء في قوله أنه "من سلالة الإمام الحسن بن على بن أبى طالب وابن فاطمة الزهراء البتول بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واندهشت من ذلك وعلقت بقولها "ذهب جميع الذين كتبوا عن عرابى حتى الآن إلى أنه من عامة المصريين ولكن زعيم الثورة أبى أن يوافق الكتاب على ذلك فكتب فصلا طويلا ضمنه ترجمته وذكر عيلته وشرح حوادث قلما يعثر عليها في الكتب المطبوعة"!

على لسان عرابى نتابع رحلته، هو وأسرته التي تجاوزت العشرين فردًا من سيلان إلى أرض الكنانة.. قال:

ركبنا الباخرة الألمانية بعد ظهر الثلاثاء 17 سبتمبر ولم تبحر بنا في ذلك النهار بل بتنا في الميناء وفى اليوم التالى برحنا ثغر كولومبيا قاصدين عدن فدخلناها ليلا ولم نمكث فيها إلا ساعات قليلة من اليوم التالى على أننا لم ننزل إلى البر بل صعد إلى الباخرة بعض الوجهاء وكبار ضباط الموقع للسلام.. ثم قمنا منها توًا إلى السويس فدخلناها يوم السبت الماضى (28 سبتمبر) وكنا نلاقى من رجال الباخرة كل تَجِلة واحترام حتى أنهم رفعوا الراية المصرية ساعة دخولنا ميناء السويس"، وفى الميناء المصرى الشهير حدث الاستقبال الأول ونترك لمكاتب الأهرام ما جرى فيه...

تحت عنوان "عرابى في السويس" يصف مكاتبنا اللقاء الصحفى الذى عقده مع الزعيم القادم من المنفى، ونعتقد أنه كان أول لقاءاته مع الصحافة.. سأله المكاتب عن أحواله في المنفى فتحدث عن بنائه لثلاث مدارس كان يزورها يوميًا، وأنه لم يفد سائح للجزيرة إلا وزاره في بيته.

تبع ذلك بقوله: "إنى أحمد الله على راحة بلادى في الظلم فإنى قد صرفت مع عيلتى 18 عامًا في المنفى ولكنى أرى عذابى قد أنتج هذه الراحة لعشرة ملايين من الناس فضحكت في سرى وقلت أن الرجل يمتن على مصر ويقول لها أنى أتيتك بالراحة"!

على رصيف محطة القاهرة كان كاتب آخر للجريدة في انتظاره مع جمهور من أصدقائه والعامة من المتفرجين وأنفار البوليس الملكيين ووصل القطار فاستولى السكون على الجميع وتطالت الأعناق إلى المركبة التي يركبها المنفى وازدحمت الأقدار من حولها حت صعب عليه الخروج من غرفته والوصول إلى باب المحطة فركب عربة من عربات أوتل برستول يجرها جوادان أبيضان مزينان بالشرائط الحمراء.

وقد لاحظ مكاتبنا الذى تعقب العربة قلة النفر من الوطنيين الذين تعرفوا على الرجل أو لوحوا له بأيديهم، "ولا عجب ولا غرابة فإن الجموع اعتادت أن ترى عرابى في غير هذا الموكب يوم كانت تضيق بها الأرصفة وترتج الأبنية من التصفيق له والضجيج"!

وكان للفتور دلالته الذى انعكس في معركة سياسية حامية أعقبت عودة الرجل إلى وطنه..

***

لم يكتف الزعيم العائد بالإعراب عن امتنانه للمسئولين الإنجليز فور علمه بقرار الإعفاء وإنما زاد على ذلك بأن وقف يوم ودعه المسلمون في سيلان وهو يتأهب لركوب السفينة التي سوف تقله إلى الوطن.. وقف يمدح الاحتلال "تملقًا إليه واستمرار لكفه"، حسب توصيف الأهرام.

الأدهى من ذلك ما حدث بعد نزوله إلى السويس وتصريحاته لصحيفة المقطم التي كانت معروفة بمظاهرتها للإنجليز، فقد جاء في جانب من تلك التصريحات "أنى لم أجد من الذين قاتلتهم وحاربتهم غير معاملة الكرام الذين يستحق معروفهم الشكر وكرمهم الإكرام فإنهم حفظوا حياتى من الإعدام ولما بت وحيدًا فقيرًا بذل قوم منهم المال لمساعدتى"، وأعرب في جانب آخر عن أمنيته أن يسمح له الخديو بالسفر "ليرفع شكره إلى جلالة ملك الإنكليز وسمو ولى عهده على فضلهما".

ودفعت هذه التصريحات الاستفزازية الصحف الوطنية، على رأسها لواء مصطفى كامل التي كانت قد اكتسبت شهرة واسعة وقتئذ، على فتح النيران على الرجل..

هاجم مصطفى كامل ما أعرب عنه عرابى عن زيارة ملك بريطانيا كما اتهمه بالهروب في معركة التل الكبير وكان مما جاء في هجومه "إن عرابى ليس بالجندى الذى عرف بالبسالة والإقدام في ميدان القتال بل لم يُجرح جرحًا خفيفً قبل هروبه"، كما انتقده في اعتماده على حماية ديليسبس وعدم ردم القناة.

شاركت المؤيد في الهجوم على الزعيم العائد مما نيم عن أن مثل تلك الهجمات قد تمت برضاء من عباس إن لم يكن بإيعاز من الخديو الذى نعتقد أنه لم يكن راضيًا عن الضغوط الإنجليزية لإعادة عرابى وعن تصريحات هذا الأخير في مديح الإنجليز...

وقد زاد لهيب الحملة عندما صرح ابن عرابى للأهرام عن رأيه فيما نشره اللواء والمؤيد بأن مصطفى كامل كثيرًا ما كان يبعث إلى الزعيم المنفى يسأله أمورًا كثيرة وإن تلك الرسائل محفوظة "بين أيدينا وإن كنا لا نود إظهارها".

غير أنه مع اشتداد الحملة قررت الأسرة أن تبرزها، وقد رحبت المقطم بنشرها، فقد احتوت على العديد من عبارات المدح والتفخيم لعرابى.

وذكرت المقطم أن مصطفى كامل مدفوع في هجومه بسبب غير خاف على أحد من الوطنيين، وكانت تقصد بذلك تحريض الخديو للواء!

وفى تلك الظروف كان للأهرام موقف مختلف..

فقد كانت الصحيفة الوحيدة من الصحف الكبرى، المقطم، المؤيد واللواء التي عاصرت الثورة العرابية وذاقت من أهوالها إلى الحد الذى كاد يودى بها. ورغم ذلك فقد كانت أقل تلك الصحف في انحيازاتها.. مع أو ضد الرجل بعد عودته.

أخذت عليه تصريحاته طبعًا، ولم تكن تستطيع أن تفعل غير ذلك، ثم انها أخذت على حركة الرجل ما تسببت فيه حيال عرش السلطنة، "فلو تفرقت القلوب وتخلفت عن الإمارة كما أراد عرابى ولو قطعت مصر حبل اتصالاتها وارتباطها بالعرش السلطانى كما حاولت الثورة لما رأينا الاحتلال باقيًا حتى اليوم"!

بعدئذ وفى العدد الصادر أول أكتوبر عام 1901 تحت عنوان "عرابى أيضًا" حاولت الأهرام أن توصف الجو العام الذى استقبل الزعيم القادم من غياهب المنفى.. قالت:

"ما كادت قدم الرجل تطأ أرض السويس حتى قابلته الجرائد بالمقالات ناسبة إليه كل ما تم في هذه الديار في العهد الأخير فحسب البعض ذلك شرًا وشؤمًا على مصر فسلقه من أجله بألسنة حداد وخرج معه الكلام عن حد ما تقتضيه حالة شيخ عجوز يعود من المنفى بعد 20 سنة وحسبة الفريق الآخر خيرًا عامًا ومأثرة حسنة ومدح وأطنب وأنزل القادم على الرحب والسعة".

وقد سعت الأهرام أولا أن تضع القضية في موقعها الصحيح، فالرجل في رأيها لم يعد له سوى الاسم "وكل ما في اسمه أنه ذكرى لحوادث مضت واضحت ملك التاريخ يمحصها ويعرب جيدها من رديئها"، غير أنه مع الإصرار على تسييس قضية عودة عرابى لم تجد الصحيفة مندوحة من المشاركة بالرأى.

انتقدت الأهرام هذه النظرة الأحادية ورأت أنها لا الثناء ولا المطاعن تعبر عن واقع الحال، "فالرجل لم يكن إلا السبب الأدنى والعلة الظاهرة"، للاحتلال البريطاني لمصر، وفوقه أسباب أولية وعلل جوهرية، عددتها الصحيفة في تلك المناسبة.

ضعف الحكومة في ذلك الوقت وإحجامها عن الإصلاح الذى يقضى به العدل وحسن السياسة، وسريان روح الاستياء في صدور المصريين لما لقوه من حكومتهم ولا سيما بعد تبذير إسماعيل واستبداده، دين المقابلة وقيود السخرية (العونة)، ثم مطامع الدول الأوروبية ودسائس رجالها.

وتحاول الأهرام في هذه المناسبة أن تنصف الرجل بأن كان على ضوء كل تلك الاعتبارات السابقة، "مدفوعًا لا دافعًا ومُنقادًا لا قائدًا فإذا كان ثمة موجب للطعن أو الإطناب فليس من العدل والصواب أن يكون ذلك كله نصيب عرابى وحده بل يجب أن يشرك في الجزاء إن مدحًا وإن ذمًا أولو الأمر وأنصار الرجل من وطنيين وأجانب سواء كانوا في قيد الحياة يتربعون في المناصب العالية أو تحت الثرى يؤدون الحساب بين يدى الخالق الديان"، ونعتقد أنه لو رغب مؤرخ معاصر في أن يقيم عودة الزعيم المنفى بكل الموضوعية فلن يقول أكثر من ذلك!


صورة من المقال:



الأحد، 2 مايو 2021

154 محتبس النيل عند أصوان

محتبس النيل عند أصوان

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 7 نوفمبر 1996م - 25 جمادى الآخرة 1417هـ


يعلم المهتمون بتاريخ الرى في مصر أن أول عمل إنشائى كبير يعترض مجرى النيل في مصر، بعد القناطر الخيرية، كان خزان أسوان الذى افتتحه خديو مصر مع شقيق ملك إنجلترا في ديسمبر عام 1902، والذى كانت تسميه الاهرام بالخزان أحيانًا، وبمحتبس النيل عند أسوان أحيانًا أخرى!

يعلمون أيضًا جملة من الحقائق العلمية حول هذا العمل الإنشائى الكبير.. أن "طول جدران الخزان ميل وربع ميل ومتوسط علوه 66 قدمًا على أن هذا العلو يبلغ في بعض الأماكن 130 قدمًا تبعًا لعمق مجرى النيل وارتفاع قناة السد 24 قدمًا وعدد قناطره التي تنساب منها المياه 180 قنطرة منها 30 قنطرة ذات أبواب تفتح وتقفل وهى تختلف كبرًا وصغرًا ويبلغ ارتفاع وجه الماء المخزون 46 قدمًا أما الماء الذى يخزن فهو 1140 مليون طن أو 1500 مليون ياردة مكعب وعلى الفرع الغربى من النيل ممر السفن والبواخر وعلى هذا الممر 5 بوابات اثنتان منها كبيرتان علوهما 59 قدمًا وعمقهما 36 قدمًا. وزنة الحديد الذى وضع في هذه الخزانات عشرة آلاف طن، وهى الحقائق التي أوردناها هنا نقلا عن الأهرام قبل ثلاثة أسابيع من افتتاحه.

يعلمون ثالثًا إن حجر الأساس للخزان وضعه الدوق دى كونوت شقيق ملك بريطانيا في 12 أبريل عام 1898 وأن الحجر الأخير وضعته الدوقة دى كونت يوم الأربعاء 10 ديسمبر عام 1902، أي استغرقت عملية بنائه أربع سنوات ونصفًا، وهى معلومات مسجلة على مبنى الخزان.

رغم ذلك يبقى ما قد لا يعلمونه وهو كثيرًا.

***

انخفاض الفيضان أو شح النيل على حد تعبير الأهرام كان السبب الأساسى وراء التفكير في "احتباس النيل"، فقد قالت الصحيفة في عددها الصادر يوم 18 يناير عام 1894 "أن النيل يلغ في فصل التحاريق من سنة 1892 نحو 17 مليون متر مكعب في حين أن الزراعة الصيفية تحتاج إذ ذاك إلى 30 مليونًا التي هي آخر تناقص النيل في حالة اعتداله.. ولما كان هذا الشح مما يخشى أن يدوم الحؤول الطوال كان لابد من مشروع تحبس به المياه تفاديًا من التحاريق المتوالية التي تجر الفاقة واستزادة للزراعة في أراض صالحة فاتها السقى فهى إلى الآن كنوز مرصودة"!

مفتش عام الرى المستر ويلكوكس كان عاكفًا وقتئذ على وضع مشروع الاحتباس، الذى صدر على صورة مذكرة طويلة وضعها المستر جارستن وكيل نظارة الأشغال في أوائل فبراير من ذات العام ونشرتها الصحف بما فيها الأهرام..

أهم ما تضمنته المذكرة خطة لإنشاء عدد من مشروعات الاحتباس على النهر في المنطقة بين وادى حلفا والقاهرة توفر كميات من المياه.. للصعيد 1160 مليون متر مكعب لرى 200 ألف فدان، للوجه الأوسط، بين أسيوط والقاهرة، 950 مليونًا لرى 200 ألف فدان أخرى، للدلتا 1551 مليون متر مكعب لأراضيها "الزراعية التي تقبل الإصلاح ويبلغ مجموعها 3 ملايين و340 ألف فدان فجملة ما يحتاج إليه القطر على هذا التعديل 3661 مليون متر مكعب وذلك يمكن خزنه في حالة شح النيل".

مع هذه الخطة تحفّظ المستر ويلكوكس ومعاونوه فطالبوا باستدعاء لجنة من أشهر المهندسين الأوروبيين "ليس لقلة الثقة منه ومن إخوانه بمعارفهم الكافية بل لحبهم ألا يندفعوا إلى عمل من أخطر الأعمال دون استشارة العلماء المشهود لهم بالفن".

وقع الاختيار على ثلاثة من هؤلاء العلماء، السير بنيامين باكر الإنجليزى، السنيور جياكومو تورشيللى الإيطالى والمسيو أغوسط بوله الفرنسي، الذين عكفوا على دراسة مشروع المستر ويلكوكس واتفقوا واختلفوا!

اتفق المهندسون الثلاثة بعد تفقد المواضع التي اختيرت للخزانات على أن مشروعات ويلكوكس وجارستن "منافية للأصول الهندسية ويستحيل إنفاذها"، الأمر الذى اعتبر طعنة للقائمين على شئون الرى من رجال الاحتلال انتهزها الأهرام فرصة للبكاء "على ضياع السنين الطوال في هذا العمل الذى راح هدارا ويالفقد المال الكثير الذى لا تجد ماليتنا المقتصدة بابا لإنفاقه إلا مثل هذه المشروعات التي لا يوثق لها بأصل"!

إنقاذًا لسمعة رجال الرى الإنجليز طالب المستر باكر بإمهاله لوضع مشروع بديل، وبينما بقى المهندس الإيطالى بصحبة الإنجليزى في الصعيد لوضع المشروع الإنجليزى، آثر المهندس الفرنسي العودة إلى الثاهرة مؤملا أن يفشل زميلاه في مهمتهما، وهو أمل صنعته أسباب تاريخية.

فالمعلوم أن مشاريع الرى الكبرى فى تاريخ مصر الحديث كانت قد بدأت على أيد فرنسية، ولعل قصة السان سيمونيين الذين أسهموا في بناء القناطر الخيرية تقدم المثل الحى على ذلك، ولعل انبثاث الفنيين في مشروعات الرى قبل الاحتلال تقدم المثل الحى الآخر.

ما لم يكن معلومًا بدرجة كافية وقد نشرته الأهرام في بعض أعدادها أن مشروع المحتبس كان في أصله فكرة فرنسية، ونترك القصة للجريدة كما روتها.. تقول:

"إن شركة فرنساوية تسمى شركة (درس النيل) أسسها المسيو دلاموت قدم للديار المصرية عام 1870 وأخذ يدرس مجرى النيل وفى يقينه أن الأرض البور تزرع وثروة مصر تزيد إذا خزنت مياه النيل التي تصب في البحر.. ووضع الرسوم وعرضه على المهندسين الكبار في مصر وأوربا فقالوا إن إنقاذ مشروعه لمن الممكنات فسافر الرجل إلى فرنسا سنة 1876 وألف شركة وصل رأسمالها إلى 10 آلاف جنيه زادت سنة 1881 إلى 80 ألف جنيه.. وفى سنة 1882 تمكنت الشركة من استخدام المسيو جاكه مهندس الطرق والجسور في فرنسا لدرس مشروعها فقدم الرجل إلى مصر وسافر إلى الصعيد على باخرة قدمتها له الحكومة بصحبته بعض المهندسين المصريين فوضع عن ذلك تقريرًا ضافيًا.. وطلبت الشركة من الحكومة أن تنشئ الخزان على مسئوليتها في منعطف "جبل السلسلة".

تضيف قصة الأهرام أن الاضطرابات التي صاحبت أحداث الجنوب، الثورة المهدية، قد أرجأت المشروع، غير أن الشركة الفرنسية حصلت على وعد من الحكومة المصرية أن تكون شركة "درس النيل" مفضلة عن غيرها في حالة إتمام المشروع.

تمنيات الفشل التي أضمرها العضو الفرنسي كشفت عن نفسها بعد عودة المهندسين، الإنجليزى والإيطالى، بالمشروع الجديد الذى وضعه المستر باكر فاعترض المسيو بوله لسببين "أحدهما أن المشروع أنجز في بضعة أيام فلم يتمكن المستر ويلكوكس من ضبط الحسابات كما تقتضيه خطارة الخزان ومن ترتيب سائر أجزاء التخطيط بحيث يستوفى المزايا الفنية الضرورية له، وثانى السببين أن المشروع لا يقى هيكل أنس الوجود وهو من الآثار العظمى التي لا تقدر بأثمان"!

فتح الفرنسيون بذلك ملف "الآثار الجانبية "لمحتبس النيل عند أسوان"، لم يكن أنس الوجود الورقة الوحيدة داخله، وإن كان أولى هذه الأوراق..

عرضت صحيفة التايمز اللندنية للجدل الدائر حول تأثير الخزان على الآثار المصرية حتى وصلت إلى القول "علمنا من جهة إن ذاك الموقع المختار هو أفضل من كل موقع سواه وأن الخزان المختار هو أفضل من كل موقع سواه وأن الخزان عميل سيكفل لمصر الإقبال والازدهار ومن جهة أخرى سمعتا علماء العاديات ينادون فليمت كل إقبال مادى إذا أريد شراؤه بخراب يهيج كل إنسان هذبته العلوم".

الحل في رأى الصحيفة الإنجليزية الشهيرة ألا تمس الآثار يد مهندس أبدًا وإنما يبنى الخزان على أساس أدنى من الأساس الذى عرض في الأصل "وهذه الطريقة تقى هياكل أنس الوجود وتبقيها مصونة من تطرق المياه إليها وغرمها وإتلافها".

في أواخر نوفمبر عام 1894 تتحدث الأهرام عن الحل السعيد الذى تم التواصل إليه "فبدلا من أن يبنى سد الخزان المشار إليه على علو 114 مترًا خفض هذا العلو إلى 106 أو 108 أمتار لكن الخزان المراد إقامته على هذا العلوم أصبحت مياهه تكفى في المستقبل لرى مصر الوسطى أو مصر السفلى كل منهما على حده".

الجانب الصحى مثل ثانى الآثار الجانبية فيما أعربت عنه الأهرام في أكثر من مناسبة.. في إحدى تلك المناسبات تخوفت من شرب ما أسمته "المياه المخزنة.. فإذا كان للخزان منافع عظيمة فإن له وجهًا للضر من جهة أخرى"!

ولم ينس الفرنسيون في هذه المناسبة أن ينبهوا لخطر حدوث الزلازل فيما يقول به المسيو بوله بأنه "ربما حدث زلزال فزلزل البناء ثم ارتفعت المياه فأوقعته وانحدر إلى القطر فلا ريب أنها تغرقه عن آخره بمن فيه من سكان وبما فيه من ثروات فماذا تكون إذ ذاك منافع الخزان في جنب هذا الضرر الذى يمحو مصر من وجه الأرض"!

الأثر الجانبى الرابع تمثل في التعويضات التي كان على الحكومة المصرية أن تدبرها لسكان النوبة التي ستغرق مياه الخزان أراضيهم مما كان محل أخبار عديدة ساقتها الأهرام....

بينما تجرى أعمال بناء الخزان تشكلت اللجان للنظر في تعويض النوبيين عن أملاكهم، والتي قررت أن تصنفها إلى قسمين:

أراض تغمرها المياه أثناء سد الخزان وتنحسر عنها بعد فتحه فتتم زراعتها، وأراض تغمرها المياه كل السنة فلا ينتفع بها...

في القسم الأول تدف الحكومة للأهالى ثمن المساكن والنخيل وأما في القسم الثانى فإنها تدفع الثمن كله على الأرض والمنازل والنخيل، وتم تقدير هذه التعويضات بثمانين ألف جنيه وهو ما لم يرض النوبيين "فصممت الحكومة تلقاء عنادهم على استصدار أمر عال بنزع الملكية للمنافع العمومية"، وتنصح الأهرام الحكومة بألا تلجأ إلى ذلك "لئلا تظهر مع نزع الملكية بمظهر المغتصب القادر من الضعيف العاجز لأنها مع نزع الملكية ترمى بالجور ولو أنصفت"!

لم تعبأ الحكومة بهذا التحذير الأهرامى وصدر في أول يوليو عام 1902 الأمر العالى "بنزع مليكة أملاك البرابرة التي تغمرها مياه الخزان"، كان أهم ما قرره الاعتماد في تقدير التعويضات على ما أجرته "لجان التعداد والمقاس والتثمين ويبدأ بصرف التعويضات المذكورة حال نشر أمرنا هذا وينتهى على الأكثر في أول سبتمبر ويكون الصرف في ذات الجهة"، وقد انطبق هذا القرار على الأطيان الكائنة بنواحى دابود ودهميت وأبناركاب وكلابشة وأبى هو وثلاثة عشر نجعًا تابعة لناحية مرورا بمدينة أسوان.

وأغلق بذلك ملف الآثار الجانبية لمشروع "محتبس النيل عند أصوان"، والتي لم تمنع السير قدمًا في بناء الخزان مما يشكل الجانب الأخير من القصة.

***

صناعة نسيج هذا الجانب الأخير من القصة تم من خلال خيوط متقاطعة.. عمل يجرى في بناء الخزان بينما يحتدم على الجانب الآخر صراع بين العدوين التقليدين المتنافسين على النفوذ في مصر.. فرنسا وانجلترا، وهو صراع لم يتوقف حتى بعد حفل افتتاح الخزان الذى قدمته الأهرام بكل تفاصيله..

نبدأ بالعمل في بناء "المحتبس" والذى بدأ بوضع شروط المقاولة بين الحكومة والسير جون ايرد المقاول الانجليزى الشهير والتي وقعها في 21 فبراير عام 1898 فزى باشا ناظر الأشغال باسم الحكومة المصرية ومضمونها أن تتعهد الحكومة للسير جون ايرد وشركاته بدفع مليوني جنيه في مقابل إنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط تقسطها على 30 سنة على أن تدفع القسط الأول في أول يوليو عام 1903.

وجاء اقتران بناء الخزان بقناطر أسيوط من أنه بينما بخزن الأول كمية معروفة من المياه فإن القناطر أنشئت "لرفع منسوب الماء حتى يعلو ويجرى في الترعة الإبراهيمية والبحر اليوسفى وهى على مثال القناطر الخيرية عدد قناطرها 111 وسع كل واحدة منها خمسة أمتار".

بعد أن اضطر المقاول للحفر ستة أمتار زيادة نتيجة لما تبينه من ضعف كبير في الأرض طالب بزيادة المقاولة مليونًا و340 ألف جنيه "فطلبت الحكومة هذا المال من صندوق الدين فأعطاه ودفع في هذا العام القسط الأول وهو 670 ألف جنيه".

تردد اسم السير جون ايرد كثيرًا في تلك الأيام الأمر الذى دفع الأهرام إلى أن ترسل مندوبها لمقابلته فوجده "شيخًا كبيرًا ضخم الجثة تتدلى لحيته البيضاء حتى منطقته ومعيشته معيشة الفعلة السانجين بلا زهو ولا فخفخة كأغنياء الشرقيين مع أنه شريك أكبر الماليين كالسير أرنست كاسل وخدين الأمراء والملوك وبانى خزان أصوان"!

مع ألوف العمال المصريين الذين قاموا ببناء المحتبس استعانت الشركة المنفذة بعدد من العمال الأجانب في بعض الأعمال التي كانت تتطلب خبرة خاصة، وقد سبب هؤلاء متاعب متنوعة للقائمين بالعمل مما كشف عنه عدد من الأخبار...

في 25 مارس عام 1899 خبر من أسوان "أن العملة الإيطاليين الذين يشتغلون في أعمال الخزان قد اغتصبوا واضربوا عن العمل إلى أن تنيلهم الشركة صاحبة الامتياز مطالبهم وأهم هذه المطالب تقليل ساعات العمل"... في 31 يوليو من نفس العام خبر آخر بوصول ثلاثين عاملا ايطاليًا من الذين يعملون بالخزان إلى القاهرة "لأنهم لم يستطيعوا تحمل الحر وضنك المعيشة في تلك الناحية وقفلوا راجعين إلى بلادهم".. بعد ذلك بأيام قليلة عاد أربعون عاملا نسماويًا "وسافروا إلى بلادهم وكان فريق منهم قد طرد من العمل لسوء السلوك والسير والفريق الآخر ترك شغله لاعتلال صحته"!

رغم ذلك فقد استمر العمل يسير قدمًا حتى انتهى في أقل من خمس سنوات مما كان محل زهو من الصحافة الإنجليزية التي عقدت مقارنة بينه وبين القناطر الخيرية التي تطلبت 15 سن لإتمامها وأن الفعلة الذين اشتغلوا بها كانوا يصلون أحيانًا إلى 12 ألف جندي برى وثلاثة آلاف جندي بحرى والفى عامل مسخر، مما دعا الأهرام إلى التنبيه على ظلم المقارنة وأن "قولهم هذا كقول من يعير الجمال ببطئها على خفة حملها إذ كانت تجتاز المسافة من مصر إلى السودان في ثلاثة شهور ونصف مع أن السكة الحديد تحمل الأثقال كالجبال وهى تجتاز المسافة في بضعة أيام".

ولم يكن موقف المهندس الفرنسي عام 1894 ضد المشروع، كما لم تكن تلك المعايرات الصحفية التي اتخذت فيها الأهرام الجانب الفرنسي، المظهر الوحيد للتنافس بين الجارتين اللدودتين..

كان من هذه المظاهر ما قدمه المسيو بوله المهندس الفرنسي من مشروع بديل بإنشاء خزان مؤلف من "سلسلة قناطر متينة إذا أسقط طارف من الحدثين إحداهما فضررها محدود وإن بقيت قائمة جميعها في تنفع نفع الخزان الكبير ولا ينفق عليها إلا جزء قليل مما ينفق على الخزان"!

انتقد المهندسون الإنجليز الاقتراح واعتبروا المهندس الفرنسي ليس إلا مشعوذًا جاهلا، وهو ما لم تقبل به الأهرام التي ارتأت أن سبب هذا الانتقاد أن الاقتراح الفرنسي جاء "هادمًا للأساس الذين أرادوا أن يبنوا عليه لأنفسهم شهرة عظيمة وعملا فرعونيًا ضخمًا"!

ولما لم تجد المحاولات الفرنسيين بوضع العصى لعرقلة عجلات الخزان الدائرة فقد أخذت الأهرام تذكر بأن الفرنسيين أول من قالوا به "لكن الأغراض الإنكليزية حالت دون إنفاذ هذا المشروع الخطير أيان كان الفرنسويون يشيرون بإنشائه".

وكأنما أراد الفرنسيون إفساد الفرحة الإنجليزية بافتتاح الخزان فأوعزوا للشركة التي كانت قد بدأت فيه منذ السبعينات برفع قضية تعويض على الحكومة المصرية مقابل ما أنفقته من أموال على المشروع. وبلغت قيمة هذا التعويض 52 ألف فدان من الأراضى المستصلحة قرب الخزان.

والملاحظ أن حدة انحياز الأهرام إلى الموقف الفرنسي كانت تخف كلما اقترب ميعاد الافتتاح وكلما بدت قيمة الفوائد التي سوف تعود على مصر من الخزان فيما ظهر من تعليق داود بركات، مكاتب الجريدة الذى ذهب لحضور احتفال الافتتاح: "لا يهمنا أن يكون صاحب المشروع فلانا أو فلانًا ولكن يهمنا أن نعرف أن الرى هو حياة البلاد".

انتقلت صحيفتنا بعد ذلك من موقف عد الانحياز إلى موقف الإعجاب بالعمل الذى تم إنجازه فيما جاء في التقارير المتوالية التي بعث بها بركات في وصف حفل الافتتاح.

صباح يوم الأربعاء 10 ديسمبر تقدم القطار الذى يقل الخديو ووكلاء الدول فوصل إلى الخزان وحيته المدافع، فسار مع دوق ودوقة كونت والأمراء والنظار وفضيلة المفتى وبطريك الأقباط، وتبادل الخديو وناظر الأشغال خطبتين تليقان بالمناسبة، توجه بعدهما الأول للدوقة راجيًا أن تقوم بوضع الحجر الأخير من البنيان كما وضع الدوق قبل أكثر من أربع سنوات الحجر الأول.

بملعقة من الفضة أخذت الدوقة قليلا من الطين وضعته على قاعدة الحجر الذى استقر في مكانه ثم تقدم الخديو إلى آلة كهربائية أدارها بمفتاح فارتفعت من الخزان سبع بوابات تدفق منها الماء.

لاحظ الحاضرون الخطأ الذى ارتكبته نظارة الأشغال في الحجر الأخير الذى نحت من الصوان مربع الزوايا وعلوه متر ونصف المتر وقد حفرت عليه هذه العبارة بالإنجليزية...

"وضعت هذا الحجر الأخير من الخزان الدوقة دى كونت في السنة العاشرة لتولية الخديو عباس باشا - 10 ديسمبر سنة 1902".

الخطأ الذى رصدته الأهرام بما جاء على الحجر "السنة العاشرة لتولية الجناب الخديو مع أنها السنة الحادية عشرة وأهملت لفظة الثانى بعد عباس مع أن ذلك لم يحدث في تاريخ وإن تكن القرينة تدل عليه. وأكبر من هذا أنها وضعت اسم أمير البلاد بعد الكلام على وضع الحجر الأخير وكان الواجب المحتم أن يكون مقدمًا"!

غير أن هذا الخطأ لم يمنع مراسلنا من الانفعال بالمناسبة، فتحدث عن "هذا المنظر الباهر الذى يتمثل الآن بضخامته وفخامته أمام الأنظار بما استوجبه من النفقات الطائلة بمعاونة أساطين العلم والحكمة وجهابذة الفن والعرفان"..

ولم يكن المنظر الأخير فى تاريخ مصر، فقد تكرر مرة أخرى بعد نحو ستين عامًا... وقت افتتاح محتبس النيل الثانى المعروف باسم السد العالى، وفى ظروف مختلفة جد الاختلاف!


صورة من المقال:



الجمعة، 30 أبريل 2021

152 ثور الخديوى!

ثور الخديوى!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 24 أكتوبر 1996م - 11 جمادى الآخرة 1417هـ


صباح الأربعاء 7 مايو 1902 انعقدت جلسة محكمة الاستئناف بالعاصمة لتنظر أولى القضايا المشهورة التي حفل بها القرن العشرون ونترك لمكاتب الأهرام في القاهرة وصف افتتاح المحاكمة لما ينم عليه هذا الوصف من الأهمية البالغة للقضية.. قال:

"في الساعة الثامنة صباحًا توافد الناس مئات. ومعلوم أن المحكمة كانت قد قررت منع حضور الجلسة على من لا يحمل تذكرة فوصل حاملو التذاكر فوجدوا على الباب بعض الحجاب فأدخلوهم فساروا إلى محل الجلسة حيث وجدوا مئات من الناس مجتمعين فتزاحم الناس للدخول ولا يمنعهم أحد من رجال البوليس وبعد دخولهم وجلوس أصحاب الجرائد في أماكنهم صدر الأمر بإخراج الجميع فكان تصادم وكان تلاطم ولولا لطف الله لأفضى إلى التراكم، وكان الحاجب أو البوليس يمسك بيد الواحد ويقذفه من جهة إلى جهة حتى صمت الآذان من سماع الأوامر الصادرة من كل ناحية فداروا بالناس دورة طويلة ثم حاصروهم وراء عمود كقطيع من الغنم، وبعد مدة أذنوا لهم بالدخول فدخلوا، وما كدنا نستقر في مكاننا حتى تنفسنا الصعداء شاكرين الله على السلامة، ثم جاء حضرة سكرتير المحكمة وسأل مكاتبى الجرائد عن صفتهم وقال أن المحل محفوظ للمديرين لا المراسلين مع أنه معروف أن المحل محفوظ للمراسل لا لصاحب الجريدة. والخلاصة أننا جلسنا في أماكننا فالحمد لله"!

في تمام التاسعة دخلت هيئة المحكمة برئاسة مصري، يحيى بك إبراهيم، وعضوية انجليزيين، كونى وبرى، بينما مثل النيابة الأفوكاتو العمومى، صفوت بك، وبدأت إجراءات المحاكمة، وكان موضوعها سرقة ثور من مزرعة الرجدية التابعة لأملاك الجناب الخديوى قبل نحو شهر ونصف، 25 مارس، بيد أن هذه السرقة التي كثيرًا ما تتكرر في الريف المصرى، ربما حتى يومنا هذا، اكتسبت أبعادًا سياسية واجتماعية خلال تلك الفترة مما أضفى عليه كل تلك الأهمية، وقد تقلبت فصولها بامتداد الفترة السابقة، وشكل عرضها على محكمة الاستئناف الأهلية فصلها الأخير.. ولنبدأ القصة من فصلها الأول.

***

أول الأخبار عن السرقة أشارت إلى أن أحد أعيان الغربية، أحمد المنشاوى باشا، قد انبرى للبحث عن الفاعلين بعد أن علم بسرقة الثور، وألقى التهمة على شخصين من بلدة شبرا قاص واستدعى مأمور مركز طنطا، الذى قام بالتحقيق، ونجح في الحصول على اعتراف من المتهمين بالسرقة وأنهما ذبحا الثور وألقيا جلده في البحر.

وإلى هنا تبدو القصة عادية لما يحدث من تكرر تلك الممارسات، وأن الناس، على حد تعبير مكاتب الأهرام "قد ألفو مثل تلك الحادثة ولو سمعوا بحدوث ضرب وتعذيب في سراى القرشية، ما استنكروا الأمر ولا عدوه مشينًا فهم كل ساعة يرون عسكرى البوليس في الشوارع العمومية سائقًا متشاجرين أو سكارى ويكاد أحدهم لا يعى قولا من شدة ما يصيبه من الأذى"!

تبدو عادية أيضًا بحكم أن سرقات المواشى من الجرائم المتكررة في الريف المصرى، غير أنها حدثت هذه المرة في الخاصة الخديوية، وأن أحد كبار الملاك مدفوعًا برغبته للتقرب من ولى النعم، وبعمله على صناعة الأمثولة حتى لا يتجرأ الفلاحون على أراضى كبار الملاك الخديوى أو غيره، قام بالواجب وألقى القبض على من اتهمهم بالسرقة غير أن ما حدث بعدئذ لم يكن عاديًا!

يروى مكاتب الأهرام في طنطا ما حدث، فيقول أن المأمور بعد أن عرض المتهمين على نيابة أمرت بالتحفظ عليهما في المركز لحين التحقيق، وهو ما لم يفعله حضرة المأمور الذى أخذهما دون علم النيابة إلى القرشية لسراى سعادة أحمد المنشاوى باشا ثم عاد بهما إلى مركز البوليس بطنطا فعند عودتهما ذهب حضرة رئيس النيابة لسؤالهما فشكيا إليه ما لحق بهما من الضرب المبرح والعذاب الأليم وقالا أنهما اعترفا بسرق الثور ليخلصا من العذاب فأمرت النيابة بالكشف عليهما طبيًا فوجدت آثار الضرب فيهما وتقرر بعلاج أحدهما 15 يومًا ولعلاج الثانى عشرة أيام.

وكان يمكن حتى بحدوث ذلك أن سوى القضية بشكل أو بآخر، وهو ما رفضه المحتلون الذين كان قد أصبح لهم وقتئذ وجود قوى في الجهاز القضائى وكما كان لوجودهم مظاهرة في تلك القضية، فقد كان لرفضهم تسويتها أسبابه..

فبعد أربعة أيان فقط وصل إلى طنطا جناب النائب العمومى، المستر كوربت، وجناب مفتش الداخلية، المستر وينسون (لاحظ الأسماء)، وصدر الأمر بالقبض على المأمور، على أفندى جلبى وعلى منشاوى باشا وأمر معاون البوليس باستياقهما إلى السجن ففعل.

في ذلك اليوم أصدرت نظارة الداخلية قرارها بإيقاف سعد الدين باشا مدير الغربية عن أعماله وإحالته على مجلس تأديب يتألف برئاسة ناظر الحقانية ووكلاء نظارات الداخلية والمالية والخارجية والأشغال، وكانت أصبع سلطات الاحتلال وراء هذا القرار.

تحولت قضية "ثور الخديوى" منذ تلك اللحظة إلى قضي رأى عام، فلم يكون متوقعًا أن يلقى رجل بحجم منشاوى باشا، عين أعيان الغربية، في السجن دون أن يخلف ذلك ردود فعل واسعة جاء أسرعها من المناطق القريبة حيث "غصت طنطا بالوافدين من جهات المديرية للوقوف على تقلبات هذه الحادثة الخطيرة"!

الأهم من ذلك أن القضية تحولت إلى أزمة سياسية أطرافها رجال الاحتلال، الخديو، جماعة الأعيان، الصحافة التي عبرت عن كل تلك القوى، وكان منها جريدتنا بالطبع.

حرص المحتلون على تسييس القضية بالسعى إلى تأكيد وجهة النظر بأنهم حماة العدالة وأن لاستمرارهم في حكم البلاد مبرره الإنسانى، مما كان محل نقد من الأهرام في مقال طويل شغل أغلب الصحف الأولى من عددها الصادر يوم الخميس 3 أبريل وجاء تحت عنوان "سياسة الاحتلال وطنبوره وقضية المنشاوى والثور"!

أول ما رصده هذا المقال الطويل ما سعت إليه الأقلام الاحتلالية، على حد تعبير الأهرام، من أن تشهد على ما حدث، "فالباشا المصرى في القرشية وهو من أكبر باشاوات مصر والمدير الباشا في الغربية وهو أكبر حاكم لأكبر عمالة في أقاليم مصر لم يصدهما أن أكون أنا الاحتلال في وجههما عن ارتكاب المنكر والاستئثار بالأمر فأخذا المجرمين من السجن وهما في قبضة النيابة ليعذباهما عذابًا أليمًا غرسة حبة في نفوسهم وخلقه في صدورهم متنزلا إليهم من الآباء فالأجداد فالمماليك فالفراعنة"!

ردت الأهرام على ذلك بأن من يتقولون بمثل تلك الأقوال "طلاب مأرب لا طلاب حق" وكان من رأيها أنه حتى في حفلة التسليم بالخطأ الذى ارتكبه الباشا المشهور فيكف تتهم كل الأمة بارتكاب الوزر "فليعلم خصوص الأمة المصرية أنها اليوم بناشئيها وشبيبتها وأدباؤها وفضلائها ولا بأغنيائها ولا أمرائها"!

في مناسبة أخرى تتحدث الصحيفة عما أرادته صحف الاحتلال من "أن تحول المسألة إلى سياسة فدمغناها بالحجة والبرهان وليس على صحفنا الأخرى أن تحول المسألة إلى غير شكلها وأن تخرجها عن دائرة العدالة والقانون"، وكأنا أرادت الأهرام من وراء ذلك أن تفسد على سلطات الاحتلال سعيها إلى تسييس القضية.

بالمقابل وقع عباس الثانى في مأزق شديد، فهو بموقعه الاجتماعى واحد من أكبر ملاك الأراضى الزراعية في مصر. ففضلا عما ورثه عن أبيه فقد نجح خلال السنوات التي انقضت من حكمه (20 عامًا) أن ينمى هذه الثروة مغتنمًا في ذلك، هو وسائر كبار الملاك المصريين، فرصة ما عمدت إليه سياسات سلطات الاحتلال من بيع أراضى الدائرة السنية (أملاك إسماعيل التي كان قد رهنها لحساب الديون). وأراضى الدومين (أملاك الحكومة) واشترى منها مساحات واسعة كان منها ثلاثة آلاف فدان مرة واحدة من أراضى الدومين.. نقول أنه بحكم هذا الموقع كان متعاطفًا مع المنشاوى باشا.. ولكن!

على الجانب الآخر فإن عين أعيان الغربية قام بفعلته، والتي تميل إلى تصديق أنه فعلها، تقربًا لولى النعم، بكل ما يحمله تخلى عباس عنه في محنته من إضعاف لهيبة دور عابدين في حكم البلاد.

على الجانب الثالث فقد كان معنى تحركه مساندًا للمنشاوى أن عليه مواجهة المحتلين في قضية تبدو حججهم فيها هي الأقوى، ومن ثم جاء تحركه حذرًا..

في الأهرام الصادر في أول أبريل تشير الصحيفة أن عددًا من أعيان المديرية قرروا أن يؤلفوا وفدًا "ليذهب إلى العاصمة لاستعطاف سمو الجناب الخديوى ورجال حكومته بطلب الإفراج عن سعادة منشاوى باشا إلى أن يتم التحقيق ويصدر حكم المحكم"، غير أن هذا الوفد لم يتألف أبدًا، مما يبدو وأنه قد حدث استجاب لنصيحة خديوية.

بعد الأعيان جاءت محاولة من المنشاوى نفسه الذى أرسل عددًا من البرقيات إلى رجال الحكومة وفى مقدمتهم الخديوى يقول فيها أنه برئ من تهمة الضرب والتعذيب وأنه يلتمس من سموه النظر في مسألته، مما اضطر عباس إلى اللجوء لإجراء شكل لحفظ ماء الوجه.

فقد أوفد الخديو إلى طنطا أحد ياورانه "عزتلو زكى بك" وقد اتخذ كل سبل التحوط حتى لا يفهم المحتلون من هذا العمل على أنه تعاطف مع المنشاوى فيما جاء في البيان الصادر عن المعية السنية من أنه أرسل زكى بك "لئلا يظن المتهم أنه أهمل شكواه بعدما أخلص للأريكة الخديوية على صحة التهمة أو بطلانها فإن الجناب الخديوى كبير الثقة برجال حكومته وبمن نيط بهم أمر التحقيق، ويجسد هذا البيان قمة تنصل عابدين من الرجل وثوره!

المنفذ الوحيد لعباس كان الصحافة الوطنية، وفى مقدمتها الأهرام، والتي شنت حملة متعددة الجوانب مناصرة للباشا الطنطاوى، ولا شك أنها كانت مدفوعة في ذلك أيضًا بما استشعرته من سعى سلطات الاحتلال إلى توطيد سلطاتها من خلال هذه القضية.

أحد جوانب تلك الحملة تجسد في إبراز النفى المتكرر من جانب المنشاوى للتهمة، ففي عدد الأهرام الصادر يوم 3 أبريل تؤكد الصحيفة على أن النيابة استمعت إلى 9 شهود في القضية وأنهم جميعًا قد نفوا حدوث الضرب.

جانب آخر أكدت فيه الصحيفة أن المنشاوى ليس صاحب مصلحة في ضرب المتهمين وساقت في هذه المناسبة المثل الذى يردده المصريون بأن الرجل "ليس له في الثور ولا في الطحين" وروت أصل هذا المثل، وهو أن رجل دخل طاحونًا يدير رحاها ثور فأراد مداعبته فسقط في الحفرة ورض جسده فاستغاث بالمارة الذين أنحوا عليه اللوم وخر من أحدهم تلك القولة التي سارت مثلا!

على الجانب الثالث أعربت الصحيف عن امتعاضها من سوء المعاملة التي يلقاها عين أعيان الغربية في سجنه لأنه لم يسمح له بإدخال اللبن "فإذا صح هذا القول كانت مصلحة السجون ملومة أشد اللوم لأن منشاوى باشا لم يسجن انتقامًا منه لبل ليعاقب على ذنب اتهم به هذا إذا ثبت عليه الذنب والعقاب لا يكون إلا تأديبًا وعبرة فلماذا يمنع مأمور سجن طنطا اللبن عن المتهم"!

غير كل ذلك سارت سلطات الاحتلال في طريق محاكمة الباشا لا تلوى على شيء ولا تأبه لأية احتجاجات..

***

العرض الأول للقضية على محكمة طنطا الأهلية بدأ يوم 22 أبريل.. المحكمة برئاسة محمد بك شكرى وعضوية محمد بك صدقى وحنا بك إبراهيم، المتهمون المنشاوى باشا الذى وكل اثنين من أشهر المحامين، أحمد بك الحسينى وعبد الكريم أفندى فهيم، المأمور على أفندى جلبى الذى وكل إبراهيم بك الهلباوى، فضلا عن عدد من رجال الباشا الذين اتهموا بالقيام بعملية التعذيب بناء على أوامره..

بدأت المحكمة باستجواب المجنى عليهم، مرزوق أو طبيخ، عيسوى سلمان، إبراهيم جوهره، حسن خليل، وأحمد أبو النجا سلام الذين صمموا على أقوالهم ف التحقيق أنهم أهينوا وعُذبوا في الرجدية والقرشية، وأن المنشاوى باشا كان موجودًا وقت ضربهم خدامه الكثيرون.

وكانت تهمة الثلاثة الأوائل أنهم سرقوا الثور، وتهمة الآخرين أنهم ابتاعوا هذا الثور وذبحوه وأكلوه، هم وأولادهم، ورغم التشكيل الذى حاول الهلباوى بك خصوصًا أن يدخله في نفوس أعضاء المحكمة، خاصة وأن واحدًا من الخمسة كان من أرباب السوابق، إلا أن هؤلاء قد نجحوا في الإدلاء بأوصاف صحيحة لبعض من عذبوهم وللأماكن التي تم ضربهم فيها.

الطبيب الشرعى أكد استحالة أن يكون المدعون هم الذين أحدثوا الإصابات في أنفسهم، وأن الآثار التي وجدت ببعضهم من ضرب بعصى رفيعة كالخيرزان، والآثار التي وجدت في البعض الآخر من آلات صلبة أشد غلظة.

شهود النفى بلغوا عشرين شاهدًا، وكانت نسبة كبيرة منهم من عمد ومشايخ الرجدية والقرى المجاورة، فضلا عن خواجة اسمه ماركيتو كان مدعوًا يومئذ للغداء على مائدة الباشا، ودارت شهاداتهم على أنهم لم يروا أي تعذيب ينزل بالرجال الخمسة وأنهم سمعوهم وهم يعترفون بسرقة الثور.

دارت مرافعات طويلة شارك فيها النيابة والمحامون، وكان من أطرف ما جاء فيها استلال النيابة بأن المنشاوى باشا عندما أسلم "المتهمون إلى رجاله قال لهم: خدوهم غدوهم" وكان الغذاء هو العلقة الساخنة التي شكك فيها المحامون.

وفى تلك الظروف لوحت هيئة الدفاع بكرم المنشاوى باشا الذى كان قد أنفق خلا العام السابق، 1901 جملة إحسانات بلغت 13.600 جنيه على شكل مستشفى سلمت لمصلحة الصحة ومدرسة للبنين والبنات "موقوفة على الفقراء لا فرق بينهم في الجنس أو الدين".

يوم 24 أبريل كان الميعاد المحدد للنطق بحكم المحكمة الابتدائية ويقول مراسل الأهرام أن الناس "أقبلوا أفواجًا على المحكمة وضاق بهم شارع المديرية وساحاتها وزيد عدد رجال البوليس على أبواب المحكمة ونوافذها وفى قاعة الجلسة بلغ عددهم 40 إنسانًا بالبنادق والحرب تحت قيادة حكمدار البوليس وظل الناس ينتظرون حكم المحكمة بنافذ الصبر والتي لم يخرج أعضاؤها لإعلان الحكم إلا بعد خمس ساعات ونصف من الميعاد المقرر.. في الثامنة والنصف مساء على وجه التحديد.

الحكم قضى بالحبس "على سعادة منشاوى باشا بالحبس مدة ثلاثة شهور لاعتباره فاعلا أصليًا وعلى حضرة على أفندى جلبى مأمور مركز طنطا بالحبس مدة شهرين لاعتباره شريكًا في الجرم وعلى خدم الباشا سرور أحمد وزايد عقاب ومحمد رزق بالحبس شهرين باعتبار أنهم نفذوا الجريمة طوعًا لأمر سيدهم".

يعلق مكاتب الأهرام أنه في أعقاب ذلك أخذ المتهمون مخفورين إلى السجن وقد تأثر سعادة منشاوى باشا تأثيرًا شديدًا عند سماع الحكم الذى كان بمثابة الفصل الأول من القصة، فلم تكن قد انتهت بعد!

الفصل الثانى بدأ بالحملة التي شنتها الصحف المصرية والفرنسية على المحاكمة.. الأهرام رأت أن كلمة القضاء "فى شيخ كبير ورجل وجيه ومأمور حرم رزقه وثمرة تعبه ألمت القلوب ومضت النفوس، وإن الحكم والسجن لا ينزلان من مكانة المنشاوى باشا عند قومه".. الديبا الفرنسية كتبت تعلق على الحكم بأنه "لو لم يكن منشاوى باشا صديق الخديوى لما علق الإنكليز على هذه الحادثة مثل هذه الأهمية وكم من حادث مثله يجرى في هذه البلاد ولا يتحرك لأجله ساكن ولا يثور الاحتلال هذا الثوران"!

في تلك الظروف، وفيما يشبه المظاهرة، سافر منشاوى باشا بالقطار إلى العاصمة للنظر في الاستئناف المقدم من النيابة، وقد ركب على متن القطار نحو ستين شخصيًا من أعيان الغربية، وكان الجمهور عظيمًا عند محطة طنطا حتى خيل لمكاتب الأهرام فيها أنه في أحد أيام المولد!.

في اليوم التالى انعقدت المحكمة على النحو الذى وصفناه في مستهل هذه الحلقة، وقد حفلت بأسباب الإثارة بحكم الاهتمام الواسع الذى حظيت به من جمهور القاهريين، وبحكم ما لاحظه الحضور من عمد المحكمة لتحقير الرجل "فقد أوقف المنشاوى والمأمور في موقف المجرمين فاستولى على الجلسة تأثير شديد عظيم، خاصة وأن المحكمة نقلت المتهمين إلى ذلك المكان بعد أن كانوا في مكان آخر، فضلا أن الباشا كان قد تلكأ في الوقوف عندما سأله رئيس المحكمة فأمره بالوقوف فوقف"!

استغرق نظر القضية أمام الاستئناف ثلاثة أيام وانتهى بتأييد حكم المحكمة الابتدائية باستثناء على أفندى جلبى مأمور طنطا الذى تمت تبرئته وإن كان قد أحيل على مجلس تأديب في الداخلية.

لم يكن أمام منشاوى باشا إلا قضاء مدرة العقوبة إلى أن خرج من السجن يوم 27 يونيه "وكان بانتظاره جمهور كبير من عمد الغربية ومشايخها فركب معهم قاصدًا دار المحامى عنه وفى المساء ركب معهم قطار السكة الحديد إلى طنطا في صالون خاص وكان في استقباله على محطة طنطا جمهور كبير قابله أحسن مقابلة وعرض عليه بعض الوجهاء المركبات الفاخرة ليركبها إلى المدينة فأبى احترامًا للمستقبلين وسار بين جمع يبلغ عدده 500 نفس إلى منزل حضرة المحامى الفاضل عبد الكريم أفندى فهيم حيث استراح قليلا ثم استقل مركبتين إلى داره بالقرشية ومعه الكثيرون من الأخصاء والأصدقاء"!

وإذا كانت القضية قد انتهت بهذا بالنسبة للمنشاوى باشا فإنها استمرت محل لجاج في الدوائر السياسية بامتداد العام التالى إلى الحد الذى اضطر معه اللورد العتيد "كرومر" أن يكتب عنها تقريره لعام 1903 والذى كان لا يعرض فيه إلا للأمور الجسيمة.

فبعد أن استعرض التقرير القضية من وجهة نظر بريطانية خلص إلى القول "أن الأحكام التي صدرت في هذه القضية كانت على غاية من العدالة" الأمر الذى أثار عاصفة من الاحتجاجات.

عبرت الأهرام عن ذلك بقولها "لقد وضح من كلام اللورد أنه مع ما أوتى من الذكاء والتمييز بين الحق والباطل عجز في هذا المقام أن يخلص نفسه تمامًا مما أجمعت عليه الأفكار والآراء، وعندنا أن الإمساك عن الكلام خير من المحاباة في هذه المسألة التي أصبح رأى اللورد كرومر ورأى الجمهور فيها على طرفى النقيض".

وليس من شك أن تعرض التقرير البريطاني الشهير لهذه القضية قد أدخل ثور الخديوى من باب التاريخ بدلا من باب المجزر!.


صورة من المقال:



الخميس، 29 أبريل 2021

151 حمارة منيتى

حمارة منيتى

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 17 أكتوبر 1996م - 4 جمادى الآخرة 1417هـ


في 3 مارس عام 1902 نشرت جريدة صغيرة اسمها "حمارة منيتى" يملكها صحفى اسمه محمد أفندى توفيق، وأخرى اسمها البابا غللو، يملكها صحفى اسمه عبد المجيد كامل صورة لمفتى الديار المصرية، الشيخ محمد عبده، وهو في لباس الرقص مع سيدة أوربية، مقرونة بقصيدة هجاء حادة للرجل.

وقد جاءت الصورة في سياق حملة شنها خصوم الشيخ عليه لبعض آرائه خاصة ما جاء فيما عرف بالفتوى الترنسفالية والتي أباح فيها الرجل لبعض الأفراد في الترنسفال "بلبس البرانيط لقضاء حوائجهم".

ولما ثبت أن الصورة مصطنعة وقفت الدنيا ولم تقعد، ولم يقتصر الأمر على الحمارة أو صاحبها بل تعداه إلى قضية حرية الصحافة..

الأهرام كان لها موقفها من قضية "حمارة منيتى" وكانت في صف استهجان عمل الصحيفة، وإن لم تساير المطالبين بإعادة العمل بقانون المطبوعات الذى كان قد توقف العمل به قبل ثماني سنوات.. منذ عام 1894 على وجه التحديد، نبدأ القصة من أولها..

أول الأخبار عن القضية قدمتها الأهرام على لسان سكان الدرب الأحمر في عددها الصادر يوم 7 مارس في خطاب مفاده أنهم "رفعوا عريضة إلى النيابة العمومية يوجهون فيها أنظارها إلى قصيدة نشرتها جريدة حمارة منيتى وأومأت فيها إلى حضرة العلامة المفضال الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية"، وأن النيابة استدعت صحاب الجريدة وسألته عما نشر في صحيفته وأن المفتى وجه أنظار النيابة إلى الأمر.

الشاعر الذائع الصيت حافظ إبراهيم، على حد توصيف الأهرام، بعث لجريدتنا بقصيدة طويلة يرد على قصيدة حمارة منيتى جاء في مطلعها"

إن صوروك فإنما قد صوروا * تاج الفخار وطلع الأنوار

أو نقصوك فإنما قد نقصوا * دين النبى محمد المختار

سخروا من الفضل الذى أوتيته * والله يسخر منهم في النار

الأديب الشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى، على حد توصيف الأهرام أيضًا، لم يكن ليدع الفرصة تفوته فوضع بدوره قصيده طويلة جاء في مطلعها:

حسدوا مجدك الرفيع وظنوا * أنهم قد رأوا إليك سبيلا

فافتروا ما افتروا وراموا دليلا * فأقاموا من الخيال دليلا

لك رسم في حبة القلب يحكى * شرفًا باذخًا ومجدًا أثيلا

بعدئذ وصلت الصحيفة رسالة وقعها ثلاثون شخصًا من أعيان القاهرة فحواه أن الطعن على مثل مفتى الديار المصرية هو استهزاء واحتقار من جهة ومن جهة أخرى أن الكاتب "أورد آيات قرآنية في غير موضعها المناسب وفى ذلك مس بالديانة".

وصل رد الفعل إلى قاعة الجمعية العمومية حين تقدم أحد أعضائها أمين بك الشمسى، في جلسة 16 من مارس باقتراح جاء فيه "إننا نرى أسافل الناس يقدمون على إنشاء الجرائد وقد ملأوا الدنيا سفاهة وتعديًا على الأعراض.. فأقترح على الجمعية أن تطلب من الحكومة سن قانون عمومى للمطبوعات يقى الناس من هذه الفوضى أو أنها تقرر معاقبة من يخرج عن حده".

ومع أن الأهرام أعربت عن سرورها من مثل "هذا التظاهر المرموق لأنه دليل على شعور الأمة وغيرتها على كرامة كبارها وعلمائها" فإنها أعربت عن أملها "أن ينتهى الأمر عند هذا الحد وأن يصفح فضيلة المفتى عما كان وأن يقلع صاحب الجريدة عن تلك الخطة فإن ذلك كله خير من المحاكمة وسواها"، خاصة وأن الصحيفة هزلية لا يؤخذ كلامها في العادة مأخذ الجد.

ونظن أن الأهرام كانت مدفوعة في ذلك بالأصوات التي أخذت تتعالى مطالبة بتقييد حرية الصحافة، والتي وصلت إلى المجلس النيابى الكبير.. الجمعية العمومية. 

غير أن أمل جريدتنا لم يتحقق وسارت النيابة قدمًا في إجراءاتها وقد صاحب "حمارة منيتى" إلى المحكمة أمام محكمة الموسكى الجزئية يوم 17 مارس، "وكان الزحام في المحكمة شديدًا وطلبت النيابة القبض على المتهم وسجنه إلى أن تتم محاكمته مخافة أن يفر فأجاب المتهم أنى لست من الذين يفرون فردت المحكمة طلب النيابة وأجلت القضية إلى أسبوعين".

وفى تلك الأثناء سار محمد أفندى توفيق في طريقه لا يلوى على شيء فهاجم بعنف الشيخ على يوسف صاحب المؤيد، بنفس القدر الذى هاجم به الشاعر حافظ إبراهيم، مما دفع الرجيل إلى رفع قضايا على صاحب حمارة منيتى، الأمر الذى دعا الأهرام إلى مناشدتها التخلي عن نيتها في ذلك "وكفى الرجل الموقف الحالي".

وقد استجاب الرجلان للأهرام، من قبيل المروءة، كما صرح شاعر النيل غير أن محاكمته انتهت بإصدار الحكم عليه في أول أبريل "بالسجن البسيط 3 شهور"، بعده بأربعة أيام صدر الحكم ضد صاحب البابا غللو بالحبس البسيط لمدة ستة شهور، وأغلقت أبواب السجون على الرجلين وفتحت في نفس الوقت أبواب قضية حرية الصحافة، وكانت مفتوحة من قبل ولكن ليس على مصراعيها كما حدث بعد واقعة "حمارة منيتى"!

***

(من قبل) كانت قضية الصحف الصغيرة التي استغلت جو الحرية بعد إبطال العمل بقانون المطبوعات قد انتشرت انتشارًا واسعًا، ولم يكن أغلبها على مستوى المهمة التي أوكلت لنفسها القيام بها.. مهمة تربية الرأي العام، فقد تشكل ملاكها من خليط غريب من البشر رأى بعضهم في الصحافة حرفة قبل أن تكون رسالة، ورأى بعضهم الآخر أنها وسيلة للتجارة يتكسبون من ورائها، ورأى بعضهم الثالث أنها طريقة للابتزاز سواء من الأفراد أو من الجماعات، وبينما أطلق البعض على هذا النوع من الصحافة توصيف الصفراء، فإن الأهرام اختارت اسمًا آخر.. الصحف المارقة!

عرفت نفس الفترة حالة استقطاب حادة بين المعسكرات المتصارعة في حلبة السياسة المصرية، الاحتلال يمثله قصر الدوبارة وتنتصر له صحيفة المقطم، الدولة العلية وقد انتصرت لها بقية الصحف وإن حدث ذلك بدرجات متفاوتة.. المؤيد فالأهرام، قصر عابدين في عهد عباس الثانى الذى دأبت المقطم على الهجوم عليه لمزًا وغمزًا مرة وصراحة مرة أخرى بينما وقعت في صفه الصحيفتان الأخريان، النفوذ الفرنسي الذى اتخذت الأهرام موقف المؤيد له على طول الخط، وهو ما فعلته اللواء خلال السنوات الخمس الأولى من عمرها.

ومع هذا الاستقطاب الذى حدد موقع الصحف الكبرى كانت هناك الصحف الصغرى التي استمرت تتأرجح بين سائر المعسكرات تبعًا لما تتمكن من تحقيقه من مصالح من أي منها.

ولعل هذه القصة التي روتها الأهرام عن أحد أصحاب تلك الصحف المارقة تقدم صورة لدرجة هذا التأرجح.. قالت:

"قال صاحب جريدة في مصر لصديق له لم يسعنى أمام النهضة المصرية العباسية إلا تغيير خطتى فذممت الإنكليز وجرائدهم لغايتين الأولى حتى لا أصاب بنفور أبناء البلاد والثانية لعلمى أن الإنكليز يخافون الذم من لسان مسلم فيزيدون راتبى وهكذا كان فإن البارون المحترم أرغى وأزبد لتغيير سياستى وأخذ يذكرنى بالمبالغ السرية التي نقدنى إياها.. فقاطعة صاحب الجريدة أن ذلك من مال أخى الفلاح المسكين قال أنا أعدك بدراهم إنكليزية من خزانة إنكلترا ونقده صرة رنانة فشكره المحرر"!

دعا ذلك جريدتنا إلى المطالبة "بإلغاء المبالغ السرية وذلك بأن تقضى اللجنة المالية بسد هذا الباب من المصاريف"!

وبينما تمت رشوة الصحف الصغيرة من جانب سلطات الاحتلال بهذا الشكل المباشر فإن الصحف الكبيرة التي دعمته، في طليعتها صحيفة المقطم حصلت على العون بشكل غير مباشر، وهو العون الذى تعددت أشكاله..

إيثار الصحيفة بالأخبار وحجبها على غيرها من الصحف قدم شكلا أول من أشكال هذا المدد.. وهو ما واجهته تلك الصحف بالشكوى أحيانًا وبالتحايل للحصول على ما حرمت منه من أخبار أحيانًا أخرى..

كانت أصوات الشكوى ترتفع عندما تلم بالبلاد أحداث كبرى يتشوق القراء إلى متابعتها، فيما جرى في الفترة بين عامي 1896 و1898، وهى الفترة التي عرفت عمليات الجيش المصرى لاستعادة السودان، فقد كانت تحصل المقطم على الأخبار دون الصحف الأخرى.

في تعليق لاذع جاء في عدد الأهرام الصادر يوم 4 فبراير عام 1897 تنتقد الصحيفة الحكومة لأنها "اختارت الجرائد التي لم ينس أحد شدة مطاعنها على سمو الأمير حتى أن بعضها كانت تقول عن سموه أنه ليس إلا كأحد الباشوات لا شأن له ولا حول.. وبعضها ومنها المقطم أشهر من أن نعيد كلمة من أقوالها" اختارتها لتؤثرها بأخبارها.

***

وفى تعليق ساخر آخر تطلب الأهرام من قرائها أن يكتفوا بالتفكه لها في ساعات طلبهم للهضم والتماسهم لتنزيه الخواطر طالما بقيت الحكومة على سياستها في حجب أخبار الحملة على السودان عنها!

غير أنه إلى جانب الشكوى كان هناك التحايل ولعل القضية الشهيرة التي حوكمت بسببها المؤيد بسبب حصولها على تلغراف سرى مرسل من السردار إلى ناظر الحربية تقدم نموذجًا على ذلك (الحلقة 108 تحت عنوان محاكمة عامل التلغراف).

* إرغام الهيئات الحكومية فضلا عن وجهاء الأقاليم وكبار الموظفين على الاشتراك في الصحف الموالية وفى طليعتها المقطم، ولما كانت الاشتراكات بمثابة الواسطة الأساسية في توزيع الصحف في ذلك العصر فقد كان من الطبيعى أن تعبر الصحف الأخرى عن تبرمها من هذا النهج وترحب بأية سياسات تغايره.. كان منها ما قرره عباس في بدايات عهده "بألا يتدخل الموظفين بأمر الجرائد ولا سيما إجبار الأهلين على الاشتراك بها".

وتعلق الأهرام على ذلك بأن الموظفون تهللوا بهذه الأوامر "لأنهم تخلصوا أولا من أثقال أوفر من وظائفهم وثانيًا من خدمة مطبوعات أقل أضرارها خيانة الوطن وأميره" وتحثهم في موقع آخر على عدم الانصياع لتخويفات سماسرة السوء وأن ينبذوا المقطم "نبذ النواة قصاصًا لها وإنذارًا لكل جريدة تخون مصركم ووطنكم وأميركم وسلطانكم والسلام"!

* حرمان الصحف التي تنهج أسلوبًا معاديًا للاحتلال من بعض أسواقها فيما حدث من منع المؤيد والأهرام من الدخول إلى السودان بعد استعادته وانضمت إليهما اللواء بعد صدورها بينما فتحت تلك البلاد للمقطم، ولم يكن الهدف من السعي لدخول هذا السوق القارئ السودانى الذى لم تكن عادة قراءة الصحف قد تمكنت منه بعد بل كان تلك الأعداد الكبيرة من العسكريين والموظفين المدنيين من المصريين الذين خدموا في ربوع تلك البلاد ممن شكلت قراءة الصحيفة جزءًا من حياتهم اليومية. وقد سعت الأهرام بكل الوسائل لإبطال هذا المنع ويرى لنا بشارة تقلا في عدد الصحيفة الصادر يوم 29 أبريل عام 1901 تفاصيل المحاولة الأهرامية في الشأن وكيف أنه قابل السردار وسأله السماح للصحيفة بدخول السودان "فقال إن ذلك غير ممكن الآن فسألته لماذا وأخبار الجرائد واحدة تقريبًا قال إن هناك أمرًا أهم وهو لهجة الجريدة وعليه فلا نسمح للأهرام لأنه هو هو كما كان ولكنا نسمح بالدخول لكل جريدة غيرت لهجتها أجبته أنا طلبى الترخيص للأهرام فلا نقصد منه الفائدة الخصوصية ولكن المساواة في العادلة وإنى لا أقصد من السماح للأهرام ضياع حقوقه من الاستقلال في المباحث السياسية والإدارية والمالية"!

وفى هذا الجو من الاستقطاب كانت الصحف الصغيرة تمرق من معسكر إلى آخر بحثًا عن مصالحها التي قدمت أزمة "حمارة منيتى" صورة لها، غير أن هذا المروق لم يكن دائمًا في الاتجاه الخطأ..

من أشهر القضايا التي عرفتها المحاكم المصرية في الاتجاه الصحيح الطعن الذى وجهته صحيفتا المنير والوقت للملكة فيكتوريا خاصة بعد أن رسمتها الأخيرة في صورة هزلية، وحين قدما صاحبا الصحيفتين للمحاكمة لقيا عطفًا بالغًا من المصريين الذين جمعوا الأموال لمساعدتهما، وإن لم ينقذهما ذلك من حكم ثقيل "قابله الجمهور بعلامات الاستهجان لشدة صرامته" غير أن المروق في العادة كان في الاتجاه الخطأ مما خلف ردود فعل واسعة.

في واحد من تلك الردود تنشر الأهرام ما أرسلته إليها أحد أصحاب تلك الصحف بأن ما يكتبه مدحًا في رياض باشا ونما في الأهرام ليس القصد منه "إلا تحصيل بعض دريهمات منه لأنه يكافئ جميع الجرائد التي تذمكم". وتحذر الأهرام في مناسبة أخرى من لهجة تلك الصحف خاصة قولها "المنافقين والمضللين والمدلسين وغير ذلك من الألقاب السفيهة، وفى مناسبة ثالثة تأخذ على بعض الصحف الأوربية الصادرة في طليعتها الإجيبشيان جازيت اكتراثها ببعض الصحف العربية الصغيرة الحديثة النشأة وتهتم بأقوالها أكثر مما تستحق فإن العقلاء من المصريين وغيرهم من قراء الجرائد العربية مجمعون على استهجان خطة الطعن الشنعاء ولا سيما متى كان الطعن موجهًا إلى من تجل أشخاصهم عن كل وقيعة"!

***

(من بعد) أدت أزمة "حمارة منيتى" إلى وضع كل أوراق الصحافة المصرية على المائدة، فقد أسفر كل عن موقفه..

الصحف المارقة ازدادت حدتها التي تعددت أسماؤها وكان أكثرها مروقًا صحيفة الفونوغراف "لصاحبها متولى أفندى عزمى"، وصحيفة الخلاعة لصاحبيها الأفندية حسن راغب وأحمد عباس والتي يشى اسمها بفحواها!

الفونوجراف كان لها قضية مع أحد الوجهاء لم تفصح الأهرام عن اسمه انتهت بأن أصدرت محكمة شبرا في أول فبراير عام 1904 حكم على متولى أفندى عزمى بالحبس ستة شهور وبغرامة 1200 قرش، وكانت قضية تشهير وابتزاز مما يمكن تبينه من بين سطور الخبر.

الخلاعة قضيتها التي والتها الأهرام في أعداد متتالية كانت أكثر وضوحًا.. القضية نظرت في محكمة السيدة زينب في 20 فبراير عام 1904 التهمة: التطاول على أعراض بعض أفراد أسرة الدرمللى، الشاهد: جميل أفندى فهمى الذى جاءت شهادته أن صاحبى الجريدة وسطاه لدى الدرمللى ليأخذ منه نقودًا ليكفا عن التطاول، التحقيق، انتهى بالأمر بسجن صاحبى الجريدة.

ولك تكون الفونوغراف والخلاعة وحدهما في الميدان، بل تعددت القضايا الشبيهة وكان من أهمها القضية التي رفعها الزعيم المصرى أحمد عرابى بعد عودته من المنفى والذى وصفته الأهرام بأنه "الذى كان باشا".. رفعها على صاحب الأفكار، بحجة أنه قذف فى عرضه فبرأته محكمة عابدين، ومن سياق الخبر بدا أن الأهرام تعاطفت مع المارق ولم تبد أي حماس للضحية، ويبدو أنها لم تكن نسيت بعد ما أصابها على أيدى العرابيين قبل أكثر من عشرين عامًا!

وقد أدى تعدد القضايا على هذا النحو ودخول العديد من الصحفيين المحابس إلى طرح قضيتين.. أولاهما خاصة بإنشاء اتحاد للصحفيين يحميهم من الآخرين ويحميهم من أنفسهم، ثانيهما متعلقة بالحرية التي تمتع بها الصحفيون المصريون خلال العقد السابق، فقد تعالت بعض الأصوات بوضع بعض الضوابط!

القضية الأول ظلت تتردد على صفحات الأهرام ولكن بشكل متقطع في أواخر عام 1895 وجهت الأهرام الدعوة لإنشاء "نقابة للجرائد" وأنها "إذا خدمت الجرائد 10 في المئة خدمت القراء التسعين وعرفت أولى الأمر الاحترام الواجب لمطالب الرأي العام بلسان الجرائد".

ومع أن الأهرام أعربت عن خيبة أملها بعد أيام قليلة لأنه لم يجب "حضرات أصحاب الجرائد دعوتنا عل أننا لا نيأس من الوصول إلى هذه النتيجة إلى المستقبل، وهو ما ظل يتكرر من جانب صحيفتنا إبان السنوات التالية.

وكانت الصحف المارقة وراء مطالبة البعض بإعادة النظر في حرية الصحافة، ومن الغريب أن المسألة بدأت من بعض الصحف الإنجليزية، وعلى وجه التحديد التايمز التي تكلمت عن وجوب "سلب الجرائد الوطنية المصرية حقوقها لأنها على ما زعمت منبع أخطار على الأمن"، ولم تكسب الأهرام عن هذه الإشارة وخصصت جملة مقالات للحديث عن حرية الصحافة.

كشفت في إحداها عن سر تقدم بريطانيا العظمى وهو "الأدوار المهمة التي أتتها وتأتيها الجرائد في أعمال هذه الأمة مما يتيح لنا أن نقول بأن حرية المطبوعات قد ساعدت على نجاح هذه البلاد" وتحدد في مقال آخر مفهوم الانتقاد وتعيب على إنهاء لفظة "لم يعهدها الشرق إلا ممزوجة بمداد الطعن والقدح ولم يعلموا أنها الإصلاح في صورة التنبيه والمودة في صورة النصح".

ولما وجدت الأهرام أن بعض أصحاب الأقلام في مصر يحبذون وضع قانون جديد للصحافة، يزيد الأقلام تكبيلا وتقييدًا "سألتهم أن يدلوها على وسيلة، تحبس ألسنة السفهاء وأقلام المتطفلين بدون أن تمس الحرية التي نتمتع بها" وإن وافقت على الرأي الذى أدلى به بعض الكتاب "برذل كل كاتب عرف بالسفاهة والبذاءة وقصر قلمه عل هدم الأعراض المصونة والتطاول على المقام العالى".

ويبدو أن طرح القضية بإلحاح بعد أزمة "حمارة منيتى" وما تبعها من قضية الخلاعة جعلها في بؤرة اهتمام أطراف عديدة على رأسها دار المعتمد البريطاني التي خصصت في التقارير السنوية قسمًا عن حرية الصحافة..

شغلت القضية مساحة واسعة من تقرير عام 1904 تضمنت جدولا بأهم الصحفيين الذين صدرت ضدهم أحكام خلال العام السابق، بيومى إبراهيم صاحب التمثيل، محمد عباس صاحب الخلاعة، عبد المجيد حلمى صاحب البابا غللو، حسين توفيق صاحب الأرنب، محمد توفيق صاحب الحمارة وأخيرًا أحمد متولى عزمى صاحب الفونوغراف.

وخلص كرومر من ذلك إلى القول بانتشار عمليات الابتزاز التي اتخذت من نشر الطعون في الأشخاص وسيلة للحصول على المال منهم، وأن ذلك قد شاع بين ملاك بعض الصحف الأهلية من الطبقات الدنيا، وأن من يتكسبون معاشهم بهذه الطريقة إنما يشكلون وباء اجتماعيًا.

ومع أن المعتمد البريطاني الشهير ضمن تقريره هذا قوله إنه "مهما كان من قصور الجرائد المحلية فإن لبعضها يدًا في تعليم الأمة" غير أن ما جاء من انتقادات عميقة كان ينبئ عن الاتجاه لتقييد حرية الصحافة، وهو ما بدا يحدث في ذات العام.. عام 1904.


صورة من المقال: